الملف

الملف

10/05/2013

موازنةٌ بين الاعتدال والاسترسال


 

الأمل وحركةُ الحياة
موازنةٌ بين الاعتدال والاسترسال
ـــــ آية الله الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين رحمه الله ـــــ


* رؤيةُ الإمام عليه السلام لحركةِ التّاريخ في المستقبل لا تقتصرُ على رؤية النَّكَبات والكوارث -كما توحي بذلك كَثرةُ النّصوص الحاكية عن ذلك في (نهج البلاغة)- وإنّما تشملُ البشائرَ أيضاً.
* الأملُ الكبيرُ الآتي الذي يبشِّرُ به الإمام عليه السلام يتمثّلُ في قيام ثورةٍ عالميّةٍ تصحِّحُ وضعَ عالم الإسلام، ومن ثمّ وضعَ العالم كلِّه، يقودها رجلٌ من أهل البيت هو الإمام المهديّ عليه السلام.
 


الإنسان يعيشُ في الحاضر مشدوداً بين وترَين: الماضي والمستقبل، فهو لا يَني يحملُ الماضي في وعيه، وفي ذاكرته، وفي تركيبِ جسده، مثقلاً بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآمالِه، مندفعاً بها نحو المستقبل، يضيءُ عينَيه نورُ الأمل الذي يغمر قلبَه بالحياة الأفضل. ولكنّه أملٌ معذّبٌ بالحَيرة، والقلق، والمخاوف من خَيبات الأمل.
وهذه الحقيقة بارزةٌ في تكوين وحياة الإنسان الفرد بوضوح، وهي لا تقلُّ وضوحاً في حياة الأمم والشّعوب والجماعات.
وقد وقف الإسلامُ في تعليمِه التّربويّ الإيمانيّ للأفراد في وجه المَيل إلى الإغراق في الأمل، لأنّه حين يشتدّ ويغلب على مزاج الإنسان يجعلُه غيرَ واقعيّ، ويحبسُه في داخل ذاته، وينمّي فيه الشّعور بـ «الأنا» على نحوٍ لا يعود الآخرون موضوعاً لاهتمامه وعنايته، أو يجعله قليلَ الاهتمام بهم، وهذا أمرٌ مرفوضٌ في دينٍ يجعلُ الاهتمامَ الشّخصيّ بالآخرين أحدَ المقوّمات الأساسيّة للشّخصيّة الإنسانيّة السّليمة، ولأنّ الإغراقَ في الأمل يحولُ بين الإنسان وبين كثيرٍ من فرَص كثيرة للتّكامل الرّوحيّ والأخلاقيّ، والنّصوص القرآنيّة في هذا الشّأن كثيرة، كذلك النّصوص النّبويّة الواردة في السُّنّة. وقد حفلت مواعظُ الإمام عليّ عليه السلام في (نهج البلاغة) بالتّحذير من الاسترسالِ مع الآمال.
وهذا لا يَعني -بطبيعة الحال- أنّ تأميلَ الإنسان في مستقبله -باعتدال وواقعيّة- ممارسةٌ غير أخلاقيّة في الإسلام، كيف وقد حذّر اللهُ تعالى في القرآن الكريم من اليأس، ونَهى عنه في آياتٍ تذكّرُ برحمة الله ورَوح الله، ومن ذلك تعليم يعقوب سلام الله عليه لبَنيه حين أمرَهم بالبحث عن يوسف وأخيه، وذلك كما ورد في قوله تعالى : ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف:87. ".."
والأملُ الموضوعيّ القائمُ على اعتباراتٍ عمليّةٍ تنبعُ من الجُهد الإنسانيّ، واعتباراتٍ عقيديّةٍ وروحيّة... هذا الأمل يشغلُ حيّزاً مهمّاً وأساسيّاً في تربية الله تعالى للبشريّةِ السّائرةِ في حياتها على خطّ الإيمانِ السّليم.
وقد اشتملَ القرآن الكريم على آياتٍ محكَمات تتضمّن وعدَ الله تعالى بالنّصر والعزّة لأهل الإيمان، وقادتِهم من الأنبياء والتّابعين لَهم بإحسان. ".."
وقد وجّهَ اللهُ تعالى في القرآن الكريم رسولَه محمّداً صلّى الله عليه وآله والمسلمين إلى أنّ الأملَ بالنّصر والحياة الأفضل يجبُ أن يبقى حيّاً نابضاً، دافعاً إلى العمل حتّى في أحلَكِ ساعاتِ الخذلان والهزيمة وانعدامِ النّاصر... لقد كانت الآمالُ بالنّصر تتحقّقُ في النّهاية على أروعِ صُوَرها حين يخالجُ اليأسُ قلوبَ أهل الإيمان، وحين يصلُ الرُّسُلُ الكرامُ إلى حافّة اليأس :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف:109-111.

**

إنّ الأمل الجَماعيّ بمستقبلٍ أكثر إشراقاً وأقلّ عذاباً، أو مستقبلٍ مترَعٍ بالفرح، خالٍ من المنغّصات... إنّ هذا الأمل يستندُ إلى وعدٍ إلهيّ. فهو، إذاً، ليس مغامرةً في المستقبل، وإنّما هو سيرٌ نحو المستقبل على بصيرة، وهو أملٌ يرفضُ الواقعَ التّجريبيّ الحافلَ بالمعوّقات نحو مستقبلٍ مثاليّ مشروطٍ بالعمل المخلصِ في سبيلِ الله. وفي سبيل الله تعالى بناءُ الحياة، وعمارةُ الأرض، وإصلاحُ المجتمع. كما أنّ هذا المستقبل مشروطٌ بالصّبر على الأذى في جَنبِ الله، والصّدق في تناول الحياة والتّعامل معها ومع المجتمع، والرّضا بقضاء الله تعالى.

**

والتّأمّلُ العميقُ الواعي في نصوص الكتاب الكريم والسّنّةِ الشّريفة التي تُفصح عن العلاقة بين الله عزّ وجلّ والإنسان، وتكشفُ عن طبيعة هذه العلاقة... كذلك التّأمُّل في الفقهِ المبنيِّ على هذَين الأصلَين... إنّ هذا التّأمّل يكشفُ عن أنّ العلاقة بين الله سبحانه والنّاس مبنيّةٌ على ثلاث حقائق ربانيّة؛ يقوم عليها وجودُ المجتمع البشريّ، وديمومتُه، ونموُّه وتقدُّمه :


الحقيقة الأولى: هي الإنعامُ المطلق غير المشروط بشيءٍ على صعيد الشّروط الماديّة للحياة، بما يكفلُ لها الدّيمومة والنّموَّ التّصاعديّ نحو الأفضل، فقد خلقَ الله تعالى الإنسان، وزوّدَه بالمواهب العقليّة والنّفسيّة والرّوحيّة التي تتيحُ له أن يتعاملَ مع الطّبيعة المسخَّرة له، وتمكِّنُه من اكتشاف خَيراتِها وكنوزها، ومعرفةِ قوانينها وتوجيهِ هذه الاكتشافات والمعارف لخدمة نفسه ونوعه.
الحقيقة الثّانية: هي الرّحمة التي كتبَها الله تعالى على نفسِه: ﴿..كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..﴾ الأنعام:12، والتي وَسِعَت كلَّ شيء: ﴿..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..﴾ الأعراف:156، وإقالةِ العَثرات -على صعيد الأُمم والجماعات والمجتمعات، والأفراد- والتّجاوز عن الخطايا والسّيّئات، ومنْح الفرَص المتجدّدة لتصحيح السّلوك، وتقويم الإعوجاج، والتّوبة والإنابة إلى الله تعالى، والعمل بقوانينِه وشرائعه. وهذه الحقيقة نابعةٌ من معادلةٍ تقابلُ بين حقيقتَين كونيّتَين :
أ- خيريّة الله الشّاملة المطلَقة.
ب- الحقيقة الموضوعيّة الثّابتة في الفكر الإسلاميّ، هي أنّ الإنسان خُلِقَ ضعيفاً. ﴿..وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء:28.
وما يخالف هذه الحقيقة من الآلام والكوارث فهو على قسمَين :
الأوّل: ناشئٌ عن عمل الطّبيعة وقوانينها، وهي قوانينُ تعمل، في غرضها الأقصى، لخيرِ الجنس البشريّ بصورة شاملة وغير مقيّدة بزمانٍ أو رقعةٍ جغرافيّة، وهذا ما يجعلُها قوانينَ عادلة، وإن أصابت بالآلام بعضاً من البشر في زمانٍ بعينِه أو مكان بعينِه.
وهذا بالنّسبة إلى الكوارث الطّبيعية التي تحصلُ بغير تدخّلٍ من الإنسان أو تقصيرٍ منه. أمّا ما يحدثُ في الطبيعة نتيجةً لعمل الإنسان نفسِه أو سلبيّتِه، أو عدم التزامٍ بالقوانين (في عصرنا الحاضر: تلويثُ البيئة، مثلاً، أو روح الاستغلال والعدوان في المجتمعات الصّناعيّة ضدّ العالم الثّالث، مثلاً )... هذا النّوع من الكوارث يدخلُ في القسم الثّاني التّالي.
الثّاني: ناشئٌ عن سوء اختيار الإنسان، واستعجالِه الخيرَ قبل توفُّرِ شروطِه ونُضجِها، ومن عدوان بعضِهم على بعض.
الحقيقة الثّالثة: هي البشارة من الله تعالى بأنّ أمورَ الحياة والمجتمع تصيرُ إلى أفضل وأحسن ممّا عليه في الحاضر. ولكنّ هذه البشارة لا تتحقّق بطريقةٍ إعجازيّةٍ مَحضة.
إنّ تحقيق البشارة يتمُّ وفاءً بالوعدِ الإلهيّ، ومن ثمّ فَفيها عنصرٌ غيبيٌّ غيرُ تجريبيّ، ولكنّ تحقيقَها مشروطٌ بالعمل البشريّ :﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ الإسراء:9.
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر:17-18.

**

من هذا المنطلق الثّابت في الفكر الإسلاميّ، ومن البشائر المحدَّدة في الكتاب الكريم والسُّنّة النّبويّة بفرجٍ شاملٍ آتٍ في النّهاية يملأُ الدّنيا عدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجَوْراً... من هذا المنطلق، ومن هذه البشائر، كان أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يرى نورَ الأمل في المستقبل، وكان يبشّر بأنّ فرجاً آتٍ لا ريبَ فيه .
إنّ حركة التّاريخ تقضي به، وإنّ وعد الله يقضي به، واللهُ تبارك وتَعالى لا يخلفُ الميعاد.
وقد كانت رؤية الإمام صلوات الله عليه لحركة التّاريخ في المستقبل لا تقتصرُ على رؤية النَّكَبات والكوارث -كما توحي بذلك كَثرة النّصوص الحاكية عن ذلك في (نهج البلاغة)- وإنّما تشملُ البشائر أيضاً ".." وكانت رؤيةُ الإمام دقيقةً، محدّدةً، مُضيئةً، واضحةَ المعالم، في نطاقِ الخطوط الكبرى والتيّارات الأساسيّة لحركة التّاريخ، وإن لم تشتمل على التّفاصيل، من ذلك هذا الشّاهد على رؤيته لحركة الثّورة العادلة التي لا تنطفئ مهما تكالبت عليها الرّياح الهُوج، فقد قال له بعضُ أصحابه، لمّا أظفرَه اللهُ تعالى بأصحاب الجمل: وددتُ أنّ أخي فلاناً كان شاهدَنا ليَرى ما نصرَك اللهُ به على أعدائك، فقال له الإمامُ عليه السلام: «أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَم. قَالَ عليه السلام: فَقَدْ شَهِدَنَا، ولَقَدْ شَهِدَنَا، فِي عَسْكَرِنَا هَذَا، أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ».
هذا الأملُ الكبير الآتي الذي يبشّر به الإمام عليه السلام يتمثّل في قيام ثورة عالميّة تُصحِّح وَضْعَ عالم الإسلام، ومن ثمّ وَضْعَ العالمِ كلِّه، يقودُها رجلٌ من أهل البيت هو الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشّريف. وقد وردت في (نهج البلاغة) نصوصٌ قليلةٌ نسبيّاً تحدِّدُ بعضَ ملامحِ هذا الأمل، فمن ذلك قولُه عليه السلام: «حَتَّى يُطْلِعَ اللهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُم، ويَضُمُّ نَشْرَكُم».
والعقيدةُ بالإمام المهديّ عليه السلام عقيدةٌ إسلاميّةٌ ثابتة، أجمعَ عليها المسلمون بأَسْرِهم، ودلَّ عليها القرآنُ الكريمُ في جملةِ آيات، والسّنّة الشّريفة في مئات الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام.

(الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين، التّاريخ وحركة التّقدّم البشريّ ونظرة الإسلام: ص 197 - 203)



اخبار مرتبطة

نفحات