الملف

الملف

09/05/2013

تَطَئُونَ فِي هَامِهِم، وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِم


 

موعظتُه عليه السلام حولَ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ .. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ..﴾
تَطَئُونَ فِي هَامِهِم، وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِم
الأَيَّامُ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم، بَوَاكٍ، ونَوَائِحُ عَلَيْكُم
ـــــ ابنُ أبي الحديد المعتزليّ ـــــ


* «..أُقسِمُ بمَن تقسمُ الأممُ كلُّها به، لقد قرأتُ هذه الخطبةَ منذَ خمسينَ سنة وإلى الآن أكثرَ من ألف مرّة. ما قرأتُها قطّ، إلّا وأحدَثتْ عندي روعةً وخوفاً، وعِظَةً، وأثّرت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رِعدةً، ولا تأمّلتُها إلّا وذكرتُ المَوتى من أهلي وأقاربي ".."».
* «كم قد قالَ الواعظون والخطباءُ والفصحاءُ في هذا المعنى، وكم وقفتُ على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه، فلم أجد لشيءٍ منه مثلَ تأثير هذا الكلامِ في نفسي». (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 11، ص 154)
 

* تقدّم «شعائر» هذه الخطبة العلويّة محرّكةً، من (نهج البلاغة- تحقيق الدّكتور صبحي الصّالح)، مع مختاراتٍ من شرح ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة).     


قال ابنُ أبي الحديد: من كلامٍ له عليه السلام قالَه بعَد تلاوتِه ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ﴾:  


* يَا لَه مَرَاماً مَا أَبْعَدَه وزَوْراً مَا أَغْفَلَه * وخَطَراً مَا أَفْظَعَه * لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ * أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ؟
يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ * ولأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً
* ولأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ * أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ * لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ * وضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ.
* ولَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ والرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ * ذَهَبُوا فِي الأَرْضِ ضُلَّالًا وذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا * تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ
* وتَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وتَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا * وإِنَّمَا الأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ ونَوَائِحُ عَلَيْكُمْ.

* أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ * الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ وحَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وسُوَقاً * سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيه * فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ * فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ * وضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ * لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الأَهْوَالِ * ولَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الأَحْوَالِ * ولَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ ولَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ * غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وشُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ * وإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وآلَافاً (أُلّافَاً) فَافْتَرَقُوا * ومَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ ولَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وصَمَّتْ دِيَارُهُمْ * ولَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً * وبِالسَّمْعِ صَمَماً وبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً * فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ * جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وأَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ * بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَى التَّعَارُفِ * وانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الإِخَاءِ * فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وهُمْ جَمِيعٌ * وبِجَانِبِ الْهَجْرِ وهُمْ أَخِلَّاءُ * لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً ولَا لِنَهَارٍ مَسَاءً * أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيه كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً * شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا * ورَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا * فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ * إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ والرَّجَاءِ * فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا * لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا ومَا عَايَنُوا. 

* ولَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ * لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ * وسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ * وتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ * فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوه النَّوَاضِرُ وخَوَتِ الأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ * ولَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ * وتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ * فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا * وطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا * ولَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً ولَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً * فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ * أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ * وقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ * واكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ * وتَقَطَّعَتِ الأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا * وهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا * وعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا * وسَهَّلَ طُرُقَ الآفَةِ إِلَيْهَا * مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ ولَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ * لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وأَقْذَاءَ عُيُونٍ * لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ * وغَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي  

* فَكَمْ أَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وأَنِيقِ لَوْنٍ * كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ ورَبِيبَ شَرَفٍ * يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِه * ويَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِه * ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِه وشَحَاحَةً بِلَهْوِه ولَعِبِه * فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وتَضْحَكُ إِلَيْه * فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِه حَسَكَه * ونَقَضَتِ الأَيَّامُ قُوَاه * ونَظَرَتْ إِلَيْه الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ * فَخَالَطَه بَثٌّ لَا يَعْرِفُه ونَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُه * وتَوَلَّدَتْ فِيه فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِه،
* فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَه الأَطِبَّاءُ * مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ * فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً * ولَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً * ولَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ * إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ * حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُه وذَهَلَ مُمَرِّضُه * وتَعَايَا أَهْلُه بِصِفَةِ دَائِه * وخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْه * وتَنَازَعُوا دُونَه شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَه * فَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ لِمَا بِه ومُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِه * ومُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِه * يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِه،
* فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا * وتَرْكِ الأَحِبَّةِ * إِذْ عَرَضَ لَه عَارِضٌ مِنْ غُصَصِه * فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِه ويَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِه * فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِه عَرَفَه فَعَيَّ عَنْ رَدِّه * ودُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِه سَمِعَه فَتَصَامَّ عَنْه * مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُه أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُه * وإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ * أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا.
 



الشّرح: 

قد اختلفَ المفسّرون في تأويلِ هاتَين الآيتَين، فقال قومٌ: المعنى أنّكم قطَعتم أيّامَ عمرِكم في التّكاثر بالأموال والأولاد حتّى أتاكم الموت، فكنّى عن حلولِ الموت بهم بزيارةِ المقابر.
وقال قومٌ: بل كانوا يتفاخرون بأنفسِهم، وتَعدَّى ذلك إلى أن تَفاخروا بأسلافِهم الأموات، فقالوا منّا فلان وفلان - لقومٍ كانوا وانقرضوا.
وهذا هو التّفسير الذي يدلُّ عليه كلامُ أمير المؤمنين عليه السلام.
* (يَا لَه مَرَاماً): منصوبٌ على التّمييز.
* (مَا أَبْعَدَه): أي لا فخرَ في ذلك، وطلبُ الفخر من هذا الباب بعيد، وإنّما الفخرُ بتَقوى الله تعالى وطاعتِه.
* (وزَوْراً مَا أَغْفَلَه): إشارة إلى القوم الذين افتَخروا. جعلَهم بتذكّر الأموات السّالفين كالزّائرين لقبورِهم -والزَّوْر اسمٌ للواحد والجمع، كالخَصمِ والضّيف- قال: ما أغفلَهم عمّا يُراد منهم لأنّهم تركوا العبادةَ والطّاعة، وصرّموا الأوقاتَ بالمفاخرةِ بالمَوتى.
* (لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ): ".." أراد بـ (استخْلَوا) ذكرَ مَن خلا من آبائهم، أي مَن مضى. يُقال: هذا الأمرُ من الأمور الخالية، وهذا القرنُ من القرون الخالية، أي الماضية. واستَخلى فلانٌ في حديثِه، أي حدّث عن أمورٍ خالية، والمعنى: أنّه [عليه السلام] استعظمَ ما يُوجبه حديثُهم عمّا خلا وعمّن خلا من أسلافِهم وآثارِ أسلافهم من التّذكير، فقال: أيّ مدّكِرٍ وواعظٍ في ذلك؟ ورُوي: «أيّ مذّكّر»، بمعنى المصدر، كالمعتقد بمعنى الاعتقاد، والمعتبر بمعنى الاعتبار.
*( وتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): أي تناولوهم، والمراد: ذَكروهم وتحدّثوا عنهم فكأنّهم تناولوهم، وهذه اللّفظة من ألفاظ القرآن العزيز: ﴿وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ سبأ:52، وأنّى لهم تناولُ الإيمان حينئذٍ بعدَ فواتِ الأمر.
* (يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ): أي يذكرون آباءَهم فكأنّهم ردّوهم إلى الدّنيا وارتجَعوهم من القبور، وَخَوَت: خَلَت. ".."
* قوله عليه السلام: (تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ): أخذَ هذا المعنى أبو العلاء المعرّيّ، فقال:


خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيْمَ الأَرْضِ إلّا مِن هـَـذِهِ الأَجْسَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدَاً مِرَارَاً ضَاحِكٍ مِن تَزَاحُمِ الأَضْدَادِ
وَدَفينٍ عَلى بقايا دَفِينٍ من عهـودِ الآباءِ وَالأَجــــدَادِ
صاحَ هَذي قبورُنا تَمْلَأُ الأرضَ فَأَيْنَ القبورُ من عهدِ عَادِ
سِرْ إنِ اسْطَعْتَ في الهواءِ رُوَيْدَاً لا اختيالاً على رفاتِ العبادِ



* (وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِم): أي تزرعونَ النّباتَ في أجسادِهم ".." ورُوي: وتَستثبتون، بالثّاء، أي: وتَنصبون الأشياءَ الثّابتةَ كالعُمد والأساطين للأوطان في أجسادِ الموتى.
* (وتَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا): لفَظتُ الشّيء، بالفَتح، رميتُه من فمي، ألفِظُه، بالكسر. ويجوزُ أن يريد بذلك أنّكم تأكلونَ ما خلَّفوه "..".
*( وتَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا): أي تسكنونَ في المساكن التي لم يعمّروها بالذِّكر والعبادة، فكأنّهم أخرَبوها في المعنى ".." ويجوزُ أن يريد: وتسكنونَ في دُورٍ فَارَقوها وأخلَوها، فأَطلقَ على الخُلُوِّ والفَراغ لفظَ (الخراب) مجازاً.
* (وإِنَّمَا الأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ ونَوَائِحُ عَلَيْكُمْ): يريدُ أنّ الأيّام واللّيالي تُشيِّعُ رائحاً إلى المقابر، وتبكي وتنوحُ على الباقين الذين سيَلتحقون به عن قريب.
* قوله (أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُم، وفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ): «السَّلَف»: المتقدّمون، و«الغاية»: الحدُّ الذي يُنتهى إليه، إمّا حسّيّاً أو معنويّاً، والمرادُ هاهنا الموت. و«الفَرَط»: القومُ يسبقون الحيّ إلى المَنهل.
* (مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وحَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وسُوَقاً): «مَقَاوِمُ الْعِزِّ»: دعائمُه، جمع مِقْوَم، وأصلُها الخَشبةُ التي يُمسكُها الحرّاث. و«حَلَبَاتُ الفَخر» جمعُ حَلْبَة، وهي الخيلُ تُجمَع للسّباق. و«السّوَق»، بفتح الواو، جمعُ سَوَقة، وهو مَن دونَ المَلِك

* * *


* وبعد الفقرة التي تنتهي بقوله عليه السلام «وإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ * أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا»، قال ابنُ أبي الحديد:
«هذا موضعُ المَثل (مَلْعاً يا ظليمُ وإلّا فَالتَّخوِيَة) [المَلْع: السَّيْرُ السّريع، ويُقال: خَوِيُّ الطّائر إذا أرسلَ جناحَيه. وهو مثلٌ بمعنَى هكذا، وإلّا فَلَا] مَن أرادَ أن يَعِظَ ويخوِّف، ويقْرَعَ صَفاةَ القلب، ويُعرِّفَ النّاسَ قَدْرَ الدّنيا وتَصرُّفَها بأهلها، فَلْيَأتِ بمثلِ هذه الموعظةِ في مثلِ هذا الكلامِ الفَصيح، وإلّا فَلْيُمسِك، فإنّ السّكوتَ أستَر، والعيُّ خيرٌ من منطقٍ يفضحُ صاحبَه. ومَن تَأمَّلَ هذا الفصلَ عَلِمَ صدقَ معاوية في قولِه فيه: «واللهِ ما سنَّ الفصاحةَ لقريشٍ غيرُه»، وينبغي لو اجتمعَ فصحاءُ العرب قاطبةً في مجلسٍ وتُلِيَ عليهم [نصّ هذه الخطبة] أن يَسجدوا له، كما سجدَ الشّعراءُ لقولِ عَدِيّ بن الرّقاع: قلمٌ أصابَ من الدّواةِ مدادَها فلمّا قيلَ لهم في ذلك، قالوا: إنّا نعرفُ مواضعَ السّجودِ في الشِّعر كما تعرفون مواضعَ السّجودِ في القرآن.
وإنّي لَأُطيلُ التّعجُّبَ من رَجلٍ يخطبُ في الحرب بكلامٍ يدلُّ على أنّ طبعَه مناسبٌ لطباعِ الأسودِ والنّمور وأمثالِهما من السّباع الضّارية، ثمّ يخطبُ في ذلك الموقفِ بعينِه إذا أرادَ الموعظةَ بكلامٍ يدلُّ على أنّ طبعَه مُشاكِلٌ لطباعِ الرّهبانِ لابسي المُسوح الذين لم يَأكلوا لحماً ولم يُريقوا دماً "..".
وَأُقسِمُ بمَن تُقسِمُ الأُمَمُ كلُّها به، لقد قرأتُ هذه الخطبةَ منذ خمسين سنةً وإلى الآن أكثرَ من ألفِ مرّة، مَا قَرَأْتُها قطُّ إلّا وَأَحدَثتْ عندي روعةً وخوفاً وعِظَةً، وَأَثَّرَت في قلبي وَجيباً، وفي أعضائي رعدةً، وَلا تأمّلتُها إلّا وَذكرتُ المَوتى من أهلِي وأقاربي وأربابِ ودِّي وخيّلتُ [كلّاً منهم] في نفسي، فقال: إنّي أنا ذلك الشَّخصُ الذي وصفَ عليه السلام حالَه.
وكَم قد قالَ الواعظون والخطباءُ والفصحاءُ في هذا المعنى، وكم وقفتُ على ما قالوه وتكرَّر وقوفي عليه، فلَم أجد لشيءٍ منه مثلَ تأثير هذا الكلامِ في نفسي..».

***


اخبار مرتبطة

نفحات