الفصل الثاني:  على عتبة المعصوم موقع السرائر

   موقع العصمة من خلق الإنسان
      
العصمة والعقل
         
العصمة والإختيار
            العصمة والحرية
              
العصمة والمعرفة
                 
العصمة والغيب
                     
بشر مثلكم
                       
الذات والقضية
                          
في منهج دراسة المعصوم

موقع العصمة من خلق الإنسان

*الإنسان مختاراً
المعرفة هي القيمة العليا التي لا تدانيها في حياة الإنسان قيمة على الإطلاق، وهي بعد على مراتب، يتحدد سمو كل مرتبة على ما عداها، بالموضوع الذي تدور حوله مسائل هذه المعرفة، فالمعرفة التي تدور مسائلها حول الجماد ليست في مرتبة ما يكون موضوعه الحيوان، وما يكون محوره وموضوعه جسد الإنسان، لا يمكن أن يكون في مرتبة ما هو موضوعه والمحور الروح والعقل والقلب.

هذه المعرفة بالتحديد هي أسمى مراتب المعرفة، لأنها تُعنى بمعرفة حقيقة الوجود وما يتفرع عليها، وتضمن تحقيق تكامل الإنسان.

ومن الواضح أن الإنسان المختص في هذا الحقل من المعرفة الأسمى، قد يكون عالماً به غير عامل، وقد يكون تظهيراً له وتجسيداً لحقائقه.

في الحالة الأولى نحن أمام حالة انفصام الشخصية المعرفي، وفي الثانية، أمام إنسان كامل، قرن العلم بالعمل، فإذا المعرفة تتجلى به وفيه، لتكشف أروع مراتب الإنسانية، التي تسمو على الملائكة، بل يقع الملائك كلهم لها ساجدين، يسبحون الله تعالى لعظيم ما أبدع.

ولا يتصور تحقق ذلك وفق ميزان العدل إلا إذا كان الوصول إلى هذه القمة متاحاً لجميع أفراد النوع الإنساني، يمكنهم بلوغه إذا وظفوا "الإختيار" في ما يوصلهم إليها.

وهذا يعني أن يخلق الإنسان قادراً على الإختيار، فيكون بوسعه توظيف الإختيار سلباً أو إيجاباً، ليتخذ الإمتحان موقعه الطبيعي في تكافؤ الفرص، ويتخذ النجاح فيه موقعه الطبيعي: توحيد الإنسان بين العلم والعمل.

لهذه الميزة الفريدة، أراد الله تعالى أن يخلق خلقاً، تتوفر فيه صفتان:
1- يمكنه أن يبلغ الذرى التي لا يمكن لأفضل المخلوقات الأخرى - وهي الملائكة - بلوغها.

2-
أن يكون بلوغ هذه الذرى باختياره - رغم أن صعوبة هذا الإختيار بحكم تركيبته تفوق صعوبة اختيار الملائكة- ليستحق الإمتياز عن غيره بجدارة، وفق العدل.

 وبديهي أن إمكانية النجاح تستبطن إمكانية الإخفاق، وتلازمها، فليس الإخفاق بجميع مراتبه إلا عدم النجاح بالمراتب المقابلة.

إن مبدأ أن يكون التحليق إلى الذرى متاحاً للإنسان باختياره، يستبطن النقيض تلقائياً، الذي ليس هدفاً بل هو نتيجة حتمية للتخلف عن الهدف.

إن الجامعة التي تخرج المتفوقين هي نفسها التي يخرج منها جيش من المتخلفين.

والسبب هو العدل وربط النتائج بالإختيار.

مقتضى العدل أن يكون النجاح متاحاً للجميع، وأن تُظهر النتائج "السعي" الدراسي والمسلكي المرتبط به، على حقيقته.

وللإختيار مستلزمات لابد من توفرها، وإلا كان الإختيار لغواً فنجاح الطالب الجامعي باختياره يستدعي أن توفر له كل إمكانيات النجاح، وهي مسؤولية الإدارة، التي تشمل كل ما يسهم في تسهيل مهمة الطالب، وحصد النتائج المرجوة.

ولا يتحقق ذلك إلا بنظام يحدد ما ينبغي فعله، وما ينبغي اجتنابه شرط أن يكون هذا النظام سارياً على الجميع.

ورغم ذلك كله فإننا سنجد حتماً، أن النجاح المدوي يتلازم مع الإخفاق الذريع، مع أن الثاني ليس هدفاً على الإطلاق، كما مر.

لا يمكن للمستلزمات ومنها النظام أن تمنع وجود الإخفاق، بل يمكنها تقليص دائرته.

وكلما كان مجال الإمتحان أشد خصوصية، كان تضييق هذه الدائرة أكثر صعوبة وتعسراً.

كذلك هو الأمر في خلق الإنسان مختاراً.

إن فيه مما في الملائكة: العقل، وهو سر النجاح، مع إمكانية عدم الإلتزام بمؤداه باختيار. ومما في الحيوان: الغرائز، مع فارق هو قدرة التحكم بها، لأن الجمع بين العقل والغرائز بهاتين الخصوصيتين ينتج مخلوقاً مختاراً، يستطيع أن يحكٌِم في كل اختياراته الغرائز (الهوى) فيكون أسوأ من الحيوان، ويستطيع أن يستضيء بنور العقل، ويخضع له جميع اختياراته حتى الغريزي منها فيكون أشرف من الملائكة.

إنه أمام النجاح باختياره وأمام الفشل باختياره "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

وقد وفر الله تعالى كل مقومات حسن الإختيار، وجميع المقدمات التي تمكنه من تحقيق أفضل النتائج، ومنها النظام كما سنرى.

يشكل الإختيار -إذاً- النقطة المركزية في جوهرة الإنسانية، إذ يتضح بالتأمل فيه، أن كل ما امتاز به الإنسان من خصائص الخلافة، وتفرد به من تجليات التكريم، إنما يرجع في الحقيقة إلى أن الله تعالى شاء له أن يكون مختاراً، قادراً على الفعل وقادراً على الترك، ولا ينافي ذلك أنه محفوف بما يوهم سلب الإختيار، وهو ما يمكن تلخيصه بما يلي:

1- أن الله تعالى خلق الإنسان، فلا تعني الربوبية سلب الإرادة، خاصة مع التصريح بأن الله تعالى خلق الإنسان مختاراً (1)
2- عِلمُ الله تعالى بما سيكون من كل فرد، فالعلم بما سيقع، غير الإجبار عليه وسلب الإختيار عن سواه، وعلى هذا الأساس ينبغي فهم كل النصوص التي يتحدث بلغتها جميعاً ما اشتهر من أن "الشقي شقي في بطن أمه والسعيد سعيد في بطن أمه".
(2)
3- أن فعل الإنسان ينسب إلى الله، فهذا مقتضى كونه عز وجل الخالق للفاعل مختاراً مما يعني أن فعله أيضاً مخلوق لله تعالى دون أن يعني ذلك الإجبار أو يلامسه. "والله خلقكم وما تعملون" فمن أرسل شخصاً في مهمة، فأنجزها باختياره كما أراد من أوفده يمكن إسناد المهمة إليه بلحاظ أنه المكلٌِف الموفد والمهيء للمستلزمات، في حين أنها تنسب إلى من أنجزها بلحاظ المباشرة، وإن أنجزها بشكل مغاير لما أراد موفده، أمكن أيضاً نسبة الفعل المغاير إلى الإثنين، إلا أن نسبته إلى الموفد لا تعني تحميله المسؤولية، التي يتحملها من تصرف باختياره بطريقة مغايرة، كما أن نسبته إلى المباشر لا تلغي أنه وظف إمكانات وفرت له، ولكن حيث لا ينبغي.
4- حقيقة "الأمر بين الأمرين" فهي لا تعني سلب الإختيار، وإنما تعني أن هذا المختار أولاً هو مخلوق بما يستتبعه ذلك من حاجة المخلوق إلى الخالق، وثانياً: يحكم اختياره سقف وتتحكم فيه عوامل تنشأ من اختياره، فلا يمكن لمن اختار الإتجار بالممنوعات مثلاً إلا أن يكون محكوماً بالملاحقة القانونية التي تحد من حركته وبالتالي من خياراته، والسبب في ذلك هو سوء اختياره لا غير.
(3)

وفي مرحلة تثبيت أصل مبدأ الإختيار، يتجلى أنه في حقيقته يعني أن الإنسان مخلوق حر، فلا معنى للإختيار إلا بالحرية في الإختيار، لأن منح الإختيار نقيض سلب الحرية منه، فالإختيار والحرية وجهان لحقيقة واحدة.

* مستلزمات الإختيار
يلي تثبيت المبدأ، إدراك الترابط الكياني بين الإختيار والمعرفة، فلا مجال للإختيار بدون خيارات ولا خيارات بدون معرفة.

ويكشف المدى المعرفي المتاح عن مدى الحرية والإختيار، فكلما كان شوطه أبعد كانت حرية الحركة المعرفية والإختيار بين مفرداتها، أكثر غنى، وأبلغ دلالة على التزام المبدأ.(4)

ولا تتخذ المعرفة بعدها الحقيقي بمجرد التلقين وقابلية التلقي، بل تتوقف على إتاحة إمكانية المحاكمة والإستنتاج وهي تعني قابلية الفكر والقدرة على إعماله، والوصول به إلى الحقل المعرفي المطلوب.

وهنا يأتي دور الحديث عن العقل المتلازم أصلاً مع الحديث عن الإختيار، والحرية، والمعرفة، والفكر.

فلا معنى للإختيار والحرية الإيجابيين بمعزل عن العقل، لأنهما بدونه يتحولان إلى إهمال وعبثية وتسيٌُب.

وكما أنه لا معنى للحديث عن المعرفة بمعزل عن الفكر لأنه بمثابة الحديث عن آلة تختزن، وتتلقى، والمعرفة في جوهرها حقيقة أخرى مختلفة جذرياً، كما تقدم قبل قليل، فلا معنى للحديث عن الفكر بدون العقل، الذي يضمن سلامة التفكير عبر انتقال الفكر بين المعلومات ومنها إلى المجهول، مرحلة مرحلة بل خطوة خطوة، وفق القواعد العقلية الموصلة.

إلى هنا نصبح أمام مشروع الإنسان مختاراً، حراً، متصفاً بالقدرة على المعرفة (الملَكة) المزود بالعقل كمحور للإتصاف بهذه الخصائص جميعاً، وتحصين لها مما يكتنفها من مخاطر.

ولا ينافي التأخر الرتبي في الحديث، التميز النوعي في الموضوع، فالحديث عن العقل وإن جاء في سياق الحديث عن الإختيار، إلا أن موقعه منه موقع السر من العلن والباطن من الظاهر، بمعنى أن مشروع المخلوق المختار رهن فريدة العقل، وإن كان توضيح ذلك يستدعي التأخر في الرتبة، وقد ورد "أول ما خلق الله العقل"(5) إلا أن خلقه في إطار مشروع المخلوق المختار، الذي لابد وأن يتقوم اختياره بالعقل.

يبقى من الضروري بيان أن منظومة مشروع الإنسان هذه لا تكتمل - كما سبقت الإشارة - إلا بالنظام الذي يسري على الجميع دون استثناء.

يؤكد أن الحديث عن النظام ليس انتقائياً، أن كثيراً من المفردات التي لا خلاف في كونها من المستلزمات، تستدعي وجود النظام وتلح عليه.
وسنكتشف أننا أمام الحاجة إلى النظام في مجالين: الفكر والسلوك.

توضيح ذلك: أن الحرية التي تقدم أنه لا معنى للإختيار بدونها، تتجلى في بعدين: الإختيار النظري والإختيار العملي.

والبعد الأول يستدعي وجود ضوابط لعملية التفكير، هي القواعد العقلية التي عرفت في الفصل الأول، أنها "المنهج" الذي يمكن من الوصول إلى النتائج السليمة.

والبعد الثاني، يستدعي وجود "القانون" الذي يضمن الحرية، كما يضمن عدم تحولها إلى أداة إضرار، خصوصاً وأن الحديث عن الإنسان "المدني" بالطبع، مما يعني أننا بين يدي الحديث عن "الجماعة" لا "الفرد" أو فقل: عن الأفراد الذين يشكلون "جماعة".

ومن الضروري التنبه إلى أن الحديث عن الإختيار يختلف جذريًا، عندما يوضع في إطار الجماعة، عنه عندما يكون محوره الفرد، وهو أمر بديهي بداهة أن من يكون وحده في فسحة من الأرض يتصرف كما يحلو له، ويشغل حيزاً لا ينازعه فيه أحد، أما من يكون في نفس الفسحة ضمن جماعة، فإن خياراته تتقلص كثيراً، ولا ينافي ذلك الإختيار، إلا أنه اختيار الفرد القائم على أساس أنه "مدني" لا يستغني عن بني نوعه.

وهذه النقطة بالذات هي المفصل الذي تختلف فيه طروحات الحرية بالمعنى السائد، الذي هو في جوهره التسيب، عن الحرية كقيمة عليا للناس جميعاً، وليس لكل فرد فرد.

تتلخص مستلزمات الإختيار -إذاً- بما يلي:

1- الحرية (في البعدين النظري والعملي)
2- القدرة على المعرفة (وتشمل الفكر).
3- العقل: كأساس للإختيار ومعه يصبح الإختيار قيمة فاضلة، إذ لا معنى له بدونه، وكمصدر لضبط سائر مستلزمات الإختيار وميادينه.
4- النظام (ويشمل القواعد المنهجية والقانون الذي يضمن أن تكون الحرية للناس جميعاً).
والهدف من ذلك كله هو المعرفة المتجلية ببهاء الإنسانية وروعتها، لا المعرفة المدعاة التي هي الفصام المعرفي، بل أشد سوءاً "إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا".

*موقع العصمة
والسؤال في ضوء العنوان: ما هو موقع العصمة من هذا كله؟

والجواب: يتلازم معنى العصمة - في بعض تجلياتها- مع كون المعصوم في ذروة الكمال البشري في توحد العلم والعمل، فإذا العلم به وفيه عمل، والعمل تجسيد للعلم.

ويقوم ذلك على قاعدة أن العصمة تلازم ذروة حسن الإختيار، وذروة اكتمال العقل، وذروة الإلتزام بالنظام في بعديه النظري والعملي.

إنها الإختيار الدائم للحقيقة (الله تعالى) الذي يجعل صاحبه معتصماً وممتنعاً به عزوجل.(6)

ولأن العصمة كذلك استحق المعصوم بجدارة أن يكون الدليل والرائد، والأسوة والقدوة.
يتم اختيار مدير الجامعة من بين الإختصاصيين، وإذا أمكن أن يكون أفضلهم، فهو الأَوْلى، وقد تبلغ العناية بالمدير أو "العميد" حدَّ تصميم المبنى الجامعي، ورسم الخطط والبرامج على أساس خصائصه المعرفية المميزة.

ولئن كان الإنسان عادة عاجزاً عن استشراف المستقبل، فإن الله تعالى يعلم ما سيكون، وما تخفي القرون.

فلا عجب أن يراعي التخطيط الإلهي لمستقبل البشرية، كل الخصائص التي تربط الختام بالمطلع، وتجعل من بناء الوجود المعرفي بكل أحقابه والعصور، منظومة قِيَمية فريدة، تتخذ فيها شمس المعرفة وقمرها والكواكب - حتى قبل الخلق -الموقع الطبيعي الذي يعلم الله تعالى أنه لها بسعيها وهو الإستقرار في أعلى الذرى، وباختيار.

وليس الحديث عن الأنوارالمحدقة بالعرش، قبل الخلق، غير ذلك. وهو ما ينبغي أن تفهم في ضوئه كثير من أبواب الحديث الشريف، كما سيأتي بحوله تعالى في البحث حول "النص".

ومن الضروري جداً التنبه إلى أن كل ما تقدم يتلازم مع العصمة، أما العصمة في حد ذاتها فهي الوسيلة الإلهية التي توضع في تصرف من تحققت فيه هذه المستلزمات، بدءاً من حسن الإختيار، بما يشمل التزام الحرية وحراستها، إلى الإنفتاح اليقيني على عالم الغيب، مروراً باكتمال العقل، واكتمال المعرفة التي يمكن للإنسان عادة بلوغها.

وهذا بديهي بداهة أن الإمكانات التي توضع في تصرف أي صاحب موقع، إنما هي غير خصائصه الذاتية، فالطبيب عندما يصبح وزيراً للصحة العامة، تتاح له من القدرات ويوضع في متناوله من الوسائل، ما يسهل له إعمال خصائصه بفارق كبير جداً.

والحاكم "الأول" في عالم "الجسد - الشيء" اليوم، توضع في تصرفه مثلاً "الحقيبة النووية" التي تمكنه من تدمير قارة بكبسة زر، وتصله تباعاً وحسب أهميتها خلاصة رصد الأقمار الصناعية لأرجاء الدنيا.

فما هي إذاً أبعاد الوسائل التي يضعها العدل الإلهي في متناول المعصوم الذي أوكلت إليه مهمة مرجعية الملائكة والناس أجمعين، في حدود ما رسمه الله تعالى له وأمره بإنفاذه.؟

والملفت أن المحور في هذه الوسائل أيضاً هو العلم والمعرفة.

فالمعصوم يزود بنوع من العلم بحقائق الأمور أهٌَله له بلوغه باختياره الذرى المعرفية الأرقى، التي يمكن – من حيث المبدأ- للبشر بلوغها.

هذه ملامح عن موقع العصمة والمعصوم باختصار، وهو ما يتم تناوله بشيء من التفصيل، في الصفحات القادمة.

 

العصمة والعقل

تتلازم العصمة مع اكتمال العقل النظري والعملي، أي أن المعصوم هو الذروة في إدراك الحقيقة، والذروة في التزامها في المسار العملي، فلا وجود في فعله لتخلف التطبيق عن النظرية، بل هما متلازمان.

هذه الخصوصية هي التي تجعل المعصوم في الموقع الريادي، لتسير البشرية بهداه في نفس الخط الذي هو فيه، لأن العصمة ممكنة لكل إنسان بحسبه.

ولدى البحث عن مشكلة البشرية الأولى، المزمنة والعضال، نجد أنها مسلكية وليست معرفية، ولا ينافي ذلك وجود مشكلة معرفية، إلا أن الأبرز والأبعد أثراً، هو الإلتزام العملي بما عرفناه، وردم الهوة بين ما ندركه نظرياً وما نمارسه، بين ما نعقله، وما نفعله.

وإن شئت اعتبار المشكلة بهذه الصيغة، معرفية أيضاً باعتبار أن المعرفة هي الضحية، فليكن، إلا أن المهم التوافق على أن بعد المشكلة الحقيقي يكمن في عدم اقتران المعرفة بالتطبيق، والعلم بالعمل.

يكشف ذلك مدى أهمية أن يكون القدوة في عملية الترشيد الإجتماعي "معصوماً" وهو ما يجعل من فكرة العصمة - شأنها في ذلك شأن سائر حقائق الدين- في موقع القيمة الحضارية الخالدة، بل موضوعة حداثة واستقبال.

والخصوصية التي هي السبب في مواءمة المعصوم بين العلم والعمل، مما يجعله تجسيداً للعلم، ليست في الأصل إلا اكتمال العقل، الذي يتيح نوع إدراك للحقائق لا يتأتى بدونه، ولا يبقى معه أدنى مجال لتنكب المعصوم حتى في المسار العملي لصراط العقل القويم، الأمر الذي يجعله متمحضاً في العقلانية، بل عقلاً محضاً بما يشمل العاطفة بأبهى صورها، وحيث ينبغي أن تكون.

يقودنا ذلك إلى جملة من الحقائق، منها سلامة المنهج، التي عرفت أنها شأن عقلي صرف - باعتبار أن للعقل رأيه حتى في الأدوات- ومنها موقع العقل من الدين، فعندما يكون الأصل في قرب النبي من الحقيقة المطلقة هو العقل، فقد حسم أمر التدين، لصالح أن المحور فيه الذي يدور مداره ويرتبط به وجوداً وعدماً هو العقل.

إن "العقل" و "النبوة" بل و "العصمة" وجهان لحقيقة واحدة، هي "الحجة" و "الدليل" و "البرهان".

"إن لله على الناس حجتين، ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول"(7)

كما تبقى الحجة غير تامة وبالتالي غير قائمة بمعزل عن العقل، تبقى كذلك أيضاً دون التجسيد العملي لها، الذي يودع العقول والقلوب بذرة اليقين بإمكانية السير في هذا الطريق وأهميته، ويدفع عنها كل الآفات التي تعيق نموها بصورة طبيعية.

رسالة الأنبياء والأوصياء واحدة هي: العقل، أَعمِل عقلك واتبع هداه، واحذرْ وهم العقل "النكراء" كي لا يختلط عليك الأمر، فتتبع الهوى.
وبين هدى العقل وهوى النفس تُختصر رحلة البشرية على وجه الأرض:

"فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" [طه 123] "فلا تتبعوا الهوى" [النساء 135] "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" [ص 26]

ولا منشأ لمشكلة التصدي للنبوات، التي بدأت في عهد أول إنسان هو أول نبي، إلا تنكب منهجية العقل والإستدلالِ العلمي، والوقوعُ في أسر الهوى: العادة، والمسبقات، والرأي المخترع: الإستحسان والإستغراب.

وكان الأنبياء دائماً يصرون على تحكيم العقل والحوار وإقامة البرهان، بل إن ذلك يلخص الهدف من بعثتهم، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول."(8)

مهمة الأنبياء إذاً إثارة ما كمن في الإنسان، من هدى العقل، وغطته الأهواء التي توالى ركامها حتى دُفن الكامن، فأصبح بحاجة إلى إثارة بالتبليغ والحجة والتذكير.

ومهمة الذين تصدوا للمعصوم ومايزالون، التنكر للعقل باسم العقل، وللواقعية بادعائها، وللموضوعية بانتحالها.

ويتبوأ العقل في النص الديني مكانة فريدة، يقول الكليني:

"وأول ما أفتتح به كتابي هذا، كتاب العقل، وفضائل العلم وارتفاع درجة أهله، وعلو منزلتهم، ونقص الجهل، وخساسة أهله وسقوط منزلتهم، إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار، وبه يحتج وله يثاب، وعليه يعاقب." (9)

وكان أول حديث أورده هو الآتي:

عن "الإمام الصادق عليه السلام: لما خلق الله العقل، استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هوأحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، أما أني إياك آمُر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب"(10)

* ثوابت العقل، و"المنهج" النقيض
وعندما نحاول التقاط ثوابت العقل التي أكد عليها المعصومون، نجد ما يلي:

1- أصالة الخالق، وكرامة الإنسان.
2- أن الوجود (الواقع الموضوعي) أكبر من الحياة الدنيا.
3- توقف النفي والإثبات على الدليل.

وفي المقابل، عندما نريد تحديد أسس المادية التي يعبرعنها خطأ بالمنهج المادي، نجد أن جميع الطروحات المادية، ترجع إلى ما يلي:

1- أصالة الإنسان، بمعنى أن الإنسان هو سيد الكون، وهو المقياس، وعلى الحقائق أن تنسجم معه.
ومن نتائجه العجب فالغرور، فالتكبر فالعلو في الأرض، وصولاً إلى المبدأ القاروني "إنما أوتيته على علم عندي" فالمبدإ الفرعوني "أنا ربكم الأعلى".
2- الإيمان بالمحسوس فقط وحصر الواقع الموضوعي به، مع امتداداته.
وهو المنطلق الطبيعي لنفي الإيمان بالغيب، ومنه الآخرة، الأمر الذي يتحكم بفكر صاحبه، فيجعله مشدوداً بوثاق موقفه المسبق إلى تقليص دائرة البحث والتأمل، في رقعة صغيرة يدور فيها، محاولاً أن يخضع لها ما هو أكبر منها، وعندما يعجز عن مقاربته بوسائلها، يصدر حكمه بالنفي، وفي هذا السياق "وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين" [القصص 38]، وغيره.
3- حجية الإستغراب والإستحسان.
تارة يكون العجز عن تقديم الدليل على خلاف ما نسمعه هو الدليل على نفيه، وتارة يكون استغراب ما نسمعه هو الدليل، ولا شك أن الثاني أسوأ، وهو يستبطن الأول أيضا. والشواهد على اعتماد "ميزان" المزاج، كثيرة جداً، منها:

 "أجَعَل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءعجاب" [ص 5] "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق" [ص 7] "ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" [المؤمنون 24]
وأنت ترى بجلاء أن هذه المنطلقات في التفكير، لا تختص بعصر دون غيره، وأنها تشكل عصارة "المنهج" المادي المستشري في هذا العصر، الذي تمتد ألسنة لهبه إلى الكثير من الأوساط الإسلامية - وما أبريء نفسي، والله على ما أقول شهيد- لتحرق وارف ظلال المنهج العقلي في تلك الأوساط وتحيلها رميماً مادياً يدعي أنه المنهج العقلي، وما هو في أحسن حالاته إلا ضغث من هذا وضغث من ذاك.

وما لم نقف طويلاً عند خصائص "المنهج" المقابل لمنهج المعصوم، فلا نكون قد أتينا بيت المعصوم من بابه، الذي هو العقل خالصاً من شوائب المسبقات، وضجيج المادية والنكراء.

أوليس من أوضح البديهيات الشرعية، أنه لا يجوز الإعتقاد بأصول الدين، إلا عن دليل وبرهان، فكيف يتأتى ذلك إذا قصر الدليل وعقم البرهان.

إن الخلط بين المنهج العقلي وغيره، يرقى في آثاره الخطيرة، إلى سد الطريق الذي يوصلنا إلى الحقيقة. والمعصوم من أبرز تجلياتها.

لهذا السبب بالذات تلخصت رسالة الأنبياء في إثارة دفائن العقول، والإحتجاج بالبرهان، حيث لا مجال للوصول إلى أسرار الوجود إلا بذلك.

ما أرمي إليه، هو توكيد التلازم بين العقل والمعصوم، ووضع حد لفرية أن المنهج العقلي يقع في الجهة المقابلة للمعصوم والدين عموماً، فلم تعرف البشرية المنهج العقلي إلا في هدي المعصوم، وما من فرية تفوق تجريد من أرسى دعائم المنهج العقلي من إنجازه، إلا فرية أن خالق العقل -عز و جل- ترك الناس ومعهم الأنبياء، يتخبطون - معاذ الله- في أودية الجهل، حتى جاء من مستنقع الهوى من يرسي دعائم المنهجية! ويكشف عن عظيم مكانة البحث العلمي!

وتجدر الإشارة إلى أن العقل بل المنهج العقلي هو "الميزان" الذي ورد الحديث عنه في القرآن الكريم، مقترناً بالكتاب تارة: "ألله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان،" [الشورى 18] ومقترناً بخلق السماء طوراً: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغو في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" [الرحمن 7-9].

والملفت أن الحديث عن خلق الأرض يأتي بعد ذلك مباشرة "والأرض وضعها للأنام" مما يشير - على الأقل - إلى أن الوزن بالقسط الذي تتحدث عنه الآيات هو غير إيفاء المكيال والموازين المادية، الذي ورد الحديث عنه في مجال آخر(11). وينبغي التأمل ملياً في حقيقة أن علم الميزان هو علم المنطق كما نقل عن الشيخ ابن سينا(12) وكما هو معروف.قال السبزواري صاحب المنظومة:

                                  هذا هو القسطاس مستقيما                   ويوزن الدين به قويما. (13)

وقد عقد آية الله الشيخ حسن زاده آملي فصلا خاصاً في كتابه المشار إليه آنفاً، هو الفصل الثاني، يتحدث فيه عن منهجية صدر المتألهين في استخراج الموازين المنطقية الخمسة من القرآن الكريم. ثم قال ما مؤداه: "كان هذا قسماً من حديث صدرالمتألهين" ترجمته باختصار، ليعلم أن منطق الوحي هو محض البرهان.."(14)

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الحديث عن البرهان متأصل في النص المعصوم -الأعم من نص المعصوم- تأصل الحديث عن العقل والميزان، وهذه بعض النماذج:

1- "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم، وأنزلنا إليكم نوراً مبينا" [النساء 174]
2- "ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" [المؤمنون 117]

3- "أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم قل هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون" [الأنبياء 24]
وإذا لاحظنا أن مهمة النبي هي التذكير "إنما أنت مذكر" أمكننا أستنتاج أن المراد بذكر من معي وذكر من قبلي، هو رسالات الأنبياء جميعاً التي تقوم على إقامة البرهان، والمطالبة به.
4- "أمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [النمل 64]

وفي نهاية المطاف:

يقول صدر المتألهين: "فلنذكر أدلة سمعية لهذا المطلب حتى يعلم أن الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحِكميات، وحاشا الشريعة الحقة أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية."(15)

إن مهمة المعصوم كما تقدم في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، استيداء ميثاق الفطرة، والفطرة أساس الدليل ومناخه والمنبت، يقول ابن سينا: "من تعود أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الإنسانية"(16).

وبما أن الدليل ثمرة العقل، فطبيعي أن يتلازم هذا الإستيداء مع المنهج العقلي ولا ينفك عنه، حتى إذا لم نلحظ أن الفطرة والتدين من مشكاة واحدة "فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم"، وطبيعي أن يكون المتصدي لهذه المهمة الأول في ميادين العقل لا يتخلف عنه في بعديه النظري والعملي، وهو معنى العصمة كما عرفت، فكيف إذا أصغينا إلى المختصين الذين يتحدثون بلغتهم العلمية الفائقة التخصص عن اتحاد العقل والمعصوم؟

العصمة، والإختيار

الإختيار، يستدعي الترشيد
تمس حاجة الإختيار إلى الترشيد، ومن اللغو تصور أن الترشيد يتنافى مع الإختيار أو يحد منه، ويضيِّق دائرته، بل قد يكون الطريق الوحيد إلى توسعة دائرته إلى أبعد مدى ممكن، وهو أمر عرفي يتضح بالتأمل في حاجة صاحب الرصيد - أي رصيد - للإصغاء إلى من يقدم له النصح، ويفتح دونه الآفاق.

ولا نصح يعدل نصح المجرب، الذي واجه نفس الظروف، وخاض التجربة، وجاء يقدم الخلاصة.

وبمقدار ما تكون خصائص الناصح مبعثاً للطمأنينة، تكون إمكانية الإصغاء إليه، واقتفاء أثره في خوض التجربة.

فالإنسان المختار بحاجة في رحلة الحياة، إلى الناصح الصادق الأمين، الذي لا مصلحة له، إلا محض النصيحة "لوجه الله" لا يريد على ذلك جزاء ولا شكورا.

ومن أولى بتقديم النصح من الإنسان المعصوم الذي عرف كل المسارب والمشارب، والعروض والإغراءات، وأدرك كل الحقائق بأحجامها الحقيقية، ورأى الأمور كما هي، بنور الحق، بعيداً عن تمويهات الإغترار، والتلبيسات، حتى بات مشهوداً له بأنه القمة في سلامة الإختيار، بل حسنه إلى أقصى الحدود.

وليس مجال النصح رصيداً، يمكن تعويضه بمرور الزمان، أو من خلال صفقة نوعية، بل هو المجال الذي يدور أمره بين "الخسران المبين" و "الفوز العظيم"، إنه العمر والعقل والقلب والروح.إنه النفس.ومن لم يعرف كيف يخوض التجربة في ذلك، فقد ضل سعيه، وخسرت صفقته، وما ربحت تجارته، وقد "يحسب أنه يحسن صنعاً" ولا يتنبه إلى أنه من "الأخسرين أعمالاً" إلا بعد فوات الأوان.

محور النصيحة "قبضة من تراب" تجلت فيها "نفخة روح إلهية من رب الأرباب" تريد أن تبلغ الذرى التي لا يمكن للملائكة أن يحلموا بها، فتستقر "في مقعد صدق عند مليك مقتدر".

محور النصيحة من تٌرك له الخيار، فبوسعه أن يكون "في الدرك الأسفل" أدنى دركات الفشل، وبوسعه أن يتسنم القمم، صعوداً إلى "أعلى عليين".

وله مطلق الحرية في سلوك الصراط الذي يريد، صراط الملذات الحيوانية، وتشييء جوهرة الإنسانية، فإذا هي سلعة تشرى بنشوة، وتباع بنزوة، أو لصراط المستقيم، صراط القانون وسلامة الإختيار، الذي يعطي الغرائز حقها، وفق العدل، وثوابت العقل.

وتتمظهر هذه الحرية في مجالين كما تقدم: حرية الفكر، وهنا يبرز بوضوح أحد وجهي الحاجة إلى المعصوم في ترشيد اختيار المنهج الفكري، لرسم الحدود التي يحق له بلوغها في ممارسة حريته نظرياً من خلال التفكير.

والمجال الآخر: حرية الفعل والممارسة، وفيه يبرز الوجه الآخر للحاجة إلى المعصوم، كخبير قانوني وحيد في أدق المجالات القانونية، وأشدها حساسية، تتوقف على الإصغاء إليه معرفة القانون الذي يجب أن يسري على الجميع.

والحاجة إلى الرواد الطليعيين في الحقول المعرفية المختلفة، الذين تصنٌَع مواد المعرفة في دوائرهم التخصصية، حاجة مركزية وجذرية، فهم المعلمون الحقيقيون للبشرية في حقول اختصاصهم، وهم الرصيد المعرفي الأول والرقم الأصعب في ميادين الإبداع.

وبديهي أن الحاجة إليهم تتفاوت باختلاف ميادين إبداعهم، وكلما كان الميدان أكثر التصاقاً بتلبية الحاجات الرئيسة للنوع الإنساني، ازدادت أهمية رواده، وتجلت بالإصغاء إليهم في مجالاتهم، للإفادة منهم، بالإضافة إلى سائر مقتضيات الإحترام والإكبار.

والطليعيون في كل مجال قلة، وكلما دق الإمتحان أو الإختصاص وشف، تناقص العدد.والأوائل منهم -دوماً- أقل عدداً، لأنهم يمتازون على الجميع.

والمعصومون هم الذرى البشرية الأرفع، ولا يكاد عددهم يذكر في جانب الأرقام الفلكية لأعداد البشر.

وهم أيضاً على مراتب، يتناقص عدد الطليعيين منهم، كلما تسامت المرتبة، إلى أن نصل إلى المرتبة التي لا يبلغها نبي مرسل ولا ملك مقرب، ولو تقدم فيها جبرئيل عليه السلام، قيد أنملة لاحترق، وهي مرتبة سيد الأنبياء وأفضل الخلق على الإطلاق رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، وعلى سائر المعصومين.

وقد مرت الإشارة إلى أن العصمة ليست امتيازاً للتعالي -والعياذ بالله- لنتعامل معها بعدوانية وموقف سلبي مسبق، على غرار التعامل مع مصطلحات النبلاء والأعيان، بل هي صياغة فريدة من العبودية والتواضع والرأفة والرحمة وحسن الخلق العظيم، تجعل صاحبها يخفض جناحه للناس، ويمشي بنفسه في حاجة الفقير واليتيم، يرى أن الغاية في العبادة الإهتمام المباشر بحوائجهم، وهو ما يؤكد توظيف المعصوم "حسن الإختيار" الذي تميز به، في خدمة الناس، فكراً وتطبيقاً وتقديم النموذج والأسوة.

من هنا فإن العصمة لا تعنينا فحسب، بل هي حاجة ضرورية حياتية لنا، ولا تقتصر فائدتها أبداً على المعصوم، بل تحمِّله من الأعباء ما يستدعي التخفيف عنه فلا تذهب نفسه حسرات، لأن العصمة في أرقى مظاهرها تجعل المعصوم الحريص على الناس، العزيز عليه ما يتعبهم، وهو بعد بالصادقين منهم رؤوف رحيم.

وشتان بين أن يستنفر الحديث عن العصمة المشاعر ويستفز عدوانيتها، وبين أن يملأها بهجة وسروراً، ويشعرها بغامر الحنان، وسابغ الرحمة.

*العصمة، رحمة للناس
إن ميدان تجلي المعصوم هو ميدان امتحان جميع الناس: الإختيار، الذي هو محور مظاهر كرامة الإنسان.

ولئن لم يكن براق السفر إلى الأفق المبين الذي هو مستقر المعصوم ومنزلته، متاحاً للجميع، فإن ذلك لا ينافي الإختيار، مثل ذلك مثل القمم المعرفية وغيرها التي لا يتبوأها إلا القلائل.

على أن براق رحلة المعصوم لا يعود عليه وحده بالنفع، وإنما هو الماء المعين الذي تسيل منه أودية بقدرها، وهو الذي يجعل أصل هذا السفر في متناول الجميع، وبوسائل لم تكن لتوضع في التداول إلا في هدي استقرار المعصوم في القمة التي لا تبارى.

إن حسن اختيار المعصوم يشكل الدليل العملي الفصل لصالح كرامة الإنسان، حيث يكشف بالفعل عن إمكانية بلوغ الإنسان الذرى التي لا تخطر على قلب مخلوق آخر، وهو دليل يسلط الضوء على المراتب العالية جداً المتاحة لسائر الناس.

وبهذا الدليل القاطع أجاب الله تعالى الملائكة، حين أحبوا أن يعرفوا السر في جعل الإنسان خليفة في الأرض، فقدم لهم النماذج الإنسانية التي جعلتهم يذعنون باليقين بعد التعبد، أن الله يعلم ما لا يعلمون.(17)

ثم إن حسن اختيار المعصوم لا يوصل المعصوم وحده، بل يفتح الطريق رحباً لحسن اختيار جميع الناس، وذلك في المجالات التالية:

1- تلقي الوحي الإلهي الذي يعود بالنفع على جميع الناس.
2- ترشيد المعصوم للإختيار في جميع الأفراد، وذلك بالوسائل التالية:

‌أ- من خلال تقديم الوحي لهم. (والتلقي غيره).
‌ب- أو من خلال توضيح أبعاده، وتفسيره.
‌ج- أو من خلال الشرح لمقاصد الوحي والشرع، في ما يعرف بالحديث.
‌د- أو من خلال تقديم النموذج الإنساني المتأله، المتصف بمكارم القيم، الذي يوائم بين العلم والعمل.

3- التصدي للفراعنة والجبابرة، الذين يصرون على مصادرة حق الإختيار من الناس، واستعبادهم، وهذا ما يتم الحديث عنه بتفصيل إن شاء الله تعالى، تحت عنوان "العصمة والحرية". (18)

* مهمة المعصوم
تنحصر مهمة المعصوم مع الناس في عرض رسالته عليهم: "فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" [النحل 35] ليحدد كل منهم الموقف الذي يختار.
ويلاحظ أن الله تعالى لم يدخل في تبليغ الأنبياء لرسالاته عزوجل أي عنصر يمكن أن يسلب الإختيار أو يضعفه، بل أمر أنبياءه أن يقدموا الفكرة بأبسط الأساليب وأن يعتمدوا أبسط الوسائل، فإذا النبي عادة فرد عادي من بين الناس، الفقراء والمستضعفين، مما يعني أن الله تعالى لا يريد للبهارج والمواقع والغنى والسلطة، ان تدخل في عملية التبليغ، لأنها أولاً ليست في حد ذاتها قيمة، ثم إنها ثانياً كثيراً ما تسلب الإختيار، فيصبح الإنسان المتأثر بها يفكر بأذنيه وربما بعينيه.

أراد الله للنبي أن تكون حجته وحدها الدليل: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" [الفرقان 7] فلا بهرجة، ولا دعاية أو إعلان، إنما هو الإعلام القائم على الحقيقة والمنطق والعقل، وليس القائم على الإدعاء والتدليس.

وفي هذا السياق لم يكثر الأنبياء من اعتماد المعاجز، لأن تراكم آثاره بإفراط يضعف مبدأ الإختيار، وإنما كانوا يعتمدونها حين يطلب منهم ذلك، ويبلغ الطرح المقابل حد العدوان على مبدأ الإختيار وسَوق الناس في موجة التضليل التي تخاطب العين والأذن وتلغي العقل، ليكون هذا الإعتماد بمثابة إعادة الأمور إلى نصابها، فالمعاجز والآيات استثناء، والأصل هو عرض الرسالة "وقالوا لولا أنزلت عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين" [العنكبوت50]

والآيات التي تؤكد موقع المعصوم من عملية ترشيد الإختيار، هي من الوفرة بحيث يُخرج استعراضها الحديث عن سياقه، إلا أن من المفيد جداً التنبه إلى أن الوقوف عليها يجعلنا على بصيرة تامة من أن العصمة، تقع في الموقع المعزز لاختيار الإنسان، لا في الموقع الذي يتقاطع معه، فضلاً عن أن يصادره، أو يلغيه.ونظرة في هذه الآيات تكشف أن الأوصاف التي أعطيت للرسل هي النصح والدلالة (الهداية) والموعظة والتذكير وما شابه، وهي أوصاف تلتزم حرية الإختيار إلى أقصى الحدود، ولعل التعبير الوحيد الذي يوحي بشيء من الشدة، هو الإنذار مع أنه لا ينافي الإختيار مطلقاً، غاية الأمر أنه يكشف عن مزيد اهتمام المنذر بما يبلغه، وعن الضرر المترتب على مخالفته، وباستطاعة المنذًر، أن لا يأبه بالإنذار، بل وأن يهزأ به، وكذلك كان واقع الحال غالباُ "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا" [الكهف 56]

والإنذار والوعظ بمؤدى واحد: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" [سبأ 46](19)

العصمة، والحرية

تتجلى العلاقة الجذرية بين العصمة وحرية الإنسان، في مجالات عديدة، هي كما يلي:

1- حرية الفكر للوصول إلى الحقيقة والإعتقاد بها "لا إكراه في الدين" فالمعصومون هم رواد الحوار الفكري، بمعناه الحقيقي، لا الرائج.
2- حرية الممارسة (الفعل) بالتصدي للطواغيت والمتجبرين، الذين يصرون دائماً على تكبيل حركة الإنسان بالأصفاد والأغلال. ولا يعرف التاريخ خط مواجهة لهؤلاء إلا على أيدي المعصومين، أو أتباعهم.
3- تثبيت مبدأ كرامة الإنسان، فالفقه الديني فقه كرامة الإنسان، ولا أمل بالحرية دون بناء تربوي متكامل قائم على أساس "الكرامة".

* في المجال الأول
لدى الجمع بين كون الإختيار والحرية وجهين لحقيقة واحدة، وأن المعصوم تجسيد حُسن الإختيار، سنجد تلقائياً أن قرب المعصوم من الله تعالى يدور مدار الحرية، بمعنى أن الله تعالى أراد أن يخلق الإنسان حراً، لأن فرادة عملية الخلق هذه سوف تتجلى كل سماتها بأفضل الصور، في المعصومين، ومن بينهم في سادتهم، ومن بينهم في سيد الكائنات، وخير الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وآله وسلم.

فالمعصوم رائد مبدأ الإختيار، ومن أولى منه بالسهر على إيصال هذا المشروع الإلهي، في مدرسة الحياة إلى تحقيق كل أهدافه الممكنة، وهو ما يتم الحديث عنه بشيء من التفصيل، تحت عنوان: "العصمة والمعرفة". (20)

*في المجال الثاني
لا ينبغي حصر الحديث عن مواجهة المعصومين للطواغيت، بمواجهة الحكام، بل هي مواجهة لكل من يريد أن يخضع الناس له، بدءاً بأدنى مظاهر التسلط وتجاوز الحد الذي هو الطغيان، وصولاً إلى من يريد من الناس أن يتخذوه رباًً، وهو الطاغوت، أي الممعن في الطغيان.

تتسع دائرة هذه المواجهة لتشمل "الإفساد في الأرض" بكل تعابيره التي يجمعها "كل ما يسلب حرية الممارسة العملية للإنسان وفق مبدأ الإختيار، بتعدي الحدود في التسلط، أو تعدي الحدود في تحويل الفساد والتحلل الخلقي إلى تيار جارف يلوث البيئة الإجتماعية، ويسممها ويفسدها، ويوقع الناس في شباكها".

وباختصار: مواجهة ثالوث التسلط، والمال، والغرائزية -عموماً- الذي يهدد خطره المجتمع البشري من خلال العناوين التالية:

1- الإستعباد: والمراد به مواجهة من يستعبد الناس ويتأمر عليهم على حساب كراماتهم، كالحكام الظالمين، ومراكز النفوذ السياسي والإقتصادي والعسكري والأمني (الملأ، المترفين) وكل نفوذ يوظف للوصول إلى أحد هذه المواقع ولو كان دينياً في ظاهره:

"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" [التوبة 31]

2- التلاعب بالموارد الإقتصادية ولقمة العيش.
3- إشاعة المنكر والفحشاء.

والشواهد حول كل من البنود الثلاثة، فوق الحصر، فهي ممتدة على بساط الوجود الإنساني، منذ قابيل وهابيل وإلى يومنا هذا، وتكفي الإشارة إلى بعضها.

* حول الأول: الإستعباد
أ‌- "إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شِيَعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين" . "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين". "ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون" [القصص4- 6]

فالمستهدف هو العلو في الأرض واستعباد الناس.

ب‌- "ألم تر كيف فعل ربك بعاد" "إرم ذات العماد" "التي لم يخلق مثلها في البلاد" "وثمود الذين جابوا الصخر بالواد" "وفرعون ذي الاوتاد" "الذين طغوا في البلاد" "فأكثروا فيها الفساد" "فصب عليهم ربك سوط عذاب" "إن ربك لبالمرصاد" [الفجر6- 14]

فهؤلاء جميعاً كفرعون، في التعالي والإستعباد.(21)

* حول الثاني: التلاعب بالموارد الإقتصادية
أ- "وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين" [العنكبوت 39]

وفرعون أمره معروف، وأما هامان فكان بمثابة رئيس الوزراء الذي يعني أنه يمثل الفئة الأقوى من مراكز النفوذ والمصالح ورؤوس الأموال، وأما قارون، فهو آنذاك طاغوت المال، كما يأتي:

ب- "إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" [القصص 76](22)

وبديهي أن المال السياسي قادر على إفساد الكثير من المواقع وقد تتستر بالدين:

ج- "يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" [التوبة-34]

وبالإضافة إلى ما تقدم فقد حارب المعصومون، كل مظاهر التلاعب بلقمة العيش وفي طليعتها الربا، بما يمثله من استغلال جشع لحاجة الإنسان، بهدف امتصاص دمه في شكل مالٍ يبتز منه، ليضاعف المرابي الثروة الحرام:

د- "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [البقرة 275]

هـ- "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتٌدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون" [البقرة 188]

كذلك نجد أن بين المعصومين من تركزت دعوته على أمور من بينها التلاعب بالمكيال والميزان، لممارسة السرقة والسطو بطرق "فنية!" تفتقر إلى أبسط الموازين الأخلاقية.

و- "وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط"] "ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين" [هود 84-85]

والشواهد كذلك كثيرة جداً حول رعاية الفقراء والإنفاق عليهم، مما يصب مع ما تقدم في هدف تأمين المناخ المناسب لحرية الإختيار والحرية بشكل عام، فالترابط وثيق جداً بين لقمة العيش والحرية، لاسيما حرية الفكر والرأي.

* حول الثالث: إشاعة المنكر
أ- "إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" [النحل 90]

ب- "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" [هود116- 117]

ج- "ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" [القصص 77]

د- "أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون" [العنكبوت 45]

ومن الطبيعي أن الأمن الإجتماعي يتوقف على الحاكم العادل، والبنيةِ الإقتصادية القائمة على رعاية حق كل فرد، والبيئةِ التي لا تنفخ في أتون الغرائز، بل تفسح المجال أمام إعمال العقل والإستضاءة بنوره في دروب الحياة، ومنعطفاتها الحرجة بشكل خاص.

نستنتج مما تقدم أن العصمة تولت ريادة خط مواجهة الظلم السياسي والإقتصادي وما ينتج عنهما من تحلل البنية الإجتماعية، وزج المجتمع في مهاوي الفساد والعبثية والمنكر، بهدف تأمين المناخ الأفضل للحرية التي أرادها الله تعالى للإنسان، بعيداً عن الجور والعدوان، والقيود التي تثقل كاهل الناس، وتجعل قصارى جهدهم تحصيل لقمة العيش الذليل، التي يربطها الطواغيت بالسجود لهم، واتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى.

وهذا يدل بوضوح - على قاعدة تراكم جميع التجارب البشرية، في خزين إنساني لا يعرف الحدود والسدود- أن تنامي روح التحرر من حيث الأصل والمبدأ رهن جهود العصمة على مر القرون، وما قد يتصور من وهم التنافي بين الدين والحرية ليس إلا نتيجة حتمية للعجز عن التفريق بين حرية الفرد وحرية الجماعة كما مر، وهو في جوهره عجز عن التفريق بين شرعة الغاب وبين المجتمع المدني، بين الإنسان المتوحش والإنسان الإنسان، فالأول هو الذي لا تعرف حريته الحدود، وتنفر من أي ضابطة ونظم أمر، والثاني هو الذي يلتزم النظام والقانون ولا يرى فيهما أدنى منافاة للحرية.

مهمة الدين رسم الحدود التي إذا تم تجاوزها تعرضت حرية النوع الإنساني للعدوان، وبديهي أن يجد الفرد المتفلت المتسيب في ذلك حداً من حريته، كما هو الحال مع أي قانون بالنسبة لمن لا يمتلك روح الإلتزام بالقانون، ويلجأ إلى التحايل عليه.

ويلاحظ في هذا المجال أن روح الإلتزام بالقانون هذه من أشق الأهداف في عملية الترشيد الإجتماعي، فالأغلبية من الذين يراعون القوانين والنظم - على مستوى العالم بأسره - إنما يفعلون ذلك مكرهين من باب دفع الضرر الشخصي، وبمجرد أن يجد أحدهم فرصة للتملص أو التحايل، فإنه يغتنمها بلا أدنى حرج.

في ضوء ذلك ما هو الموقف المتصورمن القانون الديني الذي هو الأحكام الشرعية؟

هل سيكون الميل شديداً إلى التقيد به من غير المؤمنين، وحتى من كثير منهم؟

أم أن الميل الشديد هو نحو الفكاك من قيوده والتحلل من تبعته؟

إذا كان القانون الذي تعاقب السلطات على مخالفته لا يحظى بالإحترام، فكيف يتوقع احترام القانون الذي يترك للضمير أن يحاسب عليه ويعاقب؟

عندما تقرأ أو تسمع ما يقال في أي بلد عن استقلال القضاء وحياديته، وعن احترام القانون، يخيل إليك – إذا كنت لا تعرف حقيقة الحال- أن روح الإنضباط والرشد الإجتماعي بلغت حد الكمال.

كل هذا والقانون الذي يجري الحديث عنه قانون لا مجال للمقارنة بينه وبين القانون الديني، من حيث المساحة التي يغطيها، فللدين نظامه وضوابطه لكل فعل وترك، لأنه يعنى ببناء الإنسان روحاً وجسداً دنياً وآخرة.

وبمقدار ما تتسع دائرة القانون تتقلص مساحة الحرية الفردية القائمة على الإفلات من كل قيد. والقانون قيد!

ويوضح التأمل في وظيفة القانون، أنها عبارة عن وضع القيود ورسم الحدود للحرية الفردية المتفلتة لصالح الحرية الجماعية، ليمكن تحقيق الحرية الملتزمة والمسؤولة، للفرد والجماعة.

هذه الحرية هي التي تكفلت العصمة بلورتها وحراستها، وهي قيمة عليا تتوقف عليها سعادة الإنسان، ولأجلها خاض المعصومون غمار المواجهات الحامية الوطيس، حتى أصبحت أصلاً أدركته البشرية نظرياً وقطعت أشواطاً كبيرة في تعزيزه وماتزال، إلا أنها لم تدركه عملياً، لطبيعة الفارق الهائل بين النظرية والتطبيق، الذي يستدعي تراكم التجارب لردم الهوة وتقليص الفارق حتى يتلاشى.

شأن الحرية في ذلك شأن القانون الذي هو في الواقع الوجه الآخر لحقيقتها، حيث أنها حرية الإنسان المدني بطبعه، ولا سبيل لتحقيقها بمعزل عن القانون. (23)

* في المجال الثالث: تثبيت مبدأ كرامة الإنسان:
النقطة المركزية هنا هي التفريق بين أصالة الإنسان، وبين كرامته، يليها في الأهمية، التفريق بين كرامة الإنسان بما هو وكيفما كان وأي طريق سلك، حتى إذا تنكر لإنسانيته، وبين كرامة الإنسان وفق معايير الإنسانية وضوابطها.

وبينما تسقط كتابات غير الإسلاميين -عادة- في وهدة المغالطة الأولى فتتحدث عن الإنسان الإله، تعاني كتابات الإسلاميين - غالباً - من لوثة المغالطة الثانية، فتنطلق من أصل قرآني "ولقد كرمنا بني آدم" [الإسراء 70] وتركم في سياقه، كل نتائج "المنهجية!" الأولى.

يتم التوسع في حدود الكرامة، حتى الإلغاء، فيصبح الحديث عن الأصالة، والوهم مستحكم، أن الدليل هو القرآن.

وتأتي ردة الفعل من بعض الإسلاميين من طيف آخر، لتعيد تثبيت حدود الكرامة، في غير مواقعها، فتضيق من دائرتها، إلى حيث تنتفي الحدود بين الإنسان والحيوان.

وينتج ذلك من الخلط العجيب بين حق الله على الناس وبين حق الناس على بعضهم، وعدم القدرة على تصور واضح يجمع بين أصالة الله تعالى، وكرامة الإنسان.

والمقصود بتعبير أصالة الله سبحانه، أن لهذا الكون خالقاً هو الله ، فهو الأصل، وكل مخلوقاته متفرعة على وجوده عز وجل، وبناءً عليه فإن كل حقيقة ترتبط بهذا الكون، يجب أن تلحظ ذلك وتصدر منه.

ويشكل هذا المبدأ المفصل الرئيس الذي يعني عدمُ توحيد الرؤية حوله، عدمَ إمكانية التوافق على شيء، مهما بدا الأمر مغايراً. ويأتي ما يرتبط بذلك تحت عنوان "العصمة والمعرفة".

ما أنا بصدده الآن أن تُبحث مسلٌَمة كرامة الإنسان، في ضوء الموقف من أصل النظرة الكونية، ونقطة ارتكازها، وهي "أصالة الله تعالى".

وسنجد في هذا السياق أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام "بما أنه يمثل النوع الإنساني".(24)

ولكن هل يعني ذلك أن كل فرد من مفهوم "الإنسان" ينطبق عليه، أنه أفضل من الملائكة؟!

هل أن مجرمي الحرب والسياسة والتاريخ، أفضل من جبرئيل عليه السلام، أو أي ملك؟!

لا شك أن هذا مما لا يقترب منه عاقل.

ولا شك أن سيلاً مما كتب حول كرامة الإنسان، لا يفهم منه إلا ما هو أشد قبحاً من ذلك، وهو نفي وجود الملائكة، أو أنها موجودات مجبرة على الطاعة، وبالتالي فلا قيمة لطاعاتها.

والحق أن كرامة الإنسان لم تؤسس على هذا أو ذاك.

إن الميزة في الإنسان ليست عبارة عن محض الإختيار، بل هي "الإنسان مختاراً" والفرق بينهما، أن الأول ينفي الإختيار عن غير الإنسان، وخصوصاً الملائكة، أما الثاني فهو يثبت الإمتياز للإنسان رغم اشتراك الملائكة معه في الإختيار، وذلك من حيث أن خصائصه الغريزية، تجعل سلامة اختياره، رهن جهد نوعي، هو الذي يجعله أفضل من الملائكة، ولا ينافي هذا ما تقدم قبل قليل، من أن سجود الملائكة كان للنوع الإنساني، والسبب في عدم المنافاة أن قابلية حسن الإختيار وسلامته موجودة في هذا النوع دون استثناء، والفرصة متاحة لكل منهم ليصل إلى حيث يكون أفضل من الملائكة، إلا أن هذا شيء وكونهم جميعاً سيصلون إلى هذه المرتبة شيء آخر، فكيف إذاً بكونهم فعلاً الأفضل.

إن ملاك التفضيل ومحوره موجود فيهم، وهو نوع فريد من الإختيار، ويتوقف الحكم بالتفضيل على النتائج، وحيث إن الله تعالى عالم بأن النتائج نوعية، رغم عدم شمولها لكل أفراد الإنسان، فقد أمر الملائكة بالسجود لهذا المخلوق الذي سيحقق هذه النتائج بالعقل والإختيار، رغم الكَبَد والكدح وشدة نهي النفس عن الهوى. (25)

قال العلامة الطباطبائي: "وحق الأمر أن كون العمل جائز الفعل والترك، ووقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه مِلاك أفضلية طاعته، بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته وحسن سريرته والدليل على ذلك أنه لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع وقبح سريرته وإن بلغ في تصفية العمل وبذل المجهود فيه ما بلغ، كطاعة المنافق ومريض القلب الذي يحبط عمله عند الله، وتمحى حسناته من ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع وجمال ذاته وخلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه نزوعه من المعصية إلى الطاعة وتحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله وفضل طاعته.

وعلى هذا فذوات الملائكة - ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة ولا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية وخلوص النية - أفضل من ذات الانسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب والشهوة، وأعمالِه التي قلما تخلو من خفايا الشرك وشؤم النفس ودَخَل الطبع. فالقوام المَلكي أفضل من القوام الإنساني والأعمال المَلكية الخالصة لوجه الله، أفضل من أعمال الإنسان وفيها لون قوامه وشوب من ذاته، والكمال الذي يتوخاه الإنسان لذاته في طاعته وهو الثواب أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الاشاره إليه. نعم لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجاً بما يحصل لذاته من الإستعداد سريعاً أو بطيئاً كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب وموطناً من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده." (26)

ولم يترك الإسلام أمر الإنسان الذي يهمل العقل، ويسيء الإختيار، وينخرط في مسار الفساد في الأرض، بل حدد أنه أسوأ من الحيوان:

"ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" [الأعراف 179]

"أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا" [الفرقان 43 - 44]

يتضح من ذلك:

1- أن مبدأ كرامة الإنسان لا شك فيه.
2- وأن هذه الكرامة رهن اعتماد العقل والتزام المسار العملي الذي يستجيب له.
3- وأن من يتنكر لعقله ويتبع الهوى، أسوأ من الحيوان.
في هذا السياق تصبح كرامة الإنسان الكرامة المسؤولة، المنسجمة مع الإنسانية، والعقل، وما يحكم به من مكارم الأخلاق، والسلوك القويم الذي يراعي حق الله تعالى والنفس وسائر الحقوق.

* فقه كرامة الإنسان
وليست كرامة الإنسان عبارة عن مبدأ يتم تثبيته، وينتهي الأمر، فلا بد بالإضافة إلى أصل تثبيت المبدأ وتشييد قواعده، من تقديم الأطروحة المتكاملة، التي توضح الإلتزام بهذا المبدأ، في مختلف المجالات الفكرية والعملية، بحيث تكون المنظومة فيهما قائمة على هذا الأساس "كرامة الإنسان".

كما أنه لابد بالإضافة إلى تثبيت المبدأ وتقديم الأطروحة بما يشمل القوانين والنظم الكفيلة برعايته، من تقديم الأدلة والبراهين التي تضمن إمكانية الإلتزام بمبدأ الكرامة على أوسع نطاق ممكن، وهو ما يمكن التعبير عنه بفقه القانون، ويجري التعبير عنه بـ "المفاهيم الإسلامية".

وقد بذل المعصومون من الجهود الهائلة في هذا الصدد، ما عجزت كل محاولات غيرهم عبر القرون عن محاكاة سفحه.

ويمكننا استجلاء ذلك بيسر من التأمل بشكل خاص في الأحكام الشرعية، التي هي مواد القانون الديني وبنوده، وفي البناء الفكري والأخلاقي الفريد، الذي يشمل كل مجالات النفس البشرية وتقلباتها في مواجهة المتغيرات.

ولئن شهدت البشرية محاولات في "الفكر" و "التقنين" خارج دائرة العصمة، متأثرة بها، فإنها لم تعرف محاولات مماثلة في البعد الأخلاقي.

على أن المحاولات الفكرية والقانونية تلك، تقتصر على بعض الجوانب الإجتماعية، وتهمل "البناء النفسي" المساحة الأم التي هي المصدر لكل سلوك اجتماعي.

ويكفي لإثبات ما تقدم الإشارة، إلى بعض العناوين المرتبطة بالموضوع، من قبيل تحريم "الغيبة" التي تعني أنه لا يحق لأحد تجاوز حدود كرامة من تحرم "غيبته" وذكره بما يكره حال غيابه، وتحريم "الأذى" الذي يحرم الإساءة إليه بما يؤذيه في حضوره أو غيابه، مادام سيبلغه، أو تحريم سوء الظن بالآخر، بما يكشف من نزوع الدين إلى تطهير الذات من كل ما يمكن أن يشكل مرتكزات للإضرار بالعلائق الإجتماعية التي ينبغي أن تظل علائق إنسانية تحفظ لكل فرد كرامته.

والشواهد على ذلك فوق الحصر كما لا يخفى.

وسيظل مَعلماً بارزاً في تاريخ الإنسان على وجه الأرض، أن ما يسمى بالرقي والتطور وما يدعي لنفسه الحق الحصري للتحضر، تلازم مع "تشييء" الإنسان، وتحويله إلى سلعة، بحيث أن النتيجة التي لا مراء فيها، ولا شبهة، تعتريها، أننا كلما رجعنا - في رحلة الدراسة والتأمل - إلى عمق التاريخ أكثر، كلما وجدنا أن "كرامة الإنسان" يقوى حضورها وتشتد العناية بها أكثر، إلى أن نصل إلى حيث أمر الله الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام.

ولا يعني هذا أن جهود المعصومين ذهبت أدراج الرياح، بل يعني أن ما واجهوه، من إصرار الطواغيت والفراعنة، كان هائلاً، ورغم ذلك فإن البشرية اليوم قد استوعبت نظرياً ثمار جهود المعصومين في تثبيت هذا المبدأ، وسيأتي اليوم الذي تتمكن فيه من تحويل النظرية إلى واقع عملي.

يدرك المتأمل للراهن الإجتماعي على مستوى العالم، أن خزين التوق للحرية والكرامة، أكبر بكثير، من أن يظل حبيس الصدور.

ويدرك بيسرمثلاً أن المفارقة فلكية بين كون أمريكا "رائدة حقوق الإنسان"! وبين أن لها في مجلس الأمن "حق النقض"! وهو يكشف عن مدى "ربحية" الحديث عن معاني التحرر، ولذلك يلجأ إليه من لا علاقة لهم به من قريب أو بعيد.

والمفارقات على هذه الشاكلة، كثيرة جداً، أصبحت واضحة للشعوب تماماً، وهو ما يبشر بأن المستقبل زاخر بالمستجدات.

العصمة، والمعرفة

المعرفة مناخ، وفكر، ومادة معرفية.

أما المناخ العام: الحرية، ومواجهة الطواغيت على تعددهم، فقد تقدم الحديث عنه.

ويبقى الحديث عن المناخ الخاص "لقمة العيش" وسائر الحقوق اللصيقة بالإنسان، التي إن لم تكن متاحة، عطلت حركة الفكر، وأدخلته في المتاهات، وشلت القدرة على الإهتمام بالمعرفة، وحصرته بمعرفة مورد الرزق.

والفكر حرية وحوار، وفي حديث الحرية المتقدم ما يكفي لبيان موقف العصمة، من حرية التفكير.

يبقى الحديث عن الحوار وحق "الرأي الآخر" في التعبير عن نفسه.

ويبقى كذلك الحديث عن المادة المعرفية التي قدمها المعصومون إلى الناس، والتي تبلغ من الأهمية، أن من نجح فيها فهو أفضل من الملائكة، ومن أخفق فهو أسوأ من الحيوان.

هذه العناوين الثلاثة، هي التي تجري هنا مقاربتها.

*أولاً: المساواة في الموارد العامة
لا نجد في أي من الأديان السماوية قبل التحريف (بما يشمل التطبيقي فقط ) تمييزاً بين بني الإنسان، وفي القرآن الكريم والصحيح من الروايات ما يكشف عن الخط العام الذي اعتمده المعصومون عبر القرون في باب تداول المال والموارد العامة، والذي يمكن تلخيصه بما يلي:

1- الناس متساوون في العطاء، فعندما تريد السلطة التنفيذية توزيع مال أو غيره، يجب أن يتم ذلك على قاعدة التساوي، ولا فرق بين حاكم ومحكوم، وأسود، أو أبيض، وعريض الجاه والمغمور.
2- السعي سبب للتملك، إلا أن ثمة حداً أدنى مما يحصل عليه الإنسان بسعيه، يدخل في "الثروة العامة" لسد حاجات المجتمع.
3- بالإضافة إلى هذا الحد الأدنى، تقوم تربية الفرد على أن حاجة غيره، ليست أقل شأناً من حاجته، ويفضل أن يعطيها الأولوية، عملاً بمبدأ الإيثار.
4- المنع من البذخ والترف وكل مظاهر التفرعن المالي، لما يمثله، من أنانية وانغلاق على الذات، وانعدام الإحساس بآلام الآخرين.

وأكتفي بذكر شاهد واحد، يؤكد أكثر ما تقدم والباقي من الوضوح بمكان.

في المجلس العام الذي جرت فيه البيعة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعد خطبته بالمناسبة "قام إليه الناس فبايعوه، فأول من قام فبايعه طلحة والزبير، ثم قام المهاجرون والأنصار وسائر الناس حتى بايعه الناس، وكان الذي يأخذ عليهم البيعة عمار بن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان، وهما يقولان: نبايعكم على طاعة الله وسنة رسوله، وإن لم نف لكم فلا طاعة لنا عليكم، ولا بيعة في أعناقكم، والقرآن إمامنا وإمامكم.
ثم التفت علي (عليه السلام) عن يمينه وعن شماله، وهو على المنبر، وهو يقول: ألا لا يقولن رجال منكم - غداً- قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الرُّوَقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إن لم يغفر لهم الغفار، إذا منعوا ما كانوا فيه، وصيروا إلى حقوقهم التي يعلمون، يقولون: حرمنا ابن أبي طالب، وظلمنا حقوقنا، ونستعين بالله ونستغفره، وأما من كان له فضل وسابقة منكم، فإنما أجره فيه على الله، فمن استجاب لله ولرسوله ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده. فأنتم أيها الناس، عباد الله المسلمون، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، وللمتقين عند الله خيرالجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاء، وما عند الله خير للأبرار، إذا كان غداً فاغدوا، فإن عندنا مالاً اجتمع، فلا يتخلفن أحد كان في عطاء (أي أكان اسمه مثبتاً في سجلات التوزيع) أو لم يكن، إذا كان مسلماً حراً، إحضروا رحمكم الله. فاجتمعوا من الغد، ولم يتخلف عنه أحد، فقسم بينهم ثلاثة دنانير لكل إنسان الشريف والوضيع والأحمر والأسود، لم يفضل أحداً، ولم يتخلف عنه أحد إلا هؤلاء الرهط: طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم وناس معهم."
(27)

ومن الطبيعي جداً أن تظهر الآثار الإيجابية للمساواة في الموارد العامة، واعتماد روح الأخوة والإيثار، في الموارد الخاصة، في المدى الإجتماعي والفردي، استقراراً، يشكل بدوره المناخ الملائم لحركة فكرية مستقرة ومتميزة.

وقد ربط خط العصمة بين لقمة العيش والحق في حياة كريمة، وبين تفتح مدارك العقل، والعكس صحيح "إذا ذهب الفقر إلى بلد، قال له الكفر خذني معك".(28)

*ثانياً: الحوار
يعجز البيان عن تصوير حتى بعض الملامح من فريدة أن الله العظيم يختار أفضل الخلق للدخول في عملية حوار جاد مع جميع الناس بلا استثناء، فهو سبحانه لا يريد أن يُجبَر أحد منهم على عقيدته، بل هو خلقهم بحيث لا يمكن لأحد إجبارهم على الإعتقاد بما لا يقتنعون به "لا إكراه في الدين".

كل ما على المعصوم فعله هو إقامة الدليل ومواجهة الشبهة بالحجة، ولا تكتمل المهمة إلا و"قد تبين الرشد من الغي" وبعد ذلك : "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" مع دقيقة لابد من ملاحظتها وهي الوعيد الشديد لمن شاء أن يكفر، لأن ترك الأمر دون تثبيت هذا الوعيد بجلاء نوع إغراء بالجهل، وكأن الطرفين على حد سواء!

" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا أعتدناللظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقا". [الكهف 29]

ومعنى أن المعصوم معني بإيصال المعرفة إلى الناس كافة، أن فرعون وقارون ونمرود وهامان وأبا لهب وأمثالهم، بين من يشملهم الحوار، فالله والمعصوم من جهة وهم وغيرهم من جهة أخرى، ولا يتصورن أحد أن المعني بالحوار في الأصل، غير هؤلاء الفراعنة، فالعكس هو الصحيح.

إنهم المعنيون أولاً، وأكتفي بذكر ثلاثة نماذج:
1- "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" [البقرة 258]
2- "إذهبا إلى فرعون إنه طغى" "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكرأو يخشى" [طه 43-44]
3- "قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" "قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" "فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى" "إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى" "قال فمن ربكما يا موسى" "قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى" "قال فما بال القرون الاولى" [طه45- 51] إلى قوله تعالى: "ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى" [طه 56]

وليس التوجه إلى نمرود أو فرعون قبل كل الناس، للترهيب لأنه في موقع التجبر والتضليل، بل الهدف هو التذكير، فهو معني بالحوار، وإن لم يتذكر فلعله يخشى ويرهب، حتى لا يبقى عقبة في طريق وصول نداء الحق إلى الناس.

4- "لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" "قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين" "قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين" "أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون" [الأعراف 59- 63]
وفي سورة هود: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين" [هود 27] "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون" [هود 28]

والقرآن الكريم في أحد أهم أبعاده كتاب محاورات الأنبياء للطواغيت وسائر الناس، لأن الله تعالى يريد أن يحاور عباده ويقدم لهم البراهين ليبلغوا الحقيقة باختيارهم، وليس منطلق الحوار الحاجة إلى الآخر التي تفرغ دعوة الحوار من محتواها وتحيلها، سلعة للوصولية، وشلواً نفعياً أنانياً لا علاقة له بعالم الفكر من قريب أو بعيد.

إن المنطلق هو "أنلزمكموها وأنتم لها كارهون" [هود 28] فقد خلق الله تعالى دائرة إرادة الإنسان، حرة حصينة، لا يمكن أن تستجيب إلا باختيارها، ولو أن الدنيا كلها في جانب، وفي الجانب الآخر إرادة فرد من النوع الإنساني، لما أمكن أن تستجيب هذه الإرادة بالإكراه.

والله تعالى قادر على التصرف في ما أبدع، إلا أن هذا يفقد الإنسان وسام "الإستحقاق".

"ولوشاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس 99]

وقد كانت هذه الرحلة في تثبيت مبدأ حرية الإختيار الإنساني وريادته مكلفة للمعصومين بما يفوق التصور، تحملوا في سبيلها الإستخفاف والإستهزاء، والتهم البالغة القسوة، وألوان الأذى والتنكيل، وظل مبدأ "فهل على الرسل إلا البلاغ" الأصل والمحور. والشواهد على ذلك كثيرة جداً كما هو واضح، وينبغي أن تأخذ موقعها في الدراسات الإجتماعية الجادة. وأكتفي هنا ببعض ما ورد حول نبي الله نوح عليه السلام فهي النموذج الذي استغرقت تجربته حوالي عشرة قرون:

"ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون" [العنكبوت 14]

"ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" [الأعراف 59] "قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين" [الأعراف 60] "قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين" [الأعراف 61] "أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" [الأعراف 62] "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون" [الأعراف 63]

"فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين" [هود 27]

"إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين" [المؤمنون 25] "قال رب انصرني بما كذبون" [المؤمنون 26]

"قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا" "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" "وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا" "ثم إني دعوتهم جهارا" "ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا" [نوح 5- 9]

"قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" [هود 32]

"ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" [هود 38]

وما جرى لنوح من الإعراض والتكذيب جرى لسائر المعصومين: "وإن يكذبوك فقد كُذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير" [فاطر 25]

"كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" "أتواصوا به بل هم قوم طاغون" "فتول عنهم فما أنت بملوم" "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" [الذاريات 52-55]

ولم تقتصر رحلة الأنبياء المضنية في الحوار والبلاغ على الأذى النفسي، بل إنها قد شهدت أفظع أنواع التعذيب الجسدي، وبقي المبدأ على ثباته.

"ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل" [الأنعام 107]

وينبغي التنبه هنا إلى أن هذه الجهود الجبارة التي بذلها المعصومون للإقناع بالدليل والبرهان، لا تعني أن ننظر بنسق واحد إلى من استجاب للحجة والمنطق، ومن لم يستجب، بشبهة أن لهم الحق في الإختيار، ولم يختاروا ما جاء به الأنبياء.

إن هذا بمثابة أن يطلب منك النظر بوتيرة واحدة إلى من ينجح في دراسته الجامعية، وإلى من يخفق.

بديهي أن حسن الإختيار يستتبع المدح، وسوء الإختيار الذم.

يدعو إلى تسجيل هذه الملاحظة الميل الذي يتراءى أحياناً إلى جعل الحديث عن الإختيار منطلقاً إلى إكبار من يقتدي الآن بالذين لم يستجيبوا للأنبياء، ومبرراً للتصدي للحقائق الدينية، وستاراً للتجديف، وهو ما أدى إلى تشويه مفهوم الحرية بلوثة الشذوذ والتسيب كما تقدمت الإشارة.

إن السياق الذي يجب أن تُدرس فيه "مدرسة العصمة في الحوار" سياق آخر جملة وتفصيلاً، إنه سياق الكرامة الإلهية للإنسان الكامل الذي يبلغ باختياره، وفق موازين العدل التي تقضي بأن لا يكون محدداً سلفاً، وهو ما يستدعي شمول مبدأ الإختيار لجميع أفراد النوع الإنساني، واقتصار المعصومين في تبليغ الرسالة إليهم على تقديم الدليل، وعدم اللجوء إلى أي مظهر من مظاهر الإرهاب الفكري. "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر" [الغاشية 21-22]

لا تفتح المدارس والمعاهد العلمية والجامعات أبوابها للفاشلين بل لأجل الناجحين والمتفوقين، وتضع كل إمكاناتها في خدمة الجميع، وذلك مقتضى العدل.

الفكر، والتجديف:
هل يحق لهؤلاء الطلاب المخفقين في التقاط أهمية التعليم وبذل الجهد في دروب النجاح، أن يعيقوا سير الدراسة، لأنهم "اختاروا" أن يحولوا الحرم الجامعي إلى ملهى يمارسون فيه مختلف أنواع التسلية والعبثية والمجون، متذرعين بالحرية، معترضين على من يحول بينهم وبين ذلك بالقمع وكم الأفواه والتسلط وعدم احترام الرأي الآخر؟

أم أن عملهم هذا يدخل في إطار نشرالفوضى، وتعطيل الحرية الجماعية داخل الجامعة، وهو بالتالي نوع من أنواع الخيانة للهدف الذي التحقوا بهذا الصرح العلمي من أجله.

إن الفرق كبير جداً بين احترام الفكر وبين احترام التجديف، الأول هو المراد بقوله تعالى: لا إكراه في الدين، والثاني: هو ما يحلو للبعض وربما بدافع الغفلة، أن يفسروا الآية به.(29)

ومثل الدنيا مثل المعهد الدراسي الجامعي أو غيره، لا يعقل أن يترك لكل طالب أن يختار دون وضع ضوابط لهذا الإختيار، كما لا يعقل أن يترك وشأنه ليعبر عن اختياره الخاطئ بالطريقة التي يريدها، دون رادع قد يصل إلى ما هو أكثر من الطرد بكثير، ولا ينافي ذلك الإختيار، كما هو واضح.

تحدد الجامعات الأسس والأهداف، والنظم، وتقدمها للمنتسبين ليختاروا، والنتيجة إما النجاح وإما الفشل، ولكل منهما مراتب، وقد يبلغ الفشل كما مر حد الطرد بل السجن أو القتل وذلك بالتناسب مع الجريمة التي يرتكبها المنتسب إلى معهد علمي تحت ستار العلم.

وفي مدرسة الدنيا، حدد الدين الأسس والأهداف والنظم، قال تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (وهذا هو النجاح).

"ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" [طه 124-126] (وهذا هو الفشل والإخفاق)

ويشمل الهدى الإلهي المواد المعرفية والنٌُظم معاً لأن الحديث هنا عن المعرفة المقترنة بالعمل، وليس المعرفة للمعرفة، ويأتي مزيد إيضاح، تحت عنوان "العصمة والمعرفة".

حرية الفكر، والخيانة العظمى:
من الضروري الوقوف عند موقع الفكر من منظومة "الإنسانية" لإدراك أن الحقيقة، تمثل حجر الزاوية في البناء المعرفي والسلوكي للإنسان، ومن الوضوح بمكان أن البناء على وهم الحقيقة، ليس إلا بناءاً على شفا جرف هار، سرعان ما ينهار.

كما أن الضبابية في إدراك الحقيقة تنتج بناءاً مذبذباً ومواقف أين منها تلون الحرباء.

وعندما تبنى حركة الفكر على الحقيقة، تصدر منها وترد إليها، فإن الفكر يقف على أرض صلبة، ويرتكز إليها، وهو ما يمكٌِنه بدوره أن يشكل لصاحبه حجر الزاوية في منظومة مفاهيمه، ونقطة الإرتكاز التي يحاكم على أساسها الرؤى والطروحات التي تواجهه، في جو من التوازن النفسي، والطمأنينة والإستقرار.

يقودنا هذا إلى أن الفكر في مداره الصحيح، هو الوطن الأسمى للإنسان، لأنه يشكل من منظومة الإنسانية، ثمرة العقل وقطب الرحى.

والسؤال في ضوء ذلك:

هل يحق لبعض أبناء الوطن – أي وطن – أن "يختاروا" التعامل مع عدو وطنهم الذي يخطط لاحتلاله واستعباد مواطنيه، متذرعين كذلك بحرية "الفكر" الذي قادهم إلى ذلك "وحرية" الإختيار؟ أم أن لهذه الحرية حدوداً تقف عند الإضرار بالآخرين، فمن اتضح أن عمله سيؤدي إلى إغراق السفينة التي ليس هو إلا فرداً من عديدها، يجب بحكم العقل أن يضرب على يده، لمصلحة الجماعة ومصلحته أيضاً؟

ليس من الموضوعية في شيء تحديد الموقف من حرية الفكر دون الإجابة على الأسئلة التالية:

1- لماذا "يحكم العقل" بوجوب الدفاع عن الوطن، وحشد كل الطاقات في المعركة، مهما بلغت؟
أليس هذا حداً من "حرية" العدو المهاجم؟! ومنعاً له من تحقيق خياره الفكري؟!
2- لماذا "يحكم العقل" بإنزال أشد العقوبات بالمواطنين الذين باعوا أنفسهم لهذا العدو؟
3- وهل الحكم بـ "الخيانة العظمى" الذي يبرر ملاحقة العميل، والحكم عليه بالإعدام، غير هذا المبدأ العقلي المسلٌَم؟
4- وهل خيانة الفكر السليم والعقيدة القويمة، أقل خطراً من خيانة الوطن بمعناه الجغرافي الذي لم يكتسب خصائصه إلا من عالم الفكر؟
5- أوليست خيانة الوطن خيانة عظمى بلحاظ أنها تكشف عن تشوه فكري؟
ينبغي إذاً التفريق بامتياز بين الفكر، وبين الخيانة العظمى التي هي بحسب السائد تعبيرآخر، عن استحقاق الإعدام.
ومهما كان سمو الوطن وعظيم منزلة المدافعين عنه، فإن الفكر هو الوطن الإنساني الأسمى، الذي يجب أن تحشد كل الطاقات الإنسانية للدفاع عنه، في مواجهة الغزاة من جيوش الجهل والتخلف والغرائزية العمياء.

تلكم هي مهمة المعصوم، ولم تدرك البشرية "قيمة المعرفة" وحرمة الفكر، والتمييز بينه وبين برقع الجهل المدعي، إلا في هدي كواكب الشهداء، ومواكب المجاهدين القادة الرواد، من المعصومين الأنبياء والأولياء.

* وهم الحوار
أصبحت الدعوة إلى الحوار على كل شفة ولسان، حتى أن الأنظمة القائمة على القمع، باتت تتحدث عن الرأي الآخر والمجالس التمثيلية، وإن كانت "تمثيلية".

وهو ما يكشف أن جهود خط العصمة في تثبيت مبدأ الحوار بين البشر، قطع أشواطاً كبيرة، ومايزال يمضي قدماً، والمستقبل واعد.

ولكن تستدعي الضرورة التنبه جيداً إلى الفرق بين الحوار الفكري، وبين الحوار المصلحي المتستر بالفكر. إنه وهم الحوار، وهو أشد خطراً من انعدام الحوار على شديد خطورته.

من خصائص وهم الحوار تجنب المفاصل الحرجة، التي يتفرع عليها كل ما عداها، بحجة أن طرحها ينسف الحوار، وهو الدليل القاطع، على عدم تحقق إرادة الحوار.

وأوضح الأمثلة على ذلك ما سبقت الإشارة السريعة إليه حول تحاشي البحث في وجود الله تعالى.

وتكمن الخطورة في أن كثيراً من الحقائق يتم تناوله، بمعزل عن تحديد الموقف من هذا المبدأ، وتختلف منطلقات الباحثين التي حتمت عدم تحديد الموقف هذا، فبينما ينطلق بعضهم من الإستغراق في المحسوس واليومي، وعالم الشهادة، الأمر الذي يجعل البحث ينطلق من أصل يظنه الباحث مسلٌَماً، ويعبر عنه بـ "الواقع الموضوعي" ينطلق البعض الآخر من عدم الجرأة على تحديد موقف سلبي، ممن لا يعتقد بوجود الخالق، أو موقف إيجابي من قِبل من يعتقد بذلك إلا أنه لا يريد إثارة نقاط خلافية! ليبقى الحديث في دائرة القواسم المشتركة بين الجميع.

وبديهي أن عدم تحديد المنطلقات في البحث، يجعل النتائج عقيمة، أشبه ما تكون بالتوافق على ما لا نعلم، بل بالتوافق على التباني على عدم التوافق.

نستغرق في الحوار ونرصف العناوين، ولا نؤجل البحث في الحل النهائي فحسب، الذي قد ينسف كل شيء، على طريقة "ماجرى باسم عملية التسوية في الشرق الأوسط" بل نتجنب الخوض في الحل النهائي الذي هو المرتكز لكل ما بنينا، فتكون النتيجة، أننا لا نعرف على مَ اتفقنا.

إن الحديث عن الحرية والعدالة والمساواة والقانون والتنمية والمجتمع والبيئة والثروة والثورة، جميعاً فرع الحديث عن محور واحد هو "الإنسان" وكل حديث عن الإنسان بمعزل عن الحديث عن أصل الوجود، ليس إلا خبط عشواء وإمعاناً في المتاهة.

يتفق الجميع على أن الإنسانية قيمة عليا.

وعلى أن الإنسان سيد الكون.

ويتفقون على أن حرية الإنسان بالتالي هي الأصل الذي يجب أن لا يمس.

وعلى أن القانون ضرورة لتنظيم الحرية.

وينتهي الحفل، وكل يقصد ما يريد هو لا ما يريد الآخر.

ويتضح الدليل لدى طرح بعض الأسئلة:
1- ما المراد بأن الإنسان سيد الكون؟

يرى البعض أنه سيد المخلوقات، وخليفة الله في الأرض.

في حين يرى البعض الآخر أن الحديث عن "المخلوقات" هو ذلك التخلف الذي يطوون عنه كشحاً.

وفي حين يرى فريق ثالث لم يحدد موقفاً سلبياً أو إيجابياً من أصل الوجود، أن المراد هو كون الإنسان المحور ولا داعي لأكثر من ذلك.

2- ما المراد بأن حرية الإنسان هي الأصل؟

هل يعني ذلك أنه لا سلطة لإنسان على إنسان، أم أنه لا سلطة فوق سلطة الإنسان؟

وما هو الموقف من الدين عموماً الذي يرى أن لا حرية للإنسان في مقابل خالقه؟

3- وبالتالي: أي قانون هو الذي ينظم حرية الإنسان، هل هو القانون الوضعي، أم القانون الديني؟

وبديهي أن النتيجة لبحث من هذا النوع، لا تعدو كونها "تجارية" نفعية تخدم شبكة المصالح، والحوار المبني على العجز عن الإلغاء، الذي يعبر عن نفسه - في أكبر عملية تمويه اجتماعي- بالإنفتاح!

وما لم يجرؤ الحوار على بحث الأسس والمنطلقات، لا يكون جاداً ولا مجدياً، ولذلك نجد أن الحوار كما أراده القرآن الكريم منصباً على الأصل الذي تتفرع عليه كل الأسس والمنطلقات.

وقد ركز خط العصمة على الحوار في النقطة المركزية، التي يسهل بعدها تحديد أولويات الحوار، وقد تقدم من الشواهد القرآنية ما يدل على ذلك بوضوح.

أختم هنا بذكر شهادة لأحد كبار العلمانيين، في عصر الإمام الصادق عليه السلام، حول منهجيته عليه السلام في الحوار:

كان "المفضل" جالساً في مسجد النبي صلى الله عليه وآله، في الروضة، وهي البقعة الشديدة الخصوصية، وإذا به يسمع حديثاً بين ملحدَين، أحدهما ابن أبي العوجاء المشهور بإلحاده، وكان الحديث منصباً على النيل من رسول الله، والتشكيك بوجود الخالق عز وجل، فبادرهما المفضل باستدلال جارح، وإذا بابن أبي العوجاء يقول له:

"يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وإنه للحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خُرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستعرف حجتنا حتى (إذا) استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه".(30)

* ثالثاً: المادة المعرفية:
اشتملت المقاربات السابقة على إضاءات وافية حول العصمة والمعرفة بشكل عام مع إشارة واحدة إلى حقيقة المعرفة التي أحلها المعصومون في موقع الأولوية المطلقة.
(31)

والسؤال هنا: أية مادة معرفية هي التي حمل المعصومون رايتها، وحظيت منهم بوافر العناية؟

أي أننا بعد الوقوف عند أهمية المعرفة وعظيم منزلتها بشكل خاص نريد أن نقف على حقيقة هذه المعرفة التي لأجلها كان العقل والفكر، والإختيار والحرية، بل لأجلها خلق الله تعالى الإنسان، ولأجلها كانت رسالات السماء، وكان المعصومون.

والجواب: إنها ببساطة:
1- معرفة النفس.
2- الإلتزام العملي بمقتضى هذه المعرفة، حيث لا تتخذ المعرفة بعدها الحقيقي، إلا بالعمل وفقها، وإلا كانت معرفة ناقصة، هي بعدمها أشبه.

إنها المعرفة التي يتجلى بها جوهر "الإنسانية" بمعناها القِيَمي السامي - ذلك التجلي- الذي تبلغ أعلى مراتبه إلى حيث يوقن الملائكة - بمجرد الإطلاع عليه- بفرادة خلافة الإنسان في الأرض.

ويتوقف إدراك ذلك على إدراك حقيقة الإنسان وموقعه في الوجود، وهي النقطة المركزية التي حارت فيها العقول، وتراوحت إفراطاً وتفريطا بين تأليه بعض أفراد النوع الإنساني، وبين تقزيم الإنسان إلى سلعة وشيء في خدمة الأرقام والحيوان والجماد، كما هو عليه الحال الآن في "حضارة" القرن الواحد والعشرين.

وقد يُتصور أن استعباد أكثر الناس لصالح متنفذ فرد أو نظام متجبر هو استعباد أكثر الناس من قِبل أقلية منهم فهو بالتالي لا ينافي أن السيادة للإنسان، ولو من خلال سيادة البعض من المتجبرين ومراكز النفوذ.

وليس الأمر كذلك، فالذي يتحكم بهذه الأقلية هي النزعات الحيوانية، لا الإنسانية، مما يكشف عن تغييب الإنسانية كلياً عن مصب الإهتمام.

ولا يمكن أن يتضح ذلك إلا في ضوء التنبه إلى أن قيمة الإنسان في منهج المعصومين، فوق كل القيم المادية، أو ما ينتهي إليها ويصب في خدمتها، والتنبه أيضاً إلى أن البحث الموضوعي يكشف تراجع "قيمة" الإنسانية المطرد مع تقدم "قيمة" التكنولوجيا.

وهذا يقودنا حتماً إلى إدراك أن القرن السابع عشر الذي شهد قفزة نوعية في "المنهج التجريبي" الذي تم التأسيس عليه لاحقاً في الثورة الصناعية، قد شهد أيضاً في الوقت نفسه وبنفس الحجم، بذرة قفزة تراجعية نوعية تجسدت في التعامل مع الإنسان كآلة، ومع الآلة كإنسان.

كان ينبغي أن نربح الآلة لخدمة الإنسان، فربحنا الآلة وخسرنا الإنسان.

لقد تم تحويل الإهتمام جذرياً من القيم والمعنويات، إلى المختبر والماديات، وهذا هو الأصل غير الأصيل الذي تقوم عليه حضارة القرن، في بداية الألفية الثالثة، وجميع امتداداتها السابقة واللاحقة.

وقد تقدم الحديث عما يرتبط بهذه النقطة، في الفصل الأول لدى الحديث عن المنهج، ويأتي في الفصل الثالث والرابع، مزيد إيضاح.

ما يرمي إليه البحث هنا أن تسليط الضوء على المادة المعرفية، رهن التوافق على الخطوط العريضة لأهمية الإنسان في حد ذاته، لنتبين على أساس ذلك أية معرفة هي التي تتناسب مع هذا الموقع الإنساني من منظومة الوجود.

هل المحور في الكون بعد الخالق هو الإنسان؟

هذا ما تؤكده مدرسة العصمة بلا أدنى غموض.

وهو ما يشهد به منهجها العقلي الأرقى، وكل لبنات البناء الفكري والسلوكي الذي يتفرع على هذا المنهج.

وهذا ما تدعيه المدرسة المادية في أفضل حالات انسجامها مع الدين، وتدعي ما هو فوقه، عندما تنفصل طروحاتها عن المنطلق الديني، فيصل بها الأمر إلى حد تأليه الإنسان، فيصبح سيد الكون والطبيعة بلا منازع.

وبالمقارنة العلمية بين المدرستين، يلاحظ بجلاء أن مدرسة العصمة تعنى بالإنسان الروح والجسد، وتركز في كل مطارحاتها، على ما ينسجم مع الأطروحة المركزية: الإنسان ظاهراً وباطناً غيباً وشهادة، مادة وماوراءها، في حين أن المدرسة المادية بكل تمظهراتها تشطر الإنسان وتأخذ منه الجسد لتجعله مصب الإهتمام، وتمعن في الإهتمام به، على حساب الإهتمام بالروح والنفس والأحاسيس والمشاعر.

ولا ينفع في هذا المجال عريض الإدعاء، بل الذي ينفع هو التدقيق في البنية الفكرية والسلوكية، والنفسية، والأخلاقية للبيئة المادية، والمقارنة بينها وبين مثيلها في البيئة الدينية التي تنهل من معين العصمة.

يكفي أن نلقي نظرة على مدى الإهتمام في عالمنا المتحضر! بالدراسات التي تعنى بالبعد القيمي من الإنسان، بما يشمل الجسد كمناخ ومدخل، لا مجال للوصول العملي إلى أية قيمة إلا بالعناية به.

سنجد أن الدراسات القيمية النفسية، الأخلاقية، التربوية، وحتى الإجتماعية، تأتي جميعاً في موقع الهامش، في ما يحتل متن الإهتمام كل ما يصب في مُتَع الجسد، من مأكل وملبس، وتقنية الأثاث والمواصلات والإتصالات (التي تستخدم -غالباً- لحاجة الجسد) وكذلك التعليم (بدون تربية، أو مع تهميشها) بغية الحصول على الشهادات " الإجازات" التي تيسر -غالباً أيضاً- سبل متعة الجسد وتلبية حاجاته.

بل يبلغ الإهتمام بكرة القدم مثلاً إلى حيث لا يطمح ببلوغ سفحه، أرقى المعاهد الإجتماعية والتربوية المعترف بها في عالم "الجسد" وعالم الإنسان المادة والآلة، عالم قفزة المختبر النوعية وتقنياتها.

وبديهي أن لا يفهم هذا تقليلاً من شأن المختبر وعظيم إنجازه، أو التقنية وفرادة ابتكاراتها، بل أن يفهم تقليلاً من شأن تقزيم الإنسان في "جسد"، وكأن هذا هو كل الحقيقة.

على النقطة النقيض من هذا، تقع مدرسة العصمة التي تنظر إلى الإنسان كروح وجسد إلا أن الروح في هذه المدرسة هي التي يبلغ توهجها إلى حيث تشرق أرض الجسد بأنوارها فإذا هو في مداره الطبيعي في خدمتها، يلبي كل حاجاته، بما لا يشكل تطاولاً عليها فضلاً عن أن يطمس أي شعاع من أشعتها، فكيف إذاً عندما يراد له أن يكون البديل عنها، ولو مع كثير من التلبيس، و وفرة من الإدعاء.

لقد بات جلياً لكل موضوعي أن حاجات الروح لا مجال لها في سياق "المنهج العلمي المدعى" الذي يجب أن يعترف بأنه في أحسن حالاته "المنهج العقلي التجريبي" وأن ساحته التجربة المادية، وليترك الروح وكل ما وراء المادة، للمنهج العقلي المعني بهذه المجالات الرحيبة، التي ليست المادة إلا وسيلة لها وأداة.

وتلكم هي مهمة المعصوم..

تنطلق رحلة العصمة على قاعدة تقديم الحل للمأزق الذي تواجه البشرية ذروته في عصرنا الحاضر، وهو مأزق تشييء الإنسان واستباحة حرمته، وإلغاء روحه، لصالح العجلات الكبيرة والصغيرة جداً، ولصالح الأزرار الألكترونية.

ولأمر ما كانت بداية الرحلة سجود الملائكة للإنسان.

يبدأ التنكر للحقيقة في الأرض بطمس معالم الإنسانية رويداً رويداً إلى أن يصل الأمر إلى نهاياته المفجعة، وتتلازم كل مرحلة من ذلك مع ما يناسبها من التنكر لله تعالى. فالعدوان على الإنسانية عدوان على الحقيقة التي يمثلها الإنسان ويمكننا أن نبحث هنا بالذات عن معنى خلافة الإنسان لله سبحانه.

من وجهة نظر المعصوم، تعتبر الإنسانية جوهرة إلهية فريدة، فالإنسان أعظم بكثير من أن توزن كل الأشواط التي تبلغها البشرية في البعد المادي، بخلجة واحدة من خلجات قلبه الذي هو أوسع من السماوات والأرض، وهذا يعني بوضوح أن كل الإكتشافات المادية، بكل مجاهرها وتلسكوباتها العملاقة، وكل الأقمار الصناعية، وسفن غزو الفضاء، لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى إحساس إنساني، أو شعور بشري واحد، فضلاً عن أن تتعملق في الأذهان على حساب "كرامة الإنسان" وتوظف كل إنجازاتها في تشويه روحه ومسخ فطرته.

إن ذلك أشبه ما يكون بتقديم أموال طائلة، وكم هائل من الممتلكات والعقارات، لشخص على حساب كرامته وسلامة نفسه. مثل هذا الشخص في نظر نفسه الجاهلة، ونظر الناس السطحيين، أنه خرج من ذل البداوة إلى عز التحضر، والحال أنه لم يغادر البداوة البتة، بل انتقل فيها من حالتها المكشوفة، إلى حالتها المقنعة، التي تخفي بالتلبيس "التقني" كل معالم الجاهلية الأولى.

إذا امتلك إنسان الكون، بكل مجراته وكرياته ومنها الدنيا بجبالها ومحيطاتها والسهول وناطحات السحاب وكل ما أسفرت عنه "التكنولوجيا"، فهو لا يكبر بذلك أبداً ويبقى أكبر منه كله، مادام لا يتنكر للحقيقة، ولا يغلب الجهل على العلم.

والذي يضمن رعاية ذلك هو معرفة الإنسان نفسه، ومعرفته حقيقة الوجود، ليدرك من خلال ذلك حقيقة خارطة "جيناته" النفسية "الوراثية" وغيرها، والتي لا يشكل اكتمال الإكتشاف المأمول لخارطة جسده "الجينية" في مقابلها إلا أبسط الأرقام، على العكس مما يسوَّق في عالم "الجسد" اليوم.

وتبدأ مهمة المعصوم من النقطة التي لا يمكن للبشرية بلوغها والإبداع فيها إلا بفتح أبواب الغيب أمامها، ويعني ذلك أن كل ما يتصدى له المعصوم يقع خارج الدائرة التي يمكن للمدارك البشرية أن تبدع فيها استناداً إلى الطاقات الكامنة، دون تدخل من الغيب، فلا تعارض بالتالي بين الدائرتين من حيث المبدأ على الإطلاق، إذ لا تتدخل مهمة المعصوم في ما يمكن للإنسان القيام به إلا إذا حاول بعض الناس تجاوز الحدود بحيث تطمس بعض معالم الآفاق الأنفسية الرحيبة التي لا يمكن تقييم الإنسان إلا على أساسها، وفي ماعدا ذلك تشجع مهمة العصمة على التجربة والإكتشاف، والإختراع، ولكن بأخلاقية تلتزم حرمة الإنسان، وموقعه الطبيعي من رائعة الوجود.

وبالإضافة إلى الحث والتشجيع، تؤمن العصمة المناخ النفسي والفكري الأفضل للإبداع، وترفد هذا المناخ بإشارات ورؤى كلية، يشكل الصدور منها – لو يعنى به – منطلقاً شديد الأهمية لقصد سبيل حقول الكشف واختصاره.  (32)

والنتيجة مما تقدم أن المادة المعرفية التي يقدمها المعصوم إلى الناس، هي وبكل بساطة "معرفة النفس" و "من عرف نفسه فقد عرف ربه" وأدرك حقيقة الوجود وما له فيه من مكانة وما عليه من مسؤوليات.

ومعرفة النفس هذه هي التي يعبر عنها بـ "معرفة الله بالله". (33)

وفي ما يلي جانب من تأكيد مدرسة العصمة على عظيم منزلة معرفة النفس الإنسانية.

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:
1- أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه.
2- أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه.
3- أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل.
4- عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها.
5- عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟
6- غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.
7- كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.
8- كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه.
9- من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل.
10- من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم.
11- لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.
(34)

وفي هذه النبذة اليسيرة من النصوص حول أهمية النفس الإنسانية ومعرفتها، ما يكفي للحث على إعادة النظر في ما نعرفه عن اهتمام الدين بالإنسان، فإن عدم معرفة الإنسان بنفسه يؤدي إلى الموقف السلبي من الحريص على مصلحته، وليس الدين خصماً بل هو في موقع الهدى والحب والتكريم، والإصرار على ترك العادات الذميمة التي تسف بالسمو الإنساني إلى ما هو دون أقل أبعاده بكثير.

 

العصمة، والغيب

يتوقف الكمال الإنساني على العلم، ونصف العلم "لا أدري" أي الإعتراف بالجهل الذي يستدعي التعلم.

ولا تقتصر مساحة المجهول على الجانب المادي من الوجود، رغم أن ما يعلم منه بالنسبة إلى ما لا يعلم كحبة رمل في فلاة، وهو ما تكشف جانباً منه مستجدات علم الفلك "الفلكية" في أعاجيبها.

وإذا لاحظنا أن عالم المادة في جانب الماورائيات، هو الآخر حبة بل ذرة في فلوات شاسعة، أمكننا أن نكوٌِن فكرة ولو من بعيد عن النسبة عموماً بين المعلوم والمجهول.

والمجهول في البعدين المادي والمعنوي، هو "الغيب" بمعناه العام الذي يشمل الغيب النسبي، أي بالنسبة إلى من لا يعلمه، ليصبح الغيب بمعنى الغائب عن الإحاطة به، سواء أكان بالوسع الإحاطة به أم لم يكن، وسواء كان هذا الوسع متأتياً بالجهد البشري الطبيعي، أم كان متوقفاً على إمداد إلهي خاص، وإفاضة منه سبحانه بتوسط المعلمين الكبار، أساتذة قافلة الوجود الإنساني (35) ، فلابد للعلم من معلم، ولابد للمعلم من التلقي أولاً، وبمقدار قابلية التلقي تكون عناية المعلم، وتكون أيضاً قدرة المتلقي على الأخذ بأيدي قوافل المتعلمين، ورب عالم تشف معلوماته وتسمو، فلا يجد لها حملة، فينشر بين الناس ما يحتملون، ويبث في ثنايا ذلك ما يمكن لأبدال الأجيال القادمة التقاطه.

بكل بساطة: ثمة مستويات في العلوم البشرية المتداولة، هي في متناول الجميع، بالفعل أو بالقوة، (علموها أو أن بإمكانهم أن يعلموها) وثمة مستويات تخصصية تتراوح مرتبتها بين ما لا يمكن إلا للقليل بلوغه، وبين من لا يمكن ذلك إلا للقمم من النوابغ، أو لفرد أو اثنين، وثمة مستويات لا يطمع حتى قمة القمم بالوصول إليها والإحاطة بها.

ومع الفرق الكبير: ما لا مجال لبلوغه، هو الغيب المطلق، وما يليه الغيب النسبي وهو على مراتب شديدة التفاوت، أعلاها ما لا يمكن العلم به إلا للأوحدي "سيد الخلق" وأفضل الرسل صلى الله عليه وآله، الذين علمهم بمشيئة الله تعالى ما علم.

"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا" [الجن 26] "إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا" [الجن 27] "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا" [الجن 28]

يشكل ما تقدم جانباً من جدلية العصمة والغيب، وهو موقع المعصوم من "المعرفة" التي تمثل بمعناها الحقيقي - الذي لا ينفصل عن التجسيد العملي- الهدف من مشروع "الإنسان" كما تقدم.

"إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير" "وما يستوي الاعمى والبصير" "ولا الظلمات ولا النور" "ولا الظل ولا الحرور" "وما يستوي الاحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور" "إن أنت إلا نذير" "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" "وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير" [فاطر18- 25]"ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" [البقرة87]

"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا" [النساء 163]

"ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما" "رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما" [النساء164- 165]

فالدنيا هي المدرسة الإلهية للإنسان، وقد وُظفت كل إمكانات الكرة الأرضية وما حولها - إن لم نقل الكون- لتأهيل طلبة العلوم على اختلاف مشاربهم وألوانهم، وتفاوت هممهم وجدهم، في تجربة عملية وعلمية، بل علمية لا يمكن لها إلا أن تكون عملية، فالعلم يشمل النظرية والتطبيق، بل العلم هو التطبيق وليست النظرية إلا مقدمة لذلك:

"خلق لكم ما في الأرض جميعاً" [البقرة 29]

"ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم" [الحج 65]

"ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" [لقمان 20]

"فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" [طه 123]

"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيزالحكيم" [آل عمران 18]

"كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" [ابراهيم 1]

وهكذا يتضح أن الجانب الأول من مهمة المعصوم، يرتبط ببعده العلمي "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب" [آل عمران 7]

ويشكل الجانب الآخر، موقع المعصوم من إدارة الكون.

وبديهي أن العلم يؤهل للإدارة، وبمقدار العلم يكون التأهيل، وبمقدار العدل تكون إتاحة الفرصة للكفؤ ليعمل إدارته في حدود المهمة التي اقتضى العلم والعدل أن تناط به.

وبديهي أيضاً أن تكون سعة دائرة المهمة الموكلة متناسبة مع الموكل (بالكسر) فكلما كان نفوذه أوسع شعاعاً، وأبعد مدى، كانت مهمة موكله (بالفتح) متناسبة مع ذلك.

وعندما يكون الحديث عن سلطة الخالق عز وجل، فمن الواضح أن لا نسمح لأوهامنا أن تضع سقفاً لمهمة المعصوم، لأنه سيكون في أفضل حالاته متناسباً مع آفاقنا الترابية، التي تفشل أحياناً في تحديد الصلاحيات التي يوكلها بشر إلى بشر.

تقتضي الموضوعية أن نصغي إلى الموكل يحدثنا عن صلاحيات من انتدبه للقيام بمهمة من هذا النوع.

وتقتضي أيضاً أن نصغي إلى ما يوضح لنا بعض ملامح سلطة الموكل الأصل الذي تتفرع عليه المهمة موضوع البحث.

وقد يوهم الإمهال الإهمال، وليس الأمر كذلك:

"ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" [ابراهيم 42]

"إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء" [آل عمران 5]

"لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير" [المائدة 17]

"ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [النحل 61]

فالأمر مبني على الإمهال، والقدرة نافذة لا يحدها شيء:

"إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفورا" "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا" "استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" "أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا" "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا" [فاطر41- 45]

وإذا جاء أجلهم، وانتهت المهلة، تجلت حقيقة القدرة، التي أريد للعقل أن يدركها ويتعامل معها، مختاراً لا مجبراً:

"وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون" "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" "وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون" "ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون" [الزمر67- 70]

وينبغي الوقوف بأناة عند الفرق بين الإمهال والمؤاخذة بالظلم الذي هو مجال لإعمال القدرة الإلهية، وبالتالي لإعمال المعصوم إرادته، وتنفيذ مهمته الموكلة إليه.

والخلاصة في هذا الباب، أن للمعصوم الوكالة في المجالات التالية:

1- الأمور التكوينية، فهو التجلي الحق لمفهوم أن الإنسان سيد الطبيعة والكون، ولكن بإذن الله تعالى، وفي هذا السياق تقع مرجعية المعصوم للملائكة "المدبرات أمراً" فلا يصح تصور أن يوكل الله تعالى شأن التدبير للملائكة، بحيث يتم تجاوز المعصوم الذي أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لنوعه الإنساني بلحاظه، وهو ما يقتضي ربط مهمة الملائكة بمهمة المعصوم وهو المراد بمرجعيته للملائكة.(36)

2- نظام الهداية الإلهيّة الذي يتكفل بإيتاء كل نفس هداها - ولا أقصد هنا ما يشمل تقديم المادة المعرفية، بحكم كونه المتلقي الأول، الذي تقدم الحديث عنه- ويمكن استيضاح المقصود هنا ومن بعيد جداً بنتائج نظام السعي أو التقييم الذي يطبق في الجامعة والمعاهد العلمية.

وإذا أردنا الإقتراب أكثر في استيضاحه فلنستحضر - مع فارق العدل وغيره- تصور شبكة التجارة وحركة النقد العالميين، بكل مؤسساتهما غير العادلة، وكل التشعبات، والتعقيدات، ولننظر في طريقة حصول كل فرد على حصته وموقعها من هذا "النظام" في مجال المأكل والملبس وسائر احتياجات الجسد.

ثم لنسأل: أليست احتياجات الروح أشد تعقيداً من ذلك، ومن قال إن عالم القيم والمعنى لا يخضع لنظام شديد الإحكام والعدل والإتقان، يتكفل بإيصال حصة كل فرد على الوجه الأتم.

وإذا أردنا مزيد اقتراب من "نظام الهداية" فلنستحضر نظام "الرزق" من الماء والهواء والثروة الزراعية، والحيوانية وغيرها.

"وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" [هود 6]

والهداية رزق معنوي وهو أفضل تجليات الرزق، ولابد له من نظام تفوق دقائقه والخصائص كل النظم المادية، بمقدار الفرق بين عالمي المعنى واللفظ، اللب والقشر.

هذا هو المراد بنظام الهداية الإلهيّة الذي يرتبط محورياً بالمعصوم.

"أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه 50]

3- الحكم بين الناس بالحق، عن طريق إقامة السلطة إذا أمكن، أو بدونها، وله على الناس من الطاعة ما هو حق طبيعي لكل من توكل إليه مهمة، فتحدد صلاحياته بما يتناسب مع إمكاناته ومع حدود النفوذ العادل لمن وكله وعينه، كما مر آنفاً.

ويسعى المعصوم إلى إقامة الحكم العادل بالطرق الإعتيادية، رغم القدرة على إقامته بالمعجزة والكرامة، مما يكشف عن رعاية مبدأ الإختيار، والإمتحان على أساسه، كما يكشف أن الحكم العادل يأبى عدله أن يفرض بالقهر والغلبة، بل هو ثمرة طبيعية لنضج المعرفة والتكامل الإنساني، وهو ما يوضح بما لا مزيد عليه أن الحكم الديني والإستبداد نقيضان لا يجتمعان.

ومن شأن إيكال أمر الحكم إلى المعصوم أو من ينوب عنه، ترشيد اهتمام الناس وعنايتهم بالحكم والنفوذ الإجتماعي عموماً، فالشأن الإجتماعي أسمى قدراً من أن يتداوله الجهلة والنفعيون، الذين يحجمون طموحات الناس وآمالهم، في قمقم مآربهم ونزواتهم.

يعني إيكال الحكم إلى المعصوم أنه من اختصاص الأعلم، الخبير بالقانون، الحريص على جميع الناس:

"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" [التوبة 128]

وهذا يكشف بدوره عن عميق تناسب نظرية الحكم في مدرسة العصمة، مع الكرامة الإنسانية وتجلياتها في أبعاد العلم والحرية والقانون.

كما يكشف أن المحور في خلافة الإنسان (المختار) في الأرض هو العلم، بل هو المحور في الإختيار بلحاظ أنه في حقيقته العلم الذي لا ينفصل عن العمل.

بشر مثلكم

يتلازم الحديث عن العصمة والمعصوم عند الكثيرين، مع مرتكز في "منهجية" من يضعون المعصوم في غير مرتبته التي رتبه الله تعالى فيها، يصرٌَح به أحياناً، ويشكل في الأعم الأغلب المنطلق دون تصريح.

هذا المرتكز هو الفهم الخاطىء لبشرية الرسول صلى الله عليه وآله والمعصوم عموماً.

وهو مرتكز شديد الخطورة، يتم التأسيس عليه لتحجيم الأبعاد الغيبية في شخصية المعصوم، وتبهيت ما يبقى منها، وأحياناً لنفي أي بعد غيبي في بعض المعصومين صراحة ودون أدنى حرج.(37)

من هنا كان التوفر على بحث هذا "المرتكز" يحظى بالأهمية القصوى.

في سياق أوامره للمصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله، قال تعالى:

"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" [الكهف 110]

فما هو المراد ببشرية الرسول صلى الله عليه وآله والمعصوم عموماً؟

يرى أصحاب الشبهة في فهم المراد بالبشرية، أن المقصود بطلان كل ما يدعى للمعصوم من مقامات يضج الحديث عنها بالغلو والطوباوية! من قبيل أن المعصومين الأربعة عشر كانوا أنواراً محدقة بالعرش، ومن قبيل "إياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم" وما شابه وهو كثير جداً كما لا يخفى.

ويرون أن الآية واضحة الدلالة على أن المعصوم بشر ترقى في مدارج الكمال بجهده وتوفيق الله تعالى له، فبلغ القمة، واستحق العصمة، أما الحديث عن الأبعاد الغيبية، ومقاربة سيرته وشخصيته بما يصدم روح العصر، فهو من إشكاليات الخطاب الديني المتخلف، الذي ينبغي تجاوزه وإلا فإن الزمن يتجاوزنا.

فهل الأمر كذلك؟

يتم توضيح الجواب في نقاط:

أولاً: إن الآية بصدد إثبات أن الرسول صلى الله عليه وآله من حيث البشرية، وبلحاظ كونه بشراً، وبقطع النظر عن أي لحاظ آخر، هو كغيره من البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما ورد في آية أخرى، وأكد الله تعالى مضمونها، فإن أراد الله سبحانه أن ينزل عليه آية فالأمر إليه عز وجل "إنما الآيات عند الله".

ثانياً: لا علاقة لمعنى الآية نهائياً بنفي الأبعاد الغيبية عن الرسول، لأن الأبعاد الغيبية ليست من خصائصه البشرية، التي يشترك فيها مع جميع الناس، بل هي عطاء إلهي إضافي، فالآية بمعنى "أني لست إلا بشراً مثلكم لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا أستطيع بقدرتي البشرية أن أجترح المعاجز، ولكن إذا أراد الله تعالى أن يتحقق شيء من ذلك على يدي قدمته لكم امتثالاً لأمره واعتماداً على قدرته التي تجعل البشر العادي قادراً على ذلك".

وهذا يعني أن الآية شديدة العلاقة بإثبات الأبعاد الغيبية في شخصيته صلى الله عليه وآله كما سيأتي.

ثالثاً: لنلق نظرة على رواية في تفسير الآية، ونماذج من كلمات المتقدمين والمتأخرين:

ورد عن الإمام الصادق في تفسير الآية قوله عليه السلام: إنما أنا بشر مثلكم: يعني في الخلق انه مثلهم مخلوق. (38)

وقال الشيخ الطوسي:

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار "إنما انا بشر مثلكم" لحم ودم، ومن ولد آدم، وإنما خصني الله بنبوته وأمرني برسالته وميزني منكم بأني "يوحى إلي أنما إلهكم" الذي يستحق العبادة "إله واحد" لا شريك له في العبادة.(39)

وقال الطبرسي:

أ- "قل" يا محمد "إنما أنا بشر مثلكم" قال ابن عباس: علم الله نبيه التواضع، لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله "يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد" لا شريك له أي: لا فضل لي عليكم إلا بالدين والنبوة ولا علم لي إلا ما علمنيه الله تعالى. (40)

ب-المعنى: ثم قال لنبيه صل الله عليه وآله وسلم: "قل" يا محمد لهؤلاء الكفار "إنما أنا بشر مثلكم" من ولد آدم لحم ودم، وإنما خصني الله تعالى بنبوته، وميزني منكم بأن أوحى إلي، ولولا الوحي ما دعوتكم ". (41)

وقال الشوكاني:

"ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه )وآله( وسلم أن يسلك مسلك التواضع فقال: قل إنما أنا بشر مثلكم أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى المَلكية ومن كان هكذا فهو لا يدعى الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحى إليه من الله سبحانه قال يوحى إلى وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر". (42)

وقال السيد الطباطبائي:

 " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد" القصر الاول قصره صلى الله عليه وآله وسلم في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشئ ولا يدعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية وقدرة غيبية ولذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله لكنه صلى الله عليه وآله وسلم نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه ولم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه،." (43)

ويستفاد من كلامه رضوان الله عليه حول آيات مشابهة، في عدة موارد أنه صلى الله عليه وآله قد أُمر بأن يقول ذلك في مقابل من طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فالآية إذا بصدد نفي الألوهية عنه.

والدليل على ذلك قوله تعالى في سياق آخر:

"وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" "أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا" "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا" "أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا" [الإسراء 90- 93]

وهو المضمون الذي تلحظه الآية التي نحن بصددها، وهي في سياقها كما يلي:

"أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا" "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا" "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا" "ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا" "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا" "خالدين فيها لا يبغون عنها حولا" "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاءربه فليعمل عملاً صالحاً ولايشرك بعبادة ربه أحدا" [الكهف102- 110 ]

رابعاً: ما هي دلالة مثل هذا التعبير في اللغة العربية؟

هل يفيد التأكيد أو الحصر؟
في حين رأى بعض الأعلام
(44) أنه يفيد الحصر، هناك رأي آخر هو أنه لا يفيد إلا التأكيد.(45)

والظاهر أنه يفيد الحصر والتأكيد معاً ولكن في ما يكون الكلام بصدده، أي بلحاظ الحيثية التي هي موضوع البحث ومصب الكلام.

خامساً: ما هو موضوع البحث هنا، في الآية "إنما أنا بشر مثلكم".

وبديهي أن الظهور لا ينعقد بجزء من البيان، أو ليس قيد "يوحى إلي" جزءً من موضوع البحث؟

الموضوع إذاً: "بشر مثلكم، يوحى إليّ الخ" فالآية في مقام إثبات أن الرسول صلى الله عليه وآله هو من حيث البشرية كغيره من البشر، إلا أنه يختلف عنهم بأنه يوحى إليه، فهي تؤكد بشريته والوحي إليه، وتحصر ذلك به، دونهم.

ومن الوضوح بمكان أنه لا يمكن نفي الأبعاد الغيبية عمن "يوحى إليه" فالوحي باب الأبواب الغيبية كلها، إلا أن مدى هذه الأبعاد مرتبط بدرجة هذا الوحي، وحقيقة الوحي، وهل أن المحدث "يوحى إليه" بما لا يتنافى مع الثوابت والأسس، وغير ذلك، و جميعه بحث آخر.

سادساً: يجد المتأمل في بعثة الأنبياء أن مقولة "بشر مثلنا" أو "بشر" أو "بشر مثلكم" أو ما يدل عليها مثل "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" أو "اتبعك الأرذلون" وما شابه، كانت نغمة نشازاً واجه بها الجهل الأنبياء جميعاً، وكان الأنبياء دائماً يؤكدون أن الله تعالى إنما بعث الرسل بشراً لأنهم يخاطبون بشراً، ولو كان في الأرض ملائكة لبعث إليهم ملائكة، كما هو صريح قوله تعالى:

"وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا" "قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" [الإسراء94- 95]

كان هدف الأنبياء التأكيد على أنهم بشر كما يقول المتصدون لهم، ولكنهم مع ذلك رسل من الله تعالى، فبشريتهم لا تمنع أن يكون لهم بعد آخر يُخولهم دعوتهم لاتباعهم.

ويؤكد هذا بمنتهى الوضوح قوله تعالى:

" قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين" "قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [إبراهيم10- 11]

والنتيجة هي أن بشرية الرسول إذاً لا تنافي الإمتياز، الذي هو خارج الخصائص البشرية الإعتيادية، وهو مِنٌَة من الله تعالى، وهذا يدلنا على أن وصف "يوحى إلي" بمثابة "ولكن الله يمن على من يشاء من عباده" فالمشكاة واحدة، والظرف هو الظرف.

سابعاً: قد أثبت القرآن الكريم للمعصومين الذين أكد بشريتهم، من الأبعاد الغيبية ما يفوق التصور ويذهل اللب فكيف يمكن أن تكون البشرية منطلقاً لنفي الأبعاد الغيبية.

فهل الرسول صلى الله عليه وآله "يوحى" إليه على غرار الوحي لآدم عليه السلام الذي أمر الله تعالى ملائكته بالسجود له -وإنما سجدوا له- لانطباق هذه الصفة عليه؟

أم على غرار الوحي لنبي الله إبراهيم عليه السلام الذي أراه الله الملكوت وعجائبه والغرائب، ومنها: "فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم ادعهن" أنت؟

أم أن الوحي إليه صلى الله عليه وآله من نوع الوحي لنبي الله موسى عليه السلام الذي ضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وضرب بها البحر فكان كل فرق كالطود العظيم؟

أم أنه وحي بمرتبة الوحي لنبي الله عيسى عليه السلام الذي كان يحدث الناس بما يدخرون في بيوتهم، ويبرىء المرضى ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير؟

أم أن "يوحى إلي" عندما تطلق على المصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله، فهي تحتضن من الأسرار ما لا تصل كل هذه الغرائب والأبعاد الغيبية إلى أدنى سفحها؟

الصحيح هو هذا دون أدنى شك لأنه صلى الله عليه وآله سيد النبيين ولم يبعث نبي ولا كان معصوم إلا بالإعتقاد بنبوته.

* كما عرّفه الله تعالى:
ولمزيد إيضاح ما تقدم، يجدر بنا أن نصدر في رسم الصورة التي تجمع ملامحها بين بشرية رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبعاد ه الغيبية التي تفوق التصور، في ضوء ما تحدث عنه به الله تعالى، في القرآن الكريم - بالإضافة إلى الآية التي نحن بصددها- في الآيات التالية:

1- "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا" [الإسراء 93]
2- "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" [آل عمران 31]
3- "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيدا" "من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا" [النساء79- 80]
4- "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما" [الفتح 10]
5- "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال17]
6- "وما ينطق عن الهوى" "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم3-4]

ومن الواضح أن النتيجة هي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كما تقدمه هذه الآيات المباركة، بشر رسول، من أحب الله اتبعه، ومن أطاع الله أطاعه، وأن يده يد الله، وكلامه كلام الله، ورميته رمية الله تعالى، فهو في حال أنه بشر إلهي إلى حد أنه مظهر علم الله وقدرته، فالعلم الإلهي هو الذي يجعل اتباعه وطاعته تجسيداً لحب الله تعالى وطاعته، وكلامه وحياً منه عز وجل، والقدرة الإٌلهية هي التي تجعل يده ورميته يد الله سبحانه ورميته.

وما وراء عبادان قرية؟ هل بعد هذين البعدين الغيبيين، العلم، والقدرة الإلهيين، من بعد غيبي آخر؟

إنه لمذهل حقاً أن نصر على أن نرفع من قيمة الإنسان –حتى الفاشل في مدرسة الدنيا والوجود- إلى حيث تلامس الطروحات دعوى "أصالة الإنسان" ونصر في الوقت ذاته على خفض سقف مكانة المعصوم والتقليل من شأنه، إلى حيث تقل مرتبته عن الإنسان العادي غير الساذج.

لا يستقيم خطاب ديني في خط الإيمان بالغيب - الذي هو محض العقل، وهوبعدُ الواقع الموضوعي، ومن ظلاله عالم الشهادة– إلا إذا انطلق من أن الأبعاد الغيبية في المعصوم هي الأصل في شخصيته البشرية - الإلهيّة، وما عداه هو الظل الذي يربأ الإسلام بالمؤمن العادي أن يخدعه بغروره، ويسقط في شباكه، فضلاً عن الإخلاد إليه وبانبهار يُفقِد التوازن حتى في التعامل مع سادة الوجود عموماً وفي طليعتهم سيد الأنبياء، صلى الله عليه وآله.

 

الذات، والقضية

هل يمكن الفصل في المعصوم بين ذاته، وبين القضية التي هي رسالته من الله تعالى إلى الناس؟

أم أن المعصوم الذات والمعصوم القضية حقيقة واحدة لا يتصور انفكاكهما؟

أم أن المعصوم هو من ذابت ذاتيته - إن كانت- في القضية، فلا مجال لها لتأخذ سبيلها إلى الظهور والتمايز؟

أم أن المعصوم هو من عَلِم الله تعالى أنه متمحض في الحقيقة- القضية، فتجلى كنه خضوعه للحق وعبادته له عز وجل "فناءً" في الله تعالى، يقصر التعبير الموضوع لحاجات البشر العاديين وحالاتهم، أن يدل على غيره؟

الصحيح هو الأخير أو ما يلوح منه، وهو أبعد منه خطراً، وأسمى مرتبة.

أما آن لنا أن ندرك أن الإنسان يمكنه أن يصل إلى حيث يعجز تصورنا - نحن البشر العاديين- عن إدراك كنهه؟

إذا أخذنا بُعد المعرفة في المعصوم، وجدنا أن من الطبيعي، أن الحديث عن تحول المعرفة إلى عارف، يلفتنا إلى أن لمن علم الله تعالى أنه معرفة محض، شأناً آخر، لا يمكن لغير المعصوم بلوغه.

وإذا أخذنا بُعد اكتمال العقل العملي، الذي يؤدي إلى اندكاكه في العقل النظري، أضاء لنا ذلك على ما يمكن أن تبلغه حقيقة المعصوم، التي لا يصح الحديث عنها بما يوحي بوجود ذاتية "اندكت" أو "ذابت" أو "فنيت" فذلك كله فرع الوجود، وهو بمعنى القابلية التي تنسجم مع الإختيار مسلَّم، إلا أنه بمعنى تحقق الوجود أول الكلام، والمفصل بين فهم مكانة المعصوم وعدمه.

وإذا أخذنا بُعد جهاد النفس الذي يعني عدم الذاتية بالتناسب مع النصر المحرز في هذا الجهاد، وجدنا أن بين غير المعصومين من نسب إليه قوله "ما هممت بمعصية" فقال الآخر: "ما فكرت بمعصية". (46)

ووجدنا أيضاً أن عبداً في سوق النخاسين بلغ من الكمال البشري حيث يقول: "وهل تنفع العبد الأماني"؟!

وإذا أخذنا الحديث عن مكانة المؤمن وهو الإنسان العادي الذي وظف كل طاقاته للمواءمة بين النظرية والتطبيق، وجدنا أنه يصل إلى حيث يكون الموقف منه موقفاً من الله تعالى: "من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي". (47)

تبلغ مرتبة غير المعصوم إذاً حيث لا ينبغي التفريق بين حَرمه وحَرم الله تعالى.

وإذا وقفنا على عتبة الشهيد نستلهمه تلاشي الذات من أجل القضية وجدنا عجبا.

وإذا جئنا إلى كتاب ربنا نستعلمه الحال ونحفي السؤال، وجدناه يقول لنا "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" [الأحزاب 6]

فالنبي فوق مرتبة أنفس جميع المؤمنين، وهل يعني ذلك شيئاً آخر غير أنه فوق أية شائبة من شوائب الذات؟ إنه في الموقع الذي يتولى الله تعالى به سياسة عباده وبلاده.

فهل ندرك حجم الخلل، وفداحة الضرر، وخطورة العدوان، حتى إذا لم يكن عن سابق تصميم وإصرار، حين نتحدث عن المعصوم بلغة لا نرتضيها حتى لسياسي يحمل قضية ويمحضها ذاته، ولا لشاعر نقول عنه: إن قصيدته عبارة عن لحظة فنائه في الحقيقة.

هل ندرك ما معنى: "نحن لا نبكي على الحسين الذات، وإنما نبكي على الحسين القضية"؟!(48)

بأي مبضع تتم عملية التشريح هذه؟

تمس الحاجة بين يدي الحديث عن المعصوم إلى التنبه لأمرين:

الأول: أن حجر الزاوية في الإيمان بالله تعالى هو الموقف من المعصوم، وهي نقطة شديدة الشفافية والفرادة، يدل عليه بوضوح تام مبدأ "من يطع الرسول فقد أطاع الله".

من هنا فإن كل إضعاف لموقع المعصوم ضرب لمبدأ التوحيد الذي لا مجال للوصول إليه إلا من خلال إدراك ما يمكن إدراكه من عظمة المعصوم.

ويتضح بذلك مدى الجناية التي تقترف حين يخيل إلينا أن تعزيز التوحيد رهن التركيز على بشرية المعصوم أو التفريق بين ذاته والقضية.

ويتعاظم الإقتراف حين نحسب أننا نعتمد في ذلك المنهج القرآني في توكيد بشرية المعصوم وأن ليس له من الأمر شيء، غافلين عن أنا نلغي بهذا الفارق بين الله تعالى وبيننا فنسمح لأنفسنا أن نتحدث مع المعصوم وعنه كما يتحدث الله تعالى لتثبيت المبدأ الذي يمنع من تأليه المعصوم.

الثاني: يلح على الأحشاء بالزفرات أن تبلغ غربة المعصوم وظلامته بيننا أن الذات فيه تتراجع لدينا وتتعاظم القضية على حسابها بينما تتعاظم ذات أي زعيم ومسؤول وغيرهما فإذا هي كل القضية، ويصبح اللهج باسم هذا الزعيم حتى غير المؤمن أو ذاك، أكثر من اللهج باسم رسول الله صلى الله عليه وآله.

ولو أنا نصدر في التعامل مع المعصوم من الثوابت والأسس، لعرفنا أنه الوحيد من بين كل ما خلق الله تعالى الذي يجب أن تخشع في محرابه الأجيال وتمنحه من فروض التقدير والإحترام ما لا تمنحه لمخلوق.

إنه أصل بالغ الآثار والنتائج، ومن أبسطها أن نتعاطى بمنتهى الأدب مع كل ما يحتمل علاقته بالمعصوم، كما نفعل ذلك مع كل ما يحتمل علاقته بهذه الجهة الإقليمية أو الدولية النافذة أو تلك.

سيظل نشازاً أن نستشعر الهيبة والخضوع لهذا السياسي وذاك وتنحني هاماتنا أو تتلاشى لهذه الجهة وتلك ونمجد الإنسان حتى الإستغراق في "أصالته" ونحاصر في الوقت ذاته موقع المعصوم في الزاوية التي نتوهم أنها وحدها التي تنسجم مع التوحيد، بالرغم من أن الله تعالى الواحد الأحد يقول: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، "يد الله فوق أيديهم"، "وما ينطق عن الهوى".

وقد تقدم تحت عنوان "بشر مثلكم" مزيد إيضاح.
 

في منهج دراسة المعصوم

يتضح مما تقدم أننا في دراسة شخصية المعصوم، أمام حقائق منهجية لابد من مراعاتها، للوصول إلى تصور منطقي عن هذه الشخصية البشرية- الإلهيّة المتميزة والنادرة.

وبديهي أن مقاربة أي حقيقة بمعزل عن خصائصها قد يوصلنا إلى نقيضها، وبدعوى الدليل والبرهان.

لنتصور أننا نريد مقاربة حقيقة النور بمعزل عن دوره في الرؤية، ونمو الجسم وغيره، ألا يؤدي ذلك إلى ما يشبه المساواة بينه وبين الظلام؟

يصدر غير الإسلامي في دراسة المعصوم من موقف سلبي مسبق من الغيب إلى حد أنه خرافة.

ويصدر بعض الإسلاميين من فهم خاطئ لبشرية المعصوم، يصل إلى حد إنكار الأبعاد الغيبية في شخصيته.

وهذا بالذات ما يجعل نتائج "بحثهما" متقاربة.

ويصدر غير الإسلامي من فهم خاص للحداثة يصل إلى حد أن الحضارة تتناسب طرداً مع دورة الزمن، فكل جديد زمنياً حديث، وكل قديم هو في أحسن حالاته تراث.

ويصدر "الإسلامي" من انبهار بالحديث، و "أرخنة" للأصيل، هي نتيجة حتمية للمادية المقنعة في بعض الأوساط الدينية، ويحمله "تدينه" وبـ "إخلاص" على إسباغ الحداثة! على دين الله الذي لا يمكن أن يتقبله العصر إلا بالتخفف من "أثقال" المتقدمين السذج!

وهذا ما يلح بضرورة التوافق على ضوابط منهجية، لدراسة المعصوم، وهي - في ضوء ما تقدم - كما يلي:

أولاً: أن المعصوم بشر يمتاز عن سائر البشر بالعقل والمعرفة وحسن الإختيار الذي يشمل مكارم الأخلاق وغيرها قبل أن يصل الحديث إلى الأبعاد الغيبية في شخصيته.

ثانياً: أن الغيب اختصاصه، وهي نقطة شديدة الأهمية، فلا يدرس الشاعر بمقاييس دراسة الطبيب وهكذا.

ثالثاً: أن العصمة والمهمة الموكلة إليه، تضفيان على حقيقة شخصيته أبعاداً إلهيّة - شأن كل موكل (بالفتح) يكتسب من الموكل بعض صلاحياته- هي الأصل في شخصيته، التي لا مجال لفهمها إلا على أساس الأبعاد الغيبية، ولا ينافي ذلك البشرية إطلاقاً.

رابعاً: يقودنا هذا تلقائياً إلى الإذعان بأن المعصوم أكبر من الزمان والمكان، وهو ما يعتقده الكثيرون للأفذاذ من النوابغ، فكيف بالمعصوم الذي لولا فرادتُه لما اختاره الله تعالى وأمدَّه بالمزيد.

خامساً: أن العقل يحكم بالرجوع إلى المعصوم في دائرة اختصاصه، وفق القاعدة العقلية التي تقضي برجوع الجاهل إلى العالم، والتسليم له في ما يقول، كما هو الأمر في التسليم لصاحب كل اختصاص، وعليه فليست المفردات المرتبطة بالغيب التي ثبت صدورها عن المعصوم مجالاً لإعمال العقل الذي يحكم ببطلان ذلك، لأنه بمثابة التنكر لحكم العقل برجوع الجاهل إلى العالم.

توضيح ذلك:

إن قول المعصوم مثلاً: لا تقبل الأعمال إلا بالصلاة، أو: الرياء من الكبائر كشرب الخمر، أو: الظلم ظلمات، أو: من أهان إنساناً مؤمناً فقد أعلن الحرب على الله تعالى، أو: من اغتاب مؤمناً أكبه الله في النار، أو: من صلى الصلاة الفلانية، فله من الثواب كذا، وغير ذلك، يكشف – بعد التأكد من الصدور- عن حقائق غيبية، ليست مجالاً لإخضاعها مجدداً للدرس والتقييم، لأن ذلك بمثابة من يلزمه العقل بالرجوع في مجال "تفجير الطاقة" إلى خبير علم الذرة، وبعد الرجوع إليه، يقرر أن يتصرف كما يحلو له، معرضاً عن اختصاص المختص.

وأعتقد أن في ما سبق من مقاربات ما يكفي لإيضاح هذه الضوابط.


هوامش

 (1) قام بتدريسه في الحوزة العلمية بقم تلميذه المرجع السيد كاظم الحائري، إثر إبعاده من العراق، حوالي عام 1977م وهو كتاب جدير بأن يكون من ثوابت المنهج الدراسي في الحوزة والجامعة، وسيشكل ترجمة عملية لفكرة وحدتهما، الإستراتيجية، التي أطلقها الإمام الخميني وشكلت أحد أبرز مرتكزات خطابه الثقافي، وهي تعود على الأمة بالخير الوفير الذي لا يمكن تحقيقه عن أي طريق آخر غير توحيد"المنهج" ليصبح الجميع يقرأون بطريقة علمية وعقلية واحدة، تعتبر الحوزة الآن رائدتها رغم السلبيات المفصلية في "حسن العرض" وتقديم نتائج الأبحاث، وما كتاب "الأسس المنطقية" إلا شاهد على موقع الحوزة الفكري الريادي على مستوى العالم، وما موقعه العملي إلا دليل على إخفاقنا في مجال العرض والتقديم حتى لما هو جاهز لا يحتاج إلا إلى اليسير من الجهد.
(2) حديث شريف، أورده بهذه الصيغة، الحويزي، في تفسير الثقلين ج7/18، قال الشيخ آقا ضياء العراقي: محمول على تقدم علم الله سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه في عاقبة امرهم بسبب سعيهم الاختياري. نهاية الأفكار، تقريرات بحثه، ج1/1.
(3) انظر في ذلك كله: السيد الطباطبائي في موارد عديدة ورد قسم منها في الهامش أعلاه، والسيد الخوئي في البيان، 86 – 8. والسيد مصطفى الخميني: تفسير القرآن الكريم، مفتاح أحسن الخزائن الإلهية، ط1، 1418هـ، في موارد مختلفة. (حسب برنامج المعجم الفقهي، الإصدار الثالث).
(4) للتوضيح: أنظر الميزان، 1/116، حول قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها.
(5) المجلسي، بحار الأنوار، 1/97، وهو من الأحاديث المشهورة.
(6) قال الشيخ المفيد: "،. العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الانسان من الشيء كأنه امتنع به عن الوقوع فيما يكره"،. "،. ومنه قولهم: (اعتصم فلان بالجبل) إذا امتنع به، ومنه سميت (العصم) وهي وعول الجبال (ملاذاتها الحصينة) لامتناعها بها (أي بالجبال). والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الانسان مما يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلا غريقا حبلا ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سمي ذلك الشئ عصمة له لما تشبث وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به لم يسم (عصمة) وكذلك سبيل اللطف إن الانسان إذا أطاع سمي (توفيقا) و (عصمة)، وإن لم يطع لم يسم (توفيقا) ولا (عصمة) وقد بين الله ذكر هذا المعنى في كتابه بقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا)، وحبل الله هو دينه، ألا ترى أنهم بامتثال أمره يسلمون من الوقوع في عقابه، فصار تمسكهم بأمره اعتصاما، وصار لطف الله لهم في الطاعة عصمة ،." أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص134 - 135.
*وفي ص164 من المصدر، قال محقق الكتاب: وعرفها صاحب كتاب (الياقوت) من قدماء الامامية بأنها لطف يمتنع من يختص به عن فعل المعصية ولا يمنعه على وجه القهر، أي أنه لا يكون له حينئذ داع إلى فعل المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما.
*وقال السيد الطباطبائي ما خلاصته: العصمة على أقسام ثلاثة: العصمة في مقام العمل والعبودية (أي عدم مخالفة التكليف وهي المقصودة هنا بالحديث عن حسن الإختيار) والعصمة في تلقي الوحي والتشريع، والعصمة في تبليغ الوحي. الميزان، ج2 ص156بتصرف.

(7) المجلسي، بحار الأنوار، ج1 ص137.
(8) (آية الله) الشيخ حسن زاده آملي، "قرآن وعرفان وبرهان، أز هم جدايي ندارند" (تلازم القرآن والعرفان والبرهان) فارسي، ط3ص44. وانظر: ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج1ص23، الخطبة الأولى.
(9) الكليني، الكافي ج1 ص9.
(10) المصدر، ص10.
(11) ذكر ذلك السيد الطباطبائي في تفسير الميزان.
(12) المصدر، ص9.
(13) المصدر، ص41. نقلاًعن اللئالي، دون تحديد.
(14) المصدر، ص104 - 108. نقلاًعن "مفاتيح الغيب" و"أسرار الآيات"، دون تحديد الصفحة.
(15) المصدر، ص30. نقلاً عن الأسفار، ج1، ط1، أول الفصل الثاني، الباب السادس ص75.
(16) المصدر، ص11.
(17) حول سؤال الملائكة، وما أجاب به الله تعالى، أبحاث كثيرة مطولة، إلا أن أكثرها أهمية -في ما أحسب– بحوث السيد العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، وما ورد أعلاه مستقى من بحثه الفريد حول الآية الكريمة "وعلم آدم الأسماء كلها".
(18) وذلك بلحاظ أن الحديث هنا عن الترشيد، والحديث الآتي عن إزالة العقبات والموانع، وهما بنحو من الأنحاء متداخلان، إلا أن التبويب المشار إليه والمعتمد، أكثر دقة.
(19) تراجع على سبيل المثال الآيات: البقرة/275، المائدة/19، الأعراف/36 و63-69، هود/75 - 79، طه/173 - 174، المؤمنون/66 - 67
(20) لأن ارتباط حرية الفكر، بالمعرفة أوكد، من ارتباطها بالحرية، التي إنما يجري الحديث عنها كمناخ لسلامة التفكير.
(21) "وفرعون ذي الاوتاد" هو فرعون موسى، وسمي ذا الاوتاد -على ما في بعض الروايات- لانه كان إذا أراد أن يعذب رجلا بسطه على الارض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الارض وربما بسطه على خشب وفعل به ذلك، ويؤيده ما حكاه الله من قوله يهدد السحرة إذ آمنوا بموسى: "ولاصلبنكم في جذوع النخل". الميزان ج7/281.
(22) يبدو أن المقصود فرح المترف حتى أقصى الحدود، الذي هو البطر، ويلازمه العمى عن رؤية الحقيقة كما هي.
(23) للعلامة الطباطبائي عليه الرحمة في تفسير الميزان، أبحاث قيمة جداً حول الحرية، راجع: ج1 ص186، ج2  ص151، ج2 ص268، ج2 ص342، ج3 ص248، والبحث المركزي ج4 ص105 - 117، وانظر فيه: 127  و180، وج6 ص350، ج10ص370، ج11 ص155، ج13ص53، ج16 ص67.
(24) أنظر تفسير الميزان، ج1/137، وفيه: إن إسجاد الملائكة لآدم عليه السلام إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان  المسجود له آدم عليه السلام وحكم السجدة لجميع البشر، فكان إقامة آدم عليه السلام مقام المسجود له معنونا بعنوان  الانموذج والنائب. وقال في الجزء13/164: وقد أوضحنا في تفسير الايات في القصة في سورة الاعراف أن السجدة إنما
كانت خضوعا منهم لمقام الكمال الانساني ولم يكن آدم عليه السلام إلا قبلة لهم ممثلا للانسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده  ظاهر كلامه تعالى، وفي الاخبار ما يؤيده، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.

(25) إشارة إلى قوله تعالى: لقد خلقنا الانسان في كبد [البلد 4] يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [الإنشقاق  6] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات 40 - 41
(26) تفسير الميزان، ج13/164. بتصرف يسير.
(27) الشيخ الطوسي - الأمالي - ص728.
(28) حديث مشهور عن الإمام علي عليه السلام، لم أعثر له على مصدر، وقد نسبه الجندي (عبد الحليم) في "الإمام جعفر الصادق"/ 365 إلى الصحابي الجليل أبي ذر. وفي الكثير من المصادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن الإمام الصادق عليه السلام: الفقر هو الموت الأكبر، والفقر هو الموت الأحمر. أنظر: البرقي (أحمد بن محمد بن خالد) المحاسن ج1/218 والصدوق، الخصال ص620، وأورده المجلسي في بحار الأنوار ج69/42 بالصيغة الأولى عن أمير المؤمنين عليه السلام.
(29) أنظر السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ج2 ص342، وكذلك: ج4 ص117، حول الآية الكريمة "لا إكراه في الدين".
(30) المجلسي، بحار الأنوار، ج3/58.
(31) راجع بشكل خاص "موقع العصمة من عملية الخلق" و "العصمة والعقل" و "العصمة والإختيار"، والإشارة المذكورة وردت في بداية العنوان الأول.
(32) يأتي في الفصل الرابع مزيد إيضاح.
(33) أنظر: السيد الطباطبائي - تفسير الميزان ج6 ص172. وقد أورد عن الإمام الصادق في حديث قوله عليه السلام: "إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره ،."
(34) المصدر، عن غرر الحِكم.
(35) الغيب يقابل الشهادة والشهادة علم وإحاطة، فالغيب ما غاب وخفي، وقد يكون بإمكان الإنسان الإحاطة به فهو الغيب النسبي، الذي يكون غيباً بالنسبة إلى من لا
يعلمه، وشهوداً بالنسبة لغيره، كما قد يكون خارج حدود الإنسان فلا يمكنه الإحاطة به إلا بعناية إلهية خاصة هي أشبه ما تكون بإعداد لمن تميز بفرادة نبوغ لتلقي ما لا
يمكن لغيره تلقيه، وهنا بالذات موقع المعصوم من الغيب والعلم به، وقد يكون الغيب مما لا يمكن للإنسان على الإطلاق الإحاطة به، فهو غيب الغيب أو الغيب المطلق "
المستأثر" الذي لا يخرج منه تعالى إلا إليه، لأن طبيعة هذا النوع من العلم تأبى غير ذلك. أنظر: العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان: ج7/125 - 126، وج1 ص45،
وص118، وج2/131، وج7/127، و129، و251، وج11/307.

(36) يجمع المسلمون على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله هذه المكانة، ولذلك يطلق إطلاق المسلمات مثل تعبير "قطب دائرة الوجود" وقد أورد ابن حجر في
الصواعق المحرقة، ما يشعر بتبنيه قول من نص على ضرورة وجود أحد من أهل البيت في كل عصر مؤهل للتمسك به، ويرتبط بقاء الدنيا بوجوده كما كان وجودها
ودوامها مرتبطاً بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد استند في ذلك إلى حديث "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض،." الصواعق
المحرقة2/445 (برنامج مكتبة العقائد والملل، الإصدار الأول، مركز التراث للحاسب الآلي، الأردن، عمان).

(37) تحدث السيد الطباطبائي بما يشف عن معاناته من مثل هؤلاء، فيقول:
وإذا ذكٌِروا ببعض ما لأنبياء الله عليهم السلام من العصمة الالهية، والمقامات الموهوبة والمواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، وغلواً في حق عباد الله، وأخذوا في تلاوة
قوله: "قل إنما أنا بشر مثلكم" تفسير الميزان، ج6 ص369

(38) علي بن ابراهيم القمي - تفسير القمي ج2 ص4.
(39) الشيخ الطوسي، التبيان، ج9 ص106
(40) الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج6 ص395
(41) الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج9 ص7
(42) الشوكاني، فتح القدير ج3 ص318.
(43) تفسير الميزان، ج13 ص405، ولم أجد لهذا المعنى مخالفاً، أنظر: السيوطي في الدر المنثور، والقرطبي، ج11 ص69، وابن كثير ج3 ص114 وابن جرير
الطبري، جامع البيان، ج16 ص50، و ج24 ص116، والباقلاني، إعجاز القرآن، ص12 والطوسي في التبيان، والطبرسي في مجمع البيان، والقمي والعياشي، والفيض
الكاشاني في الصافي والأصفى، والراغب الاصفهاني، مفردات غريب القرآن، ص47 وغيرهم.

(44) الشيخ الطوسي، التبيان ج2 ص83، و تفسير الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج1 ص475
(45) السيد مصطفى الخميني، تفسير القرآن الكريم - ج3 ص398 –401، في بحث لغوي واف، مستظهراً أن السيوطي في "الإتقان" يرى ذلك أيضاً.
(46) نسب ذلك إلى الشريف المرتضى "علم الهدى" وأخيه الشريف الرضي جامع نهج البلاغة.
(47) حديث قدسي ورد في حديث شريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنظر الحر العاملي، الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، مكتبة المفيد، قم، ص120 في
موردين وص332 عن الإمام الصادق عليه السلام بهذه الصيغة وقريباً منها، والمجلسي، بحار الأنوارج/64/65و ج72/155و158 وانظر: الشيخ هادي النجفي، ألف
حديث في المؤمن، الطبعة الأولى سنة1416، جماعة المدرسين بقم، ص121، نقلاً عن الكافي.

(48) السيد فضل الله، الإسلام ومنطق القوة. ( قرأت النص وناقشت صاحبه فيه في منزله بالشام، وقال: ولذلك أقول: إن ذواتهم هي القضية، ولم أجد النص في الطبعات الأخيرة للكتاب).