أجزاء الفصل الرابع (1) (2) (3)

 

قراءة في الحوار : أعمال كسرى وقيصر

* قراءة في الحوار : أعمال كسرى وقيصر
إذا استثنينا المدخل وهو امتناع الشهيد عن السلام وما قيل حوله، واستثنينا الملاحق من قبيل وصية الشهيد، والخزفة، وركزنا على صلب الحوار بين الشهيد والطاغية، فثمة اتفاق على ما هو جدير بكل عناية وتأمل.

قال ابن زياد: ياشاق، يا عاق، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة.

يحاول الطاغية الظهور بمظهر الملتزم بالثوابت، وأنه يدافع عن القيم التي ربى رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين على الإلتزام بها: الطاعة للإمام لأنه ولي الأمر، ووحدة الأمة، واجتناب الفتنة.

ويأتي الجواب مدوِّياً، فلقد كانت الأمة مجمعة على أمير المؤمنين علي عليه السلام والذي شق عصا المسلمين هو معاوية ويزيد من بعده، والذي ألقح الفتنة هو زياد وابنه من بعده.

قال الشهيد: كذبت يا ابن زياد، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وإنما ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد بن عُبيد بن علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شر بريته، فوالله ما خلعت وما غيَّرت وإنما أنا في طاعة الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.

وينبغي أن نلاحظ هنا تفريق الشهيد مسلم بين من شق عصا المسلمين، فمعاوية هو أول من فعل ذلك، حيث خرج على طاعة من أجمعت الأمة على وجوب طاعته، وليس يزيد إلا استمراراً لشق عصا المسلمين، وبين من ألقح الفتنة، وهيأ لها عوامل الإستمرار والتناسل، وهو عبيد الله في خط أبيه زياد .

بعد هذا الهجوم المدوي والمباغت، الذي لم يكن يخطر للطاغية ببال، صعّد الشهيد لهجته ليتحدث بالكناية - وهي أبلغ من التصريح - عن الفضيحة التاريخية لمعاوية وبني أمية، وزياد وابنه وآل زياد، وهي فضيحة إلحاق زياد بن عبيد الثقفي، بأبي سفيان الأموي والحادثة مشهورة.

ولم يجد الطاغية بُداً من الصبر الممض على النصال التي أنشبها في قلبه كلام الشهيد مسلم بن عقيل - النسابة الشهير- الذي لم يترك له مجالاً للرد عليه، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الكذب والإفتراء، ليحفظ شيئاً من ماء الوجه.

فقال له ابن زياد: يا فاسق، ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟

ومن شأن فرية من هذا النوع لا تدخل في الحساب عادة، أن تُربِك.

إلا أن الشهيد استوعب الهجوم، ثم أعاد الكرة بهجوم أصاب من الطاغية مقاتله:

فقال مسلم: ألله يعلم أني ما شربتها قط، وأحق مني بشرب الخمر من يقتل النفس الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة والظن، وهو في ذلك يلهو ويلعب وكأنه لم يصنع شيئاً.

وكان الناس جميعاً يعرفون صدق ما ذكره الشهيد، وهو على كل شفة ولسان.

لذلك اضطر الطاغية مجدداً إلى تغيير مسار الحوار، ليلجأ إلى التشفي، فقال: يافاسق مَنَّتك نفسك أمراً حال الله دونه، وجعله لأهله.

وبكلمات موجزة، يكشف الشهيد أن زمام المبادرة ما يزال في يده، وأن الطاغية ما زال يترنح تحت وطأة هجومه الصاعق، قال الشهيد :

" ومن أهله يا ابن مرجانة؟!"

وفي خطاب طاغية - لا يصطلى بناره(1) - كابن زياد باسم أمه، من اللامبالاة ما يفوق كل تقريع، ويبلغ غاية الإستخفاف.

وذلك ما كشف الطاغية، وأعاده إلى حجمه الطبيعي، قزماً أمام طود، فإذا به يلجأ إلى الإحتماء بما يعلم أنه لا يحميه، بل يزداد معه انكشافاً، إلا أنه أوصل نفسه إلى حيث لابد له من التشبث به ولو أنه قشة، فقال : أهله يزيد بن معاوية.

وباستطاعتك أن تجزم بيسر بأن هذه الكلمات بمقدار ما كانت خجلى، ممجوجة وباهتة، كانت ملامح عار الهزيمة واضحة في وجه الطاغية .

لذلك لم يجد الشهيد مسلم أنه أمام معطى جديد يتطلب منه الرد، وإنما وجد نفسه أمام تثبيت نصره المؤزر، لأن التستر بيزيد لا يكسب صاحبه إلا المزيد من الفضيحة والعار، وقد أراد الشهيد أن يؤكد ذلك ، فقال - وملء إهابه الشمم - : الحمد لله، رضينا بالله حَكماً بيننا وبينكم .

وعبثاً حاول الطاغية إستعادة زمام المبادرة، فقال :

أتظن أن لك من الأمر (الخلافة) شيئاً ؟

قال الشهيد : والله ما هو الظن، ولكنه اليقين!

لقد برز يقين مسلم إلى ريب الطاغية وهواه، وبديهي أن يصرع اليقينُ الهوى.

ولا ملاذ للطاغية إلا الطغيان، والإحتماء بالتهديد بالقتل:

قتلني الله إن لم أقتلك شرَّ قتلة.

فقال مسلم: أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المُثلة، وخبث السريرة، ولؤم الفعلة، لأحد غيرك أولى منك.

* وصيـة الشهـيد
ثم يطلب الشهيد أن يوصي، وربما وجد الطاغية في قبول ذلك مخرجاً له من ورطته، فأمر ابن سعد بالإستماع إلى الشهيد.

وبمجرد أن انتهى الشهيد مسلم من وصيته له، رفع ابن سعد صوته قائلاً: أتدري أيها الأمير ماذا قال لي؟ لقد قال كذا وكذا.

كأن مشيئة الله تعالى قضت أن يوصي الشهيد مسلم رضوان الله عليه، إلى هذا الوضيع الجافي، لتعرف الأجيال طبيعة قتلة سيد الشهداء وخبث معدنهم، من خلال معرفة طينة ابن سعد، قبل أن يوضع أمام معادلة: قتال سيد الشهداء هو الطريق إلى ملك الري.

ولقد حاول الطاغية باديء الأمر أن يمنع ابن سعد من أن يبوح بما اؤتمن عليه، فقال له:

أكتم على ابن عمك. فقال عمر: هو أعظم من ذلك؟ فتراجع ابن زياد عن وصيته بالكتمان وقال: وما هو؟ قال ابن سعد: قال لي إن حسيناً أقبل وهم تسعون إنساناً ما بين رجل وامرأة فارددهم واكتب إليه بما أصابني. فقال له ابن زياد: أما والله إذ دللت عليه، لا يقاتله أحد غيرك.(2)

والغريب أن ابن زياد رغم كل تشوهه النفسي، لم يتحمل إسفاف ابن سعد - و قد يستغرب الوضيع وضاعة غيره – فاستشهد بالمثل : "لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن".

ويشير طلب الشهيد من ابن سعد أن يرسل من يخبر الإمام الحسين عليه السلام بما جرى له، إلى أن الشهيد لم يثق بأن ابن الأشعث سيفي بوعده، وهو يعزز ما تقدم من أن رسول ابن الأشعث إلى الإمام كان بموافقة ابن زياد.

وقد تضمنت الوصية أيضاً وفاء المبلغ الذي كان الشهيد استدانه في الكوفة، وهو ما ينبغي أن يحظى باهتمام كل مجاهد في سبيل الله تعالى يحرص على سلامة مساره الجهادي من فتك شيطان المال.

لقد وصل إلى الشهيد الكثير من المال العام منذ دخوله الكوفة، وكان الشهيد أبو ثمامة الصائدي موكلاً بقبض المال وشراء السلاح، فلم يتسلم هو شيئاً، ومع ذلك فقد استدان مبلغاً يحمل الآن هم الوصية بتسديده.

ولم أجد إيضاحاتٍ حول هذه السبعمائة درهم كما تذكر أكثر المصادر أو الألف كما في بعضها، إلا أن الظاهر أنه استدانها لمصرفه الخاص، وحيث أنه كان في الكوفة ضيفاً، فالحاجة الأبرز له هي السلاح!

وهل هو شأن خاص؟

بلى، هو كذلك لمن ينطلق في دروب الجهاد يغمره الشكر لله تعالى على توفيقه لذلك، فيحرص على أن يكون سلاحه من خالص ماله، ليتضاعف ثوابه فيجمع بين الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، ولا يحمِّل بيت مال المسلمين – إن استطاع ولو بالدين الذي يتمكن من وفائه - عبئاً بذريعة أنه مجاهد.

* الشهـادة
وما إن انتهي الحديث عن الوصية، إذ بالطاغية يفتح باب السجال من جديد، وهو ما يدل على أن وقع كلام الشهيد عليه كان من الشدة بحيث أن تفاعلاته في قلبه المظلم ما تزال في ذروتها، وهو يستشعر الحاجة إلى ترميم صورته أمام الحاضرين، فإذا به يقول:

ولكن أريد أن تخبرني يا ابن عقيل، لماذا أتيت أهل هذا البلد، وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، فأردت أن تفرق عليهم أمرهم، وتحمل بعضهم على بعض؟

فقال له مسلم: ليس لذلك أتيت، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وأن معاوية حكم فيهم بغير رضىً منهم، وأن عاملهم يتجبر ويعمل أعمال كسرى وقيصر، فأتينا لنأمر بالعدل، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله، ولم تزل الخلافة لنا، وإن قُهرنا عليها، رضيتم بذلك أم كرهتم، لأنكم أول من خرج على إمام هدىً وشقَّ عصا المسلمين، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلا قول الله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وعلى نفسها جنت براقش! فلم يجد الطاغية ما يقوله، والشتم سلاح العاجز، فلجأ إليه:

فجعل ابن زياد يشتمه، ويشتم علياً والحسن والحسين.

أمّا وقد بلغ الشهيد الرسالة، وأدى ما عليه، وأقام الحجة بما لا مزيد عليه، ولا جديد يقوله الطاغية غير السباب، فقد آن الأوان للرحيل ولقاء الله تعالى الذي كان مسلم ينتظره "على يد شر بريته" كما مر في كلامه:

قال مسلم: أنت وأبوك أحق بالشتم والسب، فاقض ما أنت قاضٍ يا عدو الله، فنحن أهل بيت موكلٌ بنا البلاء.

فقال ابن زياد: إصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه، وأتبعوا رأسه جسده!

وكانت الكلمات الأخيرة التي قالها الشهيد كالصارم البتار:

قال مسلم: أمَ والله يا ابن زياد، لو كنت من قريش، أو كان بيني وبينك رحم لما قتلتني، ولكنك ابن أبيك!

فازداد ابن زياد غضباً، ودعا برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربةً منكرة، فقال له: خذ مسلماً إليك وأصعده إلى أعلى القصر، واضرب أنت عنقه بيدك، ليكون ذلك أشفى لصدرك.

وهل أراد ابن زياد أن يشفي صدر بُكير، أم أراد أن يشفي صدره وآل زياد ويزيد؟

فأُصعد مسلم إلى أعلى القصر، وهو يسبِّح الله ويستغفره، ويقول: أللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا.

ويأتي من ثباته ورباطة جأشه رضوان الله تعالى عليه، ما يكشف عن أن هذا التسبيح والإستغفار كانا ورد العابد المسبح دائماً والمستغفر، لاسيما في المنعطفات، ولم يكن ترديد الخائف يلجأ إليه في الضراء وحسب، أو في السراء والضراء.

فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهوى رأسه إلى الأرض، ثم أتبعوا رأسه جسده.

لم يقف الحقد الدفين الذي هو معدن ابن زياد وأسياده، عند قطع الرأس، ولذلك كان أمر الطاغية صريحاً بما هو أكثر من ذلك: " أتبِِعوا جسده رأسه ".(3)

ولك أن تقدر ما يحل بجسد يلقى من علو ثلاثين ذراعاً هي ارتفاع سور قصر الإمارة على أقل تقدير.

وقد ورد في ذلك : فتكسرت عظامه(4)

وتكتفي المصادر الأساسية بما يدل على ذلك من إلقاء الجسد من أعلى القصر، أو من "طُمار" وهو المكان المرتفع، والنتيجة واحدة.

ولا ينبغي تجاوز تعمد إلقاء الجثث من أعلى القصر دون التأمل في دلالة ذلك على روح الإفتراس الأموية التي كان والي المصرين الملحق كأبيه بعض مظاهرها، وسيأتي في ترجمة الشهيدين عبدالله بن بقطر وقيس بن مسْهر أنهما استشهدا بنفس الطريقة، كما يأتي مثل ذلك في ترجمة الشهيد أبي رَزِين ولكن من على منارة البصرة، ويروي الطبري إصرار ابن زياد على رضِّ الخيل جسد الإمام الحسين عليه السلام.(5)

ولم يكتف الطاغية بقطع الرأس وتكسير العظام، بل أمر أن يصلب الشهيد مسلم منكوساً!

ويأتي بيان ذلك في الحديث عن شهادة الشهيد هانيء بن عروة.

إنها الغربة الحزينة المفجعة التي أبكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- كما تقدم - و أبكت الإمام الحسين سلام الله عليه، والتي كان لها الوقع المدوي في موكب الإمام الحسين الذي كان مخيماً في منطقة "زرود".

و لابد من الوقوف عند ما نقله هذا الجلواز الذي تولى ضرب عنق مسلم رضوان الله عليه فقد سأله ابن زياد :"وماذا كان يقول ؟ قال : إنه كان يسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله ، قلت الحمد لله الذي أقادني منك وضربته ضربة لم تغن شيئاً. فقال لي: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد. فقال ابن زياد : أو فخراً عند الموت ! ثم قال : إيه. قال : ضربته الثانية فقتلته ".

حتى وهو على أبواب القتل، ظل الشهيد مسلم بن عقيل، ذلك الطود الشامخ مقتدياً بعزم عمه المحمدي الذي لا يرقى إليه الطير، الأمر الذي أذهل ابن زياد وجعله يقول : أو فخراً عند الموت.

* الـدروس الخـالـدة
هذه العناية الخاصة من الشهيد مسلم بن عقيل على أبواب الشهادة، بوفاء مبلغ استدانه في الكوفة، تجعلنا وجهاً لوجه أمام الدروس الخالدة التالية:

1- أهمية وفاء الدين كجزء من حق الناس، فها هو الشهيد مسلم على أبواب شهادته يحمل هذا الهم، الأمر الذي يلفتنا إلى موقع متميز لأداء الدين، يتساوى فيه الشهيد وغيره فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام : كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدَّيْن فإنه لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه (المتكفل) ، أو يعفو الذي له الحق."(6)
2- أهمية تفريق المتصدي للشأن العام بين الشأنين الخاص والعام، فلا يستسهل المزج بينهما وكأن كل شيء يعنيه هو المصلحة العامة، الأمر الذي يؤسس ل "أعمال كسرى وقيصر" على حد تعبير الشهيد، كما يؤسس للملك العضوض الذي حذّر منه رسول الله صلى الله عليه وآله.
(7)

3- حذر المجاهد من الإنجرار شيئاً فشيئاً إلى الترف الذي يبدأ مع بداياته الإنفصالُ عن الناس، والتحزب للنُّخب، والذي هو بعدُ بحر الدنيا العميق!

ولا يمكن تحقق ذلك إلا بتنبه المجاهد لضرورة الفصل بين المسؤولية التكليف والتشريف، وبين التعالي والإمتياز، ويتوقف ذلك بدوره على الفصل بين مورده المالي الخاص – ولو كان من المال العام كمخصص له يتساوى فيه مع غيره- وبين بيت المال، ليحافظ المتصدي للقيام بأعباء مهمة عامة، على المستوى المعيشي الطبيعي الذي يتناسب مع مرتبه و"عطائه" وهو درس شديد الأهمية، تظهر نتائجه في البعد النفسي للمسؤول، فلا يتسلل الترف إلى نفسه رويداً رويداً، وتظهر كذلك في البعد الإقتصادي في باب عدم اتخاذ مال الله دولاً، الذي يضرب العمود الفقري لحركة الممانعة وهو تحقيق العدالة الإجتماعية في ظل حدود القيم التي هي حدود الله تعالى، ويؤسس لاتخاذ عباد الله خولاً.

وطبيعي جداً، أن تكون هذه سيرة ثقة الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيته خاصة وأنه قد تعلم من عمه أمير المؤمنين عليه السلام هذا الدرس الخالد الذي لقّنه لأبيه عقيل وللأجيال من خلاله، وذلك عندما جاءه عقيل طامعاً بالصلة الخطيرة، وقد ركبه الدَّيْن، فقال له :

أعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي حتى أرحل عنك.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : فكم دينك يا أبا يزيد ؟

قال : مائة ألف درهم.

قال عليه السلام: لا والله ما هي عندي، ولا أملكها، ولكن إصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا أنه لابد للعيال من شيء لأعطيتك كله.

فقال عقيل: بيت المال في يدك، وأنت تسوِّفني إلى عطائك، وكم عطاؤك وما عساه يكون ولو أعطيتنيه كله؟

فقال عليه السلام : ما أنا وأنت فيه (بيت المال) إلا بمنزلة رجل من المسلمين، " وكانا يتكلمان فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق" فقال له علي عليه السلام : إن أبيت يا أبا يزيد أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله، وخذ ما فيه.

قال عقيل : وما في هذه الصناديق ؟

قال عليه السلام : فيها أموال التجار.

قال : أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على الله وأقفلوا عليها.

أضاف : وإن شئتَ أخذتَ سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى "الحيرة" فإن بها تجاراً مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله.

فقال عقيل : أوسارقـاً جئتُ ؟!!

قال عليه السلام :"تسرق من واحد، خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً.. "(8)

ومن أجدر من "ثقة الحسين" عليه السلام، باستيعاب هذا الدرس المحمدي العلوي، وتطبيقه حرفاً بحرف.

* * * * *

* شهادة هانــــيء: متى قتل؟
تختلف مصادر الدرجة الثانية في توقيت قتل ابن زياد للشهيد هانيء بن عروة على أقوال:

1- أنه قتل قبل اعتقال الشهيد مسلم، وذلك إثر استدراجه إلى القصر وامتناعه عن تسليم مسلم إلى الطاغية(9)
2- أنه قتل بعد مجيء المذحجيين بقيادة عمرو بن الحجاج وانصرافهم.
(10)
3- أنه قتل بعد قتل الشهيد مسلم، وهو مايُجمع عليه ما يمكن وصفه بمصادر الدرجة الأولى.

والصحيح - بناء لما في أغلب المصادر والمعتمد منها بشكل خاص- هو ما ينسجم مع عدم جرأة الطاغية على الإقدام على خطوة من هذا النوع قبل أن يطمئن إلى أن قتل "شيخ المصر" لن يرتد عليه بما لا طاقة له به، وهذا ما لم يتأكد منه إلا بعد شهادة مسلم رضوان الله تعالى عليه.

وإذا لاحظنا ما روي من أنه كان قد وعد ابن الأشعث بالعفو عن هانيء، فمعنى ذلك أنه كان إلى لحظة شهادة مسلم مايزال يعيش هواجس ردة الفعل على مقتل هانيء.

ويبدو أن اطمئنانه بلغ حداً لم يكن يخطر له ببال، مما يدل على أن خروجه من قلب الخطر كان تدريجياً، وقد بلغ ذروته حين أمر بإخراج هانيء إلى السوق، مع توضيح في معنى الإخراج إلى السوق، فالروايات في هذا المجال متعددة كما سيأتي.

*وأين؟
وكما وقع الإختلاف في تحديد وقت القتل، فكذلك وقع الخلاف في مكانه، والأقوال هي:
1- القصر
(11)
2- أعلى قصر الإمارة، كما قتل الشهيد مسلم.
(12)
3- في السوق.
(13)
4- في الكناسة.
(14)

والكناسة بعيدة عن قصر الإمارة فهي "عند مخرج الكوفة من ناحية الغرب"(15) ويقع فيها " المشهد القائم في شرقي قرية ذي الكفل"(16) والذي يقرب "من النخيلة وهي العباسية في كلام ابن نما، والعباسيات اليوم"(17) وكان فيها سوق لبيع المواشي، والظاهر أن المراد بها ماعدا الغنم.(18)

ومن البعيد جداً أن يجرؤ الطاغية على نقل الشهيد هانيء حياً كل هذه المسافة الطويلة، ولذلك فالراجح أن الزج باسم الكناسة في الحديث عن القتل ناشيء من ورود إسمها في الحديث عن الصلب، كما سيأتي، أو لأن من فعل ذلك قد وصله ما لم يصلنا.

ويتضح ذلك بالمقارنة بين عبارة مثير الأحزان، وبين رواية الطبري عن الإمام الباقر عليه السلام التي ورد فيها أن الصلب كان في الكناسة، ويأتي ذكرهما تحت عنوان: "الجر بالحبال".

كما أن الراجح أن المراد بالسوق ما يشكل سوق الغنم بعضه، وكان قريباً من قصر الإمارة، في الجانب الشرقي للمسجد.(19)

ولئن كان إقدام ابن زياد على نقل الشهيد حياً إلى الكناسة البعيدة، بعيداً جداً، فإن بالإمكان أن يجرؤ على إخراجه إلى السوق القريب من قصر الإمارة، الواقع في الجهة المغايرة للجهة التي يقطنها المذحجيون، ليُقتل خارج القصر إمعاناً منه في الإستهانة بما كان يمثله الشهيد، وليلقِّن بذلك الدرس المعهود من كل طاغية مثله في مثل هذا الظرف.

ولكن - رغم ذلك - يبقى الإحتمال الأرجح الموافق لمقتضيات الحال، أن إخراج الشهيد إلى السوق كان شكلياً بمعنى أن يقتل في أوائل السوق فور إخراجه ليحقق الطاغية ما يمكن تحقيقه من التجبر والإستخفاف، مع حذره التام من الإبتعاد به عن القصر وهو على قيد الحياة، مخافة أن يحصل ما لا تحمد عقباه، وهو ما يظهر من بعض(20) الأوثق من النصوص التي تؤكد أن قتل الشهيد هانيء قد وقع في السوق.

قال الشيخ المفيد والطبري:
وقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلمه في هانئ بن عروة، وقال إنك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك الله لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه "و" هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن. قال فوعده أن يفعل، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان، بدا له فيه وأبى أن يفي له بما قال، فأمر بهانيء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل، فقال أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. فأخرج بهانيء حتى انتهى إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: وامَذحِجاه ولا مَذحِج لي اليوم! وامذحجاه وأين مني مذحج! فلما رأى أن أحداً لا ينصره، جذب يده فنزعها من الكتاف، ثم قال: أما من عصاً، أو سكين، أو حجر، أو عظم يجاحش {يدافع} به رجلٌ عن نفسه. قال: ووثبوا إليه فشدوه وثاقاً، ثم قيل له: أمدد عنقك فقال ما أنا بها مُجْدٍ سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي. قال فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي، يقال له رشيد بالسيف، فلم يصنع سيفه شيئاً، فقال هانيء إلى الله المعاد. أللهم إلى رحمتك ورضوانك ثم ضربه أخرى فقتله
(21)

وقال ابن أعثم والخوارزمي:
"ثم أمر ابن زياد بهانيء بن عروة أن يُخرج فيُلحق بمسلم بن عقيل، فقال محمد بن الأشعث: أصلح الله الأمير، إنك قد عرفت منزلته في المصر وشرفه وعشيرته، وقد علم".." قومه أني وأسماء بن خارجة جئنا به إليك، فأنشدك الله أيها الأمير إلا وهبته لي، فإني أخاف عداوة أهل بيته فإنهم سادات أهل الكوفة، وأكثرهم عدداً. فزبره "نهره" ابن زياد، وأُخرج هانيء إلى السوق إلى موضع تباع فيه الغنم وهو مكتوف، فعلم هانيء أنه مقتول، فجعل يقول: وامَذحِجاه، وأين مني مَذحِج؟! واعشيرتاه، وأين مني عشيرتي؟! ثم أخرج من الكتاف يده للمدافعة، وقال: أما من عصاً أو سكين أو حجر، أو عظم يجاحش"يدافع" به الرجل عن نفسه، فوثبوا إليه وشدوه، ثم قالوا له: امدد عنقك، فقال: ما أنا بها سخي، ولا بمعينكم على نفسي فضربه غلام لعبيد الله بن زياد بالسيف ضربة لم يصنع بها شيئاَ، فقال هانيء: إلى الله المعاد والمنقلب. أللهم إلى رحمتك ورضوانك. أللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي، فإني إنما غضبت لابن نبيك محمد صلى الله عليه وآله. فتقدم إليه أيضاً الغلام التركي وإسمه رشيد فضربه فقتله".
(22)

وقال البلاذري:
" وطلب ابن الأشعث إلى ابن زياد في هانيء بن عروة فأبى أن يشفِّعه، فأمر به فأخرج من محبسه إلى السوق وهو مكشوف الرأس يقول: وامَذحِجاه ولا مذحج [ لي ] اليوم ! ! فضرب عنقه ".
(23)

وقال المسعودي:
"ثم أمر بهانيء بن عروة، فاُخرج إلى السوق فضرب عنقه صبراً، وهو يصيح: يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذٍ يركب في أربعة آلاف دارع، وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها، كان في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحداً فشلاً وخذلانا".
(24)

إنها لحظات تاريخية، تلح بالثأر من كل المتخاذلين، الذين مكنوا للفراعنة أن يبطشوا بالمجاهدين.

هذا القائد الجليل الذي كان يقود ثلاثين ألفاً، لا يجد الآن ولو فرداً واحداً يقف إلى جانبه!

ها هو شيخ المصر، وحيداً غريباً، إلا أنه لم يضعف ولم يهِن، بل ظل رابط الجأش، قوي الشكيمة، كما كان مسلم رضوان الله تعالى عليهما. أللهم ارزقنا شفاعتهما وحسن التأسي.

* التمثيل بالشهيدين
يتحدث عدد كبير من المصادر عن التمثيل بالشهيدين، في ما يتحدث البعض عن التمثيل بأحدهما، كما سنرى.

وتجدر الإشارة إلى أمرين:
الأول: أن الطاغية حرص على أن تبدأ عملية التمثيل بما لا يقل عن بعض حلقاتها إن لم يكن منها، وهو اختيار مكان إلقاء الجسد، أو القتل بطريقة يريدها الطاغية أن تكون في حد ذاتها إذلالاً للشهيد، ولكل من تستهويهم لغة الشهادة.

الثاني: أن إلقاء الجسد من علو ثلاثين ذراعاً هي ارتفاع أعلى القصر- على أقل تقدير، كما تقدم - بما ينتج عنه من تهشيم العظام، وتقطع الجسد، ليس إلا من أسوأ أنواع التمثيل، ولكن قاموس الإجرام الأموي، أضاف إلى ذلك مفردات أخرى، تكشف شراسة الإفتراس التي يمكن أن تبلغها النفس في اتباع خطوات الشيطان.

* الجر بالحبال
بين الرعب المستبد الذي جعل الطاغية لا يصدق بتفرق الناس، ويأمر بقلع بعض سقوف المساحات المسقفة من المسجد، وبين جر جثتي الشهيدين بالحبال، وصلبهما منكوستين، بون شاسع وشقة بعيدة، تقطعها النفس الأمارة بطي النفس بين عشية وضحاها، بل قبل أن يرتد الطرف.

والمفارقة الأعجوبة، أن هذه النفس تمتطي صهوة مثيلاتها لتُغِذَّ السير بها لاستعبادها، الذي لا يقف عند حدود الرضا بالذل، بل يتعداها ليبلغ أقصى مراتب البهجة والحبور.

هؤلاء الذين أقضُّوا البارحة مضجع الطاغية، بحيث أنه حدَّث نفسه بالفرار، والذين كانوا ثلاثين ألف دارع، يحفُّون بهانيء بن عروة في الملمات، وهؤلاء الذين بايعوا مسلم بن عقيل بالأمس هم بعض جمهور المتفرجين اليوم على جر جثتي الشهيدين بالحبال كل هذه المسافة الطويلة، وطيلة ذلك اليوم.

قال الطبري:
" وألقى جثته (
أي الشهيد مسلم) إلى الناس وأمر بهانيء فسحب إلى الكناسة فصلب هنالك ".
(25)

وقال ابن نما:
" وأمر بهانيء بن عروة فسحب إلى الكناسة فقتل وصلب هناك وقيل ضرب عنقه في السوق غلام لعبيد الله إسمه رشيد ".
(26)

ولئن لم يرد في المصادر الأساسية الأشهر تعبير " سحبوهما بالحبال من أرجلهما طوال ذلك النهار" أو ما يدل عليه بتفصيله، فقد ورد فيها ما لا يمكن تفسيره - من حيث الكيفية - إلا بذلك، وهو السحب كما تقدم. ثم إن هذا التعبير هو المحكي عن مصدر لا يقل أهمية عنها.(27)

ولا يمكن أيضا إخفاء استغراب أن يجرؤ الطاغية على الأمر بذلك، مع أن موقع مذحج في الكوفة كما سمعت بلسان ابن الأشعث، إلا أن الأمر الغريب قد يقع، ولا يقلل من هذا الإستغراب، الحديث عن أن ذلك استفز مذحجاً، فقاتلوا واستنقذوا الجثتين، لأن ذلك لم يرد في مصدر يمكن الركون إليه وإن كان يمكنه أن يثير سؤالاً في مثل هذا المورد، ثم إن الإنهيار الكوفي المدوي لا يشجع على تصديق وقفة من هذا النوع.(28)

* الصَّلب: أول قتيل هاشمي يصلب
وبحسب عدد من المصادر: كما لم يكتف الطاغية بالقتل بل حرص على تكسير العظام، والسحب في السوق، فقد أضاف إلى ذلك صلب الجسدين مع خصوصية في الصلب- كما في بعض المصادر المعتبرة- وهي كونهما منكوسين!

قال ابن أعثم والخوارزمي:
"ثم أمر ابن زياد بمسلم وبهانيء فصلبا منكَّسين".
(29)

وقال ابن سعد:
"فأخذ عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة فقتلهما جميعاً وصلبهما".
(30)

وقال سبط بن الجوزي:
"فأُصعد "مسلم" إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وأُلقي رأسه إلى الناس، وصلبت جثته بالكناسة، ثم فُعل بهانيء بن عروة كذلك".
(31)

وقال ابن شهراشوب:
" ثم أمر بقتل هانيء بن عروة في محلة يباع فيها الغنم ثم أمر بصلبه منكوساً ".
(32)

وقال ابن حجر: " فأمر به فأصعد إلى القصر ثم قتله وقتل هانيء بن عروة وصلبهما ".(33)

وقال المسعودي:
" ثم أمر ابن زياد بجثة مسلم فصلبت" .. وهذا أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم".
(34)

ورغم عدم تعرض الشيخ المفيد والطبري للصلب، فإن وفرة مصادره ونوعيتها يؤكدانه، ليفتح ذلك الباب على مصراعيه للتفكير بعمق جذور الشلل الذي خيّم على الكوفة، وعلى المذحجيين بالخصوص!

* نصب الرأسين في الشام: أول رأس هاشمي يحمل إليها!
من الثابت إرسال رأسي الشهيدين مسلم وهانيء، إلى الشام، وقد أضاف بعضهم أن رأس الشهيد عمارة بن صلخب كان معهما، ويأتي في ترجمة الشهيد عبد الأعلى ما يحتمل أنه السبب في عدم إرسال رأسه - وغيره - إلى الشام.

قال الشيخ المفيد والطبري:
" ثم إن عبيدالله بن زياد لما قتل مسلماًَ وهانئاً بعث برؤوسهما مع هانيء بن أبى حية الوادعي، والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية".
(35)

وقال الدينوري:
"ثم بعث عبيد الله برؤوسهما إلى يزيد وكتب إليه بالنبأ فيهما".
(36)

وقال البلاذري:
" وخرج عمارة بن صلخب الأزدي وكان ممن أراد نصرة مسلم فأخذه أصحاب ابن زياد، فأتوه به فأمر به فضربت عنقه في الأزد، وبعث برأسه مع رأس مسلم وهانيء بن عروة إلى يزيد بن معاوية، وكان رسوله بهذه الرؤوس هانيء بن أبي حية الوادعي من همدان".
(37)

وقال المسعودي:
"وحُمل رأسه إلى دمشق، وهذا أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم، وأول رأس حُمل من رؤوسهم إلى دمشق".
(38)

ولم تشف مفردات الإنتقام المتقدمة هذه كلها رغم فظاعاتها،غليل القلوب الأموية، وحقدها الدفين على رسول الله صلى الله عليه وآله والهاشميين والمؤمنين، فقد أمر يزيد بنصب رأسي الشهيدين مسلم وهانيء، في مكان عام بدمشق.

قال في المناقب:" فنصب "يزيد" الرأسين في درب من دمشق ".(39)

***

* نظرة في الأسباب
وهكذا طويت صفحة حركة الإعتراض في الكوفة، ولم يبق منها عين ولا أثر.

ذابت مَذحِج كحبة الملح في غمرات الماء، فلا أركان التظاهرة التي قادها عمرو بن الحجاج إلى قصر الإمارة، هبوا لنجدة زعيمهم، ولا أي دارع من الثلاثين ألفاً لبى نداء هانيء : وامَذحِجاه! مما جعله يجيب نفسه: ولا مذحج لي اليوم!

وإذا كانت مذحج قد أسلمت شيخها رغم كل أياديه البيضاء التي امتدت على مساحة أكثر من سبعة عقود من عمره التسعيني، فهل يرجى من كوفي آخر بعض وفاء!

ثم هل يبقى مجال للتساؤل عن إسلام الكوفة مسلم بن عقيل؟!

نعم يبقى السؤال بإلحاح عن الأسباب التي أدت إلى ذلك.

والآن وقد تم استعراض أحداث الكوفة منذ دخول الشهيد مسلم وإلى شهادته والشهيد هانيء، وإرسال رأسيهما إلى الشام، أصبح بإمكاننا أن نلقي نظرة في الأسباب.

ثمة سببان رئيسان، يشكلان وجهين لحقيقة واحدة: الحرب النفسية، وطبيعة النفس المستهدفة بهذه الحرب: النفس الأمَّارة.

1- الحرب النفسية
من الأسباب التي ينبغي التركيز عليها بعناية تامة، دور الحرب النفسية، وبث الشائعات ، في تفريق الجماهير عن راية الحق.

وتتضح أهمية سلاح الحرب النفسية عندما نتنبه إلى أن كل الأساليب التي اعتمدها ابن زياد، تشكل - كما مرت الإشارة - مفردات في إطارها، وتتضافر جميعها في استهداف " النفس" لتذعن للطاغوت.

كان في القصر مع ابن زياد حوالي الخمسين فرداً، وفي مرحلة تالية مائتان، ولنفترض أن عدد المخبرين والعملاء كان يبلغ الآلاف، فإن ذلك يعني أن كل الأساليب المتقدمة رغم خطورتها تبقى دائرتها محصورة في نطاق ضيق لا يمكنه أن يحدث مثل ذلك التصدع والإنهيار المدويين في حاضرة مترامية الأطراف والعديد كالكوفة، إلا من خلال جعل هذه الأساليب وسيلة إخضاع الجماهير، ويتوقف ذلك على اعتماد سياسة الحرب النفسية وبث الإشاعات لتفكيك جمهور الثورة وقاعدتها الشعبية التي تشكل الدعامة الأولى - في المنظور المادي - لكل تحرك ثوري.

إن الحرب النفسية، أشد الأسلحة فتكاً في الإجهاز على أحلام المستضعفين وتطلعاتهم إلى عيش حر كريم يرفع عنهم إصر أغلال الطواغيت، وإذا أردنا أن نستلهم من أحداث الكوفة عام ستين للهجرة، ما ينفعنا في مواجهة الحرب النفسية التي يعتمدها الطواغيت لمواجهة غضبة الجماهير المستضعفة، فإن علينا أن نلتفت إلى أن هذه الحرب على قسمين :

الأول : الإشاعات الكاذبة من قبيل أن جيش الشام قد توجه نحو الكوفة، وقد عرفت أن ذلك كان محض إختلاق .
الثاني: التهويل بأمور صادقة حصلت فعلاً، أو يمكن أن تحصل، إلا أنها تعطى حجماً كبيراً، يمكنه أن يدخل الرعب في النفوس، من قبيل التهديد بالتجمير في المغازي وهو مصطلح كان يقصد به إطالة المدة التي يقضيها الغزاة في جبهات القتال كنوع من التأديب للعصاة منهم، أو من قبيل التهديد بقطع المخصصات المالية وما شابه.

إن على المجاهد أن يكون مستعداً سلفاً لكل أنواع التهويل التي يلجأ إليها الطاغوت حتى لا يواجه المصير الكوفي، فيقعد بعد توثب للجهاد، ويخسر بذلك الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من سوء العاقبة.

2- النفس الأمارة
وهنا بيت القصيد، والمحور الأساس والوحيد الذي يمتاز به المجاهد عن القاعد. إنه طبيعة النفس البشرية التي إن عجز عن إخضاعها للعقل، أمسك بزمامها الهوى وقادها في ميادين التنكر لكل القناعات، فإذا بصاحب هذه النفس يأتمر بأمر هواها والرغبات، عاجزاً عن الوقوف إلى جانب ما يود أن يكون معه.

تلك هي معضلة الكوفيين الحقيقية، وهي التي عبر عنها الفرزدق بقوله لسيد الشهداء عليه السلام: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

والنفس عطاء إلهي يمكن تربيته ويمكن إهماله، فإنْ حسُن جهاده والتربية، بلغ سن الرشد ليصبح " النفس المطمئنة" وإن أسيء جهاده وتربيته اشتد مراسه في معاقرة الهوى، وتردى في أودية الهلاك.

وتبدأ النفس رحلة الهلاك بإهمال " جهاد النفس" والإقبال على " حب الدنيا" وكان هذا مقتل الكوفيين.

بمقدار اقتراف الإثم تضعف النفس، وبالإفراط فيه تموت، فيغدو محالاً أن تقوى على حراك اعتراض بحجم مواجهة رغبة في سلعة، فكيف تقوى على معارضة الطاغوت وسلطانه.

وبمقدار اقتراف الحسنات تتعافى النفس وتنمو وتنضج ويشتد عودها، فتصبح مؤهلة لحمل المسؤوليات الجسام التي تنوء بأثقالها الجبال الرواسي.

وتلك هي النقطة المركزية في كل حركة اعتراض وممانعة، والرصيد الأوحد في المدى البشري لكل تغيير وثورة.

كانت الكوفة صادقةً في أنها لا تهوى معاوية ويزيد وولاتهما، ولكنها كانت واهمة كاذبة في ادعاء أنها ستحارب لتتحرر من أسرهم، فلقد كانت الكوفة - إلا من عصم الله - عبداً داخراً لدنيا يمسك بناصيتها معاوية ويزيد.

وليس المحور في إنزال الله تعالى النصر هو غلبة الإدعاء، بل الحقائق التي نصرت الله تعالى في الخروج من أسر النفس الأمارة فاستحقت أن تنصر.

إن تنصروا الله ينصركم.

الفهارس


(1) الطبري4/356.
(2) المحدث القمي، نفس المهموم116 نقلاً عن: ابن عبد ره الأندلسي، العقد الفريد4/397.
(3) أورد ذلك الشيخ المفيد، والطبري، والبلاذري، وابن أعثم، والخوارزمي في ما تقدم من النصوص فلاحظ، ومن لم يذكره في صريح أمر ابن زياد، فهو يذكره في معرض بيان ماجرى.
(4) السيد محمد تقي بحر العلوم، مقتل الحسين244. والسيد المقرم، مقتل الشهيد مسلم بن عقيل148 نقلاً عن: تظلم الزهراء268.
(5) الطبري4/314.
(6) الكليني، الكافي5/94. وفي الهامش عن العلامة المجلسي في مرآة العقول، في تفسير "أو يقضي صاحبه":أي وليه أو وارثه، أو الإمام، أو المتبرع.
(7) علي بن يونس العاملي، الصراط المستقيم2/101. وابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي1/125. والبيهقي، السنن الكبرى8/159. وابن حجر، فتح الباري8/61.
(8) المجلسي، بحار الأنوار41/113-114.
(9) إبن قتيبة، الإمامة والسياسة9. (ت: الشيري). والطبري 4/294.برواية غير أبي مخنف التي تقدم بعضها في الحديث عن القتال وتفرق الناس.
(10) الدينوري، الأخبار الطوال238.
(11) إبن قتيبة، الإمامة والسياسة9.
(12) سبط بن الجوزي، تذكرة الخواص242.
(13) الشيخ المفيد، الإرشاد2/63. والطبري4/284. والخوارزمي، مقتل الحسين307. وابن نما، مثير الأحزان 26بلغة"وقيل". والبلاذري، أنساب الأشراف83. والدينوري، الأخبار الطوال238 رغم تصريحه - كما تقدم- بأن مقتله كان قبل محاصرة الشهيد مسلم القصر.
(14) إبن نما، مثير الأحزان26. وما ورد فيه حول أن القتل كان في الكناسة مطابق- ماعدا كلمة فقتل- لرواية الطبري عن الإمام الباقر عليه السلام. الطبري4/260. وانظر:المزي، تهذيب الكمال6/426
(15) د. كاظم الجنابي، تخطيط مدينة الكوفة(م.م) 84.
(16) البراقي، تاريخ الكوفة150 نقلاً عن السيد المقرم، زيد الشهيد153.
(17) المصدر.
(18) المصدر148. وقد جاء فيه: " وكان في ناحية من نواحي الكناسة أسواق البراذين، تجري فيها المعاملات على الماشية من بغال وحمير وإبل، بيعاً واكتراءً من قبل النخاسين، وهناك يباع الرقيق".
(19) جاء في الطبري4/294 حول تفرق الناس عن الشهيد مسلم: " فلم يكونوا يمرون في طريق يميناً ولا شمالاً إلا أن ذهبت منهم طائفة، ألثلاثون والأربعون ونحو ذلك قال فلما بلغ السوق وهى ليلة مظلمة ودخلوا المسجد قيل لابن زياد والله ما نرى كثير أحد". وقال البراقي، في تاريخ الكوفة147: "وكانت أسواق الكوفة تنتظم من قصر الإمارة وموقعِه، شرقي الجامع وإلى جنبه إلى دار الوليد بن عقبة من جهة". ومن الجهة الأخرى إلى مساكن ثقيف وأشجع، وموقعها اليوم مابين الشرقي للجامع إلى ما يقارب مسجد سهيل (السهلة).
(20) يلاحظ – بشكل خاص- في نص ابن أعثم والخوارزمي الآتي، أن محاولة قتل الشهيد جاءت كردة فعل على محاولته الدفاع عن نفسه، ولم تغن الضربة الأولى شيئاً، ثم كانت الضربة الثانية القاتلة بعد لحظات، مما يوحي بأن الأمر كان قد صدر إلى الجلاوزة، أن يسيروا به في السوق، بمقدار ما يسمح به الحال، وأن يبادروا إلى قتله إذا بدر ما يمكن أن يتطور إلى الأسوأ.
(21) الشيخ المفيد، الإرشاد2/63. والطبري4/284 باختلاف يسير. واللفظ للطبري.
(22) الفتوح، ابن أعثم5/61. وعنه: الخوارزمي، مقتل الحسين307. واللفظ للخوارزمي.
(23) البلاذري، أنساب الأشراف83.
(24) المسعودي، مروج الذهب3/59.
(25) الطبري4/260.وعنه:المزي، تهذيب الكمال4/427.
(26) ابن نما، مثير الأحزان26.
(27) السيد محمد تقي بحر العلوم، مقتل الحسين246-247.(م.م) نقلاً عن: المناقب والمثالب، للقاضي نعمان المصري، مخطوط175. والمراد به القاضي النعمان أبو حنيفة التميمي المغربي نزيل مصر(المتوفى 363هـ). أنظر: السيد محمد حسين الجلالي، مقدمةالتحقيق59-60 وفيها ذكر نسخ مخطوطة المناقب والمثالب، الموجودة في النجف.
(28) أنظر: الطريحي،المنتخب428. المجلس التاسع من الجزء الثاني.
(29) إبن أعثم، الفتوح5/62. وعنه: الخوارزمي، مقتل الحسين207. واللفظ للخوارزمي.
(30) محمد بن سعد، الطبقات الكبرى4/42.
(31) سبط بن الجوزي، تذكرة الخواص242.
(32) إبن شهراشوب، المناقب3/245.
(33) إبن حجر، الإصابة2/71.
(34) المسعودي، مروج الذهب3/60.
(35) الشيخ المفيد،الإرشاد2/63-64. والطبري4/285 واللفظ للطبري.وانظر: إبن عساكر، تاريخ دمشق18/306-207. نقلاً عن الطبري.
(36) الدينَوَري، الأخبار الطوال242. وأورد اسمي الرسولين.وانظر: إبن حبان، الثقاة2/309. و: ابن نما، مثير الأحزان26.
(37) البلاذري، أنساب الأشراف85.
(38) المسعودي، مروج الذهب3/60.
(39) إبن شهراشوب، المناقب3/245.