الملف

الملف

07/06/2013

الحقيقةُ المحمّدِيّةُ في فكرِ الإمام الخمينيّ

 

الحقيقةُ المحمّدِيّةُ في فكرِ الإمام الخمينيّ

 

 

اِقرأ في هذا الملف

استهلال                                                    من (مصباح المتهجّد) للشّيخ الطّوسي

هكذا تحدّث الإمام الخمينيّ عن الحقيقـة المحمّديّـة          بقلم الشّيخ حسين كوراني

النّبوّات كلُّها مظاهرُ نبوّته                                 إعداد: أسرة التحرير

نماذج من فكر الإمام الخمينيّ:

( 1 ) مرتبةُ أهل البيت التي رتّبَهم اللهُ فيها
( 2 )
تفضيلُ الأئمّة على سائر الأنبياء، لمُحمّديّتِهم

( 3 ) الخلافة الكلّيّة الإلهيّة لأهل البيت عليهم السلام على كلِّ ذرَّات الوجود



استهلال

أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ محمّدٍ في الأوَّلِينَ. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحمَّدٍ في الآخِرِيْنَ. وصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الدِّين، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العَالَمين.
أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا هَدَيتَنا بِه. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا استَنْقَذتَنا بِه .
أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَما أَنْعَشْتَنا بِه. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَما أَحْيَيْتَنا بِه. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَما شَرَّفْتَنا بِه. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا أَعْزَزْتَنا به. أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَما فَضَّلْتَنا بِه.
أللّهُمّ إجْزِ نَبيَّنا محمّداً صَلّى اللهُ عَلَيه وَآلِه أفضلَ مَا أَنْتَ جَازٍ يومَ القيامةِ نَبِيّاً عَن أُمَّتِه وَرَسُولاً عَمَّن أَرْسَلْتَه إِلَيه. أللّهُمّ اخصُصْه بِأَفضلِ قِسَمِ الفضائلِ وَبَلِّغْهُ أَعْلَى شَرَفِ المَنازِلِ مِنَ الدَّرَجَاتِ العُلَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ في جنّاتٍ ونَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر.
أللّهُمّ أعْطِ مُحمّداً صَلّى اللهُ عَليه وَآلِه حتّى يَرضَى، وَزِدْه بعدَ الرِّضَا، وَاجْعَلْهُ أَكْرَمَ خَلْقِكَ مِنْكَ مَجْلِسَاً، وَأَعْظَمِهم عِنْدَك جَاهَاً، وَأَوْفَرِهِم عِنْدَكَ حَظَّاً فِي كُلِّ خَيْرٍ أَنْتَ قَاسِمُهُ بَيْنَهُم.
أللّهُمّ أَوْرِدْ عَلَيْهِ مِن ذُرِّيَّتِه وَأَزْوَاجِه وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ وَأُمَّتِهِ مَن تُقِرُّ بِهِ عَيْنَه، وَأَقْرِرْ عُيُونَنا بِرُؤْيَتِهِ، وَلا تُفَرِّقْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُ.
أللّهُمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَعْطِهِ مِنَ الوَسِيلَةِ وَالفَضيلَةِ وَالشَّرَفِ وَالكَرامَةِ مَا يَغْبِطُهُ بِهِ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَالنّبيّونَ وَالمُرسَلُونَ وَالخَلْقُ أَجْمَعُون .

***

 

هكذا تحدّثَ الإمامُ الخمينيّ عن الحقيقـة المحمّديّـة

 مبدأُ الظّهور وغايتُه، وصورةُ أصْلِ النّور ومادّتُه

ـــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــ

 

* المحمّدِيّةُ الحسينيّة، محمّدِيّةُ الحسَين، الحسينيّةُ المحمّدِيّة، حسينٌ منّي وأنا من حسين -لا فَرق- هويّةُ أبي مصطفى ومنهجُه التّوحيديّ والعقيديّ والفقهيّ والعِرفانيّ والجهاديّ ببُعدَيه الأكبر والأصغر.

* ما يلي، تعريفٌ بمنَهج الإمام الخمينيّ قدّس سرّه في التّعامل مع حقائقِ الاعتقاد برسولِ الله صلّى الله عليه وآله، وأهلِ البيت عليهم السلام.

 

المدخلُ الضّرورة –في هذا العصر- إلى معرفةٍ أفضلَ للمُصطفى الحبيب وآله الأطهار هو فكرُ الإمام الخمينيّ ونهجُه الذي عُرف باسم «خطّ الإمام».

مع الإمام الخمينيّ يتّخذُ الحديث عن رسول الله وعن أهل البيت صَلّى الله عليه وعليهم، منحًى آخر، يختلفُ جذريّاً عن نتاجِ الفكر الذي أفرزَتْه الغارةُ على العالم الإسلاميّ، ليتواصَلَ هذا المَنحى المعاصرالأصيل، مع نهج علمائنا الأبرار، في كلّ عصر سواءً مَن استطاعَ منهم أن يُسمِعَ الآخرين صوتَه، أم مَن لم يستطع رغم كلِّ الجهود المشكورةِ التي بُذِلَت.

مع الإمام الخمينيّ العارف، الفقيه، والمجاهد، والحاكم، أُعيد الاعتبارُ للغةٍ كانت تُتَّهَمُ في كثيرٍ من أوساطنا -بغير حقّ- بأنّها لغةُ عصور الانحطاطِ التي تكوّنت نتيجةَ عاملَين:

أ) الثّقافات الوافدة: أدّى عدمُ قدرةِ البعض على محاكمةِ الوافد من الثّقافات المترجمة، والهنديّة والفارسيّة منها بالخصوص، إلى التّأثُّر بها والصّدور منها.

ب)  أجواءُ القمع والتَّنكيل: كانت نتيجة ردّة الفعل على القمع والمطاردة، أنْ تجلّت في هذه اللّغة شَطَحاتُ التّأليه، فإذا بالحديث عن النّبيّ أو الإمام والمعصوم عموماً -بحسب هذه الأوساط المتّهمة المتجنّية- حديثُ غُلُوٍّ وانحراف.

بإعادة الاعتبار الخمينيّة هذه، أصبح بالإمكان رَدْمُ الهُوّة التي أُقيمت بين الأُمّة والمعصوم وبين الأُمّة والنّصّ، ليشكّلَ هذا النّهجُ وسيلةَ تَواصُلِ حاضر الأمّة مع صدرِ الإسلام والتّمهيد الجادّ لظهورِ بقيّة الله في الأرَضين أرواحُنا لتراب مَقْدَمِه الفداء.

وما زال الأمرُ بحاجةٍ إلى الكثير من الجهود المُضنية.

مع الإمام العارف أصبحَ بالوسع الحديث دون حذَر -وليس مطلَقاً- عن الحقيقة المحمّدِيّة، والإنسان الكامل، والعقل الكلّيّ، والنّور الأوّل، والدّورة المحمّدِيّة وأنّها بمعنًى هي «ليلةُ القدر» وبمعنًى آخر «ليلةُ القدر» هي الزّهراء عليها السلام. وأصبح بالإمكان الحديث عن الرّوحانيّة المحمّدِيّة والعلويّة عليهما وعلى آلهما الصّلاة والسّلام، وغير ذلك ممّا يرجع كلُّه إلى القرآن الكريم والثّابت من الحديث الشّريف، إلّا أنّه أصبحَ غريباً مغيّباً مُستَهجناً، ونوعاً من «الغنوصيّة» والخرافة.

 

مع عبد الله المسدّد أبي مصطفى صارَ ممكناً للبعض أن يُصغوا بعضَ الشّيء إلى هذه اللّغة، التي كتبَ بها الإمام عام 1354 للهجرة، فقال:

«وَصَلِّ اللّهمَّ على مبدأ الظّهورِ وغايتِه، وصورةِ أصلِ النّور ومادّتِه الهَيولى الأولى والبرزخِ الكُبرى [كذا]، الذي دَنا فرفضَ التّعيُّنات فتَدّلى فكان قابَ قوسَي الوجود، وتمامَ دائرةِ الغيب والشّهود، أو أدنى الذي هو مقامُ العَماء، بل لا مقامَ هنا على الرّأي الأسنى، وعلى آلِه مفاتيحِ الظّهور ومصابيحِ النّور، بل نورٌ على نورٍ، غصنِ الشّجرةِ المباركةِ الزّيتونة، والسّدرةِ المنتهى، وأصلِهما، وجنسِ الكون الجامع والحقيقةِ الكليّة، وفصلِهما، لا سيّما خاتم الولاية المحمّديّة، ومَقْبض فيوضاتِ الأحمديّة، الذي يظهرُ بالرّبوبيّة بعد ما ظهرَ آباؤه عليهم السلام بالعبوديّة، فإنَّ العبوديّةَ جوهرةٌ كُنْهُها الرّبوبيّة، خليفة الله في المُلك والملكوت، وإمام أئمّة قُطّان الجَبروت، جامع أحديّة الأسماء الإلهيّة، ومظهر تجلّيات الأوّليّة والآخريّة، الحجَّة الغائب المنتظَر، ونتيجة مَنْ سلفَ وغَبَر، أرواحنا له الفداء وجعلَنا اللهُ من أنصاره». (من إجازة الإمام الفلسفيّة للميرزا جواد الهمدانيّ عام 1354 هجريّ قمريّ، صحيفهء نور: ج 1، ص 4-5-6، والنّصّ في الأصل بالعربيّة).

ولا أبالغُ أبداً إذا قلتُ لولا الإمام الخمينيّ لما كان باستطاعتِنا الحديثُ عن كثيرٍ من مفاهيمِ الولاية، التي ذهبَ كثيرون ضحايا سوءِ الحديث عنها.

***

 

كان أبو مصطفى قد حدّدَ هويّتَه والمنهجَ حين قالَ بإيجاز: «كلُّ ما عندنا من عاشوراء».

المحمّدِيةُ الحسينيّة، محمّدِيّةُ الحسين، الحسينيّةُ المحمّدِيّة، حسينٌ منّي وأنا من حسين –لا فَرق- هويّةُ أبي مصطفى ومنهجُه التّوحيديّ والعقيديّ والفقهيّ والعِرفانيّ والجهاديّ ببُعدَيه الأكبر والأصغر.

أبو مصطفى محمّدِيٌّ أوّلاً وآخراً منطلَقاً ومساراً، تَوَقُّدَ عقل، و تَوَهُّجَ خَلجات، وحَرَمَ قلبٍ.

فيضُ حبِّه والعشق: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ آل عمران:31.

وفي غاية البَداهة أن يحول بينَنا وبين إدراك أبعاد محمّدِيّة أبي مصطفى، صنمُ ما ألِفنا من تحجيمِ العصمة والمعصوم، بما يمثِّلُه هذا الصّنمُ من أسوإ نتائج الغارة الثّقافيّة التي شُنّت على هذه الأمّة فكان بعضُ إفرازاتها الاستعمارُ المستمرُّ المُطبِق، ما خلا واحاتِ التّحرُّر والنّور، فرديّةً وجماعيّة.

أَوَلَسنا محمّدِيّين؟!

بلى.. إلّا أنّ حاجتَنا إلى «خطّ الإمام» في البُعد العقائديّ هي التي تُحتِّمُ حاجتَنا إليه في الأبعاد الثّلاثة: التّزكية والسّياسة والثّورة. أي: التّربية والعمل الحركيّ والتّحرُّر.

من البُعد العقائديّ تبدأُ رحلةُ التّوثّبِ الخمينيّة في محرابِه الذي يتّسعُ عندَه ليستوعبَ الكونَ الأكبرَ من الدّنيا والجنّة، لأنّه من حقيقة رضوان الله تعالى: ﴿..وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ..﴾ التوبة:72.

يرى الإمامُ أنّ المحرابَ ساحةُ الحرب على الشّيطان.

وعندما تضربُ لَوثةُ تحجيمِ الإنسان للإنسان، فبديهيٌّ أن يفتكَ به مرضُ «البُعد الواحد» فيغرقَ في حَمْأَة «الأنا»: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ الفرقان:43.

ومَن اتّخذ إلَهه هواه، لن يعرفَ نفسَه، فكيف يعرفُ خيرَ خَلْق الله تعالى، فضلاً عن أن يتّبعه، ويُحسنَ الاقتداء، فيعرفَ ربّه عّز وجلّ ويخشعَ في محراب عظَمته جلّت قدرتُه متّخذاً موقعَه في منظومةِ تسبيح الله تعالى: ﴿..وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ الإسراء:44.

سيَشدُّه الإخلادُ إلى الأرض والحمإ المسنونِ بألفِ وثاق إلى التّعامل مع العصمةِ والمعصوم بما يتناسب مع قُمقم «الأنا» الذي يجعلُه في أحسن حالاته بُلبلاً سجينَ القَفص يغرِّدُ خارجَ سِربِه، يخاطبُه الشّاعرُ بقولِه:

يا بلبلَ القفصِ المُطِلِّ، وشاعرَ الرَّوضِ الأَغَنِّ

ما كان ظنّي أن أراكَ مغنّياً ما كان ظنّي

تَشدو وأنتَ بمحبَسٍ، وأنا أنوحُ بمُطْمَئََنِّ

أَتَصَاغَرَتْ للسّجنِ نفسُك فَهْي من طَرَبٍ تُغنّي

وتَعاظمَتْ نفسي عَلَيَّ فـَخِلْتُ هذا الكونَ سِجنِي

يحدِّدُ الإمامُ الخمينيّ النّقطةَ المركزيّةَ التي تضربُ بُنْيةَ الإنسان فإذا به مقيمٌ على الهَوان، لا يفكِّرُ بالتّحليق في عوالم الأنفُس والآفاق، يضعُ سقفاً للمعصوم متناسباً مع حجمِه هو، الذي أَلِفَه واستمرَأَه –يحدّدُ الإمامُ النّقطةَ المركزيّةَ لذلك- بما يُسمّيه «إنكار المقامات» ويقصدُ به ما يشمل: ضعفَ الإيمانِ بالغَيب، وإنكارَ المغيّباتِ التي قامَ عليها الدّليل، لمجرّدِ أنّها لا تنسجمُ مع ما يظنُّه العقلَ وليس إلّا الشّيطنةَ والنّكراء، أي أنّه يشملُ التّفسيرَ المادّيّ البَحْتَ للأمور، الذي يعني التّنكُّرَ للعقل السّليم بحجّةِ العقلانيّة والحَداثة والتّحضُّر، ولا يختلفُ إطلاقاً عن فَهم اللّفظ مجرّداً من المَعنى، أو فهم الإنسان جسداً لا روحَ له وبالتّالي لا مشاعرَ ولا أحاسيس.

مقاماتُ الإنسان عَزَماتُ فكره وإرهافِ الحسّ وتوهُّجِ المشاعر وتلاطُمِ أمواج المَعنى.

يقولُ الإمام:

 

«بُنَي: إنْ لم تكن من أهل المقاماتِ المعنويّة، إسعَ أن لا تُنكِر المقاماتِ الرّوحانيّةَ والعرفانيّة، لأنّ الإنكارَ من أخطر مكائد الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء التي تصدُّ الإنسانَ عن بلوغِ جميع المراتب الإنسانيّة والمقامات الرّوحانيّة. وهو يدفعُ الإنسان إلى إنكار السّلوك إلى الله والاستهزاء به أحياناً، ممّا يجرُّ إلى الخصومة والمعاداة لهذا الأمر. وبهذا فإنّ ما جاء به جميعُ الأنبياء العظام صَلَوات الله عليهم والأولياء الكرام سلام الله عليهم والكُتب السّماويّة خصوصاًً القرآن الكريم، كتاب بناءِ الإنسان الخالد، ستموتُ قبلَ أن تُولد». (وصايا عرفانيّة: ص 15-18).

في رسالتِه إلى زوجة ابنِه السّيّدة فاطمة الطّباطبائيّ:

«أريد أن لا تُنكري أهلَ المعنى والمعنويّة، تلك المعنويّة التي وردَ ذِكرُها في الكتاب والسُّنّة، والمخالفون تجاهلوها أو تجاهلوهما أو اعتمدوا التّبريرات العاميّة.

وأنا أُوصيكِ أنّ الخطوة الأولى هي الخروجُ من حجاب الإنكار السّميك الذي يمنعُ من أيّ نموّ وأيّة خطوة إيجابيّة، وهذه الخطوة –الخروج من حجاب الإنكار– ليست كمالاً، إلّا أنّها تفتحُ الطّريقَ نحو الكمال، كما أنّ اليَقَظة التي تُعتَبر في منازل السّالكين المنزلَ الأوّل لا يُمكن حسابُها من المنازل، بل هي مقدّمةٌ وفتحٌ للطّريق إلى سائر المنازل.

على كلِّ حال لا يُمكِنُ مع روح الإنكار الاهتداءُ إلى طريقٍ يوصِلُ إلى المعرفة، أولئك الذين يُنكرون مقاماتِ العارفين ومنازلَ السّالكين، فلأنّهم أنانيّون مغرورون، فكلُّ ما لا يعرفونه لا يحملونه على جهلِهم (لا يقولون قد يكونُ صحيحاً ولكنّا نجهلُه) فيُنكرونه حتّى لا تُخدَشَ أنانيّتُهم ويُخدَشَ عُجبُهم (بأنفسهم) "نحن في الأصنام، الصّنمُ نفسُك (صدر بيت لمَولوي. الدفتر الأول)" وما لم تتمّ إزالةُ هذا الصّنم والشّيطان القويّ من الطّريق فلا سبيلَ إليه جلّ وَعَلا، وهيهات أن يُكسَرَ هذا الصّنم، ويروَّض هذا الشّيطان».

«الهدف ممّا ذكرتُه لكَ -رغم أنّي لا شيء، بل أقلُّ حتّى من اللّاشيء- أن ألفتَ نظرَكَ إلى أنّكَ إنْ لم تبلغ مقاماً ما فلا تُنكر المقاماتِ المعنويّة والمعارفَ الإلهيّة، وكُن من أولئك الذين يُحبّون الصّالحين والعارفين، وإنْ لم تَكُن منهم. ولا تغادِر هذه الدّنيا وأنتَ تُكِنُّ العداءَ لأحبابِ الله تعالى». (المصدر نفسه).

ولأنّ مَن يُنكر المقاماتِ فلن يكونَ بوسعِه أن يعرفَ مرتبةَ المؤمنِ العاديّ فضلاً عن الشّهيد فأنّى له بإدراكِ سفحِ قمّةِ المعصوم. لأجلِ ذلك نجدُ الإمامَ الخمينيّ يدخلُ من هذه النّقطة بالذّات إلى أعظم معجزات الحقيقة المحمّدِيّة –القرآن الكريم– ليقول:

«القرآنُ الكريم، كتابُ معرفة الله وطريقِ السّلوك إليه تعالى، حُرِّف على أيدي الأصدقاء الجَهَلة ".." وعُزل جانباً، جعلوا يُصدرون عنه الآراء المُنحرفة، ويفسّرونه بالرّأي -الأمر الذي نَهى عنه جميعُ أئمّة الإسلام عليهم السلام- وراح كلٌّ منهم يتصرّفُ فيه بما تُمليه نفسانيّتُه.

لقد نزل هذا الكتابُ العظيمُ في عصرٍ وفي محيطٍ كان يمثِّلُ أشدَّ حالاتِ الظّلام، كما نزلَ بين قومٍ يعيشون في أشدِّ حالاتِ التّخلُّف وقد أُنزِلَ بواسطةِ شخصٍ وعلى قلبٍ إلهيٍّ لشَخصٍ كان يعيشُ في ذلك المحيط، ولقد تضمّنَ القرآنُ الكريمُ حقائقَ ومعارفَ لم تكن معروفةً آنذاك في العالَم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزلَ فيه.

إنّ من أعظمِ وأسمَى معاجزِ القرآن الكريم هذه المسائل العرفانيّة العظيمة التي لم تَكُن معروفةً لدى فلاسفةِ اليونان، فقد عَجِزَت كُتُبُ أرسطو وأفلاطون -أعظمِ فلاسفة تلك العصور- عن بلوغِها، حتّى أنّ فلاسفةَ الإسلام الذين تَرعرعوا في مهدِ القرآن الكريم، وانتهَلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويلِ الآيات التي صرّحت بحياةِ الموجودات في العالَم مثلاً، والحال أنّ عرفاءَ الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه منه، فكلُّ شيءٍ أخَذوه من الإسلام ومن القرآن الكريم».

 

العرفانُ في القرآن

 

«المسائلُ العرفانيّةُ الموجودةُ في القرآن الكريم ليست موجودةً في أيّ كتابٍ آخَر. وإنّها لَمُعجزةُ الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، إذ كانت معرفتُه بمبدأ الوحي بحيث يكشفُ له أسرارَ الوجود، وكان هو صلّى الله عليه وآله، بدوره يرى الحقائقَ بوضوح ودون أيّ حجاب، وذلك بعروجِه وارتقائه قمّةَ كمال الإنسانيّة. وفي الوقت ذاته كان صلّى الله عليه وآله، حاضراً في جميع أبعاد الإنسانيّة ومراحل الوجود، فمَثَّلَ بذلك أسمَى مظهرٍ لـ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾ الحديد:3، كما سَعى إلى رفع جميعِ النّاس للوصول إلى تلك المرتبة، وكان يتحمّلُ الآلامَ والمعاناةَ حينَ يراهم عاجزين عن بلوغِ ذلك، ولعلَّ قولَه تعالى: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ طه:1-2، إشارةٌ خفيّة إلى هذا المَعنى، ولعلّ قولَه صلّى الله عليه وآله: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَمَا أُوْذِيْتُ" يرتبطُ أيضاً بنفس المعنى».

 

في قلب المُجْتَلَد

 

«إنّ أولئك الذين بَلغوا هذا المقامَ أو ما يماثلُه، لا يختارون العِزلةَ عن الخَلْق أو الانزواء، فَهُم مأمورون بإرشادِ الضَّالين وهدايتِهم إلى هذه التّجلّيات، وإنْ كانوا لم يُوَفَّقوا كثيراً في ذلك.

أما أولئك الذين بَلَغوا مرتبةً ما من بعضِ هذه المقامات وغابوا عن أنفسِهم بارتشافِ جُرْعَةٍ ما، وظلّوا بذلك في مقامِ الصَّعق، فإنّهم وإنْ كانوا قد حازوا مرتبةً ومقاماً عظيمَين، إلّا أنّهم لم يبلغوا الكمالَ المطلوب.

لقد خرَّ موسى الكليمُ بحالِ الصَّعْقِ نتيجةَ تجلّي الحقّ، وأفاقَ بعنايةٍ إلهيّةٍ خاصّة، ثم أُمِرَ بتحمُّل أمرٍ ما، وكذا فإنّ خاتَم النّبييّن الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، قد أُُمِر [مع] بلوغِه قمّةَ مرتبةِ الإنسانيّة -وما لا تبلغُه الأوهامُ من مظهريّة الإسم الجامع الأعظم- بهدايةِ النّاس حيثُ خاطبَه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِر﴾ المدّثّر:1-2».

 

***

 

 

 

 

الحقيقةُ المحمّديّةُ في نماذج من كلماتِ الإمام الخمينيّ قدس سرّه 

( 1 )

النُّبوّات كلُّها مظاهرُ نُبوَّتِه

 لا نُبوّةَ ولا ولايةَ ولا إمامة، إلّا نبوّتُه وولايتُه وإمامتُه

ـــــ إعداد: أسرة التّحرير ـــــ

 

* الولايةُ الأحمديّة الأَحَدِيّةُ الجمعيّةُ مظهرُ الإسم الأَحَدِيّ الجَمعيّ، وسائرُ الأولياء مظاهرُ ولايتِه ومحالُّ تجلّياته، وكلُّ دعوةٍ دعوةٌ هي إليه، بل دَعوتُه.

 

اِعلم أنّ العبدَ السّالكَ إلى الله بقَدمِ العبوديّة إذا خرجَ من بيتِ الطّبيعة مهاجراً إلى الله وجذبَه الجَذَباتُ الحُبِّيّة السّريّة الأزليّة، وأحرقَ تعيُّناتِ نفسيّتِه بقَبساتِ نارِ الله من ناحيةِ شجرةِ الأسماء الإلهيّة، فقد يتجلَّى عليه الحقُّ بالتّجلي الفعليّ النّوريّ أو النّاريّ أو البَرزخيّ الجمعيّ حسبَ مقامِه في الحضرةِ الفيضِ الأقدس، ففي هذا التّجلي يرى بعينِ المشاهدةِ من منتهى نهايةِ عرش الشُّهودِ إلى غايةِ قصوى غيبِ الوجود، تحتَ أستار تجلّياتِه الفعليّة فيَفنى عينُ العالَم في التّجلي الظّهوريّ عندَه، فإذا تمكّنَ في المقام واستقامَ وذهبَ عنه التّلوين، يصير الشّهودُ تحقّقاً في حقِّه، فيَصير اللهُ سَمْعَه وبَصَرَهُ وَيَدَهُ كما في الحديث، وهذا حقيقةُ قُرب النّوافل فيصير العبدُ مخلَّعاً بخِلعة الولاية، فيكون حقّاً في صورة الخَلق فيظهر فيه باطنُ الرّبوبيّة التي هي كُنْهُ العبوديّة وتصير العبوديّةُ باطنَه، وهذا أوّلُ منازل الولاية.

واختلافُ الأولياء في هذا المَقامِ والمقامات الأُخَر حسب اختلاف الأسماء المتجلّية عليهم، فالوليُّ المُطلَق مَن ظهرَ عن حضرة الذّات بحسب المقام الجمعيّ والإسم الجامع الأعظم ربُّ الأسماء والأعيان، فالولايةُ الأحمديّةُ الأحديّةُ الجمعيّةُ مظهرُ الإسم الأَحَدِيّ الجَمعيّ، وسائرُ الأولياءِ مظاهرُ ولايتِه ومحالُّ تجلّياته، كما أنّ النبوّات كلَّها مظاهرُ نبوّتِه، وكلّ دعوةٍ دعوةٌ إليه، بل دعوتُه، فكما أن لا تجلّي أَزَلاً وأبداً إلّا التّجلي بالإسم الأعظم وهو المحيطُ المُطلَقُ الأَزَلِيُّ الأَبَدِيّ كذلك النّبوّات كلّها مظاهرُ نبوّتِه لا نبوّةَ ولا ولايةَ ولا إمامةَ إلّا نبوّته وولايتُه وإمامتُه، وسائرُ الأسماء رَشَحاتُ الإسمِ الأعظم وتجلّياته الجماليّة والجلاليّة وسائرُ الأعيان رَشَحاتُ العين الأحمديّ وتجلّياتُ نورِه الجماليّ والجلاليّ واللُّطفيّ والقَهريّ، فاللهُ تعالى هو الهُوَ المُطلَق وَهُو الوليُّ المُطلَق، ونحن بحمدِ الله وحُسن توفيقِه أفرَدنا رسالةً عزيزةً  [كتاب: مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية] في هذا المَقصد الأَسنى والمقصودِ الأعلى والصّلاةُ عليه وآله.            (تعليقاتُ الإمام على فُصوص الحِكم لابن عربيّ: ص 22)

***

 

مرتبةُ أهل البَيت الّتي رتّبَهم اللهُ فيها

الإمام الخمينيّ: لم يعرف حقائقَهم، غيرُهم عليهم السلام

* حيث يكونُ الحديثُ عن مقام آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله تغدو المعاني صعبةَ الإدراكِ بعيدةَ المنال.

* ما يلي، مقتطفٌ بتصرّف من كتاب (أهل البيت في فكر الإمام الخمينيّ قدّس سرّه).*

 يقولُ أميرُ المؤمنين عليه السلام: «فَمَن ذا ينالُ معرفتَنا، أو بيانَ درجتِنا، أو يشهدُ كرامتَنا، أو يدركُ منزلتَنا؟ حارتِ الألبابُ والعقول، وتاهتِ الأفهامُ في ما أقول، تصاغرتِ العظماءُ، وتقاصرتِ العلماءُ، وَكَلَّتِ الشّعراءُ، وَخَرِسَتِ البُلغاءُ، وَأَلْكَنَتِ الخطباءُ، وعجزتِ الفُصحاءُ، وتواضعتِ الأرضُ والسّماءُ عن وصفِ شأنِ الأولياء... جلَّ مقامُ آلِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله عن وصفِ الواصفين، وَنَعْتِ النّاعتين، وأن يُقاسَ بهم أحدٌ من العالَمين».

ولقد عبّر الإمامُ الخمينيّ قدّس سرّه في أكثر من موضع أثناء أبحاثه العرفانيّة والأخلاقيّة عن العجز وعدم القدرة لدى أيّ إنسان للإحاطة بحقيقتِهم لمعرفة منزلتِهم عليه السلام والوقوف على أسرارهم إلّا أنفسُهم عليهم السلام.

يقول قدّس سرّه: «إنّ مقام هؤلاء الأولياء عليهم السلام أسمى وأرفع من أن تنال آمالُ أهلِ المعرفة أطرافَ كبرياء جلالِهم وجمالِهم، وأن تبلغَ خطواتُ معرفة أهل القلوب ذروةَ كمالِهم ".." إنّ لأهلِ بيتِ العصمة والطّهارة صلوات الله عليهم مقاماً روحانيّاً شامخاً، في السّير المعنويّ إلى الله، يفوق قدرةَ استيعابِ الإنسان حتّى من النّاحية العلميّة، وأسمى من عقول ذَوي العقول وأعظم من شهود أصحاب العرفان». ولم يَقف أحدٌ على حقائقِهم وأسرارِهم صلوات الله عليهم إلّا أنفسُهم عليهم السلام، معتبراً «أنّ أرقى ما يصلُ إليه الذي يصفُ نبذةً من مقام الولاية لهم هو كَوصفِ الخفّاش الشّمسَ المضيئةَ للعالَم..».                                               (الأربعون حديثاً: ص 597-604-605)

***

ما هي المرتبة التي تحدّث عنها قدّس سرّه معرباً من خلالها عن صميم نظرتِه الإلهيّة لهم وكاشفاً النّقاب عن أمورٍ جهلَها الكثيرون من أهل الزّمان؟

بالإمكان إيجازُها على الشّكل التالي:

1- ظاهرُهم الولاية وباطنُهم النّبوّة

جاء في مقدّمة (شرحه لدعاء السَّحَر) ما هو صريحٌ في هذا المَعنى، حيث قال قدّس سرّه:

«مفتاحُ الدّائرة ومختتمُها، ومؤخّر السّلسلة ومقدّمُها، محمّدٌ صلّى الله عليه وآله المصطَفين من الله، الذين بهم فتحَ الله وبمعرفتِهم عُرِفَ الله، الأسبابِ المتّصلة بين سماء الإلهيّة وأراضي الخلقيّة، الظّاهرِ فيهم الولاية، والباطنِ فيهم النّبوّة والرّسالة، الهادين بالهداية التّكوينيّة سرّاً والتّشريعيّة جَهراً، الآيات التّامات، الأنوار الباهرات».

2- عندَهم (رُوحُ القُدُس)

أثناء حديثِه عن نورانيّتهم عليهم السلام التي يفتقرُ الإنسانُ في إدراكِها إلى نورانيّةٍ باطنيّة، ينتهي قدّس سرّه إلى شرحِ مقامِ (رُوح القُدُس) الذي هو عبارةٌ عن المكانة والقدرة والإحاطة التي لم يَصل إليها أقربُ المقرّبين من ملائكة الله تعالى كجِبرائيل عليه السلام، فيقول قدّس سرّه: «إنّ لهم مقاماً شامخاً من الرّوحانيّة يُدعي بـ (رُوح القُدُس)، من خلاله يتمتّعون بالإحاطة القيّوميّة لجميعِ الكائنات حتّى ذرّاتِها الصّغيرة جدّاً، ولا توجَد فيها الغفلةُ والنّومُ و[السّهو] والنّسيان وكافّة الحوادث والتّغيّرات والنّقائص المُلْكيّة، بل تكون من عالم الغَيب المجرّد، والجَبروت الأعظم.. إنّ تلك الرّوح المجرّدة الكاملة، أعظم من جِبرائيل ومِيكائيل عليهما السلام رغم أنّهم أعظمُ القاطنين في مقام قُرب الجَبروت».

3- شركاءُ النّبيّ صلّى الله عليه وآله في مقامِه

يقول قدّس سرّه: «يُستفاد من الأحاديث الشّريفة أنّهم صلوات الله عليهم يشاركون الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله في مقام الرّوحانيّة، وأنّ أنوارهم المطهّرة كانت تسبّحُ وتقدّسُ للذّات المتَعال قبلَ خَلْقِ العالَم».

جاء في الحديث عن المفضّل أنّه قال: «قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: كيفَ كُنتم حيثُ كُنتم في الأَظِلَّة؟ فقال: يا مفضّل، كنّا عند ربّنا، ليس عندَه أحدٌ غيرُنا في ظلّةٍ خضراء، نسبّحه ونقدّسه ونهلِّلُه ونُمجّده، وما من مَلَكٍ مقرّب ولا ذي روحٍ غيرِنا حتّى بَدا له في خَلْقِ الأشياء فخلقَ ما شاءَ من الملائكة وغيرِهم ثمّ أنهى علمَ ذلك إلينا».

ويقول قدّس سرّه: «وهم عليهم السلام من جهة الولاية متّحدون، أوّلنا محمّد، أوسطُنا محمّد، آخرُنا محمّد، كلّنا نورٌ واحد».

4- لديهم «الاسمُ الأعظَم»

يقول قدّس سرّه: «إنّ الأحاديث المنقولة في طِينةِ أبدانِهم وخَلْقِ أرواحِهم ونفوسِهم وفي ما مُنحوا من الإسم الأعظم والعلومِ الغَيبيّة الإلهيّة من علومِ الأنبياء والملائكة، وممّا هو أعظمُ ممّا لا يخطرُ على بالِ أحد».

ويؤكّدُ على ثبوت ذلك لهم عليهم السلام في موضعٍ آخَر من كلامِه أثناءَ الحديثِ عن الاسمِ الأعظَم في مقام الألوهيّة وتجلّيه ضمنَ (شرح دعاء السَّحَر)، قائلاً:

 «لا يتجلّى هذا الاسم [الأعظم] بحسبِ الحقيقة تامّاً إلّا لنفسِه ولمَن ارتضى من عبادِه، وهو مظهرُه التّامّ، أي صورة الحقيقة الإنسانيّة التي هي صورةُ جميع العوالم وهي مربوبُ هذا الاسم، وليس في النّوع الإنسانيّ أحدٌ يتجلّى له هذا الاسم على ما هو عليه إلّا الحقيقة المحمّديّة صلّى الله عليه وأوليائه الذين يتّحدون معه في الرّوحانيّة، وذلك هو الغَيبُ الذي استَثنى منه مَن ارتضى من عبادِه. وفي رواية (الكافي): وَاللهِ لَمُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله ممّن ارتضَى من عبادِه».

5- مقاماتُ النّبيّ وآله عليهم السلام لا يبلغُها نبيٌّ مرسَل ولا ملَكٌ مقرّب

هناك أمران يشدّد الإمام قدّس سرّه على معرفتِهما والتّمسّك بهما حولَ رؤيتِه لأهل بيت العصمة عليهم السلام بحيث إنّ إنكارَهما يؤدّي إلى خَلَلٍ عقيديّ والانحرافِ عن الأصول أو الضّروريّات التي تؤدّي إلى الانخراط في زُمرة الضّالّين عن طريق الهداية والاستقامة والثّبات:

الأمر الأوّل: أنّه لا يَصِلُ أحدٌ إلى المَراتب المعنويّة التي هي لأئمّتنا الأبرار صلوات الله عليهم، حيثُ لا يُمكن ذلك لأيٍّ كان سواء كان نبيّاً مرسَلاً (باستثناء خاتَم الأنبياء صلّى الله عليه وآله) أو مَلَكاً مقرّباً، ويعتبر قدّس سرّه أنّ هذا الأمر من ضروريّات المَذهب.

يقول قدّس سرّه: «وإنّ من ضروريّات مذهبِنا أنّ لأئمّتنا مقاماً لا يبلغُه مَلَكٌ مقرّب ولا نَبيٌّ مُرسَل، وبموجبِ ما لدينا من الرّوايات والأحاديث فإنّ الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام كانوا قبلَ هذا العالَم أنواراً فجعلَهم بعرشِه مُحدِقين وجعلَ لهم من المنزلةِ والزُّلفى ما لا يعلمُه إلّا الله، وقد قالَ جبرائيلُ عليه السلام كما ورد في روايات المعراج: "لو دنوتُ أنملةً لاحتَرقتُ"، وقد وردَ عنهم عليهم السلام: "إنّ لنا مع الله حالات لا يَسَعُها مَلَكٌ مُقَرّب ولا نَبِيٌّ مرسَل"».

الأمر الثّاني: أنّ هذه المقامات بأجمعِها ثابتةٌ لسيّدة نساء العالَمين صلوات الله عليها. فمَن يعتقدُ خلافَ ذلك يعتبرُه الإمام قدّس سرّه خارجاً عن مذهب الحقّ. يقول قدّس سرّه: «كما أنّ هذه المقامات المعنويّة ثابتةٌ للزّهراء عليها السلام مع أنّها ليست بحاكمٍ ولا خليفةٍ ولا قاضٍ، فهذه المقاماتُ شيءٌ آخر غير وظيفة الحكومة ... ولذا عندما نقول إنّ الزّهراء عليها السلام ليست بقاضٍ ولا خليفة، فهذا لا يعني أنّها مِثلي ومثلُكم، أو أنّها لا تمتازُ عنّا معنويّاً ... إنّ فاطمة عليها السلام إنسانٌ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. لو كانت رجلاً لكانت مكانَ رسول الله صلّى الله عليه وآله».

وإضافةً إلى ضرورة هذه المقاماتِ لها فَهي صلوات الله عليها على وجهٍ خاصٍّ كان لها ما لم يَكن لغيرِها. فيجدرُ بنا أن نتعرّف على قراءة الإمام قدّس سرّه لمقامِها المعنويّ:

6- المقامُ المعنويّ للزّهراء عليها السلام

يقول قدّس سرّه: «إنّني أعتبرُ نفسي قاصراً عن التّحدّث حول الصّدّيقة سلام الله عليها، وأكتفي بذكرِ روايةٍ واحدةٍ وردت في (الكافي) الشّريف ومنقولة بسَنَدٍ معتبَر، وتلك الرّواية هي أنّ الصّادق عليه السلام قال: بأنّ فاطمة عليها السلام عاشَتْ بعد أبيها خمسةً وسبعين يوماً في هذه الدّنيا واشتدَّ عليها الحُزن، وكان جبرائيلُ الأمينُ يحضرُ عندَها ويعزّيها ويخبرُها بأمورٍ عن المستقبل.. أنا أعتبرُ هذه الفضيلة فوقَ جميع الفضائلِ الأخرى التي ذُكرت للزّهراء عليها السلام -رغم عَظَمة الفضائل الأخرى- وهي لم تَحصل لأيّ إنسانٍ آخر سِوى الأنبياء عليهم السلام، وليس كلّ الأنبياء، بل الطّبقة الأولى منهم وبعض الأولياء الذين كانوا بمَنزلتِهم، وبهذا التّعبير أي المراودة مع جبرائيل خلالَ خمسة وسبعين يوماً لم تحصل لحدِّ الآن لأيّ إنسانٍ آخر، وهذه من الفضائل الخاصّة بالصّدّيقة الزّهراء سلام الله عليها.. إنّ المعنويّات والتّجلّيات الملكوتيّة، الإلهيّة، الجَبروتيّة، المُلكيّة والنّاسوتيّة مجتمعةٌ كلّها في هذا الموجود». (السّيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام).

ثمّ يُوضِح الإمام من خلال رؤيته الثّاقبة النّابعة من عرفانِه الكامل واتّصاله الحقيقيّ بأهل البيت عليهم السلام، أنّ التّجلي لقدرة الله عزّ وجلّ متمثِّلٌ بهم وفي طليعتِهم الصّدّيقة الطّاهرة صلوات الله عليها، حيث يقول قدّس سرّه «إنّ ذلك البيت الصّغير الذي ضمّ فاطمة عليها السلام وأولئك الخمسة الذين تربّوا فيه والذين يمثّلون في الواقع التّجلّي لكاملِ قدرة الله تعالى قدّموا من الخدمات ما أدهشَنا وأدهشَكم، بل وأدهشَ البشر جميعاً».

7- المقام المعنويّ لأمير المؤمنين عليه السلام

كلامُه قدّس سرّه حولَ مقام الإمام عليّ عليه السلام، بيانٌ فَصل ومعنًى جامع، يقول قدّس سرّه: «عليٌّ عليه السلام هو التّجلّي العظيم لله تعالى».

«هذا العظيم يمتازُ بشخصيّةٍ ذاتِ أبعاد كثيرة، ومَظهَرٌ لاسمِ الجَمع الإلهيّ الذي يحوي جميعَ الأسماء والصّفات، فجميعُ الأسماء والصّفات الإلهيّة في ظهورِها وبروزِها في الدّنيا وفي العالم ظهرَتْ في هذه الشّخصيّة بواسطة الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، وإنّ أبعاده الخَفيّة هي أكثر من تلك الأبعاد الظّاهرة، وإنّ نفس هذه الأبعاد التي توصَّلَ إليها البشر، ويُتوصَّل إليها قد اجتمعت في رَجٌلٍ واحد، في شخصيّةٍ واحدة جهاتٌ متناقضة ومتضادّة.. يمتلكُ جميعَ الأوصاف وجميعَ الكمالات... لم يكن حضرةُ الأمير عليه السلام من الجهة المعنويّة شخصاً مفرداً، بل كان كلّ العالّم».

ويُظهر الإمام قدّس سرّه تأسُّفَه قائلاً: «يجبُ علينا أن نأسفَ لأنّ الأيدي الخائنة والحروب التي أشعَلوها ومُثيري الفِتن لم يسمحوا لبروزِ الشّخصيّة الفذّة لهذا الرّجل العظيم في أبعادِها المختلفة، فإذا كان الكثير من أبعادِه الظاهريّة خافياً عنّا، فكيف بالأبعاد المعنويّة التي لا ينالُ معرفةَ حقائقِها أحدٌ من العالَمين كما جاءَ في الأحاديث الشّريفة».

ويقول أيضاً في حديثٍ عن ولاية الأمير عليه السلام: «إنّه عليه السلام صاحبُ الولاية المُطْلَقة الكُليّة، والولايةُ باطنُ الخلافة... فهو عليه السلام قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كَسَبَت ومع كلِّ الأشياء». (مصباح الهداية: ص 142)

إنّ ما تقدّم من البيان حولَ مقام مَولى الموحّدين وزوجِه الصّديقة الطّاهرة عليها السلام كان نموذجاً للإطلالة على رؤية الإمام الخمينيّ قدّس سرّه لهم صلوات الله عليهم من جدّهم إلى خاتمِهم القائمِ المهديّ عجل الله فرجه، وإنّما كان التّخصيصُ في الحديث عنهما عليهما السلام لأنّهما الرّأسُ في سلسلة دائرة العصمة والولاية المحمّديّة العلويّة. كما يُفهم من مجموع كلامِه قدّس سرّه بل من تصريحِه ثوابتُ عديدة منها:

الولاية التّكوينيّة:

يقول قدّس سرّه: «إنّ للإمام عليه السلام خلافةً تكوينيّةً تخضعُ لولايتِها وسيطرتِها جميعُ ذرّاتِ هذا الكون».                                 (الحكومة الإسلامية: ص 52)

عِلمُ الكتاب:

يشيرُ إلى ذلك في حديثِه عن نزول الكتاب التّكوينيّ قائلاً: «إنّ هذا الكتاب التّكوينيّ الإلهيّ وأولياءه الذين كلّهم كُتُبٌ سمائيّة نازلون من لَدُن حكيمٍ عليم وحاملون للقرآنِ التّدوينيّ، لم يكن أحدٌ حاملاً بظاهرِه وباطنِه إلّا هؤلاء الأولياء المرضيّون كما وردَ من طريقِهم عليهم السلام عن أبي عبد الله عليه السلام: "وعندَنا واللهِ علمُ الكتابِ كلِّه"».               (شرح دعاء السَّحَر: ص 71)

------------

*  إعداد «مركز نون للتّأليف»، ونشر «جمعيّة المعارف الإسلاميّة»، ط 2، 1427 للهجرة، نيسان 2006 م.

الأئمّة همُ الأسماءُ الحُسنى

المرجع الدّينيّ الكبير الرّاحل، السّيّد الخوئيّ قدّس سرّه

ابتدأَ اللهُ كتابَه التّدوينيّ بذكرِ اسمِه، كما ابتدأَ في كتابِه التّكوينيّ باسمِه الأتمّ، فخلقَ الحقيقةَ المحمّدِيّةَ ونورَ النّبيّ الأكرم قبلَ سائر المخلوقين، وإيضاحُ هذا المَعنى: أنّ الإسمَ هو ما دلَّ على الذّات، وبهذا الاعتبار تنقسمُ الأسماءُ الإلهيّةُ إلى قسمَين: تكوينيّة، وجَعليّة. فالأسماءُ الجَعليّة هي الألفاظُ التي وُضِعت للدّلالة على الذّات المقدّسة، أو على صفةٍ من صفاتِها الجَماليّة والجَلاليّة، والأسماءُ التّكوينيّة هي المُمكناتُ الدّالةُ بوجودِها على وجودِ خالقِها وعلى توحيدِه: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ الطور:35، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُُ لَفَسَدَتَا..﴾ الأنبياء:22.

فَفي كلّ شيءٍ دلالةٌ على وجود خالقِه وتوحيدِه، وكما تختلفُ الأسماءُ الإلهيّةُ اللّفظيّة من حيث دلالتِها، فيدلّ بعضُها على نفس الذّات بما لها من صفاتِ الكمال، ويدلُّ بعضُها على جهةٍ خاصّةٍ من كمالاتِها على اختلافٍ في العَظَمة والرّفعة، فكذلك تختلفُ الأسماءُ التّكوينيّةُ من هذه الجهة، وإن اشتركَ جميعُها في الكشفِ عن الوجود والتّوحيد، وعن العلمِ والقدرةِ وعن سائر الصِّفاتِ الكماليّة. ومنشأُ اختلافِها: أنّ الموجود إذا كان أتمَّ كانت دلالتُه أقوى، ومن هنا صحَّ إطلاقُ الأسماءِ الحُسنى على الأئمّة الهداة، كما في بعض الرّوايات. فالواجبُ جلّ وعلا قد ابتدأ في أكملِ كتابٍ من كُتُبِه التّدوينيّةِ بأشرفِ الألفاظِ وأقربِها إلى اسمِه الأعظم من ناظرِ العَين إلى بياضِها، كما بدأ في كتابِه التّكوينيَ باسمِه الأعظمِ في عالَم الوجودِ العَينيّ، وفي ذلك تعليمُ البَشر بأن يبتَدؤوا في أقوالِهم وأفعالِهم باسمِه تعالى.         (السّيّد الخوئي، البيان في تفسير القرآن: ص 433 – 434)

 

سلطانُ الدّنيا والآخرة، وأكثرُ الخَلْقِ تَواضُعاً

النّبيُّ الكريمُ صلّى الله عليه وآله الذي كان علمُه من الوَحي الإلهيّ، وكانت روحُه من العَظَمة بحيث إنّها بمفردِها غلبتْ نفسيّاتِ كلّ البشر، إنّ هذا النّبيّ قد وضعَ جميعَ العادات الجاهليّة والأديان تحتَ قدَميه، ونَسَخَ جميعَ الكُتُب، واختتمَ دائرةَ النّبوّة بشخصِه الكريم، وكان هو سلطانَ الدّنيا والآخرة والمتصرِّفَ في جميع العوالِم بإذن الله تعالى، ومع ذلك كان تواضعُه مع عبادِ الله أكثر من أيّ شخصٍ آخر. كان يكرهُ أن يقومَ له أصحابُه احتراماً، وإذا دخلَ مجلساً لم يتصدَّرِ المجلس، ويتناولُ الطّعامَ جالساً على الأرض، قائلاً أنا عبدٌ آكُلُ كما يأكلُ العَبد، وأجلسُ كما يجلس. (الأربعون حديثاً: ص 109)

***

 ( 2 )

تفضيلُ الأئمّة على سائر الأنبياء، لمُحمَّديّتِهم

النّورُ الذي خلقَ اللهُ تعالى منه محمّداً وعليّاً

 

في (الكافي) الشّريف، عن أحمد بن عليّ بن محمّد بن عبد الله بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، عن أبي عبد الله، عليهم السلام، قال:

«إنّ الله كان إذْ لا كان، فخلقَ الكانَ والمَكان، وخلقَ الأنوار، وخلقَ نورَ الأنوارِ الذي نُوِّرت منه الأنوار، وأَجرى فيه من نورِه الذي نُوِّرَت منه الأنوار، وهو النّورُ الذي خلقَ منه محمّداً وعليّاً. فلم يزالا نورَين أوّلَين، إذ لا شيءَ كُوِّن قبلَهما. فلم يزالا يَجريان طاهرَين مُطهَّرَين في الأصْلَاب الطّاهرة حتّى افترقا في أطهَر طاهرَين؛ في عبد الله وأبي طالب». صدق وليُّ الله، صَلواتُ اللهُ عليه.

 

أضاف الإمام الخمينيّ قدّس سرّه: ولسنا بصددِ شرح الحديث الشّريف؛ فإنّ شرحَه مع عدم كونِه في عُهدة مثلي طويلُ الذّيل؛ ولكن نشير إلى بعض إشاراته التي تشيرُ إلى مقصودِنا.

فنقول، وبالله التوفيق:

* لعلّ قولَه عليه السلام: «كانَ إِذْ لا كان» إشارةٌ إلى تقدُّمه تعالى شأنُه بالحقيقة على الموجودات، والآن كما كان؛ كما قال جُنيد البغداديّ حين سمع «كان اللهُ ولم يكن معه شيء»: «الآن كما كان». وفي توحيد صدوق الطّائفة: «إنّ الله تبارك وتعالى، كان لم يزل بلا زمان ولا مكان؛ وهو الآن كما كان».

* وقوله: «فخلقَ الكانَ والمكان» إلى قوله: «منه الأنوار» إشارةٌ إلى ترتيب أمّهات مراتب الوجود من النّازل إلى الصّاعد.

فإنّ «الكان» و«المكان» هو الكائناتُ والمكانيّاتُ الطّبيعيّة والأجرامُ السّماويّة والأرضيّة، أو مُطْلَق ما ظهرَ في عالَم الطّبيعة وكان طالعاً من بحر الهَيولى المُظلمة حتّى يشملَ النّفس التي هي بذاتِها من عالَم الأنوار ولكنّها طالعةٌ من مطلَع المادّة، ظاهرةٌ في الكائنات النّازلة.

و«الأنوار» هي العالَم التّعقّليّ بقضِّها وقضيضِها؛ أو هو مع العالم النّفسيّ باعتبار أصلِ حقيقتِها التي هي الأنوار.

و«نور الأنوار» هو الفيض المُنبَسِطُ والوجودُ المُطلَق الذي منه الحقائقُ العقليّةُ وغيرها والعَوالِمُ الصّاعدةُ والنّازلة. وتخصيصُ خَلْقِ «الأنوار» منه بالذّكر، مع أنّ جميع مراتب الوجود منه، للتّناسب الواقع بينهما؛ أو لِكَون العقل أوّلَ ظهور المشيئة المُطلَقة؛ أو لأنّ صدور الكائنات لا يحتاج إلى الذِّكر بعد ذِكرِ صدور الأنوار منه؛ فإنّ صدورَ الأنوار إذ كان من شيء، كان صدور الأكوان منه أيضاً بحسب ترتيب سلسلةِ الوجود وقَوْسَي النّزول والصّعود.

والضّمير المجرور في قوله: «وأجرى فيه» إمّا راجعٌ إلى «الكان والمكان»، وفيه إشارةٌ لطيفةٌ إلى ظهور نورِه في السّماوات والأرض كما قال تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾ النور:35، وإمّا راجعٌ إلى الأنوار إشارةً إلى أنّ المقيّدات التي هي الأنوار عينُ المُطلَق الذي هو «نورُ الأنوار».

ويمكن أن يكون راجعاً إلى نور الأنوار. فعلى هذا، يكون المراد من نور الأنوار هو العقل المجرّد الأوّل؛ ومن الأنوار النّفوس الكلّيّة؛ أو هي مع سائر العقول غير العقل الأوّل. ويكون المراد من نورِه الذي نُوِّرت منه الأنوار هو الفيضُ المُنبَسط. وهذا مناسبٌ للعبارة من جهتَين:

الأولى: نسبةُ الخَلق إلى نورِ الأنوار. وقد عرفتَ مراراً أنّه من عالَم الأمر، لا الخَلْق، وإنْ أُضِيفَ إليه أحياناً كما في الحديث الشّريف المتقدّم ذِكرُه.

الثّانية: إضافة «النّور» إلى ذاته تعالى في قوله: «وأجرى فيه من نورِه». فإنّها إشارةٌ إلى اتّحادِ الظّاهر والمظهر؛ وإنْ جازَ إضافةُ نور سائر الأنوار إلى ذاته تعالى أيضاً باعتبار، لكنّ الأنسب ذلك. وإيّاك وأن تفهمَ من «الإجراء» ما هو المتفاهم العرفيّ منه، كجَريان النّور الحسّيَ في المستَنير! بل هو بمعنى الظّهور والإحاطة القيّوميّة؛ كما لا يكون «النّور» هو النّور الحسّيّ.

* وقولُه عليه السلام: «وهو النّورُ الذي خلقَ منه محمّداً وعليّاً صلّى الله عليهما وآلهما»: أي من نور الأنوار الذي هو الوجودُ المُنبَسط -الذي قد عرفتَ أنّه الحقيقةُ المحمّدِيّةُ والعَلَويّةُ بنحو الوحدة واللّاتَعَيُّن- خلق نورَهما المقدّس، وهذا صريحٌ فيما ذكرنا. فتفكّر فيه حتّى تنفتحَ عليك الأسرار.

* وقولُه عليه السلام: «فلم يزالا نورَين أوّلَين إذ لا شيءَ كُوِّنَ قبلَهما»: يعني به أنّ نورَهما المقدّس المُنشَأ من نورِه، هو العقلُ المجرّدُ المقدّمُ على العالم الكون.

* وقولُه عليه السلام: «فلم يزالا..» إلى آخره، إشارةٌ إلى ظهورِه في العوالم النّازلة، من صُلْب عالَم الجَبروت إلى بطنِ عالَم المَلكوت العُليا؛ ومن صُلْبِه إلى بطنِ عالَم الملكوتِ السُّفلى؛ ومن صُلْبِه إلى بطنِ عالَم المُلك؛ ثمّ ظهرَ في خلاصة العوالم ونسختِها الجامعة، أي الإنسان الذي هو أبو البشر؛ وانتقل منه إلى أن يفترقَ في أطهرِ طاهرَين، عبد الله وأبي طالب عليهما السلام.

والسِّرُّ في التّعبير عن كلّ عالَمٍ صاعدٍ بالنّسبة إلى الهابط منه بـ «الصُّلْب» وعن كلّ عالَمٍ نازلٍ بالنّسبة إلى الصّاعد منه بـ «البَطن» ظاهرٌ لا يحتاج إلى التّفصيل. (مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية: ص 105 - 108، المشكاة الثّانية، المصباح الثّاني، مطلع 2)

***

وأمّا الذي يشاهدُ الكَثرةَ بلا احتجابٍ عن الوحدة، ويرى الوحدةَ بلا غفلةٍ عن الكَثرة، يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فهو مظهر «الحَكَم العدل» الذي لا يتجاوز عن الحدّ، وليس بظلّامٍ للعَبيد، فحكمَ تارةً بأنّ الكثرةَ متحقّقةٌ وتارةً بأنّ الكثرةَ هي ظهورُ الوحدة. كما نُقِلَ عن المُتَحقِّقِ بالبرزخيّة الكُبرى والفقير الكَلّ على المولى والمُرتقي بـ ﴿..قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى النجم:9، المُصطفى المُرتضى المُجتبى، بلسانِ أحدِ الأئمّة: «لَنا معَ الله حالاتٌ هوَ هو، ونحنُ نحن، وهوَ نحن، ونحنُ هوَ». (مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية: ص114، المشكاة الثّانية، المصباح الثّاني، مطلع 6)

***

وممّا يُرشِدُك إلى ما ذَكرنا حقَّ الإرشاد ويهديك كمالَ الهداية إلى طريق السّداد، ما حدّثه صدوق الطّائفة، رضوان الله عليه، في (عيون أخبار الرضا عليه السلام) بأسناده عن مولانا وسيّدنا عليّ بن موسى الرّضا، عليه آلاف التّحية والثّناء، عن آبائه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال:

«قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله: ما خلقَ اللهُ أفضلَ منّي، ولا أكرمَ عليه منّي. قال عليٌّ عليه السلام: فقلتُ: يا رسولَ الله، فَأَنتَ أفضلُ أم جبرئيل؟

فقال صلّى الله عليه وآله: يا عليّ، إن الله تبارك وتعالى، فضَّلَ أنبياءَه المُرسلين على ملائكتِه المقرّبين، وفضّلَني على جميعِ النّبيِّين والمُرسَلين. والفضلُ بعدي لكَ يا عليّ، وللأئمّة من بعدِك. وإنّ الملائكةَ لَخُدّامُنا وخُدّامُ مُحبّينا.

يا عليّ، ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا..﴾ غافر:7  بولايتِنا. يا عليّ، لولا نحنُ ما خلقَ اللهُ آدمَ عليه السلام ولا حوّاء ولا الجنّة والنّار، ولا السّماء والأرض، فكيفَ لا نكون أفضلَ من الملائكة وقد سَبقناهم إلى معرفةِ ربّنا وتسبيحِه وتهليلِه وتقديسِه. لأنّ أوّلَ ما خلقَ اللهُ عزّ وجلّ أرواحَنا فأنطقَها بتوحيدِه وتمجيدِه، ثمّ خلقَ الملائكة، فلمّا شاهدوا أرواحَنا نوراً واحداً استَعظمتْ أمرَنا، فسبَّحنا لِتَعلمَ الملائكةُ أنّا خَلْقٌ مخلوقون، وأنّه منزَّهٌ عن صفاتِنا، فَسَبَّحتِ الملائكةُ بتسبيحِنا ونَزَّهَتْهُ عن صفاتِنا.

فلمّا شاهدوا عِظَم شأننا هلَّلنا، لتعلمَ الملائكةُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنّا عبيدٌ وَلَسنا بالآلهة يجبُ أن نعبدَ معَه أو دونَه، فقالوا: "لَا إِلَهَ إلّا اللهُ".

فلمَا شاهدوا كِبَرَ محلِّنا، كبّرنا، لِتَعلمَ الملائكةُ أنّ الله تعالى أكبرُ من أن يُنال عِظَمُ المحلِّ إلّا به.

فلمّا شاهدوا ما جعلَه اللهُ لنا من العزِّ والقوّة، قُلنا: "لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله" لتعلمَ الملائكةُ أنْ لا حولَ لنا ولا قوّةَ إلّا بالله.

فلمّا شاهدوا ما أنعمَ اللهُ به علينا وأوجبَه لنا من فَرْضِ الطّاعة، قُلنا: "الحمدُ لله" لِتعلمَ الملائكةُ ما يحقُّ للهِ تعالى ذِكرُه علينا من الحَمد على نِعَمِه، فقالت الملائكة: "الحمدُ لله".

فبنا اهتَدوا إلى معرفة توحيدِ الله عزّ وجلّ وتسبيحِه وتهليلِه وتحميدِه وتمجيدِه. ثمّ، إنّ اللهَ تبارك وتعالى، خلقَ آدم عليه السلام فأودَعنا صُلْبَه؛ وأمر الملائكةَ بالسّجود له تعظيماً لنا وإكراماً. وكان سجودُهم لله عزّ وجلّ عبوديّةً، ولآدمَ إكراماً وطاعةً لكوننا في صُلْبِه. فكيفَ لا نكونُ أفضلَ من الملائكة وقد سَجدوا لآدمَ كلُّهم أجمعون؟

وإنّه لمّا عُرِجَ بي إلى السّماء، أذّنَ جبرئيلُ عليه السلام مَثنًى مَثنى، وأقام مَثنًى مثنى. ثمّ قال لي: تقدّم، يا محمّد. فقلتُ له: يا جبرئيل، أتقدّمُ عليك؟ فقال: نعم. إنّ الله تبارك وتعالى فضَّلَ أنبياءَه على ملائكتِه أجمعين، وفضّلَك خاصّة. قال: فتقدّمتُ، فصَلّيتُ بهم، ولا فَخر.

فلمّا انتهيتُ إلى حُجُبِ النّور، قال لي جبرئيل: تقدّم، يا محمّد. وتَخَلَّفَ عنّي. فقلتُ: يا جبرئيل، في مثل هذا الموضعِ تُفارقني؟ فقال: يا محمّد، إنّ انتهاءَ حدّي الذي وضعَني اللهُ عزّ وجلّ فيه إلى هذا المكان، فإنْ تجاوزتُه احترقَتْ أجنحتي بتَعَدِّيَّ حدودَ ربّي جلّ جلالُه. فَزَخَّ بي في النّور زخّةً (فَزَجّ بي في النّور زجّةً) حتّى انتهيتُ إلى ما شاء الله من علوِّ مُلْكِه. فنُوديت: يا محمّد. فقلتُ: لبّيكَ ربّي وسعدَيكَ، تباركتَ وتعاليت. فنُوديت: يا محمّد، أنت عبدي، وأنا ربُّك، فإيّاي فاعبُد؛ وعليَّ فتوكَّل. فإنّك نُوري في عبادي، ورَسولي إلى خَلقي، وحُجّتي على بَرِيَّتِي. لكَ ولِمَن تَبِعَكَ خلقتُ جنّتي؛ ولِمَن خالفَك خلقتُ ناري؛ ولأوصيائك أوجبتُ كَرامتي؛ ولشِيعَتِهم أوجبتُ ثوابي.

فقلتُ: يا ربّ ومَن أوصيائي؟ فنُوديت يا محمّد، أوصياؤك المكتوبون على ساقِ العَرش. فنظرتُ، وأنا بين يدَي ربّي جلّ جلالُه، إلى ساق العرش؛ فرأيتُ اثنَي عشر نوراً، في كلِّ نورٍ سطرٌ أخضرُ عليه اسمُ وصيٍّ من أوصيائي، أوّلُهم عليُّ بنُ أبي طالب وآخرُهم مهديُّ أُمّتي.

فقلتُ: يا ربّ، هؤلاء أوصيائي بعدي؟ فنُوديت: يا محمّد، هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي وحُجَجي بعدَك على بريّتي، وهم أوصياؤك وخُلفاؤك وخيرُ خَلقي بعدَك. وَعِزَّتي وجَلالي، لَأُظْهِرَنَّ بهم ديني، ولَأُعْلِيَنَّ بهم كَلِمَتي، وَلَأُطَهِّرنَّ الأرضَ بآخرِهم من أعدائي. وَلَأُمَلِّكَنَّه مشارقَ الأرض ومغاربَها، وَلَأُسَخِّرَنّ له الرّياح، وَلَأُذَلِّلَنّ له السَّحابَ الصِّعاب، وَلَأرقّينَّه في الأسباب، وَلَأَنصُرَنَّه بجُندي وَلَأُمِدَّنَّه بملائكتِي حتّى يُعلنَ دعوتي ويجمعَ الخلقَ على توحيدي. ثمّ، لَأُدِيمَنَّ مُلْكَه، وَلَأُداوِلَنَّ الأيامَ بين أوليائي إلى يومِ القيامة».

 ( 3 )

الخلافة الكلّيّة الإلهيّة لأهل البيت عليهم السلام على كلِّ ذَرَّات الوجود

هذه المقاماتُ المعنويّة ثابتةٌ للزّهراء عليها السلام

لا يلزم من إثبات الولاية (السّياسيّة) والحكومة للإمام عليه السلام ألا يكون لديه مقامٌ معنويّ. إذ للإمام مقاماتٌ معنويّةٌ مستقلّةٌ عن وظيفة الحكومة، وهي مقامُ الخلافة الكلّيّة الإلهيّة التي وردَ ذِكرُها على لسان الأئمّة عليهم السلام أحياناً، والتي تكونُ بموجبِها جميعُ ذَرّاتِ الوجود خاضعةً أمام «وليّ الأمر».

من ضروريّات مذهبنا أنّه لا يَصِلُ أحدٌ إلى المراتب المعنويّة للأئمّة عليهم السلام حتّى المَلَكُ المُقَرَّب والنّبيّ المُرسَل. وفي الأساس فإنّ الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام -وبحسب رواياتنا- كانوا أنواراً في ظلّ العرش قبلَ هذا العالَم، وهم يتميّزون عن سائر النّاس في انعقاد النّطفة و«الطّينة»، ولَهم من المقامات إلى ما شاء الله، وذلك كقولِ جبرائيل عليه السلام في روايات المعراج: «لو دنوتُ أنملةً لَاحْتَرقتُ»، أو كقولِهم عليهم السلام: «إنّ لنا مع الله حالات، لا يَسَعُها مَلَكٌ مُقَرّب ولا نَبِيُّ مُرسَل»، فوجودُ مقاماتٍ كهذه للأئمّة عليهم السلام من أصول مذهبِنا، وذلك بغضّ النّظر عن موضوع الحكومة.

كما أنّ هذه المقامات المعنويّة ثابتةٌ للزّهراء، مع أنّها ليست بحاكمٍ ولا خليفةٍ ولا قاضٍ، فهذه المقامات شيءٌ آخر غير وظيفة الحكومة. ولذا عندما نقول إنّ الزّهراء عليها السلام ليست بقاضٍ ولا خليفة، فهذا لا يعني أنّها مثلي ومثلُكم، أو أنّها لا تمتازُ عنّا معنوياً. وكذلك عندما يُقال أن ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ..﴾ الأحزاب:6، فقد وردَ في حقّ الرّسول صلّى الله عليه وآله كلامٌ أرقى من كونِه صلّى الله عليه وآله يمتلكُ مقامَ الولاية والحكومة على المؤمنين. ولسنا هنا في مجال الكلام حولَ ذلك، إذ يتكفّلُ به علمٌ آخر.

***

مقاماتُ الزّهراء عليها السلام شيءٌ آخر

«هذه المقاماتُ المعنويّةُ ثابتةٌ للزّهراء، مع أنّها ليست بحاكمٍ ولا خليفةٍ

ولا قاضٍ، فهذه المقاماتُ شيءٌ آخر غير وظيفةِ الحكومة».

الإمام الخمينيّ قدّس سرّه

 

 

 

 

 

                             

اخبار مرتبطة

  أيُّها العزيز

أيُّها العزيز

  دوريات

دوريات

07/06/2013

دوريات

نفحات