(6)
البيت وأهل البيت!

موقع السرائر

ينحصر الحديث في باب مناسبات اليوم السادس من ذي الحجة، بذكر احتمال أنه يوم تزويج الصديقة الكبرى الزهراء لأمير المؤمنين عليهما السلام.

أورد ماتقدم، الشيخ الطوسي، والعلامة الحلي وغيرهما، وذكر المسعودي أن ذلك حصل في ذي الحجة، ولم يذكر اليوم.

ويظهر من الشيخ وغيره، ترجيح اليوم الأول في هذا المجال على السادس.

وما تمس الحاجة إليه بيان أن كل شأن من شؤون العظيم عظيم، فالقلم الذي يوجد منه في السوق بالملايين، يحظى بقيمة خاصة حين يكتب به شهيد.

من هنا فإن الحديث عن أي شأن يرتبط بأهل البيت الذين لاسبيل إلى اتباع رسول الله وبالتالي الوصول إلى رضا الله تعالى، إلا بحبهم، ليس حديثاً تاريخياً، ولا هو حديث في مايصح السكوت عنه.

إنه مرتبط جذرياً بالعقيدة، وشأن من شؤونها.

ولا يكاد ينقضي العجب من هذه الغفلة المطبقة، عن الربط بين البيت وبين أهل البيت.

وأخطر ما فيها أنها الغفلة عن الباب المحمدي، الذي منه يؤتى الله تعالى.

يجمع المسلمون على ثوابت، لابد لمن أراد أن يتلمس سلامة المعتقد أن ينطلق منها:

1- ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.

2- لايعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. لايمسه إلا المطهرون.

3- إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

4- قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.

* وخلاصة هذه الثوابت بما يتسع له المجال:

نطلب من الله تعالى الهداية إليه وبيان الطريق، فيحصر ذلك بالمصطفى صلى الله عليه وآله، ونطلب من المصطفى الدليل، فيقول: كتاب الله وعترتي، ونطلب فقه القرآن الكريم وفهمه، فيقول: قفوا بباب الراسخين في العلم، المطهرين لتنهلوا العلم من معينهم.

لذلك كان كل مايرتبط بأهل البيت عظيماً.

ولذلك كان كل مايرتبط بهم متداخلاً مع صلب العقيدة.

ناقة ثمود ناقة الله وباب أهل البيت ليس باب الله؟!!

يا لسوء عاقبة من يظن أن سلامة العقيدة تجتمع مع ذلك.

أيها العزيز:
 هذه الأيام العشر موسم العاكف والبادي موسم التوحيد يتم تعزيزه في القلوب كما اهتدت إليه العقول، موسم كل الإبراهيميين الصادقين، الواصلين منهم أوالمصرين بصدقهم على الوصول.

هنا بالتحديد ينبغي البحث عن سر أفضلية هذه الأيام المتميزة، وفرادتها الطليعية.

إنها أيام الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض، والراسيات.

وأيام الميثاق الذي يتعاهده بالرعاية من أسلم وجهه لله وهو محسن.

وأيام طواف العقول والقلوب حول التوحيد الكعبة الحقيقية التي يشبهها طواف البيت المعمور، ويظهرها الطواف بالبيت العتيق، ويقع في مداها الطواف الواحد في جوهره من أصغر خلية إلى أعظم مجرات الأقلاك.

وأين كنت من أربع رياح الأرض يمكنك أيها القلب حين تصدق في اقتباس النور المحمدي أن تردد: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة.
(1)

إن قلت ذلك تجاه الحجر الأسود، فقد يشهد لك وربما شهد عليك.

ليس الحجر الأسود إلا مخزن أسرار القلوب في باب التوحيد، والشاهد عليها في محضر الحكم العدل، العليم المحيط، والسميع البصير، وهو معكم أينما كنتم. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

والمدارفي شهادة الحجر الأسود المحببة، ما انطوى عليه القلب الأبيض، الذي لايشكل بياض الوجه إلا بعض تمظهراته والتجليات، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. آل عمران-106

ولا بياض للقلب إلا بمقدار الإنقطاع إلى الله عما سواه، ومدى حضورِ القلب حيث ينبغي أن يكون، وحيث يليق بشأن الكعبة الأولى، والإنسان الأكرم، الذي خلق الله له مافي السماوت والأرض.

وتُختزل رحلة الإنسان في هذه الدارالممر بالإصرار على حضور القلب في ساحة القيم الرفيعة، عبر الإحرام الدائم وغير الموسمي عن سفاسف الأمور، ليترجم هذا الإصرار تلقائياً إلى دخول الحرم القلب، لفرط ما أقام القلب في الحرم، وتكتمل الرحلة بعد أشواط طواف القلب، فيكون هو الحرم:

القلب حرم الله فلا تسكن في حرم الله إلا الله.
(2)

فرادة السر في هذه العشر الأوائل محمدية، كما هي فرادة سر الوجود كله محمدية.

وعندما تتخذ حركة العقل والقلب مدارها المحمدي، تبدأ رحلة الإنطلاق في مسار البراق، ويرتسم في أفق النفس الخط البياني للعروج، ومع تكبيرة الإحرام الإحرام، حتمية القربان المتقبل.

يتنفس الفجرالمحمدي في صفحة وجود النفس فيبدأ الإسراء، إلى المسجد الحرام.

ومن لم يحج بالجسد، فهو مدعو إلى التحليق بجناحي العقل والقلب، لتغرد الروح في سربها، ويلتحق بضيوف الرحمن في الطواف والسعي والمواقف كلها، كما شاركهم الإحرام بتكبيرته، فالتلبية التي لاينعقد إلا بها، ساحتها مابين اللابتين، المبدإ والمعاد، وليس الميقات إلا مساحة الكشف عن حقيقة العصف بين الجوانح.

حقاً،إن لم يكن اللحاق بضيوف الرحمان متاحاً لمن لم يوفق للتواجد في ديار الوحي، فماهو الفرق بين أمنيتين طالما استبدتا بالقلب على أعتاب الدعاء عموماً، وفي ضيافة الله في شهر رمضان بامتياز:

أولاهما: أن ترزقني حج بيتك الحرام.
والثانية: أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام.

أيها العزيز:

وهل الدين إلا الحب؟
وهل الحج إلا القصد؟
فما ظنك بقصد لايخفق بالحب منه حرف؟

أي حج هذا الذي ينشغل فيه القلب بعير المحبوب الذي لا محبوب سواه عز وجل؟

وأي دين هذا الدين الذي لايعمر الحب كل نبضاته؟

من أحب الله تعالى فقد حج، وإن لم يستطع إليه سبيلا..

ومن لم يتلاطم موج الحب في حناياه، أو لم يبرح به الوجد إلى الحب، فهو من الركام والضجيج، وإن لبى واعتمر وحج، وأشهد على قلبه المناسك أجمع.

سلامة الدين، هي ذاتها سلامة العقل، وهي بعدُ لين القلب، وإرهاف الحس، وفيض الحب، وألحانه والترانيم، والشذا المتضوع.

يحبهم ويحبونه، الوسام الأعلى من الفردوس، الذي لايوشِّح إلا صدر قلب استقر في حبة مهجته أن حب الله تعالى للقلب هو الطريق إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، فإذا مطمح الآمال ومعقد العزمات والأعمال، نظرة منه رحيمة يستكمل بها الكرامة، وتحله وهو في الدنيا دار السلامة.

ولا حديث عن رحمة الله إلا حين يدرك القلب أنه الحديث عن رسول الله:

قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك.
              ***
لقد وجد يعقوب ريح يوسف لما فصلت العير.

فهل وجد القلب ريح العطر المحمدي؟!

كم تجرع القلب غصة الفراق؟!!


أما يعقوب فقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. وكان بما آتاه الله تعالى عالماً بحقيقة الحال، و حسن العاقبة، وإلى الله المصير.

كيف يكون إذاً ضرم النار المستعرةِ في قلبٍ لسان حاله: وما أدري إلى ما يكون مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت؟

إن رأى هذا القلب أنه ارتد بصيراً في مواسم العشر الأول من ذي الحجة أوغيرها، فذلك علامة صدق الحب للمصطفى الحبيب مظهرِ حب الله تعالى؟

أما إن حُجبت عن القلب الرؤية، وإن أطال التحديق، فهو الرين بما كسب، وهو الضلال البعيد.

ويتناسب الجزع مع الألم، والصدى مع الصوت، والصوت مع الحال، والحال مع إدراك الخطر المحدق، وسوء المصير.

ومن أين تكون البداية؟

قال الخبراء في الجواب: وهل رأيت أماً ثكلى بحاجة إلى من يعلمها النواح والأنين؟

نعم، تمس الحاجة إلى التذكير ببعض المسلمات، لا التأسيس.
وأتوا البيوت من أبوابها.

من كان يريد البيت، فليقف بالباب: يارسول الله يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر.

وليحذر القلب المكر والخداع، والتلبيس والتدليس.

لغة الحب كلها آداب..

أرأيت أدب حب النبي يعقوب ليوسف مع قميصه؟

فكيف هو أدب حبك للمصطفى أيها القلب مع نفسه وروحه، والبضعة منه والشجنة، والريحانتين، والنور المحمدي الواحد.
كيف هو أدب حبك لمحمد مع أهل بيته، واحذر البتراء فلا تقل إلا: صلى الله عليه وآله.

هل تطوف حول الكعبة وتنسى علياً؟

أو تتجول في بلد الزهراء وأهل البيت غافلاً عنهم؟

وتعقد الإحرام للحج في آخر يوم التروية الذي غادر فيه سيد الشهداء الحسين مكة، و استشهد فيه مسلم بن عقيل، وتظل مصراً على الفصل بين البيت وأهله والحج وكربلاء وسبي زينب وأخواتها، حُرم الرسول، وأنت منصرف إلى أداء المناسك بمعزل عن كل ذلك.

أي حب هذا لرسول الله صلى الله عليه وأله؟
وأي قصد هذا القصد والحج؟
وأي بيت هذا الذي نقصد، وننسى أهله؟

والبيت بعدُ وأولاً وآخراً أول بيت وضع للناس، وهو المثابة والأمن والقيام لهم، ومنه تنطلق حركة ظهور وصي رسول الله المهدي المنتظر لتحقيق العولمة الأصيلة في هدي التوحيد، فهل يتحقق الحج والغفلة مطبقة، تحول دون الحنين إلى بقية الله المهدي ونوره الإلهي؟

لسان حال المحب للرسول الأعظم في مكة والمدينة والميقات وعرفات ومنى:

أردد طرفي في الديار فلا أرى   وجوه أحبائي الذين أريد
(3)

لسان حاله:

يا نزولاً بين جمع والصفا   ياكرام الخلق يا أهل الوفا
كان لي قلب حمول للجفا    ضاع مني بين هاتيك التلال

***

هم كرام ماعليهـم من مزيـد
من يمت في حبهم يمضي شهيد
مثل مقتول لدى المولى الحميد
أحمـدي الخلق محمود الفعال
(4)

***

أللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، يامن يعطي من لم يعرفه تحنناً منه ورحمة.

والحمد لله رب العالمين. 


الهوامش:
(1) الذكر الذي يستحب للطائف أن يقوله كلما بلغ في طوافه محاذي الحجر لأسود.
(2) عن الإمام الصادق عليه السلام، المجلسي، البحار67/25
(3) أورده السيد ابن طاوس، الإقبال1/433.
(4) الشيخ البهائي، بتصرف يسير