(01)
مساحة الزمن و ساحة القلب:
أورادٌ على مدار السنة

موقع السرائر

 قال تعالى:

إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض. منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين. التوبة-36

تمهيد:

نحن الآن في شهر ذي القعدة، وعلى مقربة من العشر الأوائل من ذي الحجة، الأيام المعلومات كما وصفها الله تعالى، والتي لم يبق بيننا من معلوميتها إلا أن موسم الحج يؤدى فيها، دون الوقفة عند عظيم أهميتها للحاج وغيره، إلى حد أنها موسم عبادي بالغ الخصوصية، ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، ليسجل من أهله بل ومنتظريه بكامل الوعي وتام الإستعداد.

وليست العشر الأوائل من ذي الحجة وحدها المهتضم حقها بيننا، بل يتساوى في ذلك غالب المواسم العبادية إن لم تكن كلها، بما فيها شهر رمضان الذي نصر على إفراغه من محتواه التربوي، لنشحنه بما لذَّ لنا وطاب من أنواع الصوارف عن ترميم البعد الروحي، إلى تعزيز البعد المادي الذي وجد الشهر ليكون سفينة النجاة التي تعبر من غلوائه المفرطة، وجدبه وتصحره، إلى روض الروح الأغن، وشاطئها الآمن، وأنسها الغامر.

وقد بنى الإسلام تعزيز الثقافة الإسلامية في العقل والقلب على دورة الزمن، فإذا مفاتيح الثقافة موزعة على الأيام والليالي والساعات، لتشكل المستحبات همزة الوصل مع الإنتماء الثقافي الذي يحتل المرتبة الأولى، وفي سياقه يقع الإنتماء السياسي وغيره.

حول الآية الكريمة: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة:

" بيَّن أمر هذه الإثني عشر شهراً " منها أربعة حُرُم " وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ، ورجب : ثلاثة سَرْدٌ وواحد فَرْدُ، كما يعتقده العرب. ومعنى " حُرُم " أنه يَعْظُمُ انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها حتى ان الرجل لو لقي قاتل أبيه لم يُهَجْهُ لحرمته. وانما جعل الله تعالى بعض الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم في ذلك من المصلحة في الكف عن الظلم فيها، فعظم منزلتها، وانه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلاً لا نطفاء النائرة تلك المدة وانكسار الحمية، فإن الاشياء تجر إلى اشكالها. وقوله " ذلك الدين القيم " معناه التدين بذلك هو الدين المستقيم. وقوله " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " نهيٌ منه تعالى لخلقه عن أن يظلموا انفسهم لأن من فعل قبيحاً يستحق عليه العقاب، فقد ظلم نفسه بذلك بإدخال الضرر عليها”.(1)

ويلاحظ هنا: أن السر في حرمة الأشهر الحرم تربوي أولاً، يتفرع عليه الكف عن القتال فيها، وأن هذا السر التربوي مرتبط جذرياً بتهذيب النفوس، لأن الكف عن ظلم النفس في هذه الأشهر ربما أدى كما عبر الشيخ الطوسي، إلى ترك الظلم بكل أشكاله.

وقال القطب الراوندي رحمه الله تعالى:

“والآية ".." تدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين من عبادات وغيرها بهذه الاشهر دون الشهور التى تعتبرها العجم والروم، فمن هذا الوجه تعليق الصيام وأخذ الجزية وغيرها بحؤول هذا الحول، يؤيده قوله " منها أربعة حرم".
(2)

فالأشهر الإثنا عشر عند القطب الراوندي، هي المحور الذي يجب أن تتعلق به كل الأحكام المتصلة بالشهور والسنين من عبادات وغيرها، بمعنى أن الأساس الذي يبقي ثقافة الأعمال المؤقتة نابضة بالحركة، هو ارتباط المسلم بهذا التاريخ الذي بين الله تعالى أن الإلتزام به، هو الدين القيم أي الطريقة المثلى.

وقال السيد الطباطبائي رحمه الله:

"فمعنى الاية ان عدة الشهور اثنا عشر شهراً تتالف منها السنون ، وهذه العدة هي التى في علم الله سبحانه، وهى التى أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض وأجرى الحركات العامة التى منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض وهى الأصل الثابت في الكون لهذه العدة ".

إلى أن يقول:
 " وإنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حُرماً ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات".
(3)

ويلتقي بيان السيد مع ما تقدم عن الشيخ الطوسي لتوكيد ارتباط ثقافة تهذيب النفس بالكف عن الظلم في الأشهر الحرم، وتوكيد أن تحريم القتال فيها فرع تحريم كل ظلم بدرجة متقدمة وشديدة الخصوصية.

• نستنتج مما سبق أن الواجبات التي حدد لها وقت معين، وأن وفرة الأعمال المستحبة الموزعة على الأشهر الإثني عشر، سواءً أكانت هذه الأعمال ذكراً أم دعاء أم صلاة أم صياماً، ينبغي أن ينظر إليها جميعاً – الواجبات والمستحبات- باعتبارها تظهيراً فريداً لمفاهيم الثقافة الإسلامية التي عقد المسلم القلب عليها حين اعتقد بالأصول بالدليل والبرهان.

لابد للمنتمي إلى خط فكري أن يتواصل على الدوام مع الفكر الذي انتمى إليه، وليست هذه الأعمال المبثوثة في كل مفاصل الزمن إلا تجسيد رعاية منهج التوحيد للقلب الذي استضاء بنوره، حتى لايخبو هذا النور لفرط مايواجه من رياح الظلام والأعاصير.

وبديهي أن من تواصل مع هذه الأعمال هو وحده- عادة - من يستطيع المحافظة على نقاء المعتقد، وسلامة الطوية، واستقامة السلوك، كما أنه سيتم تأهيله من خلال مفردات هذه الشبكة الثقافية المدروسة بمنتهى العناية، للقيام بالأعباء الجسام في مواجهة الباطل والتحريف، وهو مايعني بوضوح أن الشهداء والصديقين هم عادة نتاج هذه المدرسة الإلهية التي لاتقفل أبوابها في ليل أو نهار، لتلبي حاجة القلب الذي لايعرف السكون أبداً، وإنما سمي القلب لأنه دائم التقلب.
(4)

*ولا بد من الإشارة إلى أن كل ما تم إيضاحه حول المستحبات وانتشارها على مساحة الزمن وساحة القلب، ليس إلا مقاربة الحقيقة من أسوارها، ولم ندخل بعد إلى الفناء الداخلي فضلاً عن مجلس الحقيقة، الذي يبقى الصدر فيه من خصائص المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

إن علينا إن فكرنا باجتياز المقاربة السور، أن نفكر في المحاور التالية:

1- أن قبول التوبة والوصول إلى الدرجات الرفيعة، هو في الغالب رهن مستحب واحد من هذه المستحبات. إنه ليلة القدر التي تشمل المغفرة فيها من لاتشمله عادة.
2- أن القدرة على الصمود في خط الواجبات وأدائها، والقدرة على الثبات وعدم الإنزلاق في مهاوي ردى المحرمات، كليهما رهن رصيد من الطاعات لايحصل عادة إلا من المستحبات.
3- أن الجوائز الإلهية الخطيرة، هي عادة في ميدان المستحبات، كما لايخفى على أدنى تأمل.
4- أن الله تعالى فتح للعباد باب رحمة بالغ الأثر في مصيرهم، هو دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فإذا رصيد الداعي والمدعو له، يلامس ما لايخطر على قلب بشر، وميدان ذلك كله هو المستحبات.
إلى غير ذلك من الخصائص التي لم تصل بعد إلى نسيج الترابط الجذري بين كل مفردة من المستحبات وما يترتب عليها في صفحة المعتقد، وصفحة القلب واستقامته.


• وتمس الحاجة في الخاتمة وبإلحاح إلى أن تعي العقول والقلوب، ثلاثة أمور:

الأول: أن الوفاء بعهد التوحيد، رهن الإلتزام العملي بالأحكام الشرعية كلها.

وتتميز المستحبات بكل شمولها وسعة دائرتها، بأنهاالطريق الذي يكاد يكون حصرياً للقدرة على أداء الواجبات للوصول منها إلى المرتبة التي تقرن التوحيد النظري بالتوحيد العملي.

الثاني: أن المستحبات الموزعة على مدار السنة وبحسب التاريخ الهجري، ليست كماليات ولا ترفاً، بل هي من صميم عملية البناء الفكري والثقافي كما أرادها الإسلام.

الثالث: أن ليلة الجمعة ويومها بالنسبة للأسبوع كليلة القدر ويومها بالنسبة للسنة، ومن لم يحرص على ليلة الجمعة، فقد فاته مايفوت من لم يوفق لليلة القدر مع الفارق المذكور.

وهكذا ندرك أن الجناية الناتجة من عدم تعطيل يوم الجمعة والتي نلحقها- في لبنان- ببنائنا الفكري والثقافي خطيرة جداً، بل تبلغ حدود الإضرار البالغ بشخصيتنا العقيدية كلها.

ولا ينقضي العجب من عدم تجاوب بعض الأطر الإسلامية مع الدعوة إلى البناء على أن يوم الجمعة يوم عطلة في المدى الذي لايتداخل مع الدوائر الرسمية.

**

تستحق العشر الأواخر كما سيتضح بحوله تعالى أن يهتم بها من لايوفق للحج كما يهتم بها الحجاج إجمالاً وإن كان للتفصيل حديث ذو شجون.

غير أن الإهتمام بهذه العشر وغيرها من مواسم العبادة فرع الإهتمام بهذا اللون من آداب الإسلام، وهنا بيت القصيد.

ولذلك ستكون هذه الحلقات الأولى مخصصة للحديث عن ثقافة الحكم الشرعي بكل أقسامه، في مقابل الثقافة الإنتقائية التي تُعرض عموماً عن المستحب والمكروه، ولا تهتم بخصائص المباح، ظناً بأن المهم هو الواجب والحرام، والباقي هوامش لاتقدم ولا تؤخر.

ويرجع السبب في هذا المنحى العملي السائد إلى الغفلة عن موقع الأحكام الثلاثة في تحصين المؤمن تجاه الواجب بعدم تركه، وتجاه الحرام بعدم فعله، وهي ترجع إلى الغفلة عن طبيعة البناء التشريعي، وعن حقيقة البناء الثقافي الذي يعتمد أسس التشريع ليصوغ الشخصية في ضوئها، كما يتم استعراضه في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ليست العشر الأوائل من ذي الحجة وحدها التي تحتاج قلوبنا إلى التواصل معها، بل كل مااعتبره الإسلام أساساً في تحصين البناء الثقافي للشخصية الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين.

 


الهوامش:
(1) الشيخ الطوسي، التبيان5/214.
(2) القطب الراوندي، فقه القرآن1/238.
(3) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان9/268.
(4) روي في المصادر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله. أنظر مثلاً: مسند أحمد4/408 وفيه : سمي القلب قلباً من تقلبه. وفي كلمات بعض علمائنا الإستشهاد ببيت من الشعر ، هو: قد سمي القلب قلباً من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل. أنظر: هامش رياض السالكين للسيد علي خان ج2/167