فكر ونظر

فكر ونظر

07/06/2013

الصّحيفة السّجّادية

 

الصّحيفة السّجّادية

بُراقُ عروجِ السّالكين

ـــــ الدّكتور حسين الحاج حسن ـــــ

 

(الصّحيفة السّجّاديّة) واحدةٌ من مكارم «معادن الرّسالة»، أنشأها الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليهما السلام لتكون بَلْسَماً لجروح النّفس التي أدماها التّثاقُل إلى الأرض، فتأخذ بها إلى مدارج الكمال الإنساني.

هذه المقالة مقتبسَة -بتصرّف- من كتاب (الإمام السّجّاد عليه السلام: جهادٌ وأمجاد) للدّكتور حسين الحاج حسن.

 

(الصّحيفة السّجّاديّة) من ذخائر التّراث الإسلامي، ومن مناجم المباحث البلاغيّة، والأخلاقيّة، والتّربويّة، والأدبيّة في الإسلام، ونظراً لأهمّيّتها فقد سمّاها كبار رجال الفكر والعلم بـ  «إنجيل أهل البيت».

وممّا زاد في أهمّيّة (الصّحيفة السّجّاديّة) أنّها جاءت في عصرٍ طغتْ فيه الأحداث الرّهيبة في السّياسة، والّتي أحالت حياة المسلمين إلى جحيمٍ مُظلمٍ ليس فيه أيّ بصيص نور من هَدْي الإسلام وإشراقه، كالتّكتّل الحزبيّ والسّياسيّ الذي سعى وراءَه أصحابُ المصالح والأطماع الشّخصية، حيث اختفى أيّ ظلّ لروحانيّة الإسلام، وتعاليمه السّمحة، وآدابه الإنسانية، وحِكَمه الخالدة.

لقد فتحت (الصّحيفة السّجّاديّة) آفاقاً جديدة للوعي الديني، الذي كان قد فقدَه المسلمون، ودعت إلى التّبتّل الرّوحي، والصّفاء النّفسي، والطّهارة، والتّجرّد من الأنانية، ونبذ الجشع والطّمع، وغير ذلك من الرّذائل والنّزعات الشّريرة التي نهى عنها الإسلام، كما دعت إلى الاتّصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة، ومصدر الخير والحقّ والجمال.


فرادتُها

تمتاز (الصّحيفة السّجّاديّة) بأمور بالغة الأهمّيّة ومميّزات عديدة، من بينها ما يلي:

1- أنّها تُمثّل الانقطاع الكامل إلى الله تعالى، والاعتصام بحبله سبحانه، والتجرّد التّامّ من عالم المادة.

2- أنّها كشفت عن معرفة ربّانيّة حَبا اللهُ تعالى بها الإمام السّجّاد عليه السلام، فهي تُنبئ عن حقيقة إيمانه النّبويّ بالله الواحد القهّار، حيث لم يكن ذلك ناشئاً عن عاطفة أو تقليد، وإنّما هي معرفةٌ قائمةٌ على العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد ضمّن الإمام عليه السلام أدعيتَه الكثيرَ من البحوث الكلامية التي نهلَ منها علماءُ الكلام، والفلاسفةُ المسلمون في ما كتبوه عن معرفة الله تعالى، وعن الوجود.

3- انطوت أدعيةُ الصّحيفة على كمال الخضوع أمام الله تعالى، بما حَوَته من أفانين التّضرّعات، وإظهار التذلّل للباري عزّ وجلّ.

4- فتحت (الصّحيفة السّجّاديّة) أبواب الأمل والرّجاء برحمة الله تعالى الّتي وَسِعَتْ كلّ شيء. فالإنسان مهما كثُرت ذنوبه وعظُمت خطاياه، لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه. يقول الإمام عليه السلام: «إلهي، وعزّتِك وجلالِك، لَئِنْ طالَبتَني بذُنوبي لَأُطالِبَنّك بعفوك، وَلَئن طَالَبتَني بِلُؤمي لَأُطالبَنّك بكرمِك…».

5- ما وردَ من أدعية (الصّحيفة السّجّاديّة) يصلحُ برامجَ للأخلاق الرّوحيّة، وآداب السّلوك، والفضائل النّفسيّة التي يسمو بها الإنسان عن عالَم المادة.

6- احتوت الصّحيفة على حقائق علميّة لم تكن معروفةً في ذلك العصر، كقولِ الإمام عليه السلام في دعائه على الأعداء: «أللّهمّ وامزجْ مياهَهم بالوباءِ وأَطعِمَتَهم بالأدواء…». لقد أشار الإمام السّجّاد عليه السلام هنا إلى حقيقة علميّة اكتُشفت في العصور الأخيرة، وهي أنّ جراثيم الوباء المعروفة بـ (الكوليرا) إنّما تأتي عن طريق الماء، فهو الذي يتلوّث بجراثيمِها، كما أنّ جراثيمَ هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة، فإذا أكلَها الإنسان وهي ملوّثة بتلك الجراثيم فإنّه يُصاب بهذا الدّاء.

7- تُبيّن (الصّحيفة السّجّاديّة) فلسفة الدعاء الّذي هو معراجُ المؤمن إلى الله تعالى، والبالغُ به إلى أرقى مراتب الكمال، إذ ليس شيءٌ في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتّصال بالله تعالى، واهبِ الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق، وبالأمل بعد القنوط.

8- لقد بلغت (الصّحيفة السّجّاديّة) أرقى مراتب الفصاحة والبلاغة في اللّغة العربية. فلا نجد كلاماً عربيّاً بعد القرآن الكريم والحديث النّبويّ و(نهج البلاغة) أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.

قال الدّكتور حسين محفوظ: «الدّعاء المأثور عن الأئمّة عليهم السلام نثرٌ فنّيّ رائع، وأسلوبٌ ناصعٌ من أجناس المَنثور، ونَمَطٌ بديعٌ من أفانين التّعبير، وطُرقٌ بارعةٌ من أنواع البيان، ومسلكٌ معجَبٌ من فنون الكلام ".." فالدّعاءُ أدبٌ جميل، وحديثٌ مبارك، ولغةٌ غنيّة، ودِينٌ قَيّم، وبلاغةٌ عبقريّة، إلهيّةُ المَسحة، نبويّةُ العَبقة..».

9- تُعتَبر (الصّحيفة السّجّادية) ثورةً على التّرَف والفساد والانحلال الخُلُقي الذي سادَ في ذلك العصر بفعل السّياسة الأمويّة، فقد مارس الحكّامُ أنفُسُهم شتّى أنواع التّهتّك والابتذال، وبذّروا أموال المسلمين على مجونهم، وأغدقوا العطاء للمُغنّين، والراقصين، وشعراء السّوء، وذلك في وقتٍ أخذَ الفقرُ والبؤسُ فيه يشدّ على خناق المواطنين، ولم يعد للاقتصاد الإسلاميّ أيّ وجود في واقع الحياة العامّة، وقد ذكر المؤرّخون الكثير من الأخبار التي تعكس هذا الواقع المرير. منها أنّ الغناء شاع في المدينة المنوّرة حتّى أصبحت مركزاً له، ومقصداً للمغنّين والمغنّيات من شتّى البلدان، وأنّ الوليد بن يزيد أعطى «معبداً» المغنّي اثنَي عشر ألف ديناراً. واستقدم جميع مغنّي ومغنّيات الحجاز، وأغدق عليهم الجوائز الكثيرة. قال أبو الفرج الأصفهاني: «إنّ الغناء في المدينة لا يُنكره عالمُهم، ولا يدفعه عابدُهم».

ومن مظاهر التّرف ما ذكرَه ابنُ سعدٍ في (طبقاته) والأصفهانيّ في (الأغاني) وغيرُهما من أنّ عمر بن عبد العزيز كان يلبس الثّوب بأربعماية دينار، ويقول: «ما أخشنَه». وكان فتيانُ أميّة «يرفلون بالقُوهِيّ [صنف من الثّياب فاخرة] كأنّهم الدّنانير الهِرَقْليّة». و«كان مروانُ بن أبان بن عثمان يلبسُ سبعةَ قمصانٍ كأنّها درج، بعضُها أقصرُ من بعض، وفوقَها رداء عدنيّ بألفَي درهم..».

أمام هذه التيّارات المترَفَة والفاسدة والمدمّرة للأخلاق والقيم الإنسانية، كان موقف الإمام زين العابدين عليه السلام متّسماً بالقوة والصّلابة والجرأة، فقد سلّط عليها أشعّةً من روحه المقدّسة التي تفيض بها (الصّحيفة السّجّاديّة)، وذلك بما حَوَته من وعظٍ وإرشاد، وما اشتملت عليه من قِيَم الإسلام وهُدى أهل البيت عليهم السلام.

لقد وقفت (الصّحيفة السّجّاديّة) سدّاً منيعاً لحماية الإسلام وصيانتِه من ذلك التّفسّخ الجاهلي الذي أوجدَه الحكم الأمويّ، فقد نَعَتْ على الأمّة ما هي فيه من الانحطاط الفكريّ والاجتماعيّ، ودعتها إلى الانطلاق والتحرّر من ذلّ المعصية إلى عزّ الطّاعة، طاعةِ الله العليّ القدير.

 

 (الصّحيفة السّجّاديّة) محطّ الاهتمام

لم يقتصر الاهتمام بـ (الصّحيفة السّجّاديّة) على العالم العربيّ فقط، وإنّما تعدّاه إلى غيره من شعوب العالم، فقد تُرجمت الصّحيفة إلى أكثر اللّغات الأجنبيّة؛ كالفرنسيّة، والإنكليزيّة، والفارسيّة، والألمانيّة، وغيرها.

ومن مظاهر الاهتمام أيضاً أنّ الخطّاطين في مختلَف العصور الإسلاميّة انبروا إلى كتابتِها بخطوطٍ في منتَهى الرّوعة، وقد حَفَلتْ بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلاميّة. كما عكفَ العلماءُ على دراسة مضامين الصّحيفة، وإيضاح مقاصدِها، وشَرْحِها، وقد زادَ عددُ العلماء الذين قاموا بهذه المهمّة على السّبعين، كلّ ذلك لأنّهم وجدوا في (الصّحيفة السّجّاديّة) نموذجاً فريداً يستفيدُ منه كلُّ أديبٍ وباحث، ورأوا فيها جمالَ الأسلوب، وروعةَ الدّيباجة، ورِقّة الألفاظ، ولمسوا من الاتّصال بها ارتياحاً روحيّاً يُبلسِمُ النفوسَ الحائرة، والقلوبَ الضّالّة.

 

 

 

اخبار مرتبطة

  أيُّها العزيز

أيُّها العزيز

  دوريات

دوريات

07/06/2013

دوريات

نفحات