الملف

الملف

02/10/2013

مَناسكُ الحجّ: فقهُ القلبِ والخلود


مَناسكُ الحجّ: فقهُ القلبِ والخلود 

 

اِقرأ في هذا الملف

استهلال ---------------- الشّيخ الطّوسيّ قدّس سرّه

معالمُ المسجد الحَرام ------------- الشّيخ محمّد الرّيْشَهري

سفرٌ إلى بيت الله، وسفرٌ إلى لقاء الله -------- الفقيهُ العارف البَهاري الهمداني

الحجّ عرفة.. تأمّلاتٌ في فقه القلب والحياة ------- الشّيخ حسين كوراني

 

استهلال

أسألُكَ بجَميعِ مَسائلِكَ، أن تُصلّيَ على مُحَمّدٍ وآلِ محمّدٍ

وتُنَجّيَني من النّار، وتَمُنَّ عليَّ بالجنّة

وتُوسِّعَ عليَّ من الرّزق الحلالِ الطّيّب

وتَدْرَأَ عنّي شرَّ فَسَقَةِ العَربِ والعَجَم

وتمنعَ لساني من الكَذب، وقَلبي من الحَسَد، وعيني من الخيانة "..".

وتَرزقَني في عامي هذا وفي كلِّ عامٍ الحجَّ والعُمْرَة

وتَغُضَّ بصَري، وتُحَصِّنَ فَرْجِي، وتُوسع رزقي

وتَعصمَني من كلِّ سُوءٍ، يا أرحمَ الرّاحمين».

الشّيخ الطّوسيّ- مصباح المتهجّد- ترتيب نوافل شهر رمضان، ص 546

 

 

حدودُ الحَرَم، وحرمةُ البَيت

معالمُ المسجد الحَرام

ـــــ الشّيخ محمد الرّيْشَهريّ ـــــ

 

* «الحَرَم» أوسعُ من المسجد الحرام، تزيد مساحتُه على مكّة بقليل، وله أحكامٌ خاصّة باعتباره الحَرَم الإلهيّ الآمن.

* والحَرَم ليس مربّعَ الشّكل، ومرادُ العلماء من استعمال كلمة مربّع في تحديد الحرم، أنّ مساحة الحرم معادلة لمساحة مربّعٍ ضلعُهُ «بريدٌ» واحد، أي أربعة فراسخ.

 * ما تقدّم، بعض ما أورده الشّيخ الرّيشهريّ في كتابه (الحجّ والعمرة في الكتاب والسُّنّة)، ومنه تقدّم «شعائر» هذه المختارات.

 

فائدة حول حدود الحرم: حُدِّدت حدود الحرم في الرّوايات وأقوال العلماء بأنّها بريدٌ في بريد.

والبريد أربعة فراسخ شرعيّة، فتكون المساحة التّقريبيّة للحرم ستّة عشر فرسخاً مربّعاً. وهذه المساحة التي تزيد على مكّة بقليل لها أحكام خاصّة باعتبارها الحَرَم الإلهيّ الآمن.

والأقوال متفاوتة بشأن حدود الحرم في كلّ طرف من أطراف مدينة مكّة، أشهرُها وأرضاها يبيّن حدود الحرم بما يلي:

* من طريق المدينة: على ثلاثة أميال دون التّنعيم.

* ومن طريق اليمن: طرف أضاءة لِبْن في ثنيّة لِبْن، على سبعة أميال.

* ومن طريق جدّة: مُنقَطَع الأعشاش، على عشرة أميال.

* ومن طريق الطّائف: على طريق عرفة من بطن نَمِرة، على أحد عشر ميلاً.

* ومن طريق العراق: على ثنيّة خلٍّ بجبل المقطع، على سبعة أميال.

* ومن طريق الجعرانة: في شِعب آل عبد الله بن خالد، على تسعة أميال.

ومن المؤكّد أنّ هذه المسافات تقريبيّة. وقد حسَب أيضاً بعضُ المدقّقين المسافة الدّقيقة لهذه الحدود إلى جدار المسجد الحرام، عادّاً إيّاها بالذّراع، فكان بينها وبين القياسات المذكورة آنفاً بعض الاختلاف. وعلى سبيل المثال، يقول الفاسيّ في تحديد الحرم من جهة الطّائف، عن طريق عرفة: «من جدار باب بني شيبة إلى العَلَمين اللّذين هما علامةٌ لحَدِّ الحرم من جهة عَرَفة سبعة وثلاثون ألف ذراع وعشرة أذرع وسبعة أذرع، بذراع اليد».

ولمعرفة حدود الحرم وتعيينها أهميّة قُصوى، إذ أنّ لها دخلا ً في كثيرٍ من الأحكام. وقد غدا تشخيص هذه الحدود ميسّراً بوجود الأنصاب التي أُقيمت علاماتٍ من كلّ الجهات.

وكان إبراهيم الخليل عليه السّلام قد نَصَب الأنصاب من كلّ الجهات -ما عدا سَمت جدّة والجعرانة- بدلالة من جبرئيل عليه السّلام الذي كان يُريه مواضعها.

وجدَّدها إسماعيلُ عليه السّلام، وقُصيُّ بن كلاب، ورسولُ الله صلّى الله عليه وآله... ثمّ تعاقَب

الحكّام على تجديدها المرّةَ بعد المرّة.

ويدلّ البحث الميدانيّ، في الوقت الحاضر، على أنّ هذه العلائم ما تزال قائمة. وهذه الأنصاب والحدود السّتّة إنّما تُعيّن حدود الحرم في الطّرق المؤدّية إليه، أمّا أنصاب وحدود الحرم كلّه فهي أكثر بكثير.

أفضَلُ مَواضِعِ المَسجِدِ الحَرامِ

O أبو حَمزَةَ الثُّمالِيّ: قالَ لَنا عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ زَينُ العابِدينَ عليهما السّلام: أيُّ البِقاعِ أفضَلُ؟ فَقُلتُ: اللهُ ورَسولُهُ وابنُ رَسولِهِ أعلَمُ، فَقالَ: إنَّ أفضَلَ البِقاعِ ما بَينَ الرُّكنِ والمَقامِ.

O مَيسِرٌ عَنِ الإِمامِ الباقِرِ عليه السّلام: في مَسائِلَ سَأَلَ عليه السّلام عَنها أصحابَهُ: أتَدرونَ أيُّ البِقاعِ أفضَلُ عِندَ اللهِ مَنزِلَةً؟ فَلَم يَتَكَلَّم أحَدٌ مِنّا، فَكانَ هُوَ الرّادَّ عَلى نَفسِهِ، فَقالَ: ذلِكَ مَكَّةُ الحَرامُ الَّتي رَضِيَهَا اللهُ لِنَفسِهِ حَرَماً، وجَعَلَ بَيتَهُ فيها. ثُمَّ قَالَ: أتَدرونَ أيُّ البِقاعِ أفضَلُ فيها عِندَ اللهِ حُرمَةً؟ فَلَم يَتَكَلَّم أحَدٌ مِنّا، فَكانَ هُوَ الرّادَّ عَلى نَفسِهِ، فَقالَ: ذاكَ المَسجِدُ الحَرامُ. ثُمَّ قالَ: أتَدرونَ أيُّ بُقعَةٍ فِي المَسجِدِ الحَرامِ أعظَمُ عِندَ اللهِ حُرمَةً؟ فَلَم يَتَكَلَّم أحَدٌ مِنّا، فَكانَ هُوَ الرّادَّ عَلى نَفسِهِ، قالَ: ذاكَ ما بَينَ الرُّكنِ الأَسوَدِ والمَقامِ وبابِ الكَعبَةِ، وذلِكَ حَطيمُ إسماعيلَ عليه السّلام، ذاكَ الَّذي كانَ يُزَوِّدُ فيهِ غُنَيماتِهِ ويُصَلِّي فيهِ.

O أبو عُبَيدَة: قُلتُ لأَبي عَبدِ اللهِ عليه السّلام: الصَّلاةُ فِي الحَرَمِ كُلِّهِ سَواءٌ؟ فَقالَ: يا أبا عُبَيدَةَ، مَا الصَّلاةُ فِي المَسجِدِ الحَرامِ كُلِّهِ سَواءً، فَكَيفَ يَكونُ فِي الحَرَمِ كُلِّهِ سَواءً؟! قُلتُ: فَأَيُّ بِقاعِهِ أفضَلُ؟ قالَ: ما بَينَ البابِ إلَى الحَجَرِ الأَسوَدِ.

O الإمام الصّادق عليه السّلام: إن تَهَيَّأَ لَكَ أن تُصَلِّيَ صَلَواتِكَ كُلَّهَا الفَرائِضَ وغَيرَها عِندَ الحَطيمِ فَافعَل، فَإِنَّهُ أفضَلُ بُقعَةٍ عَلى وَجهِ الأَرضِ.

O زُرارَة: سَأَلتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلّي بِمَكَّةَ يَجعَلُ المَقامَ خَلفَ ظَهرِهِ وهُوَ مُستَقبِلُ القِبلَةِ، فَقالَ: لا بَأسَ، يُصَلّي حَيثُ شاءَ مِنَ المَسجِدِ بَينَ يَدَيِ المَقامِ أو خَلفَهُ، وأفضَلُهُ الحَطيمُ والحِجرُ وعِندَ المَقامِ، والحَطيمُ حِذاءُ البابِ.

O الحَسَنُ بنُ الجَهم: سَأَلتُ أبَا الحَسَنِ الرِّضا عليه السّلام عَن أفضَلِ مَوضِع فِي المَسجِدِ يُصَلّى فيهِ، قالَ: الحَطيمُ، ما بَينَ الحَجَرِ وبابِ البَيتِ. قُلتُ: والَّذي يَلي ذلِكَ فِي الفَضلِ؟ فَذَكَرَ أنَّهُ عِندَ مَقامِ إبراهيمَ عليه السّلام. قُلتُ: ثُمَّ الَّذي يَليهِ فِي الفَضلِ؟ قالَ: فِي الحِجرِ، قُلتُ: ثُمَّ الَّذي يَلي ذلِكَ؟ قالَ: كُلَّما دَنا مِنَ البَيتِ.

مَدفَنُ الأَنبِياءِ فِي المَسجِدِ

* رسول الله صلّى الله عليه وآله: «كانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنبِياءِ إذا هَلَكَت أُمَّتُهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ، فَيَتَعَبَّدُ فيهَا النَّبِيُّ ومَن مَعَهُ حَتّى يَموتَ فيها، فَماتَ بِها نوحٌ وهودٌ وصالِحٌ وشُعَيبٌ، وقُبورُهُم بَينَ زَمزَمَ والحَجَرِ».

* الإمام الباقر عليه السّلام: «إنَّ ما بَينَ الرُّكنِ والمَقامِ لَمَشحونٌ مِن قُبورِ الأَنبِياءِ، وإنَّ آدَمَ لَفي حَرَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ».

* الإمام الصّادق عليه السّلام: «دُفِنَ ما بَينَ الرُّكنِ اليَمانِيِّ والحَجَرِ الأَسوَدِ سَبعونَ نَبِيّاً».

المواضع المقدّسة

(1) الحَطيم. (2) المُلتَزم. (3) المُستَجار.

1- الحَطيم: هو جزءٌ من المسجد الحرام، وهو أفضل مواضعِه.

وحدود الحطيم هي: ركنُ الحجر الأسود وبابُ الكعبة ومقامُ إبراهيم عليه السّلام.

سُمّي هذا الموضع بالحطيم لأنّه مزدحمٌ جدّاً بالطّائفين الّذين يريدون استلامَ الحجر أو الدّعاء عند الباب، فكأنّما يَحطِم بعضُهم بعضاً.

2- المُلتَزم: ويقال له «المُتعوَّذ» و«المَدعى». وهو جزءٌ من جدار الكعبة قربَ الرّكن اليمانيّ حيال الباب، وهو غير الحطيم قطعاً، وهذا الأمر متّفَقٌ عليه لدى الفقهاء والمحدّثين من الشّيعة. وأمّا أهل السّنّة فيختلفون فيه، فبعضٌ يقول إنّه بين الرّكن والمقام، والأكثر يقول إنّه بين الباب والرّكن. وليس بعيداً أنّ منشأ هذا القول التزامُ رسول الله صلّى الله عليه وآله ودعاؤه بهذا المكان، الّذي هو مندوبٌ عند الشّيعة أيضاً، لا سيّما عند وَداع البيت.

3- المُستَجار: هو الباب الغربيّ في ظهر الكعبة، الذي قد بناه إبراهيم عليه السّلام، وهَدَمَتْه قريش حينما جدّدت بناءها. ومكان هذا الباب قريبٌ من الملتَزم، وتتّحد آدابه وخصائصه معه، وهو السّبب في اتّحاد الملتزم والمستَجار في ألسنة المحدّثين والفقهاء. وفي رواية غير صحيحة: «المستجار بين الحجر والباب».

(الرّيشهريّ، الحجّ والعمرة في الكتاب والسّنّة: ص 118 – 122)

 

 

الحجّ تذكيرٌ بالحَشر الأعظم

«يُفصح عن ذلك ما أشار إليه بعضُ الأعلام:

إنّ الله تعالى سَنَّ الحجّ ووضعَه على عبادِه إظهاراً لجلاله وكبريائه، وعُلوِّ شأنه وعِظَمِ سلطانِه ".." ثمّ أذّنَ في النّاس بالحجّ ليأتوه رجالاً ورُكباناً من كلّ فَجّ، وأمرَهم بالإحرام وتغيير الهيئة واللّباسِ شُعثاً غُبراً متواضعين مُستَكينين، رافعين أصواتَهم بالتّلبية، وإجابةِ الدّعوة، حتّى إذا أتوه كذلك حجبَهم عن الدّخول، وأوقفَهم في حُجُبِه يدعونه ويتضرّعون إليه، حتّى إذا طالَ تضرُّعُهم واستكانتُهم ورجموا شياطينَهم بجمارهم، وخلعوا طاعةَ الشّيطان من رقابِهم أَذِنَ لهم بتقريب قُربانهم وقضاءِ تَفَثِهم، ليَطّهروا من الذّنوب التي كانت هي الحجابُ بينَهم وبينَه، وليزوروا البيتَ على طهارةٍ منهم، ثمّ يُعيدهم فيه بما يظهر معه كمالُ الرِّقِّ وكُنْهُ العبوديّة، فجعلَهم تارةً يطوفون فيه، ويتعلّقون بأستاره، ويلوذون بأركانِه، وأُخرى يسعون بين يدَيه مَشياً وعَدْواً، ليتبيّنَ لهم عزُّ الرّبوبيّة، وذُلُّ العبوديّة، وليعرفوا أنفسَهم، ويضع الكِبْرَ من رؤوسِهم، ويجعل نِيرَ الخضوع في أعناقِهم، ويستشعروا شعارَ المذلّة، وينزعوا ملابسَ الفخر والعزّة، وهذا من أعظم فوائد الحجّ، مضافاً إلى ما فيه من التّذكّر -بالإحرام والوقوف في المشاعر العِظام- لأحوالِ المحشر، وأهوالِ يوم القيامة، إذ الحجُّ هو الحَشرُ الأصغر، وإحرامُ النّاس وتلبيتُهم وحشرُهم إلى المواقف ووقوفُهم بها وَالِهين متضرّعين راجعين إلى الفلاح أو الخيبة والشّقاء أشبهُ شيءٍ بخروج النّاس من أجداثهم، وتوشُّحِهم بأكفانهم، واستغاثتِهم من ذنوبهم، وحَشْرِهم إلى صعيدٍ واحدٍ: إلى نعيمٍ أو عذابٍ أليم، بل حركاتُ الحاجّ في طوافِهم وسَعيهم ورجوعِهم وعَودِهم يُشبه أطوارَ الخائف الوَجِلِ المضطربِ المدهوشِ الطّالبِ ملجأً ومفزعاً، نحو [مِثل] أهلِ المحشر في أحوالِهم وأطوارِهم، فَبحلول هذه المشاعر والجبال والشّعب والتّلال ولدى وقوفِه بمواقفه العِظام يهونُ ما بأمامِه من أهوال يوم القيامة من عظائمِ يومِ المحشر، وشدائدِ النّشر، عصمَنا اللهُ وجميعَ المؤمنين، ورزقَنا فوزَه يومَ الدّين، آمينَ ربّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآله الطّاهرين».                                             

من (العروة الوُثقى)

 

 

 

مقارنةٌ بين سَفَر الحجّ، وسفر الحياة الطيّبة

سفرٌ إلى بيت الله، وسفرٌ إلى لقاء الله

ـــــ الفقيه العارف الشّيخ محمّد البهاريّ الهمدانيّ ـــــ

 

* «.. كما يُلاقي ربَّه في الدّنيا (في حال الإحرام) بغير زِيـِّه وعادته، مغبرّاً، حاسرَ الرّأس، حافيَ القدمَين، فكذلك سيُلاقي ملائكةَ ربِّه بعد الموت، فينبغي أن يكون قصدُه عند ارتداء ثوبَي الإحرام تنظيف الرّوح من دَرَن المعاصي، ويعقد ثوبَي الإحرام بقصد التّوبة الصّحيحة..».

* في هذه الآفاق المعنويّة السّامية كتبَ المقدّس البهاريّ الهمدانيّ في (تذكرة المتّقين) ما يلي:

 

في الميقات: عندما يصلُ الحاجّ إلى الميقات، ينزع ثيابَه في الظّاهر ويلبس ثوبَي الإحرام، وأمّا في الباطن فينبغي أن يكون قصدُه أنّه خلعَ عن نفسِه ثيابَ المعصية والكفر والرّياء والنّفاق، ولبسَ ثوبَ الطّاعة والعبوديّة، ويتنبّه كذلك إلى أنّه كما يلاقي ربّه في الدّنيا (في حال الإحرام) بغير زيّه وعادته، مغبرّاً، حاسر الرّأس، حافيَ القدَمين، فكذلك سيُلاقي ملائكة ربّه بعد الموت، فينبغي أن يكون عند ارتداء ثوبَي الإحرام، بمنتهى الذُّلّ والانكسار، وقبل ارتداء ثوبَي الإحرام، أثناء التّنظيف وهو عارٍ، يجب أن يكون قصدُه تنظيف الرّوح من دَرَن المعاصي، ويعقد ثوبَي الإحرام بقصد التّوبة الصّحيحة، أي أن يحَرِّم على نفسه بعزمٍ وإرادةٍ صادقة، كلّ الأمور التي حرّمَها ربُّ العالمين، بحيث يقرّر أنّه من الآن فصاعداً، وبعد رجوعه من مكّة المعظّمة لن يطوفَ حولَ المعاصي.

وعندما يقول «لبّيك»، ينبغي أن يتنبّه إلى أنّ قوله هذا، إجابةٌ للنّداء الذي وُجِّه إليه، فينوي أوّلاً: قبلتُ كلَّ طاعةٍ لله تعالى. وثانياً: يعيش التّردّد بين قبول هذا العمل منه وعدم قبوله «فيكون بين الخوف والرّجاء».

لِيستحضر هنا قضيّة سيّد السّاجدين سلام الله عليه، حيث لم يتمكّن في الإحرام أن يقول: «لبّيك»، وأُغمي عليه، وعندما سُئل عن ذلك قال: «أخافُ أن يقولَ ربّي: لا لبّيك».

وَلْيستحضر بذلك يوم المحشر، حيث يخرج جميع النّاس على هذا الشّكل من قبورهم، شُعث الشّعور غُبر الوجوه، حفاة، في زحام لا نظيرَ له، بعضهم في زُمرة المقبولين، والبعض الآخر في زمرة المردودين، بعضٌ منعَّم، وبعضٌ معذَّب، وبعضٌ متحيّرٌ في الأمر، بعد أن كانوا جميعاً في الورطة الأولى في شكٍّ من أمرهم وترديد.

في الحَرَم

وعندما يدخلُ الحَرَم يجب أن يكون حالُه حالَ الرّجاء والأمن من السّخط والغضب الإلهيّين، كحال المُذنب الذي وصلَ الى حصنٍ حَصين، والتجأَ الى ملجأ أمين. بمفاد الآية الشّريفة ﴿.. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا..﴾ آل عمران:97، فإنّ مكانَ زيادة الرّجاء والأمل هو هذا المكان.

ذلك لأنّ شرفَ البيت العظيم وصاحبَه يقتضيان توسعةَ الرّحمة على الرّاجي الكريم.

أنت هناك ضيفٌ خاصٌّ لأَكرم الأكرمين، كان يبحث عن مسوّغٍ ليدعوك ولو مرّةً واحدةً في العمر الى بيتِه، رغم أنّك كنت ضيفَه دائماً، والآن تيسّرَ ذلك، حاشا كرمَه وكلّا، أن يتبرّم بطلبك مهما طلبتَ منه، حيث إنّه يستطيع التّكرّم به. ما هكذا الظّنّ به جلّت عَظَمتُه.

مثل هذا الظّنّ ينبغي أن لا يُظنّ ببعض أسخياء العرب فضلاً عن الجواد المطلق.

أمّا اذا كنتَ أنت لا تستطيع الحصولَ على ما تريد، أو تحصل عليه ولا تستطيع المحافظة عليه، أو أنّك من الأصل لا تعرف ماذا يجب أن تطلب، أو تفعل شيئاً بحيث تكون أنت السّبب في عدم وجود المقتضي لعطائك، فليس الذّنبُ في ذلك ذنبَ أحدٍ [غيرك].

أكثر النّاس الّذين يتشرّفون بمكّة أعظمُ همِّهم أن يؤدّوا ظاهرَ هذه الأعمال، ويُلقوها عن ظهورهم على سبيل الاستعجال، وعند ذلك ينصرفون براحة بالٍ إلى المشتريات، ولا يبذلون جهداً ليتركّز الانتباهُ على التّفكير بمقدار ذرّةٍ على معنى هذه الأعمال.

الاستجداءُ لا ينسجمُ مع الكسل وموتِ الهمّة.

 بلى، إنّ الخَلَلَ هنا!

 أكثر النّاس الذين يتشرّفون بمكّة أعظمُ همّهم أن يؤدّوا ظاهرَ هذه الأعمال، ويُلقوها عن ظهورهم على سبيل الاستعجال، وعند ذلك ينصرفون براحة بالٍ إلى المشتريات، ولا يبذلون جهداً ليتركّز الانتباهُ على التّفكير بمقدار ذرّةٍ على معنى هذه الأعمال، مع أنّ كلّ حواسّ الضّيف يجب أن تكون متوجّهةً إلى المُضيف، حتّى أنّ الصّوم المستحبّ مذمومٌ بدون إذن المضيف (من النّاس) لأنّك عندما تكون ضيفَ شخصٍ وتصومُ في بيته دون إذنه فقد تجرّأت عليه في بيته، والتّجرّؤ على كرامة سلطان السّلاطين، هو الاشتغالُ بما نهى عنه.

أيّ حاجٍّ من الحجّاج الاعتياديّين، دخل إلى الحَرَم الإلهيّ ولم تصدر منه مائة معصية على الأقلّ من الكَذب، والغِيبة، وأذى الغير، والنّميمة، وتعطيل حقّ الغير، والفُحش للسّائق، والمُعرِّف (الحملدار) وغيره ممّا لا تتّسع الورقة لبيانه، والله أعلم.

الطّواف

وعندما يبدأ الطّواف، يجب أن تستولي على جميع ذرّات وجوده الهَيبة، والعَظَمة، والخوف، والخشية، والرّجاء، وطلب العفو والرّحمة، واذا لم ترتجف الأعضاء الخارجيّة، فلا أقلّ من أن يرتجفَ القلب، مثل الملائكة الذين يطوفون دائماً حول العرش، كما في الأخبار، إذا أردتَ أن تتشبّه بهم.

يجب أن ينتبهَ إلى أنّ الطّواف ليس منحصراً بالطّواف الجسمانيّ، بل هناك طوافٌ آخر هو أصلُ الطّواف الحقيقيّ، وهو طوافُ القلب حول ذِكر ربِّ البيت، وإنّما هو أصلٌ لأنّ الأعمال الجسديّة جُعلت أمثلةً للأعمال القلبيّة، لينتقلَ الإنسانُ من تلك (الأعمال الجسديّة) إلى هذه (القلبيّة)، كما هو مضمونُ الرّواية.

وأيضاً يجب أن يعلم أنّه كما لا يُمكن الوصول إلى هذا البيت بدون قطع العلاقة بالأشغال الدّنيويّة، والمرأة، والولد وغير ذلك، فكذلك الأمر في الوصول إلى الكعبة الحقيقيّة. إنّ أساس الحُجب المانعة من الوصول إليها العُلقة: «علاقة القلب بالدّنيا».

 

ليس الطّواف منحصراً بالطّواف الجسمانيّ، بل هناك طوافٌ آخر

هو أصلُ الطّواف الحقيقيّ، وهو طواف القلب حول ذِكر ربِّ البيت.

 

عند الحَجر والمُستَجار، والحَطيم

عند تقبيل الحجر، والالتصاق بالمستجار، وعند استلام الحَطيم والتّشبّث بأذيال ستار الكعبة يجب أن يكون حالُه حالَ المُذنب الفارّ من خوف الأذى أو خوف أن يُكْوَى، أو يُقتل، فالتجأَ إلى عظيمٍ ليعفوَ عن ذنبه، ولذا فهو تارةً يُقبّل يدَيه ورجلَيه، وتارةً يلوذ به لياذَ العاجز الحقير، تارةً يبكي، تارةً يُقسم عليه بأعزّ الأشخاص عندَه، تارةً يتضرّع، لعلّه يُنقذه من هذه المهلكة، خاصّةً إذا كان مَن التجأ إليه مَن يعرف أنّه لن يجد ملجأً غيرَه، إنّه حين ذلك لا يفكّر بالخروج من عنده إلّا بعد أن يحصلَ على الأمرِ بالعفو عنه.

لا وربِّ الكعبة، إنّ الإنسان بالنّسبة إلى الأمور الدّنيويّة، كما تقدّم، أما بالنّسبة إلى عذاب الآخرة، فلأنّها دَيْن، وليست نقداً، فإنّه لا يفكّر بمثل هذه الأمور «من التّذلّل والالتجاء والتّضرّع».

الحجّاجُ الذين يكون حجَُّهم كاذباً، يركضون قليلاً حول الكعبة ثمّ يذهبون للتّفرّج على الحجارة والأسواق والجدران.

السّعي

وعندما يأتي إلى السّعي يجب أن يكون سعيُه أن يجعلَ هذا السّعيَ بمنزلة التّردّد في بيتِ السّلطان برجاء عطائه ومَنِّه.

في عرفات

وأمّا في عرفات، فليَتذكّر المحشر، من خلال ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتِهم بأنواع التّضرُّع والنّحيب، والالتماس باختلاف الألسنة، وتوسُّلِ كلّ فئةٍ منهم بأئمّتهم طلباً للشّفاعة.

فَلْيَبذل جهدَه في كمال التّضرُّع والإلحاح هنا [في عرفات] حتّى لا يُبتلى هناك [في المحشر]، ولْيـَقْوَ ظنُّه كثيراً بحصول مراده، لأنّ يوم الموقف الشّريف عظيم، والنّفوسَ مجتمعة، والقلوبَ منقطعةٌ إلى الله، وأيدي الأولياء وغيرهم ممتدّةٌ إلى الله جلَّ شأنُه، والرّقابَ مشرئبّةٌ نحوه. العيون باكيةٌ من خوفه، والمفاصل مرتجفةٌ من هيبتِه، واليوم يومُ إحسان، والأبدال والأوتاد في المحضَر حاضرون، وقد قرّر السّلطان العفوَ والإنعام، وهو أيضاً يومُ تقليدِ الوسام لرئيس وزراء الدّولة العتيدة عجّل الله تعالى فرجَه الشّريف.

في مثل هذا اليوم لا يُستبعَد حصولُ الفيض بأعلى مدارجِه لجميع النّاس والخلائق.

هل تظنّ أنّ خالقَك سيضيّع سعيَك مع أنّك انقطعتَ عن الأهل والأولاد؟! ألا يرحمُ غربتَك؟!

ما هكذا الظّنُّ به ولا المعروفُ من فضلِه.

ومن هنا ورد في الحديث:

إنّ من أعظم الذّنوب أن يحضر أَحدٌ عرفات ويظنّ أنّه لا يُغفَرُ له، أللّهمّ ارزقنا.

الإفاضة من عرفات

وعندما يُفيض من عرفات، ويتوجّه إلى الحَرَم، فَلينتبه إلى أنّ هذا الإذن الثّاني بدخول الحرم سببٌ للتّفاؤل بقبول حجّه، وقُربِه من ربّه، وأمنِه من العذاب الإلهيّ.

وعندما يصل إلى مِنى فليَرمِ الجمار (الحَصَيَات) ملتفتاً إلى أنّ روح هذا العمل في الباطن إبعادُ الشّيطان، فإنْ كان كالخليل فكَالخليل وإلّا فلا. [فإن كان مُوحِّداً كالخليل عليه السّلام، فليتصرّف مثله، ليكون قريباً من الله تعالى، وإلّا فلا].

وَداعُ الحَرَم

وعندما يودّعُ الحَرَم يجب أن يكون في مُنتَهى التّضرُّع، مشوّشَ الحال، بحيث إنّ كلّ من رآه أدركَ أنّه مثل مَن يتركُ شخصاً عزيزاً، ويرحل عنه، مثل تَرْكِ إبراهيم إسماعيل وهاجر عليهما السّلام.

ويكون قراره أنّه سيرجع في أوّل أزمنةِ التّمكّن من الرّجوع إلى هذا المكان الشّريف.

ويجب أن يكون متوجّهاً إلى المضيف «سبحانه» في كلّ حال، حذراً من أن يودعّه بما ينافي الأدب فيصبح المضيف لا يرضى برجوع هذا الضّيف إلى بيته أبدَ الآبدين، ورغم أنّ هذا المضيف، جَلَّ جلالُه، سريعُ الرّضا، إلّا أنّ على الضّيف مراعاة الأدب إلى أقصى الحدود.

إذا استطاع، فليَحرص بمقدار وُسعه على الذّهاب إلى البقاع التي تعبّدَ فيها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، مثل جبال مكّة المظلمة، يذهب إليها بقصد التّشرّف بمحلّ أقدامه المباركة، لا بقصد التّفرُّج، بل يصلّي فيها ركعتَين بقصد القُربة المطلقة، بل يبقى فيها إذا تمكّن مدّةً أطول من المتعارف، وإذا كان حجُّه هو الأوّل، فلا يترك الدّخولَ إلى الكعبة بالآداب المأثورة في الشّرع المطهَّر، كما ذُكِرَ في محلّه.

**

المستجار والحطيم

* المستجار المكان المقابل لظَهر باب الكعبة، من الجهة الأخرى، وهو المكان الذي كان في السّابق باب الكعبة قبل تجديد البناء، على ما قيل، أو هو المكان الذي استجارت عنده بالبيت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام عند ولادته في الكعبة.

* الحطيم بين باب الكعبة والحجر الأسود، أو ما بين الرّكن وزمزم والمقام، وسُمِّيَ بذلك لأنّ النّاس يُظهرون الانكسار والتّواضع هناك، ويلوذون بالدّعاء بخضوعٍ وخشوع؛ وفي الجاهليّة كان مكاناً للقَسم. وحطم بمعنى كَسَر، وقيل: سُمّيَ بذلك لازدحام النّاس عنده يحطمُ بعضُهم بعضاً، أو لأنّه يحطم الذّنوب. وفي بعض الرّوايات أنّه أشرف البقاع، وبعده في الفضل قرب مقام إبراهيم ثمّ حِجر إسماعيل عليهما السّلام.

* شعائر

 

إحرامُ الحجّ، عَرَفة، المَشعر الحَرام


تأمّلاتٌ في فقه القلب والحياة


ـــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــ


الإحرام داخل المسجد الحَرام: من المستحبّات التي يجدر الحرصُ عليها، أن يكون البَدءُ في التّوجّه من مكّة إلى عَرَفة من داخل الحَرَم.

أورد الشّيخ الصّدوق عن الإمام الصّادق ما ينطبق على ذلك، قوله عليه السّلام: «إنْ تَهَيَّأَ لَكَ أن تُصَلِّيَ صَلَواتِكَ كُلَّهَا الفَرائِضَ وغَيرَها عِندَ الحَطيمِ فَافعَل، فَإِنَّهُ أفضَلُ بُقعَةٍ عَلى وَجهِ الأَرضِ».

أضاف [الشّيخ الصّدوق]: «والحَطيم ما بين باب البيت والحجَر الأسود، وهو الموضعُ الذي فيه تاب الله عزّ وجلّ على آدم عليه السّلام، وبعدَه الصّلاة في الحِجْر أفضل، وبعد الحِجر ما بين الرّكن العراقيّ وباب البيت، وهو الموضع الذي كان فيه المقام، وبعدَه خلف المقام حيث هو السّاعة، وما قَرُبَ من البيت فهو أفضل».


التّلبية سبعين مرّة

كما ينبغي التّنبّه إلى أهميّة التّلبية للمُحرم عموماً، وبالخصوص أن يلبّي سبعين مرّة، فقد رُوي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قولُه:
«مَنْ لَبَّى فِي إِحْرَامِه سَبْعِينَ مَرَّةً إِيمَاناً واحْتِسَاباً أَشْهَدَ اللهُ لَه أَلْفَ أَلْفِ مَلَكٍ بِبَرَاءَةٍ مِنَ النَّارِ وبَرَاءَةٍ مِنَ النِّفَاقِ».

فمَن استطاع أن يعقدَ إحرام الحجّ عند مقام إبراهيم أو في حِجر إسماعيل كما رُوي وأفتى به الفقهاء، ويصلّي عند الحَطيم، حيث لا يكون الحَرَم مزدحماً في هذا اليوم، فليَفعل. ثم يتوجّه إلى عَرَفة.

وينبغي أن يؤدّي الحاجّ ذلك بحيث لا يؤثّر في نشاطه في وقت أعمال عَرَفة.

وليُلاحَظ هنا أنّ فترة ما قبل الظّهر من يوم عَرَفة، لا تحمل أعمالاً خاصّة بها، وكأنّها فترة حُرّة، يتمّ الاستعداد فيها للعمل الجادّ الذي يبدأ مع الزّوال وحلول وقت صلاة الظّهر.

هل إليك يا ابنَ أحمدَ سبيلٌ فترضى

* ومن الجدير جدّاً بكلّ اهتمام أن يعيش قلبُ الحاجّ بشكلٍ خاصّ، مع وصيّ رسول الله صاحب العصر والزّمان عجّل الله فرجه الشّريف، فإنّه عليه السّلام يحضر موسم الحجّ، كما ورد في الرّوايات، ويرى النّاس وهو يعرفهم، ويرونَه ولا يعرفونه، وهذه رُبى عرفات أصغر منطقة جعرافيّاً يجزم المؤمن بوجوده فيها مع إمام زمانه بابِ الاتّصال برسول الله وبالله تعالى.

تصرّح بعض المنقولات المعتبَرة نقلاً عنه عليه صلوات الرّحمن بأنّه يزور خِيَمَ الحجّاج، وأنّ للعزاء في عَرَفة -خصوصاً عن أبي الفضل العبّاس عليه السّلام- موقعاً مميّزاً لديه سلام الله تعالى عليه.

العمل في عَرَفة

قال الشّيخ الصّدوق: «وسُمّيت عَرَفَة لأنّ جبرئيل عليه السّلام قال لإبراهيم عليه السّلام، بعرفات: اِعتَرفْ بذنبِك واعرف مناسكَك، فلذلك سُمّيت عَرَفة».

أهمّ ما ينبغي أن يشغلَ القلب في هذه الرّبى وعلى هذه الأعتاب، هو التّفكير الجادّ والجذريّ في حال النّفس ومدى مصداقيّتها.
هل أريد حقّاً أن أكون مؤمناً؟

ما هو مدى الجدّ في خشيتي لله تعالى؟

ويستعرض كلَّ شريط حياته بوضوح، مركّزاً على العقيدة أوّلاً، والأخلاق ثانياً، والسّلوك ثالثاً، دون أدنى انطلاقٍ في ذلك من الرّضا عن النّفس، فهو يحاسبها الآن محاسبةَ الشّريك شريكَه، ويترك التّقييم النّهائيّ إلى حيث يحين وقتُه.

بابُ العلاقة بالنّاس شديد الحساسيّة. قال تعالى: ﴿..وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾. طه:111. فمَن كان يحتطبُ على ظهره عقوداً من ظلم أهله، ومَن حوله، أو هم وغيرهم، فهو ظالم. والقاسمُ المشترك بينه وبين الحكّام الطّواغيت والظَّلَمة خطيرٌ خطير، وربّما لو أُتيحَ له أن يحكم لكان (صَدّاماً) بحسبه، أو فرعوناً آخر بما يناسبه.


وبابُ حمْل هَمِّ المسلمين في صُلب تزكية النّفس، فلا تسجلنّ الملائكة على هذا القلب أو ذاك أنّه ليس مسلماً، فإنّهم إن سجّلوا ذلك لم ينفعه عمل عَرَفة ولا غيرها.

أليس مَن لم يحمل هَمَّ المسلمين خارجاً عن دائرتهم؟؟ ألم يقل المصطفى الحبيب سيّد الرّسل صلّى الله عليه وآله: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليسَ بمُسلم»؟


ولا ينفصل حمل هَمّ المسلمين إطلاقاً عن خَفْقة القلب مع مظلوميّة كلّ مظلوم مستَضغف ولو لم يكن مسلماً، فالوقوف مع العدل وضدّ الظّلم لا يتجزّأ.
ما هو الحالُ في العراق والبحرين واليمن وفلسطين ولبنان والباكستان؟ وماذا يجري ضدّ المسلمين كلّهم والبشريّة جمعاء في الحجاز وغير الحجاز؟

أيّ معاناة يتجرّع غصصَها أهلنا في أفغانستان، وتعصف بهم أهوالها؟

سيجد القلب بلا أدنى ارتياب أنّه يقترب رويداً رويداً من خيمة المولى وصيّ رسول الله الإمام المهديّ المنتظَر، وإنْ لم يعرفها، بل ربّما وجد القلبُ أنّ الإمام بكرَمه المحمّديّ الإلهيّ قد بسطَ عليه غامرَ حنانِه واللّطف، وخاطب قلبَه، وربّما وفِّق المؤمن للمزيد، فالله تعالى وأولياؤه عادتُهم الإحسانُ إلى المُسيئين.

منه تعالى ما يليقُ بكرمِه ومنّي ومنك ما يليقُ بضعفنا والطّين والحمإ المسنون.


أيّها العزيز: هذه عَرَفَة

هذه عَرَفة، والحجُّ عَرَفة، والقلبُ الضّعيف لا يقوى على نور مصابيح كاشفة، فكيف يقوى على كلّ هذا التّوهّجِ الفريد، وفيضِ النّور الإلهيّ الأبهى، النّورِ المحمّديّ والكوكبِ الدّرّيّ، والعَظَمة الزّاهرة التي اشتُقّت من نور عَظَمة الله تعالى.

ها هي الزّيتونة المباركة التي يكاد زيتُها يضيء ولو لم تمسَسه نار، نورٌ على نور.

وها هو القلب المُربدّ طِخْيَةَ الدّيجور.

ولا كلام لي ولك أيّها العزيز، ولا بنت شفة. بل العجزُ المفرط ذاتيّ، فهل تلازمه مصداقيّةُ الاعتراف القلبيّ بهذا العَجز.

أمرَنا ربّنا الرّؤوف الرّحيم إذا ظلمنا أنفسنا أن نقفَ بباب مَن جعلَه اللهُ تعالى الرّؤوفَ الرّحيم.

وهذا بابُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وصيُّه المهديّ في عرفات!
فهل يهتدي القلبُ من بين مشتَبك الغرائز، وتلاطم أمواج الأهواء، وكلّ هذا الضّجيج، أن يجيدَ الوقوف بهذا الباب؟

لك كلُّ الحقّ أن تقول: إنْ كان الوصول مطلوباً منّا فمَن ذا يُمكنه الوصول؟
ولكن أيّها العزيز: أليس الصّدقُ في الطّلب مطلوباً منّا؟
فهل يَصدُق الطّلب؟ هل يصدق القلب في التّضرّع مقرّاً بالعجز عن الوصول؟

ليس موحّداً مَن كان يظنّ أنّه هو الذي يصل، فالأنا البغيضة تحجب التّوحيد.

وليس موحّداً مَن استبدّ به اليأسُ وأقعدَه الإحباط.

إنّما الموحّد الذي أقرَّ بالعَجز عن الوصول، يَئسَ من نفسه يقيناً، فإذا مَعقدُ الآمال لديه، ومعاكف الهِمم، ومحطّ الرّحال، جودُ الله تعالى وكرمُه، ولطفُه عزّ وجلّ والحنانُ الغامرُ الرّحيم، ليستشعرَ هذا القلب، أو الخرقة البالية -لا فرق- بصدق، ولو مرّةً واحدة، هذه الحال:

 «إِلَهِي إِنْ لَمْ تَبْتَدِئْنِي الرَّحْمَةُ مِنْكَ بِحُسْنِ التَّوْفِيقِ فَمَنِ السَّالِكُ بِي إِلَيْكَ فِي وَاضِحِ الطَّرِيقِ، وإِنْ أَسْلَمَتْنِي أَنَاتُكَ لِقَائِدِ الأَمَلِ والْمُنَى فَمَنِ الْمُقِيلُ عَثَرَاتِي مِنْ كَبَوَاتِ الْهَوَى، وإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ النَّفْسِ والشَّيْطَانِ فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلَى حَيْثُ النَّصَبُ والْحِرْمَانُ.


إِلَهِي أَتَرَانِي مَا أَتَيْتُكَ إِلا مِنْ حيثُ الآمَالُ، أَمْ عَلِقْتُ بِأَطْرَافِ حِبَالِكَ إِلّا حِينَ بَاعَدَتْنِي ذُنُوبِي عَنْ دَارِ الْوِصَالِ، فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتِي امْتَطَتْ نَفْسِي مِنْ هَوَاهَا، فَوَاهاً لَهَا لِمَا سَوَّلَتْ لَهَا ظُنُونُهَا ومُنَاهَا، وتَبّاً لَهَا لِجُرْأَتِهَا عَلَى سَيِّدِهَا ومَوْلاهَا.

إِلَهِي قَرَعْتُ بَابَ رَحْمَتِكَ بِيَدِ رَجَائِي، وهَرَبْتُ إِلَيْكَ لاجِئاً مِنْ فَرْطِ أَهْوَائِي، وعَلَّقْتُ بِأَطْرَافِ حِبَالِكَ أَنَامِلَ وَلائِي، فَاصْفَحِ اللَّهُمَّ عَمَّا كُنْتُ أَجْرَمْتُه مِنْ زَلَلِي وخَطَائِي، وأَقِلْنِي مِنْ صَرْعَةِ رِدَائِي، فَإِنَّكَ سَيِّدِي ومَوْلايَ ومُعْتَمَدِي ورَجَائِي، وأَنْتَ غَايَةُ مَطْلُوبِي ومُنَايَ فِي مُنْقَلَبِي ومَثْوَايَ».

حُسْنُ الظّنّ بالله تعالى

والعملُ الأوّل والأخير الذي هو في الحقيقة جوهرُ كلِّ عملٍ في يوم عَرَفة، هو حُسن الظّنّ بالله تعالى، وطردُ اليأس وسوءِ الظّن به عزّ وجلّ. ففي الرّواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:

 «وإذا وقفتَ بعرفات إلى غروبِ الشّمس، فلو كانَ عليك من الذّنوب مثل رَمْلِ عالج [رملٌ ناعم جدّاً، فهو في غاية الكَثرة] وزَبَدِ البَحرِ لَغفرَها اللهُ لكَ».

وعن الإمام الباقر عليه السّلام: «ما يقفُ أحدٌ على تلك الجبال، بَرٌّ ولا فاجر، إلّا استجابَ اللهُ له، فأمّا البَرّ فيُستَجابُ له في آخرتِه ودُنياه، وأمّا الفاجر فيُستَجاب له في دنياه».

ولا يقتصرُ الأمرُ في شمول الرّحمة على الحاضرين، بل يمتدّ منهم إلى غيرهم:

قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «مَا مِن رَجُلٍ من أهل كُورَةٍ وَقَفَ بعرَفة من المؤمنين، إلّا غفرَ اللهُ لأهلِ تلك الكُورة من المؤمنين، ومَا مِن رَجُلٍ وَقَفَ بعرَفة من أهل بيتٍ من المؤمنين إلّا غفر اللهُ لأهل ذلك البيت من المؤمنين».

لذلك كان أشدّ النّاس جُرماً مَن يقنط من رحمة الله تعالى في يوم عَرَفة:
«وأعظمُ النّاس جُرماً من أهل عرفات الذي ينصرفُ من عرفات وهو يظنّ أنّه لم يُغفَر له».
[يعني الذي يَقنط من رحمة الله عزّ وجلّ]

وأختمُ هنا ببشارةٍ لمَن تكرّر حَجُّه ثمّ لم يوفَّق في بعض الأعوام للحجّ: قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «إذا كان عشيّة عَرَفة بعث اللهُ عزّ وجلّ ملكَين يتصفّحان وجوه النّاس، فإذا فقدا رجلاً قد عوَّد نفسَه الحجّ، قال أحدُهما لصاحبه: يا فلان ما فعلَ فلان؟

قال: فيقول: اللهُ أعلم، فيقول أحدُهما: أللّهمّ إنْ كان حبسَه عن الحجّ فقرٌ فأَغنِه، وإنْ كان حبسَه دَينٌ فاقضِ عنه دَينَه، وإنْ كان حبسَه مرضٌ فاشفِه، وإنْ كان حبسَه موتٌ فاغفر له وارحَمْه».

ولا بدّ من التّذكير بأنّ أعمال يوم عَرَفة تستغرقُ الوقتَ كلَّه من الظّهر إلى اللّيل، فَلْيَحرص المؤمن عليها، وليُهيّء الأدعية المتعدّدة لهذا اليوم، بالإضافة إلى الدّعاء المركزيّ، دعاء الإمام الحسين عليه السّلام، ولا ينسَ دعاء عَرَفة للإمام السّجّاد عليه السّلام.

المشعَر الحرام

يُختَتم موسم عَرَفة، الذي يتلو في الفضل ليلة القدر، بالانتقال المباشر إلى موسمٍ عباديٍّ بالغ الفَرادة والتّميّز، وهو للأسف بالغُ التّضييع والإهمال.

إنّه الوقوف بـ «المشعَر الحرام»، أي «مزدلفة»، أي «جَمْع»، فهي ثلاثةُ أسماء لمكانٍ واحدٍ عظيمِ الحُرمة عند الله تعالى.

ولا تنفصل الحُرمة عن مدى قُرب مَن يبلغُها، وحرمتِه، على أنّ بلوغ القُرب حركةُ عقلٍ وقلب، وما الجسدُ إلّا بُراقٌ أو حجاب، أو وسيلة مركّبة من هذا البُراق و درْكٍ من ذاك الحجاب.

إنْ قلتَ في الإفاضة من عرفات، إنّها الإفاضة من الحضور إلى الشّهود، فلم تَعْدُ الحقيقة، وإنْ قلتَ إنّها، بالغفلة عنها، الإفاضةُ من الحَرَم إلى الحرمان، ومن القُرب إلى الطّرد، فقد أصبتَ كبدَ الحقيقة.


دلالاتُ التّسمية

وفي محاولة التّعرّف إلى دلالات التّسميات الثّلاث لهذا المكان الواحد الذي يفيضُ الحاجّ إليه من عرفات، نجدُ التّالي:

1- جَمْع

قال الشّيخ الصّدوق:

«وسُمّيت المزدلفة جَمْعاً لأنّه يجمع فيها المغربَ والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين.

أي يصلَيّان جَمعاً فسُمِّيَ المكان "جَمْع"».

وفي الدّعاء المرويّ ما يصلح تفسيراً آخر للتّسمية، وهو عن الإمام الصّادق عليه السّلام، وقد روي بصيغتَين:

1- «أَللّهُمّ هذه جَمْع، أللّهُمّ إنّي أسألُكَ أن تُصَلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأن تجمعَ لي فيها جوامعَ الخيرِ الذي جمعتَ لأنبيائك وأهلِ طاعتِك من خلقِك، وقد أمرتَ عبادَك بذكرِكَ عند المَشعر الحَرام، فَصَلِّ على محمّدٍ وآلٍ محمّدٍ ولا تُؤيسني من خيرِك، وعرِّفني في هذا المكان ما عرّفتَ أولياءَك، ولا تُخيّبني في ما رجوتُك، وأَعتِقني ولوالديّ ولجميعِ المؤمنين من النّار برحمتِك».

2- «أَللَّهُمَّ هَذِه جَمْعٌ، أللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ، وَأَنْ تَجْمَعَ لِي فِيهَا جَوَامِعَ الْخَيْرِ. أَللَّهُمَّ لَا تُؤْيِسْنِي مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي سَأَلْتُكَ أَنْ تَجْمَعَه لِي فِي قَلْبِي. [ثمّ] وأَطْلُبُ إِلَيْكَ أَنْ تُعَرِّفَنِي مَا عَرَّفْتَ أَوْلِيَاءَكَ فِي مَنْزِلِي هَذَا وأَنْ تَقِيَنِي جَوَامِعَ الشَّرِّ».

2- المَشعر:

في الدّعاء الخاصّ بالمشعَر، ما يُضيء على سبب هذه التّسمية، وهو:

«..فَقَدْ تَرى مَقامي بِهذَا الْمَشْعَرِ الَّذي انْخَفَضَ لَكَ فَرَفَعْتَه، وَذَلَّ لَكَ فَأَكْرَمْتَه، وَجَعَلْتَه عَلَماً لِلنَّاسِ، فَبَلِّغْني مُنايَ وَنَيْلَ رَجائي، أَللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَنْ تُحَرِّمَ شَعْري وَبَشَري عَلَى النَّارِ، وَأَنْ تَرْزُقَني حَياةً في طاعَتِكَ، وَبَصيرَةً في دينِكَ، وَعَمَلاً بِفَرائِضِكَ، وَإِتِّباعاً لأَوَامِرِكَ وَخَيْرَ الدَّارَيْنِ جامعاً».

3- مزدلفة

روي عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «أنّ جبرئيل قال لإبراهيم عليهما السّلام: اِزدَلِف، فَسُمِّيَتِ المُزدَلفة».

من أعمال ما بعد الإفاضة من عرفات

1- قال القاضي ابن البراج: «بابُ أحكام الوقوف بالمشعَر الحرام:

هذه الأحكام على ضربَين: واجب، ومندوب.

فالواجب: هو الوقوفُ به، وذكرُ الله سبحانه والصّلاةُ على النّبيّ وآله عليهم السّلام، والرّجوعُ إلى مِنى بعد ذلك، وإعادةُ الحجّ من قابلٍ إذا تركَ هذا الوقوف متعمّداً، وكذلك يجبُ عليه إذا أدركَ المَشعر بعد طلوع الشّمس، فإنْ أدركَه قبل ذلك كان الحجّ ماضياً [صحيحاً]، ولا يرتفعُ الوقوف بالمشعر الحَرام إلى الجبل، إلّا لعائقٍ من ضِيقٍ أو ما أشبَهه، ولا يخرج أحدٌ من المَشعر قبل طلوع الفجر، ولا يجوز [لا يتجاوز] وادي محسّر حتى تطلع الشّمس أيضاً، ولا يخرجُ الإمام من المشعر إلّا بعد طلوع الشّمس مع التّمكّن من ذلك.

وأمّا المندوب: فهو الدّعاءُ عند الإفاضة إلى المَشعر الحرام، والاقتصادُ في السّير إليه، والدّعاءُ عند الكَثيب الأحمر، والسَّعيُ عند وادي محسّر حتّى يجوزَه، والدّعاء عند هذا الوادي، ويجمع بين العشائين بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين، وأن لا يصلّي بين العشائين نوافل، بل يؤخّر ذلك إلى بعد صلاة عشاء الآخرة».

2- قال المرجع المقدّس الشّيخ محمّد أمين زين الدّين في رسالته العمليّة (كلمة التّقوى):

أ‌)  و«يستَحبّ [على أبواب الإفاضة] إذا أشرفتِ الشّمسُ على الغروب [أن يقول الحاجّ]: أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ ومِنْ تَشَتُّتِ الأَمْرِ، ومِنْ شَرِّ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ، أَمْسَى ظُلْمِي مُسْتَجِيراً بِعَفْوِكَ، وأَمْسَى خَوْفِي مُسْتَجِيراً بِأَمَانِكَ، وأَمْسَى ذُلِّي مُسْتَجِيراً بِعِزِّكَ، وَأَمْسَى وَجْهِيَ الْفَانِي مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الْبَاقِي، يَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ ويَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، جَلِّلْنِي بِرَحْمَتِكَ وأَلْبِسْنِي عَافِيَتَكَ واصْرِفْ عَنِّي شَرَّ جَمِيعِ خَلْقِكَ».

ب) أضاف:

و«يُستحبّ له أن يقول إذا غربت الشّمس:

أَللّهُمَّ لا تَجعَلهُ آخِرَ العَهدِ مِن هذَا المَوقِفِ، وارزُقنيهِ مِنْ قَابِلٍ أبَداً ما أبقَيتَني، واقلِبِني اليَومَ مُفلِحاً مُنجِحاً مُستَجاباً لي، مَرحوماً مَغفوراً لي بِأَفضَلِ ما يَنقَلِبُ بِهِ اليَومَ أحَدٌ مِن وَفدِكَ وحُجّاجِ بَيتِكَ الحَرام، واجعَلنِي اليَومَ مِن أكرَمِ وَفدِكَ عَلَيكَ، وأعطِني أفضَلَ ما أعطَيتَ أحَداً مِنهُم مِنَ الخَيرِ والبَرَكَةِ والرَّحمَةِ والرِّضوانِ والمَغفِرَةِ، وبارِك لي فيما أرجِعُ إلَيهِ مِن أهلٍ أو مالٍ أو قَليلٍ أو كَثير، وبارِك لَهُم فِيَّ».

ج)- و«إذا غابت الشّمس وذهبت الحُمرة عن المشرق ".." جاز للحاجّ أن يفيضَ من عرفات ليذكرَ الله عند المَشعر الحرام، وأن يخرجَ من حدود الموقف الأوّل ويتوجّه إلى الموقف الثّاني، ويستحبّ له أن يكون في إفاضتِه على سكينةٍ ووقار، وأن يكونَ في مسيره قاصداً: متوسّطاً بين الإسراع والإبطاء، وأن يشتغلَ في حال مسيره بالدّعاء والاستغفار كما يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة:199.

فإذا بلغ إلى الكَثيب الأحمر، وهو يقعُ عن يمين الطّريق استحبَّ له أن يقول:

أَللَّهُمَّ ارْحَمْ مَوْقِفِي وزِدْ فِي عَمَلِي (عِلْمِي) وسَلِّمْ لِي دِينِي وتَقَبَّلْ مَنَاسِكِي.

ولْيَسِرْ سيراً جميلاً، وَلْيَتَّقِ اللهَ ربَّه، فَلا يَطَأ ضعيفاً أو مسلماً، ولا يَشْرَك في عَنَتِ إنسان. ويُستَحبّ له أن يكبّر بين المأزِمَين [يأتي شرح العبارة] إذا مَرَّ بينهما».

تعريفات

* مِنَى: كَـ «إِلَى»، وقد تكرّر ذِكرُها في الحديث. اسمُ موضعٍ بمكّة على فرسخ، والغالبُ عليه التّذكير فيُصرف، وَحَدُّه -كما جاءت به الرّواية- من العَقَبة إلى وادي محسّر، واختُلف في وجه التّسمية ".." فكانت تُسمّى مُنى فسمّاها النّاس مِنى.

* الكَثيب الأحمر: تلٌّ رمليٌّ على يمينِ المُفيض من عَرَفات المتوجِّه إلى المَشعر الحَرام.

* المأزِمان: بكَسرِ الزّاي وبالهَمز -ويجوز التّخفيف بالقَلب ألفاً: مَضِيقَان، أحدهما بين عرفات والمشعر، والثّاني بين مكّة ومِنى، والمُراد هنا [أي ما ذُكِر في النَّصّ] الأوّل.

* وادي محسِّر: بكسرِ السّين وتشديدِها، هو وادٍ معترض الطّريق بين جَمع ومِنى، وهو إلى مِنى أقرب، وهو حَدٌّ من حدودها، سُمِّيَ بذلك لما قيل أنّ فيل «أبرهة» أُعييَ وكلَّ فيه، فحسرَ أصحابَه بفعلِه وأوقعَهم في الحَسَرات.

 

المَأزِمَان

قال القاضي ابن البرّاج: «ثمّ يمضي حتّى يصير عند المَأزِمَين، فإذا صار عنده قال: اللهُ أكبر أربع مرّات، ثمّ يقول:

أللّهُمّ صلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ، خِيَرتِكَ مِن خلقِكَ وَآلِه الطّاهِرينَ، إلهي إلى هَهنا دَعوتَني وبما عندَك وَعَدْتَني، وقد أجبتُك بتَوفيقِكَ وفضلِك، فَارْحَمْنِي وَتَجَاوَز عنّي بِكَرَمِك.

ثمّ ينزل المشعرَ الحرام، فإذا وصل إليه نزل به إنْ وجد فيه خَلَلاً [أي فراغاً] وإن لم يجِد ذلك لكَثرة النّاس نزل قريباً منه ويصلّي فيه العشائَين بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين، ويؤخّر نوافل المغرب إلى بعد الفراغ من العشاء الآخرة، ولا يصلّيها إلّا فيه ولو مضى ربعُ اللّيل أو ثلثُه، فإنْ لم يبلغ إليه إلى ثُلث اللّيل جازَ له أن يصلّي المغرب في الطّريق.

فإذا فرغَ من صلاته بالمشعر، قال:

أللّهمّ هذه جَمْع، فَأسألك أن تصلّي على محمّدٍ وآل محمّد، وأن تجمعَ لي فيها جوامعَ الخيرِ الذي جمعتَ لأنبيائك وأهلِ طاعتِك من خلقِك، وقد أمرتَ عبادَك بذكرِك عندَ المَشعر الحرام، فَصَلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ، ولا تُؤيسني من خيرك، وعرِّفني في هذا المكان ما عرّفتَ أولياءَك ولا تُخيّبني في ما رجوتُك، وأَعتِقني ولوالديّ ولجميع المؤمنين من النّار برحمتِكَ.

ثمّ يجتهد في الصّلاة والدّعاء طولَ ليلِه إنْ تمكّن من ذلك إلى الفجر.

[أي يُستَحبّ إحياء اللّيلة]، فإذا طلع الفجرُ صلّى الفريضة، وتوقّف متوجّهاً إلى القبلة ودعا بما نُورده الآن من دعاء الموقف بالمشعر الحرام، ويجتهد في ذلك إلى طلوع الشّمس، فإذا لم يتمكّن من ذلك لضرورة، فإنّه يستحبّ له أن يطأَ المشعرَ برجلِه مع التّمكّن منه».


ثمّ يقول القاضي ابن البرّاج عليه الرّحمة: «باب الدّعاء في الموقف بالمشعر الحرام:

ينبغي لمَن أراد الوقوف بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر أن يقفَ منه بسفح الجبل متوجّهاً إلى القبلة، ويجوز له أن يقفَ راكباً، ثمّ يكبّر الله سبحانه ويذكر من آلائه وبلائه ما تمكّنَ منه، ويتشهّد الشّهادتين ويصلّيَ على النّبيّ وآله والأئمّة عليهم السّلام، وإنْ ذكر الأئمّة واحداً واحداً ودعا لهم وتبرّأَ من عدوّهم كان أفضل».

أضاف القاضي ابن البرّاج:

«ويقول بعد ذلك: أَللَّهُمَّ رَبَّ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فُكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، وأَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ، وادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ والإِنْسِ، أللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَطْلُوبٍ إِلَيْه، وخَيْرُ مَدْعُوٍّ وخَيْرُ مَسْؤُولٍ، ولِكُلِّ وَافِدٍ جَائِزَةٌ، فَاجْعَلْ جَائِزَتِي فِي مَوْطِنِي هَذَا أَنْ تُقِيلَنِي عَثْرَتِي وتَقْبَلَ مَعْذِرَتِي وتَجَاوَزَ عَنْ خَطِيئَتِي، ثُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى مِنَ الدُّنْيَا زَادِي بِرَحْمَتِكَ.

ثم يكبّر الله سبحانَه مائة مرّة، ويحمده مائة مرّة، ويسبّحه مائة مرّة، ويهلّله مائة مرّة، ويصلّي على النّبي صلّى الله عليه وآله، ويقول: أَللَّهُمَّ اهْدِني مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَنْقِذْني مِنَ الْجَهالَةِ، وَاجْعَلْ لي خَيْرَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَخُذْ بِناصيَتي إِلى هُداكَ، وَانْقُلْني إِلى رِضاكَ، فَقَدْ تَرى مَقامي بِهذَا الْمَشْعَرِ الَّذي انْخَفَضَ لَكَ فَرَفَعْتَه، وَذَلَّ لَكَ فَأَكْرَمْتَه، وَجَعَلْتَه عَلَماً لِلنَّاسِ، فَبَلِّغْني مُنايَ وَنَيْلَ رَجائي، أَللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَنْ تُحَرِّمَ شَعْري وَبَشَري عَلَى النَّارِ، وَأَنْ تَرْزُقَني حَياةً في طاعَتِكَ، وَبَصيرَةً في دينِكَ، وَعَمَلاً بِفَرائِضِكَ، وَاتِّباعاً لأَمْرِكَ وَخَيْرَ الدَّارَيْنِ جامعاً، وَأَنْ تَحْفَظِني في نَفْسي وَولدي وَلِوَالِدَيّ وَأَهْلي، وَإِخْواني وَجِيْراني بِرَحْمَتِكَ.

ويجتهد في الدّعاء والمسألة والتّضرّع إلى الله سبحانه إلى حين ابتداء طلوع الشّمس، فإذا طلعتْ أفاضَ من المشعر الحرام إلى مِنى، ويأخذ حصى الجمار منه [المشعر] ومن الطّريق، ولا يفيض قبلَ طلوع الشّمس، ويسير بسكينةٍ ووَقار، ويذكر الله سبحانه ويصلّي على النّبيّ وآله عليهم السّلام. ويجتهد في الاستغفار حتّى يصل وادي محسّر، فإذا وصلَ إلى هذا الوادي سَعى فيه، فإنْ كان راكباً حرّكَ دابّتَه حتّى يجوزَه، وهو يقول:

أَللَّهُمَّ سَلِّمْ عَهْدي، وَاقْبَلْ تَوْبَتي، وَأَجِبْ دَعْوَتي، وَاخْلُفْني فيمَنْ تَرَكْتُ بَعْدي، ثمّ يمضي إلى مِنى».


 استحبابُ إحياء ليلة العيد

 قال الشّيخ الصّدوق قدّس سرّه: «روى الكلينيّ في باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر في الحسن كالصّحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديثٍ أنّه قال:

إن استطَعتَ أن تُحيي تلك اللّيلة فافعل، فإنّه بلغَنا أنّ أبوابَ السّماء لا تغلَق تلك اللّيلة لأصواتِ المؤمنين، لهم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النّحل، يقول اللهُ جَلَّ ثناؤه: (أنا ربّكم وأنتم عبادي، أدّيتم حقّي، وحقّ عليَّ أن أستجيبَ لكم)، فيَحطُّ تلك اللّيلة عمّن أرادَ أن يحطّ عنه ذنوبَه، ويغفر لمَن أرادَ أن يغفرَ له».

***

وهكذا يتّضح جليّاً أنّ هذه اللّيلة عباديّة بامتياز، وأنّ من الطّبيعي جدّاً أن يتمّ التّخطيط للحجّ بحيث تحفَظ حرمة هذه اللّيلة، وتغتَنم فيها فرصة التّواجد في هذا المشعر الحرام، الذي لا نجد الحديث في غيره عن جَمْعِ الخير كلِّه، والذي يؤسّس بدوره للقُرب، الذي هو غايةُ آمال العارفين.


اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

03/10/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات