الملف

الملف

02/10/2013

تأمّلاتٌ في فقه القلب والحياة

إحرامُ الحجّ، عَرَفة، المَشعر الحَرام

تأمّلاتٌ في فقه القلب والحياة

ـــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــ


الإحرام داخل المسجد الحَرام: من المستحبّات التي يجدر الحرصُ عليها، أن يكون البَدءُ في التّوجّه من مكّة إلى عَرَفة من داخل الحَرَم.

أورد الشّيخ الصّدوق عن الإمام الصّادق ما ينطبق على ذلك، قوله عليه السّلام: «إنْ تَهَيَّأَ لَكَ أن تُصَلِّيَ صَلَواتِكَ كُلَّهَا الفَرائِضَ وغَيرَها عِندَ الحَطيمِ فَافعَل، فَإِنَّهُ أفضَلُ بُقعَةٍ عَلى وَجهِ الأَرضِ».

أضاف [الشّيخ الصّدوق]: «والحَطيم ما بين باب البيت والحجَر الأسود، وهو الموضعُ الذي فيه تاب الله عزّ وجلّ على آدم عليه السّلام، وبعدَه الصّلاة في الحِجْر أفضل، وبعد الحِجر ما بين الرّكن العراقيّ وباب البيت، وهو الموضع الذي كان فيه المقام، وبعدَه خلف المقام حيث هو السّاعة، وما قَرُبَ من البيت فهو أفضل».


التّلبية سبعين مرّة

كما ينبغي التّنبّه إلى أهميّة التّلبية للمُحرم عموماً، وبالخصوص أن يلبّي سبعين مرّة، فقد رُوي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قولُه:
«مَنْ لَبَّى فِي إِحْرَامِه سَبْعِينَ مَرَّةً إِيمَاناً واحْتِسَاباً أَشْهَدَ اللهُ لَه أَلْفَ أَلْفِ مَلَكٍ بِبَرَاءَةٍ مِنَ النَّارِ وبَرَاءَةٍ مِنَ النِّفَاقِ».

فمَن استطاع أن يعقدَ إحرام الحجّ عند مقام إبراهيم أو في حِجر إسماعيل كما رُوي وأفتى به الفقهاء، ويصلّي عند الحَطيم، حيث لا يكون الحَرَم مزدحماً في هذا اليوم، فليَفعل. ثم يتوجّه إلى عَرَفة.

وينبغي أن يؤدّي الحاجّ ذلك بحيث لا يؤثّر في نشاطه في وقت أعمال عَرَفة.

وليُلاحَظ هنا أنّ فترة ما قبل الظّهر من يوم عَرَفة، لا تحمل أعمالاً خاصّة بها، وكأنّها فترة حُرّة، يتمّ الاستعداد فيها للعمل الجادّ الذي يبدأ مع الزّوال وحلول وقت صلاة الظّهر.

هل إليك يا ابنَ أحمدَ سبيلٌ فترضى

* ومن الجدير جدّاً بكلّ اهتمام أن يعيش قلبُ الحاجّ بشكلٍ خاصّ، مع وصيّ رسول الله صاحب العصر والزّمان عجّل الله فرجه الشّريف، فإنّه عليه السّلام يحضر موسم الحجّ، كما ورد في الرّوايات، ويرى النّاس وهو يعرفهم، ويرونَه ولا يعرفونه، وهذه رُبى عرفات أصغر منطقة جعرافيّاً يجزم المؤمن بوجوده فيها مع إمام زمانه بابِ الاتّصال برسول الله وبالله تعالى.

تصرّح بعض المنقولات المعتبَرة نقلاً عنه عليه صلوات الرّحمن بأنّه يزور خِيَمَ الحجّاج، وأنّ للعزاء في عَرَفة -خصوصاً عن أبي الفضل العبّاس عليه السّلام- موقعاً مميّزاً لديه سلام الله تعالى عليه.

العمل في عَرَفة

قال الشّيخ الصّدوق: «وسُمّيت عَرَفَة لأنّ جبرئيل عليه السّلام قال لإبراهيم عليه السّلام، بعرفات: اِعتَرفْ بذنبِك واعرف مناسكَك، فلذلك سُمّيت عَرَفة».

أهمّ ما ينبغي أن يشغلَ القلب في هذه الرّبى وعلى هذه الأعتاب، هو التّفكير الجادّ والجذريّ في حال النّفس ومدى مصداقيّتها.
هل أريد حقّاً أن أكون مؤمناً؟

ما هو مدى الجدّ في خشيتي لله تعالى؟

ويستعرض كلَّ شريط حياته بوضوح، مركّزاً على العقيدة أوّلاً، والأخلاق ثانياً، والسّلوك ثالثاً، دون أدنى انطلاقٍ في ذلك من الرّضا عن النّفس، فهو يحاسبها الآن محاسبةَ الشّريك شريكَه، ويترك التّقييم النّهائيّ إلى حيث يحين وقتُه.

بابُ العلاقة بالنّاس شديد الحساسيّة. قال تعالى: ﴿..وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾. طه:111. فمَن كان يحتطبُ على ظهره عقوداً من ظلم أهله، ومَن حوله، أو هم وغيرهم، فهو ظالم. والقاسمُ المشترك بينه وبين الحكّام الطّواغيت والظَّلَمة خطيرٌ خطير، وربّما لو أُتيحَ له أن يحكم لكان (صَدّاماً) بحسبه، أو فرعوناً آخر بما يناسبه.


وبابُ حمْل هَمِّ المسلمين في صُلب تزكية النّفس، فلا تسجلنّ الملائكة على هذا القلب أو ذاك أنّه ليس مسلماً، فإنّهم إن سجّلوا ذلك لم ينفعه عمل عَرَفة ولا غيرها.

أليس مَن لم يحمل هَمَّ المسلمين خارجاً عن دائرتهم؟؟ ألم يقل المصطفى الحبيب سيّد الرّسل صلّى الله عليه وآله: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليسَ بمُسلم»؟


ولا ينفصل حمل هَمّ المسلمين إطلاقاً عن خَفْقة القلب مع مظلوميّة كلّ مظلوم مستَضغف ولو لم يكن مسلماً، فالوقوف مع العدل وضدّ الظّلم لا يتجزّأ.
ما هو الحالُ في العراق والبحرين واليمن وفلسطين ولبنان والباكستان؟ وماذا يجري ضدّ المسلمين كلّهم والبشريّة جمعاء في الحجاز وغير الحجاز؟

أيّ معاناة يتجرّع غصصَها أهلنا في أفغانستان، وتعصف بهم أهوالها؟

سيجد القلب بلا أدنى ارتياب أنّه يقترب رويداً رويداً من خيمة المولى وصيّ رسول الله الإمام المهديّ المنتظَر، وإنْ لم يعرفها، بل ربّما وجد القلبُ أنّ الإمام بكرَمه المحمّديّ الإلهيّ قد بسطَ عليه غامرَ حنانِه واللّطف، وخاطب قلبَه، وربّما وفِّق المؤمن للمزيد، فالله تعالى وأولياؤه عادتُهم الإحسانُ إلى المُسيئين.

منه تعالى ما يليقُ بكرمِه ومنّي ومنك ما يليقُ بضعفنا والطّين والحمإ المسنون.


أيّها العزيز: هذه عَرَفَة

هذه عَرَفة، والحجُّ عَرَفة، والقلبُ الضّعيف لا يقوى على نور مصابيح كاشفة، فكيف يقوى على كلّ هذا التّوهّجِ الفريد، وفيضِ النّور الإلهيّ الأبهى، النّورِ المحمّديّ والكوكبِ الدّرّيّ، والعَظَمة الزّاهرة التي اشتُقّت من نور عَظَمة الله تعالى.

ها هي الزّيتونة المباركة التي يكاد زيتُها يضيء ولو لم تمسَسه نار، نورٌ على نور.

وها هو القلب المُربدّ طِخْيَةَ الدّيجور.

ولا كلام لي ولك أيّها العزيز، ولا بنت شفة. بل العجزُ المفرط ذاتيّ، فهل تلازمه مصداقيّةُ الاعتراف القلبيّ بهذا العَجز.

أمرَنا ربّنا الرّؤوف الرّحيم إذا ظلمنا أنفسنا أن نقفَ بباب مَن جعلَه اللهُ تعالى الرّؤوفَ الرّحيم.

وهذا بابُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وصيُّه المهديّ في عرفات!
فهل يهتدي القلبُ من بين مشتَبك الغرائز، وتلاطم أمواج الأهواء، وكلّ هذا الضّجيج، أن يجيدَ الوقوف بهذا الباب؟

لك كلُّ الحقّ أن تقول: إنْ كان الوصول مطلوباً منّا فمَن ذا يُمكنه الوصول؟
ولكن أيّها العزيز: أليس الصّدقُ في الطّلب مطلوباً منّا؟
فهل يَصدُق الطّلب؟ هل يصدق القلب في التّضرّع مقرّاً بالعجز عن الوصول؟

ليس موحّداً مَن كان يظنّ أنّه هو الذي يصل، فالأنا البغيضة تحجب التّوحيد.

وليس موحّداً مَن استبدّ به اليأسُ وأقعدَه الإحباط.

إنّما الموحّد الذي أقرَّ بالعَجز عن الوصول، يَئسَ من نفسه يقيناً، فإذا مَعقدُ الآمال لديه، ومعاكف الهِمم، ومحطّ الرّحال، جودُ الله تعالى وكرمُه، ولطفُه عزّ وجلّ والحنانُ الغامرُ الرّحيم، ليستشعرَ هذا القلب، أو الخرقة البالية -لا فرق- بصدق، ولو مرّةً واحدة، هذه الحال:

 «إِلَهِي إِنْ لَمْ تَبْتَدِئْنِي الرَّحْمَةُ مِنْكَ بِحُسْنِ التَّوْفِيقِ فَمَنِ السَّالِكُ بِي إِلَيْكَ فِي وَاضِحِ الطَّرِيقِ، وإِنْ أَسْلَمَتْنِي أَنَاتُكَ لِقَائِدِ الأَمَلِ والْمُنَى فَمَنِ الْمُقِيلُ عَثَرَاتِي مِنْ كَبَوَاتِ الْهَوَى، وإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ النَّفْسِ والشَّيْطَانِ فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلَى حَيْثُ النَّصَبُ والْحِرْمَانُ.


إِلَهِي أَتَرَانِي مَا أَتَيْتُكَ إِلا مِنْ حيثُ الآمَالُ، أَمْ عَلِقْتُ بِأَطْرَافِ حِبَالِكَ إِلّا حِينَ بَاعَدَتْنِي ذُنُوبِي عَنْ دَارِ الْوِصَالِ، فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتِي امْتَطَتْ نَفْسِي مِنْ هَوَاهَا، فَوَاهاً لَهَا لِمَا سَوَّلَتْ لَهَا ظُنُونُهَا ومُنَاهَا، وتَبّاً لَهَا لِجُرْأَتِهَا عَلَى سَيِّدِهَا ومَوْلاهَا.

إِلَهِي قَرَعْتُ بَابَ رَحْمَتِكَ بِيَدِ رَجَائِي، وهَرَبْتُ إِلَيْكَ لاجِئاً مِنْ فَرْطِ أَهْوَائِي، وعَلَّقْتُ بِأَطْرَافِ حِبَالِكَ أَنَامِلَ وَلائِي، فَاصْفَحِ اللَّهُمَّ عَمَّا كُنْتُ أَجْرَمْتُه مِنْ زَلَلِي وخَطَائِي، وأَقِلْنِي مِنْ صَرْعَةِ رِدَائِي، فَإِنَّكَ سَيِّدِي ومَوْلايَ ومُعْتَمَدِي ورَجَائِي، وأَنْتَ غَايَةُ مَطْلُوبِي ومُنَايَ فِي مُنْقَلَبِي ومَثْوَايَ».

حُسْنُ الظّنّ بالله تعالى

والعملُ الأوّل والأخير الذي هو في الحقيقة جوهرُ كلِّ عملٍ في يوم عَرَفة، هو حُسن الظّنّ بالله تعالى، وطردُ اليأس وسوءِ الظّن به عزّ وجلّ. ففي الرّواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:

 «وإذا وقفتَ بعرفات إلى غروبِ الشّمس، فلو كانَ عليك من الذّنوب مثل رَمْلِ عالج [رملٌ ناعم جدّاً، فهو في غاية الكَثرة] وزَبَدِ البَحرِ لَغفرَها اللهُ لكَ».

وعن الإمام الباقر عليه السّلام: «ما يقفُ أحدٌ على تلك الجبال، بَرٌّ ولا فاجر، إلّا استجابَ اللهُ له، فأمّا البَرّ فيُستَجابُ له في آخرتِه ودُنياه، وأمّا الفاجر فيُستَجاب له في دنياه».

ولا يقتصرُ الأمرُ في شمول الرّحمة على الحاضرين، بل يمتدّ منهم إلى غيرهم:

قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «مَا مِن رَجُلٍ من أهل كُورَةٍ وَقَفَ بعرَفة من المؤمنين، إلّا غفرَ اللهُ لأهلِ تلك الكُورة من المؤمنين، ومَا مِن رَجُلٍ وَقَفَ بعرَفة من أهل بيتٍ من المؤمنين إلّا غفر اللهُ لأهل ذلك البيت من المؤمنين».

لذلك كان أشدّ النّاس جُرماً مَن يقنط من رحمة الله تعالى في يوم عَرَفة:
«وأعظمُ النّاس جُرماً من أهل عرفات الذي ينصرفُ من عرفات وهو يظنّ أنّه لم يُغفَر له».
[يعني الذي يَقنط من رحمة الله عزّ وجلّ]

وأختمُ هنا ببشارةٍ لمَن تكرّر حَجُّه ثمّ لم يوفَّق في بعض الأعوام للحجّ: قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «إذا كان عشيّة عَرَفة بعث اللهُ عزّ وجلّ ملكَين يتصفّحان وجوه النّاس، فإذا فقدا رجلاً قد عوَّد نفسَه الحجّ، قال أحدُهما لصاحبه: يا فلان ما فعلَ فلان؟

قال: فيقول: اللهُ أعلم، فيقول أحدُهما: أللّهمّ إنْ كان حبسَه عن الحجّ فقرٌ فأَغنِه، وإنْ كان حبسَه دَينٌ فاقضِ عنه دَينَه، وإنْ كان حبسَه مرضٌ فاشفِه، وإنْ كان حبسَه موتٌ فاغفر له وارحَمْه».

ولا بدّ من التّذكير بأنّ أعمال يوم عَرَفة تستغرقُ الوقتَ كلَّه من الظّهر إلى اللّيل، فَلْيَحرص المؤمن عليها، وليُهيّء الأدعية المتعدّدة لهذا اليوم، بالإضافة إلى الدّعاء المركزيّ، دعاء الإمام الحسين عليه السّلام، ولا ينسَ دعاء عَرَفة للإمام السّجّاد عليه السّلام.

المشعَر الحرام

يُختَتم موسم عَرَفة، الذي يتلو في الفضل ليلة القدر، بالانتقال المباشر إلى موسمٍ عباديٍّ بالغ الفَرادة والتّميّز، وهو للأسف بالغُ التّضييع والإهمال.

إنّه الوقوف بـ «المشعَر الحرام»، أي «مزدلفة»، أي «جَمْع»، فهي ثلاثةُ أسماء لمكانٍ واحدٍ عظيمِ الحُرمة عند الله تعالى.

ولا تنفصل الحُرمة عن مدى قُرب مَن يبلغُها، وحرمتِه، على أنّ بلوغ القُرب حركةُ عقلٍ وقلب، وما الجسدُ إلّا بُراقٌ أو حجاب، أو وسيلة مركّبة من هذا البُراق و درْكٍ من ذاك الحجاب.

إنْ قلتَ في الإفاضة من عرفات، إنّها الإفاضة من الحضور إلى الشّهود، فلم تَعْدُ الحقيقة، وإنْ قلتَ إنّها، بالغفلة عنها، الإفاضةُ من الحَرَم إلى الحرمان، ومن القُرب إلى الطّرد، فقد أصبتَ كبدَ الحقيقة.


دلالاتُ التّسمية

وفي محاولة التّعرّف إلى دلالات التّسميات الثّلاث لهذا المكان الواحد الذي يفيضُ الحاجّ إليه من عرفات، نجدُ التّالي:

1- جَمْع

قال الشّيخ الصّدوق:

«وسُمّيت المزدلفة جَمْعاً لأنّه يجمع فيها المغربَ والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين.

أي يصلَيّان جَمعاً فسُمِّيَ المكان "جَمْع"».

وفي الدّعاء المرويّ ما يصلح تفسيراً آخر للتّسمية، وهو عن الإمام الصّادق عليه السّلام، وقد روي بصيغتَين:

1- «أَللّهُمّ هذه جَمْع، أللّهُمّ إنّي أسألُكَ أن تُصَلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأن تجمعَ لي فيها جوامعَ الخيرِ الذي جمعتَ لأنبيائك وأهلِ طاعتِك من خلقِك، وقد أمرتَ عبادَك بذكرِكَ عند المَشعر الحَرام، فَصَلِّ على محمّدٍ وآلٍ محمّدٍ ولا تُؤيسني من خيرِك، وعرِّفني في هذا المكان ما عرّفتَ أولياءَك، ولا تُخيّبني في ما رجوتُك، وأَعتِقني ولوالديّ ولجميعِ المؤمنين من النّار برحمتِك».

2- «أَللَّهُمَّ هَذِه جَمْعٌ، أللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ، وَأَنْ تَجْمَعَ لِي فِيهَا جَوَامِعَ الْخَيْرِ. أَللَّهُمَّ لَا تُؤْيِسْنِي مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي سَأَلْتُكَ أَنْ تَجْمَعَه لِي فِي قَلْبِي. [ثمّ] وأَطْلُبُ إِلَيْكَ أَنْ تُعَرِّفَنِي مَا عَرَّفْتَ أَوْلِيَاءَكَ فِي مَنْزِلِي هَذَا وأَنْ تَقِيَنِي جَوَامِعَ الشَّرِّ».

2- المَشعر:

في الدّعاء الخاصّ بالمشعَر، ما يُضيء على سبب هذه التّسمية، وهو:

«..فَقَدْ تَرى مَقامي بِهذَا الْمَشْعَرِ الَّذي انْخَفَضَ لَكَ فَرَفَعْتَه، وَذَلَّ لَكَ فَأَكْرَمْتَه، وَجَعَلْتَه عَلَماً لِلنَّاسِ، فَبَلِّغْني مُنايَ وَنَيْلَ رَجائي، أَللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَنْ تُحَرِّمَ شَعْري وَبَشَري عَلَى النَّارِ، وَأَنْ تَرْزُقَني حَياةً في طاعَتِكَ، وَبَصيرَةً في دينِكَ، وَعَمَلاً بِفَرائِضِكَ، وَإِتِّباعاً لأَوَامِرِكَ وَخَيْرَ الدَّارَيْنِ جامعاً».

3- مزدلفة

روي عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «أنّ جبرئيل قال لإبراهيم عليهما السّلام: اِزدَلِف، فَسُمِّيَتِ المُزدَلفة».

من أعمال ما بعد الإفاضة من عرفات

1- قال القاضي ابن البراج: «بابُ أحكام الوقوف بالمشعَر الحرام:

هذه الأحكام على ضربَين: واجب، ومندوب.

فالواجب: هو الوقوفُ به، وذكرُ الله سبحانه والصّلاةُ على النّبيّ وآله عليهم السّلام، والرّجوعُ إلى مِنى بعد ذلك، وإعادةُ الحجّ من قابلٍ إذا تركَ هذا الوقوف متعمّداً، وكذلك يجبُ عليه إذا أدركَ المَشعر بعد طلوع الشّمس، فإنْ أدركَه قبل ذلك كان الحجّ ماضياً [صحيحاً]، ولا يرتفعُ الوقوف بالمشعر الحَرام إلى الجبل، إلّا لعائقٍ من ضِيقٍ أو ما أشبَهه، ولا يخرج أحدٌ من المَشعر قبل طلوع الفجر، ولا يجوز [لا يتجاوز] وادي محسّر حتى تطلع الشّمس أيضاً، ولا يخرجُ الإمام من المشعر إلّا بعد طلوع الشّمس مع التّمكّن من ذلك.

وأمّا المندوب: فهو الدّعاءُ عند الإفاضة إلى المَشعر الحرام، والاقتصادُ في السّير إليه، والدّعاءُ عند الكَثيب الأحمر، والسَّعيُ عند وادي محسّر حتّى يجوزَه، والدّعاء عند هذا الوادي، ويجمع بين العشائين بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين، وأن لا يصلّي بين العشائين نوافل، بل يؤخّر ذلك إلى بعد صلاة عشاء الآخرة».

2- قال المرجع المقدّس الشّيخ محمّد أمين زين الدّين في رسالته العمليّة (كلمة التّقوى):

أ‌)  و«يستَحبّ [على أبواب الإفاضة] إذا أشرفتِ الشّمسُ على الغروب [أن يقول الحاجّ]: أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ ومِنْ تَشَتُّتِ الأَمْرِ، ومِنْ شَرِّ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ، أَمْسَى ظُلْمِي مُسْتَجِيراً بِعَفْوِكَ، وأَمْسَى خَوْفِي مُسْتَجِيراً بِأَمَانِكَ، وأَمْسَى ذُلِّي مُسْتَجِيراً بِعِزِّكَ، وَأَمْسَى وَجْهِيَ الْفَانِي مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الْبَاقِي، يَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ ويَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، جَلِّلْنِي بِرَحْمَتِكَ وأَلْبِسْنِي عَافِيَتَكَ واصْرِفْ عَنِّي شَرَّ جَمِيعِ خَلْقِكَ».

ب) أضاف:

و«يُستحبّ له أن يقول إذا غربت الشّمس:

أَللّهُمَّ لا تَجعَلهُ آخِرَ العَهدِ مِن هذَا المَوقِفِ، وارزُقنيهِ مِنْ قَابِلٍ أبَداً ما أبقَيتَني، واقلِبِني اليَومَ مُفلِحاً مُنجِحاً مُستَجاباً لي، مَرحوماً مَغفوراً لي بِأَفضَلِ ما يَنقَلِبُ بِهِ اليَومَ أحَدٌ مِن وَفدِكَ وحُجّاجِ بَيتِكَ الحَرام، واجعَلنِي اليَومَ مِن أكرَمِ وَفدِكَ عَلَيكَ، وأعطِني أفضَلَ ما أعطَيتَ أحَداً مِنهُم مِنَ الخَيرِ والبَرَكَةِ والرَّحمَةِ والرِّضوانِ والمَغفِرَةِ، وبارِك لي فيما أرجِعُ إلَيهِ مِن أهلٍ أو مالٍ أو قَليلٍ أو كَثير، وبارِك لَهُم فِيَّ».

ج)- و«إذا غابت الشّمس وذهبت الحُمرة عن المشرق ".." جاز للحاجّ أن يفيضَ من عرفات ليذكرَ الله عند المَشعر الحرام، وأن يخرجَ من حدود الموقف الأوّل ويتوجّه إلى الموقف الثّاني، ويستحبّ له أن يكون في إفاضتِه على سكينةٍ ووقار، وأن يكونَ في مسيره قاصداً: متوسّطاً بين الإسراع والإبطاء، وأن يشتغلَ في حال مسيره بالدّعاء والاستغفار كما يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة:199.

فإذا بلغ إلى الكَثيب الأحمر، وهو يقعُ عن يمين الطّريق استحبَّ له أن يقول:

أَللَّهُمَّ ارْحَمْ مَوْقِفِي وزِدْ فِي عَمَلِي (عِلْمِي) وسَلِّمْ لِي دِينِي وتَقَبَّلْ مَنَاسِكِي.

ولْيَسِرْ سيراً جميلاً، وَلْيَتَّقِ اللهَ ربَّه، فَلا يَطَأ ضعيفاً أو مسلماً، ولا يَشْرَك في عَنَتِ إنسان. ويُستَحبّ له أن يكبّر بين المأزِمَين [يأتي شرح العبارة] إذا مَرَّ بينهما».

تعريفات

* مِنَى: كَـ «إِلَى»، وقد تكرّر ذِكرُها في الحديث. اسمُ موضعٍ بمكّة على فرسخ، والغالبُ عليه التّذكير فيُصرف، وَحَدُّه -كما جاءت به الرّواية- من العَقَبة إلى وادي محسّر، واختُلف في وجه التّسمية ".." فكانت تُسمّى مُنى فسمّاها النّاس مِنى.

* الكَثيب الأحمر: تلٌّ رمليٌّ على يمينِ المُفيض من عَرَفات المتوجِّه إلى المَشعر الحَرام.

* المأزِمان: بكَسرِ الزّاي وبالهَمز -ويجوز التّخفيف بالقَلب ألفاً: مَضِيقَان، أحدهما بين عرفات والمشعر، والثّاني بين مكّة ومِنى، والمُراد هنا [أي ما ذُكِر في النَّصّ] الأوّل.

* وادي محسِّر: بكسرِ السّين وتشديدِها، هو وادٍ معترض الطّريق بين جَمع ومِنى، وهو إلى مِنى أقرب، وهو حَدٌّ من حدودها، سُمِّيَ بذلك لما قيل أنّ فيل «أبرهة» أُعييَ وكلَّ فيه، فحسرَ أصحابَه بفعلِه وأوقعَهم في الحَسَرات.

 

المَأزِمَان

قال القاضي ابن البرّاج: «ثمّ يمضي حتّى يصير عند المَأزِمَين، فإذا صار عنده قال: اللهُ أكبر أربع مرّات، ثمّ يقول:

أللّهُمّ صلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ، خِيَرتِكَ مِن خلقِكَ وَآلِه الطّاهِرينَ، إلهي إلى هَهنا دَعوتَني وبما عندَك وَعَدْتَني، وقد أجبتُك بتَوفيقِكَ وفضلِك، فَارْحَمْنِي وَتَجَاوَز عنّي بِكَرَمِك.

ثمّ ينزل المشعرَ الحرام، فإذا وصل إليه نزل به إنْ وجد فيه خَلَلاً [أي فراغاً] وإن لم يجِد ذلك لكَثرة النّاس نزل قريباً منه ويصلّي فيه العشائَين بأذانٍ واحدٍ وإقامتَين، ويؤخّر نوافل المغرب إلى بعد الفراغ من العشاء الآخرة، ولا يصلّيها إلّا فيه ولو مضى ربعُ اللّيل أو ثلثُه، فإنْ لم يبلغ إليه إلى ثُلث اللّيل جازَ له أن يصلّي المغرب في الطّريق.

فإذا فرغَ من صلاته بالمشعر، قال:

أللّهمّ هذه جَمْع، فَأسألك أن تصلّي على محمّدٍ وآل محمّد، وأن تجمعَ لي فيها جوامعَ الخيرِ الذي جمعتَ لأنبيائك وأهلِ طاعتِك من خلقِك، وقد أمرتَ عبادَك بذكرِك عندَ المَشعر الحرام، فَصَلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ، ولا تُؤيسني من خيرك، وعرِّفني في هذا المكان ما عرّفتَ أولياءَك ولا تُخيّبني في ما رجوتُك، وأَعتِقني ولوالديّ ولجميع المؤمنين من النّار برحمتِكَ.

ثمّ يجتهد في الصّلاة والدّعاء طولَ ليلِه إنْ تمكّن من ذلك إلى الفجر.

[أي يُستَحبّ إحياء اللّيلة]، فإذا طلع الفجرُ صلّى الفريضة، وتوقّف متوجّهاً إلى القبلة ودعا بما نُورده الآن من دعاء الموقف بالمشعر الحرام، ويجتهد في ذلك إلى طلوع الشّمس، فإذا لم يتمكّن من ذلك لضرورة، فإنّه يستحبّ له أن يطأَ المشعرَ برجلِه مع التّمكّن منه».


ثمّ يقول القاضي ابن البرّاج عليه الرّحمة: «باب الدّعاء في الموقف بالمشعر الحرام:

ينبغي لمَن أراد الوقوف بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر أن يقفَ منه بسفح الجبل متوجّهاً إلى القبلة، ويجوز له أن يقفَ راكباً، ثمّ يكبّر الله سبحانه ويذكر من آلائه وبلائه ما تمكّنَ منه، ويتشهّد الشّهادتين ويصلّيَ على النّبيّ وآله والأئمّة عليهم السّلام، وإنْ ذكر الأئمّة واحداً واحداً ودعا لهم وتبرّأَ من عدوّهم كان أفضل».

أضاف القاضي ابن البرّاج:

«ويقول بعد ذلك: أَللَّهُمَّ رَبَّ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فُكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، وأَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ، وادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ والإِنْسِ، أللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَطْلُوبٍ إِلَيْه، وخَيْرُ مَدْعُوٍّ وخَيْرُ مَسْؤُولٍ، ولِكُلِّ وَافِدٍ جَائِزَةٌ، فَاجْعَلْ جَائِزَتِي فِي مَوْطِنِي هَذَا أَنْ تُقِيلَنِي عَثْرَتِي وتَقْبَلَ مَعْذِرَتِي وتَجَاوَزَ عَنْ خَطِيئَتِي، ثُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى مِنَ الدُّنْيَا زَادِي بِرَحْمَتِكَ.

ثم يكبّر الله سبحانَه مائة مرّة، ويحمده مائة مرّة، ويسبّحه مائة مرّة، ويهلّله مائة مرّة، ويصلّي على النّبي صلّى الله عليه وآله، ويقول: أَللَّهُمَّ اهْدِني مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَنْقِذْني مِنَ الْجَهالَةِ، وَاجْعَلْ لي خَيْرَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَخُذْ بِناصيَتي إِلى هُداكَ، وَانْقُلْني إِلى رِضاكَ، فَقَدْ تَرى مَقامي بِهذَا الْمَشْعَرِ الَّذي انْخَفَضَ لَكَ فَرَفَعْتَه، وَذَلَّ لَكَ فَأَكْرَمْتَه، وَجَعَلْتَه عَلَماً لِلنَّاسِ، فَبَلِّغْني مُنايَ وَنَيْلَ رَجائي، أَللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أَنْ تُحَرِّمَ شَعْري وَبَشَري عَلَى النَّارِ، وَأَنْ تَرْزُقَني حَياةً في طاعَتِكَ، وَبَصيرَةً في دينِكَ، وَعَمَلاً بِفَرائِضِكَ، وَاتِّباعاً لأَمْرِكَ وَخَيْرَ الدَّارَيْنِ جامعاً، وَأَنْ تَحْفَظِني في نَفْسي وَولدي وَلِوَالِدَيّ وَأَهْلي، وَإِخْواني وَجِيْراني بِرَحْمَتِكَ.

ويجتهد في الدّعاء والمسألة والتّضرّع إلى الله سبحانه إلى حين ابتداء طلوع الشّمس، فإذا طلعتْ أفاضَ من المشعر الحرام إلى مِنى، ويأخذ حصى الجمار منه [المشعر] ومن الطّريق، ولا يفيض قبلَ طلوع الشّمس، ويسير بسكينةٍ ووَقار، ويذكر الله سبحانه ويصلّي على النّبيّ وآله عليهم السّلام. ويجتهد في الاستغفار حتّى يصل وادي محسّر، فإذا وصلَ إلى هذا الوادي سَعى فيه، فإنْ كان راكباً حرّكَ دابّتَه حتّى يجوزَه، وهو يقول:

أَللَّهُمَّ سَلِّمْ عَهْدي، وَاقْبَلْ تَوْبَتي، وَأَجِبْ دَعْوَتي، وَاخْلُفْني فيمَنْ تَرَكْتُ بَعْدي، ثمّ يمضي إلى مِنى».


 استحبابُ إحياء ليلة العيد

 قال الشّيخ الصّدوق قدّس سرّه: «روى الكلينيّ في باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر في الحسن كالصّحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديثٍ أنّه قال:

إن استطَعتَ أن تُحيي تلك اللّيلة فافعل، فإنّه بلغَنا أنّ أبوابَ السّماء لا تغلَق تلك اللّيلة لأصواتِ المؤمنين، لهم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النّحل، يقول اللهُ جَلَّ ثناؤه: (أنا ربّكم وأنتم عبادي، أدّيتم حقّي، وحقّ عليَّ أن أستجيبَ لكم)، فيَحطُّ تلك اللّيلة عمّن أرادَ أن يحطّ عنه ذنوبَه، ويغفر لمَن أرادَ أن يغفرَ له».

***

وهكذا يتّضح جليّاً أنّ هذه اللّيلة عباديّة بامتياز، وأنّ من الطّبيعي جدّاً أن يتمّ التّخطيط للحجّ بحيث تحفَظ حرمة هذه اللّيلة، وتغتَنم فيها فرصة التّواجد في هذا المشعر الحرام، الذي لا نجد الحديث في غيره عن جَمْعِ الخير كلِّه، والذي يؤسّس بدوره للقُرب، الذي هو غايةُ آمال العارفين.


اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثالث و الأربعون -شهر ذو الحجة 1433 - تشرين الأول / تشرين الثاني 2013

شعائر العدد الثالث و الأربعون -شهر ذو الحجة 1433 - تشرين الأول / تشرين الثاني 2013

نفحات