طباعة الصفحة    موقع السرائر

  المقدمة موقع السرائر

المقدمة
(1)

 ثمة خلل معرفي بعيد الأثر في الساحة الفكرية التي تتعاطى الشأن الثقافي الإسلامي، بما يشمل الكثير من الإسلاميين، والمسلمين وغيرهم ممن يحاولون التعريف بالمعصوم، أو مقاربة "النص".

وقد تقلص هذا الخلل في كثيرٍ من أوساطه في ذروة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ووهج امتداداته أو التداعيات، ثم عاد إلى التمدد رويداً رويداً، ليبرز مجدداً بقوة، ويتواصل مع جذوره التي تمتد إلى كل بيئة مادية تعجز عن التفاعل مع القيم، فتنطوي على نفسها، منبهرة بالأنا المادية، متنكرة للواقع باسم الواقعية.

يتلخص هذا الخلل المعرفي بالإنسياق لتمكن "المنهج" المادي من اختراق حصون المنهج العقلي، ثم اجتياح معاقله، واحتلال ساحاته، ومصادرة أسلحته ومقدراته، وصولاً إلى التحدث باسمه كما تتحدث الصهيونية باسم الأرض المحتلة فلسطين، فتصبح القدس أورشليم! ويُظن أن لها نفس الدلالة، بل أنها مظهر التقدم والرقي ورمز الحضارة.

وكما هو الإنسياق لنازية الصهاينة، وطمسهم معالم فلسطين، والتنكرُ لشعب فلسطين مهجريه والمطاردين، منتشر على مساحة العالم المتحضر! فكذلك هو الإنسياق لـ"المنهج" المادي، وطمسِِ معالم العقل، والتنكر لنتائجه، الواضح منها والخفي، نظرياً وعملياً معاً، أو عملياً إلى حد انكشاف تلازمه مع الإنكار النظري.

 ولا يكاد ينقضي العجب من أن ذلك كله يجري تحت ستار العقلانية والمنهجية.

 ويبلغ احتلال "المنهج" المادي لساحات المنهج العقلي واستباحته لخصائصه ومميزاته الذروة، حين يُدعى أن المنهج الغيبي نقيض المنهج العقلي، وهو تماماً كما لو قيل: إن المنهج العقلي مناقض للمنهج العقلي.

 والصحيح أن "المنهج" المادي نقيض المنهج العقلي لأن "المنهج" المادي ليس منهجاً ولا يلتزم بأحكام العقل، وإن كان يدعي ذلك.

والأشد من ذلك مضاضة أن تجد بين من يفترض بهم أنهم حراس المنهج الغيبي، من يصنف الغيب في مقابل "الواقع الموضوعي" وكأن الغيب طوباوية وتجديف لا يسمح له حتى أن يكون جزءاً من الواقع الموضوعي!

 (2)

 يتماهى عصف الحروب والعمليات العسكرية الواسعة النطاق – عادة – مع نظائره في الساحات المختلفة: الأمنية والسياسية والإقتصادية، وفي حين يجري التنبه لذلك كثيراً، فإن ما لا يذكر إلا لماماً، هو تماهي عصف الحروب والتحولات الكبرى مع العصف في الساحة الثقافية، الذي قد يحيل منظومة الفكر والسلوك قاعاً صفصفا، بل هشيماً تذروه الرياح.

ولئن كنا – في الغالب – قد عجزنا عن الإحاطة بالمتغيرات الأوضح التي تراكمت منذ بدء العمل على إسقاط الدولة العثمانية – وما تزال – فطبيعي أن يكون العجز عن الإحاطة بالمتغيرات الثقافية أكبر.

وأمام التغير في المنهج المعرفي تبقى جميع المتغيرات الثقافية والفكرية مجرد تفاصيل..

 يستحكم الغزو العسكري – السياسي ويضرى عند انهيار حصون المنهج المعرفي، الذي لا مجال لمعاودة الكرة واستعادة الحقوق السليبة والكرامة المهدورة إلا بالتأسيس عليه، والصدور منه.

 المنهج المعرفي هو الطريق إلى الحقيقة، وهي وحدها تمكِّن من بناء الشخصية بناءاً سليماً والشخصية السليمة السوية هي كل رأس المال في مواجهة الظلم والإستكبار والإستعباد، وعليه فإن استباحة المنهج تعني المزيد من تجذر الظلم والإلغاء، وحتى إشعار آخر.

(3)

وفي عصر العولمة المسخ، كلمة الحق التي يراد بها الباطل، تمت عولمة أذرع الإستكبار والعلو في الأرض، فلم تعد ثمة حاجة إلى زحف الجيوش ولا إلى مرابض المدفعية وأرتال الدبابات وتموضعها، كما تمت عولمة اجتياح الحدود والمعاقل، والحصار، والسجن والتنكيل والموت الزؤام، مما جعل بالإمكان أن تجري المتغيرات كلها دون ضجيج آلة الحرب والدمار وهديرها أو بوتيرة متضائلة لا تقاس بنظائرها السابقة في ظروف مماثلة، وذلك من خلال التحكم "عن بعد" بركائز السيادة والإستقلال ومصادرة لقمة العيش ليموت جوعاً من "ليس معنا" ونمشي في جنازته ونحن ننادي بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان الذي نلقي له بعض الفتات من الجو! وإذا لزم الأمر فمجلس الأمن هو غرفة "السكرتاريا" في الفرع اللوجيستي (التداركات) جاهز لإصدار عدة أسطر يراد لها أن تغير وجه الدنيا!

ولولا العولمة المفتراة لما كان ذلك ممكناً.

 وها هي أمريكا تحكم قبضتها على أربع رياح الأرض، حتى قبل أن تحرك أعداداً متواضعة من قدرتها العسكرية جنوداً وآليات نحو أطراف أفغانستان، وربما كان السبب في تحريكهم أن العالم "المارق" لم يستوعب بعد متغيرات العولمة - الإفتراس، بل ربما كانت أمريكا نفسها لم تثق بعد بهذا التحول والإستلاب، من هنا ارتبكت لغتها كثيرا ً لدى الحديث عن بدء الحرب، ثم قررت أن تخوضها بفتح نوافذ من حمم الجو الجهنمية.

 في عصر الإفتراس هذا المسمى عولمة، بديهي أن تكون الخسائر المنهجية المعرفية أبعد خطراً من أي عصر..

 ومن السابق لأوانه الحديث عن نتائج ذلك بالتفصيل، إلا أني بصدد توكيد أهمية التنبه لسلامة المنهج الذي تنطلق في هديه جميع الطروحات الفكرية والثقافية، ولمدى التشوه الذي لحق به جراء الغارة التي شنت على العالم الإسلامي وهاهي تتوالى فصولاً، وبصور أشد شراسة، وأمضى فتكاً وضراوة، ولا يمكننا رصد الموجة الجديدة منها ومواجهتها إلا في ضوء التنبه لخطورة الأضرار وفداحة الخسائر التي نجمت عن موجات الغزو الأولى.

(4)

 ولقد أدى خضوع العالم الإسلامي لعملية التغريب منذ إسقاط كيانه السياسي وإلى يومنا هذا إلى خبط في الحقل المنهجي، يمكن حصر نتائجه "المنهجية" بالتالي:

 1- نشوء تيارٍ يعتمد اللامنهجية المادية "منهجاً" لدراسة القيم والوحي والغيب والدنيا والآخرة، وهو يعني بوضوح، الإطلالة على ذلك كله من بؤرة الغرائز، و"قيم" الأمر الواقع التي ظن هؤلاء أنها المنطلق لفهم "الواقع الموضوعي"! فإذا بالقذيفة الأمريكية ذات الأطنان السبع أثقل في الميزان عملياً - عند أكثرهم - من كل حقوق الإنسان.

2- نشوء تيار ٍانتقائي يؤمن نظرياً بالمنهج العقلي ويعتمده في بعض المجالات، بينما ينساق في مجالات أخرى إلى نفس مواقع التيار الأول انسياقا مشكِّكًا وشديدَ التفاوت بحيث تتماهى درجاته مع درجات الشرك من الجلي إلى الخفي والأخفى.

ويندرج المنتمون إلى البيئة الإسلامية، الذين يخوضون في مجالات الدين، بأدواتٍ تقصر عن القدرة على التعامل المحترف مع النص وحقائقه، إلى التيار الأول.

كما يندرج الإسلاميون الذين يتجاوزون المنهج العقلي العلمي، تحت وطأة انتقاء ما ينسجم مع العصر والحداثة في التيار الثاني.

ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أن سعة انتشار الخلل المنهجي في أوساط الإسلاميين ليس بأقل مساحة ولا خطراً من دائرة تفشيه بين المنتمين إلى البِيَء الإسلامية، وبناءاً عليه فإن محاولة تظهير الخلل على أساس أنه داء شخصي أو حال شرذمة قليلة ممن عرفت لهم آراء نشاز، ليس إلا تسطيحاً لمشكلة رئيسة يكشف - بكل أسى- عن مدى الركون إلى الخلل المنهجي والإنسياق معه.

كما هو علم النحو لا يعصم اللسان عن الخطأ، وكما هو علم المنطق لا يعصم عن الخطأ في التفكير، وإنما مراعاتهما هي المحور، فكذلك هو "علم" المنهج، فليست المشكلة في المعرفة به بقدر ما هي في الإلتزام بتطبيقه.

من هنا كان علينا جميعاً ونحن في عالم الفكر والثقافة نتاج ما بعد سقوط الكيان الإسلامي - أكثر بكثير مما كان على من كانوا نتاج ما قبله- أن نتواضع في ادعاء المنهجية وندقق كثيراً قبل المضي في الجزم باعتمادها، وأن يكون لسان حال كلٍ منا "وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي".

من دون ذلك سوف يستمر اشتداد غرابة المشهد الثقافي، وترتفع وتيرة رطانة لغته ويتواصل تبادل التهم المشتركة ونحن لا ندري!

ورب شخص سليم المنهج عادة، يكبو به الجواد، وينبو الصارم، والأهم أن ذلك يجري، والقلب يركن إلى هباء.

 (5)

 ولدى محاولة تلمس مواطن الخلل المنهجي في أوساط الإسلاميين بالخصوص نجد المَعلمين التاليين الأبرز:

 الأول: تطبيق "نظرية المؤامرة" في المدى المعرفي، بالجموح إلى رفض كل ما يقبله الآخرون وقبول كل ما يرفضونه، من منطلق التوجس خيفة منهم والبناء على خلفياتهم، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لتضييع كثير من الحقائق وقبول ما هب ودب دون التثبت العلمي بطرقه المختلفة.

 الثاني: طمس أكثر معالم "العمالة" في المدى المعرفي، وأكثر معالم "البدعة" بحجة الواقعية والعقلانية والحداثة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أيضاً لارتكاب مجازر بحق النصوص والقيم والحقائق، وهو ما يجعل "الأصالة" بعيدة المنال، بُعد الإستقلال والكرامة اللذين تحلم بهما الشعوب المغلوبة على أمرها.

وتشب نار الخلاف بين التيارين ويستعر أوارها، وهو أمر طبيعي، إلا أن الملفت حقاً أن يبقى البحث في المنهج مغيباً، مع أن الجميع - أو الأكثر على الأقل - يرون أن ما يتبعونه ليس إلا ثمرة الدليل والمنهج العلمي الأمثل.

ورغم أنه ليس بالوسع تلافي الإختلاف كلياً، لدى التوفر على البحث في المنهج، إلا أن من شأن ذلك تضييق دوائر الإختلاف، وتجنيبنا الكثير من الأضرار الناجمة عن تلويث الأجواء بالإثارات غير العلمية، وتمكين الجمهور من محاكمة الآراء بروح علمية، بدلاً من أن تجعله الخلافات في حيرة من أمره، لا يجد في أكثر ما يقال إلا ما يزيده حيرة وتمزقاً.

وكما هي الحاجة ماسة لإيفاء المنهج حقه من البحث، كذلك هو الحال بالنسبة إلى دراسة موضوعات الخلاف دراسة علمية، تربأ بنفسها عن وصل قصور الدليل و جبر ضعفه، بطول باع قائله وقوة حضوره سواءًً أكان شخصاً أم جهة، وتنأى عن التجييش الغرائزي لمعرفة الحق من خلال "أهله"!

لقد أدى التخبط في المنهج، ومنه اعتماده في مجالات دون غيرها، إلى تكوُّن اتجاهات ومشارب متباينة، هشة البنية، سريعة الإستجابة للتطويع، مما جعلنا في المدى المعرفي أمام واجب جهادي فكري، لا ترقى إليه كل أعباء الواجب الجهادي السياسي والعسكري لإعادة توحيد العالم الإسلامي، إنه واجب يتداخل مع جهاد النفس وسلامة بنيتها، لذلك كان طبيعياً أن تلامس قداسته قداسة الجهاد الأكبر وتتشابك معها، بل أن تكونها.

(6)

 وبالإضافة إلى الخلل في الآلية المنهجية، ثمة خلل آخر يكمن في المنطلقات، وهو وإن كان في جوهره منهجياً، إلا أن من الضروري جداً الإلفات إليه بالخصوص والحديث عنه بصورة مستقلة، وذلك بلحاظ أن المتبادر إلى الذهن عادة من ذكر المنهج في مقاربة النص هو الطريقة أو الآلية التي ينبغي اعتمادها للوقوف على دلالة النص، ولا يجري التنبه إلى أن المنطلقات قد تفرض سقفاً للدلالة يتحتم عدم تجاوزه، الأمر الذي يتحكم بجعل الآلية أو الطريقة أسيرة المنطلقات ضمن هذا السقف.

مثال ذلك: إن من ينطلق من بشرية الرسول صلى الله عليه وآله بالمعنى السائد، فينفي عنه أكثر الأبعاد الغيبية، لن يبحث في نصه عما هو أكبر من زمنه بكثير، لأنه حدد سقف دلالة النص سلفاً وألزم الآلية المنهجية التي يعتمدها بالبحث في حدوده.

ومن ينطلق من أن العقل يسمح لنفسه بإصدار الحكم في المساحة التي يحكم هو بأنها من اختصاص الغيب، سوف يختلف جذرياً تلقيه من النص عمن ينطلق من أن العقل يقودنا إلى أعتاب الغيب ويأمرنا أن نتعبد بأحكامه، شأن الغيب في ذلك شأن أي اختصاص يلزمنا العقل بالرجوع فيه إلى المختص والتعبد برأيه.

وحيث أن الخلل في المنطلقات أشد خطراً كان لابد للحديث في المنهج أن يصنفه في موقع الأولوية المطلقة.

ويتضح من ذلك حجم الخطورة عندما يتمازج الخللان المنهجيان: في المنطلقات وفي الآلية معاً كما هو السائد.

ولئن كان هذا الخلل المزدوج منحصراً سابقاً بغير الإسلاميين، فقد تفشت هذه الظاهرة إلى "إسلاميين" لم يتَح لهم أن يدركوا أن في المنهج الإستنباطي المعتمد في الحوزات العلمية ما تعصم مراعاته من الوقوع في الخطأ في فهم النص، إذا اقترن هذا المنهج بسلامة المنطلقات التي تتوقف بدورها على البناء على كل منها نتيجة البحث العلمي والمنهجي السليم، وليس من خلال الإنسياق مع أمواج الغزو الثقافي العاتية، والمتفاقمة.

وهذه الأوراق محاولة متواضعة ربما شكلت مدخلاً لنقل الإهتمام إلى ساحة البحث "في المنهج" وهي تشتمل على إضاءات في عدة مفردات منهجية، أعتقد أن تنكبها يؤدي إلى الخروج على المنهج العقلي والعلمي ويجعل البحث مندرجاً في سياق ما يُظن أنه منهج وما يُظن أنه موضوعية، وليس كذلك، وهو ما يعمق هوة الإختلاف، ويبعد شقة الإلتقاء.

والله َ تعالى أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي الإحسان والنعم.

 حسين كَوْراني
6 شوال 1422
 21\ 12\ 2001