الملف

الملف

03/12/2013

التّعريفُ بأهل البيت يكشِف «يزيد» وآل أبي سفيان

 

قراءةٌ في خطاب الإمام السّجّاد عليه السّلام في الشّام*

التّعريفُ بأهل البيت يكشِف «يزيد» وآل أبي سفيان

-----  الشّيخ حبيب الهُدَيبي - البحرين -----

* «.. بُهت الحاضرون وبُهروا مِن هذا الفتى العليل، الّذي ردَّ على الخطيب وطلبَ الكلام، وقد رفض يزيد إجابته فألحَّ عليه الجالسون بالسّماح له .

كان ذلك بدايةَ وعيٍ عند أهل الشّام، فقال يزيد لهم: إنْ صعد المِنبر لم ينزل إلَّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان. فقالوا له: ما قَدر ما يُحسن هذا العليل.. فقال لهم: إنَّه مِن أهل بيت قد زقُّوا العلم زقَّاً» .

* في هذا السّياق  تأتي هذه المقاربة التّحليليّة لخطاب سيِّد السّاجدين في الشّام، وتقدِّمها «شعائر» إلى القرّاء الكرام بمناسبة «أيّام السّبي».

 

إكمالاً للدّور الإعلاميّ المَهدوف في الشّام، اندفع الإمام زين العابدين عليه السّلام للإدلاء ببيانه للتّعريف بأهل البيت عليهم السّلام في أوساط المُجتمع الشّاميِّ المخدوع، وذلك حينما أراد يزيد مواجهة إعلام الثّورة الحسينيَّة في الشّام، فأمرَ الخطيبَ بأنْ يصعد المنبر ويُكثر الثّناء والتّمجيد للأُمويِّين، وينال مِن كَرامة أمير المؤمنين ووَلده الحسين عليهما السّلام، جرياً على السُّنَّة الّتي سَنَّها أبوه مُعاوية مِن قَبله، فصعد الخطيب المِنبر وقال كما أراد يزيد .

فانتفض الإمام زين العابدين وصاح به: ويلك أيُّها الخطيب، اشتريْتَ رضا المخلوق بِسخطِ الخالق، فتبوَّأ مَقعدَك مِن النّار .

والتفت إلى يزيد، فقال له: أتأذنُ لي أنْ أصعد هذه الأعواد، فأتكلَّم بكلمات فيهنَّ لله رضًى، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب.

وبُهت الحاضرون وبُهروا مِن هذا الفتى العليل، الّذي ردَّ على الخطيب والأمير، وقد رفض يزيد إجابته فألحَّ عليه الجالسون بالسّماح له .

ويُعتبر ذلك بداية وعيٍ عند أهل الشّام، فقال يزيد لهم: إنْ صعد المِنبر لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا له: وما قَدر ما يُحسن هذا العليل.. فقال لهم: إنَّه مِن أهل بيتٍ قد زقُّوا العلم زقَّاً .

فأخذوا يُلحُّون عليه، فانصاع لقولهم فسمح للإمام، فاعتلى أعواد المنبر، فحمدَ الله وأثنى عليه، ويقول المؤرِّخون: إنَّه خطب خُطبةً عظيمةً أبكى منها العيون، وأوْجل منها القلوب.

ويظهر أنَّ التاريخ لم يَحفظ لنا خُطبة الإمام بأجمعها، إلّا أنَّ القِسم المذكور منها واضح بأنَّها كانت تدور حول مِحورٍ واحدٍ، وهو الكشفُ عن مكانة أهل البيت، والتّعريف بهم للمُجتمع الشّاميّ كإعلامٍ مُضادٍّ للإعلام الأُمويّ، الّذي عَمِل لمُدَّة عشرين عاماً في تشويه الحقيقة في أذهان أهل الشّام، وإعطائهم صورةً مُشوَّهة عن عميد العِترة النّبويَّة أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السّلام.

قال عليه السَّلام  :

«أيُّها النّاس، أُعطينا سِتَّاً وفُضِّلنا بسبعٍ، أُعطينا العِلم والحِلم والسَّماحة والفصاحة والشّجاعة والمَحبَّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأنَّ مِنَّا النّبيّ المُختار محمّد، ومِنَّا الصِّدِّيق، ومِنَّا الطيَّار، ومِنَّا أسد الله وأسد الرّسول، ومِنَّا سيِّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومِنَّا سِبطا هذه الأُمَّة وسِيِّدا شباب أهل الجَنَّة»  .

في هذا الجزء مِن بيانه عليه السّلام ".." أشار إلى الفضائل الّتي جَمَعَها اللهُ تعالى في الأُسرة الهاشميَّة؛ حيث جعل منهم نُخبَة هذه الأُمَّة وقادتها .

أمَّا المُميِّزات السِّتّ الّتي أشار إليها الإمام، فهي :

1- العِلم: وكون العِلم ميزة لأهل البيت، إنَّما يعني العَطاء العلميّ الإلهيّ؛ لأنَّهم لم يأخذوا مِن غيرهم، فهُمْ أغنياء عَمَّن سواهم مِن الأُمَّة في علومهم ومعارفهم، بينما غيرهم مِن سائر الأُمَّة مُحتاجٌ إليهم، فلهم قنواتهم الخاصَّة الّتي يَستقون منها علومهم ومعارفهم .

القناة الأُولى: التّعلُّم المُباشر مِن الرّسول الأعظم، وهذا يتمُّ بالنّسبة إلى أمير المؤمنين والحسنين عليهم السّلام، أو تلقِّي الإمام اللّاحق عن الإمام السّابق، وهذا بالنّسبة إلى سائر الأئمَّة عليهم السّلام.

القناة الثّانية: المصادر الخاصَّة بهم، وهي الكُتُب الّتي دُوِّنت بخَطِّ عليٍّ وإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله، ككتاب جامعة أمير المؤمنين وأنَّها مِن جِلدٍ وطولها سبعون ذِراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه النّاس مِن حلالٍ وحرامٍ وغير ذلك، حتَّى أنَّ فيها أَرْش الخَدش، وذلك كلُّه تفصيل ما جاء في القرآن الشّريف مِن الأحكام وغيرها .

وقد سُمِّيت في ما ورد عن الصّادقَين عليهما السّلام مِن الرّوايات: بالجامعة، والصّحيفة، وكتاب عليٍّ، والصّحيفة العتيقة، وقد رآها عند الباقر والصّادق بعضُ الرّواة الثّقات مِن أصحابها كأبي بصير وغيره، وأنَّ الأئمَّة يتَّبعون ما في هذه الصّحيفة، ولا يحتاجون إلى أحدٍ مِن النّاس في علومهم.

ومنها: الجَفْر الأبيض والجَفْر الأحمر. وهما كتابان أو وعاءان مِن الجِلد، أحدهما أبيض والآخر أحمر، يحتويان على علوم مُدوَّنة مِمَّا خَصَّهم الرّسول صلّى الله عليه وآله بها بإملائه وخَطِّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

القناة الثّالثة: هي المَدد الغيبيِّ والإلهام الرَّبَّانيّ، في المجالات الّتي تَحتاج إلى هذا الفيض والمَدد الإلهيّ الخاصِّ"..".

2- الحِلم: وهو العقل والتّؤدة وضبط النّفس عن هيجان الغضب.. وذوو الأحلام والنّهى ذوو الأناة والعقول."..".

ونجد هذا الخُلق بأروع مظاهره في سيرة أئمَّة أهل البيت عليهم السّلام، فإنَّ الله تعالى قد منحهم مِن مكارم الأخلاق أرفعها وأكملها .

رُوي عن عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السّلام، أنَّه سبَّه رجل فرمى إليه بخَميصة كان عليه، وأمر له بألف درهم، فقال بعضُهم: جمع له خَمس خصالٍ محمودةٍ: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرّجل مِمَّا يُبعد مِن الله عَزَّ وجَلَّ، وحَمله على النّدم والتوبة، ورجوعه إلى المَدح بعد الذمِّ، اشترى جميع ذلك بشيء مِن الدّنيا يسير.

3- السَّماحة: وهي الكَرم والسَّخاء، وهو مِن أبرز جوانب العطاء في حياة أهل البيت عليهم السّلام،  فإنَّ حياتهم كلَّها عطاء وإنفاق وسَماحة مِن أجل بناء الأُمَّة مِن النّاحية المادِّيَّة والمعنويَّة، وسَدِّ ما فيها مِن ثغرات، نتيجة عدم تحكيم القوانين الإلهيَّة بالشّكل الكامل مِن قِبَل الحُكَّام الّذين كانت السُّلطة بأيديهم .

4- الفصاحة: وتعني مَلكة الشّجاعة الأدبيَّة في ميادين البيان وفنون الكلام، وأوضح دليل على ما منحه الله لأهل البيت مِن كمال في هذا المجال ما أُثر عنهم مِن كلامٍ، فإنَّ مدرستهم لها أساليبها الخاصَّة، وطابعها المُتميِّز سواء في مجال الخُطب، أمْ في مجال الأدعية، أمْ في الحِكَمِ والكلمات القِصار، أو النّصوص الحديثيَّة. فخُذْ أيَّ نَصٍّ مِن الكلام المنسوب إليهم، وقارن بينه وبين أيِّ كلامٍ آخر، فإنَّك سوف تجد الفَرق واضحاً جَليَّاً، فإنَّ كلامهم تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين .

مِن هنا نجد علماءنا الأعلام كثيراً ما يغضُّون النّظر عن ضَعف السّند اعتماداً على قوَّة النَّصِّ، فقد صحَّحوا كثيراً مِن الأدعية مع ضَعف سندها، نظراً إلى ما هي عليه مِن قوَّة البلاغة والبيان؛ حيث ينسجم مع مدرستهم وأساليبهم في البيان.

5- الشّجاعة: وهي قوَّة الإرادة والثّبات في الميادين الصّعبة والمواقف الخطيرة، ولا ينحصر ذلك في ميادين القتال، بلْ في كلِّ مجالٍ مِن مجالات الحياة وتحدِّياتها الّتي يحتاج الإنسان فيها إلى الشّجاعة وقوَّة الإرادة والثّبات، ولقد كان أهل البيت عليهم السّلام، المَثل الأعلى في الشّجاعة والصّمود في كلِّ ميدان مِن ميادين التّحدِّي، وسيرتهم أعظمُ شاهدٍ على ذلك .

إلاَّ أنَّ مواقفهم في الحياة اختلفت، وتفاوتت أساليبهم في العمل، لكنّها لم تختلف مِن حيث الهدف، وإنَّما هذا الاختلاف اقتَضته اختلافات الظّروف التي مَرَّت بها أُمَّة الإسلام .

6- المَحبَّة في قلوب المؤمنين: كيف لا تكون المَحبَّة لهم في قلوب المؤمنين ومَحبَّتهم جزء مِن الدِّين، بلْ هي روح الإيمان، وقد أوجبها الله على الأُمَّة في قوله تعالى﴿..قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى..الشّورى:23، فلا يكتمل إيمانُ عبدٍ إلَّا بمحبَّتهم ومودَّتهم، وقد أوعد الله المؤمنين الصّادقين بمودَّة القلوب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاَمريم:96  .

وقد ورد في أسباب النّزول -مِن طُرق الشّيعة وأهل السُّنَّة- أنَّ الآية نزلت في عليٍّ عليه السّلام.

وفي (المَجمع) في الآية: قيل: فيه أقوال: أحدها أنَّها خاصَّة في عليٍّ، فما مِن مؤمن إلَّا في قلبه مَحبَّة لعليٍّ، عن ابن عبّاس. وفي تفسير أبي حمزة الثُّماليّ: «حدَّثني أبو جعفر الباقر، قال: قال رسول الله لعليٍّ: قلْ: أللّهمَّ، اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين وُدَّاً. فقالها فنزلت الآية».

فلو أخذنا بإطلاق الآية الكريمة، وبكونها وعداً إليها لعموم المؤمنين الصّادقين، فإنَّ عليَّاً ووُلده هُمْ أكمل وأوضح المصاديق لمفهوم الآية الكريمة .

ثمَّ انتقل الإمام إلى ما فضَّل الله تعالى هذه الأُسرة، الأُسرة الهاشميَّة بأنْ جعل فيهم نُخبَة الأُمَّة وطليعتها، بِدءاً مِن الرّسول المُختار صلّى الله عليه وآله، الّذي جاء بهذا الدّين، الّذي أنقذ به البشريَّة وأخرجها مِن الظّلمات إلى النّور، وبنى كيان هذه الأُمَّة ورفعها فوق سائر الأُمَم، وقد لقي في سبيل ذلك المتاعب وواجه التّحدِّيات كافَّة مِن أجل أُمَّته، حتَّى أصبحت خَيرَ أُمَّة أُخرِجت للنّاس.

ومنهم سادة المُجاهدين بين يدي الرّسول الأعظم مِن أجل هذه الأُمَّة ورسالتها، وعلى رأسهم أمير المؤمنين وأوَّل المسلمين وخَير الصّادقين والمُصدِّقين للرّسول الأعظم عليُّ بن أبي طالب عليه السّلام، فكان صِدِّيق هذه الأُمَّة .

ومنهم جعفر بن أبي طالب الطّيَّار، الشّهيد في واقعة مؤتة، وقد قُطعت يداه في المعركة دفاعاً عن دين الله وأُمَّة الإسلام، فأخبر النّبيُّ صلّى الله عليه وآله عن فضله، وبأنَّه قد عوَّضه الله تعالى بجَناحين يطير بهما في الجَنَّة مع الملائكة .

ومنهم أسد الله وأسد الرّسول، وهو عَمُّ النّبيّ الحمزة بن عبد المُطَّلب الّذي استُشهد في سبيل الله تعالى في وقعة أُحد، فكان سيِّد شُهداء أُحد، أو سيِّد الشّهداء الّذين استُشهدوا بين يدي الرّسول الأعظم وتحت قيادته .

ومنهم سيِّدة نساء العالمين وبِضعة الرّسول فاطمة الزّهراء صلوات الله عليها، الّتي لم تَعرف الدّنيا امرأةً أفضل ولا أكمل منها، كما نطقت به النّصوص النّبويَّة، كقوله صلّى الله عليه وآله: «فاطمة سيِّدة نساء أهل الجَنَّة».

ومنهم الحسن والحسين سِبطا هذه الأُمَّة، وسيِّدا شباب أهل الجَنَّة، كما قال في حَقِّهما جَدُّهما الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: «الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة»  .

فهذه النّماذج الرّفيعة، الّتي أشار إليها الإمام السّجّاد في خطابه، تجعل هذه الأُسرة هي القاعدة الّتي انطلقت منها الدّعوة، وهي الّتي احتضنت الرّسالة، ودافعت عنها في الظّروف الحرجة، وبذلت الأموال والدّماء مِن أجل انتصارها .

فكان لها النّصيب الأوفر في حَمل الإسلام والدّفاع عنه، والتّضحية مِن أجله، ولم يتأتَّ ذلك وبهذا المُستوى لأيِّ أُسرةٍ في الإسلام .

والجدير بالمُلاحظة أنَّ الإمام السجَّاد عليه السّلام، في ذِكره هذه النُّخبَة البشريَّة مِن أُسرته وأسلافه، ذَكَرهم بالألقاب المُشعرة بالفضل والعظَمة، فذكر النّبيَّ المُختار، والصِّدِّيق، والطيَّار، وأسدَ الله وأسد رسوله، وسيِّدةَ نساء العالمين، وسِبطي هذه الأُمَّة وسيِّدَي شباب أهل الجَنَّة، توضيحاً لمكانة هذه الأُسرة، الّتي كانت مجهولة لدى أهل الشّام، فلا يعرفون شيئاً مِن تاريخها ومواقفها الجهاديَّة، وما جمع الله لها مِن جوانب الفضل والفضيلة .

وبعد أنْ أشار الإمام بهذه الإشارات إلى ما فُضِّل به أهل البيت بصورةٍ إجماليَّةٍ، أخذ يُفصِّل بشيءٍ مِن التّفصيل فتحدَّث عن جَدِّه الرّسول الأعظم أوَّلاً، حينما تحدَّث عن حَسبه ونَسبه؛ ليوضِح عَلاقة هؤلاء السّبايا برسول هذه الأُمَّة، فقال :

«فمَن عَرفني فقد عَرفني، ومَن لم يَعرفني أنبأتُه بحَسبي ونَسبي، أنا ابنُ مَكَّة ومِنى، أنا ابنُ زَمزم والصّفا، أنا ابنُ مَن حمل الزَّكاة بأطراف الرّداء، أنا ابنُ خَير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابنُ خَير مَن انتعل واحتفى، أنا ابنُ خير مَن طاف وسعى، أنا ابنُ خَير مَن حَجَّ ولبَّى، أنا ابنُ خَير مَن حُمِل على البِراق في الهوا، أنا ابن ُمَن أُسري به مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان مَن أسرى، أنا ابنُ مَن بَلَغ به جبرائيل إلى سِدرة المُنتهى، أنا ابنُ مَن دنا فتدلَّى فكان مِن رَبِّه قابَ قوسين أو أدنى، أنا ابنُ مَن صَلَّى بملائكة السماء، أنا ابنُ مَن أوْحى إليه الجليلُ ما أوْحى، أنا ابنُ محمّد ٍالمصطفى»  .

وغرض الإمام عليه السّلام مِن حديثه عن جَدِّه الرّسول الأعظم، وذكره بهذه الخصائص الّتي جَمَعها اللهُ تعالى لحبيبه ورسوله المُصطفى صلّى الله عليه وآله، غرضه هو أنْ يقول للنّاس: إنَّنا نحن الّذين نُمثِّل تلك الفضائل المحمّديَّة، ونحن الامتداد الطّبيعيّ لحياة تلك الشّخصيَّة، الّتي هي الأكمل والأفضل مِن بين كافَّة البشريَّة، وليس كما يدَّعيه الأُمويُّون لأنفسهم بأنَّهم قادة المسلمين وحُكَّامهم، وبأنَّهم أقربُ النّاس إلى الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله .ثمَّ انتقل إلى الحديث عن جَدِّه أمير المؤمنين، الّذي شوَّه النّظامُ الأُمويُّ سُمعتَه، وكان المُجتمع الشّاميُّ يجهل مواقفه وجهاده، وما يتحلَّى به مِن خصائص ربَّانيَّة، وعَلاقة خاصَّة بالرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.

فقال عليه السّلام :

«أنا ابن عليٍّ المُرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخَلق حتَّى قالوا: لا إله إلاَّ الله، أنا ابنُ مَن ضربَ بين يدي رسول الله بسيفَين، وطعن برُمحَين، وهاجر الهِجرتَين، وبايع البيعتَين، وصلَّى القبلتَين، وقاتل ببدرٍ وحُنين، ولم يكفر بالله طَرفة عين. أنا ابنُ صالح المؤمنين، ووارث النّبيِّين، وقاطع المُلحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المُجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكَّائين، وأصبر الصّابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسين ورسول رَبِّ العالمين، أنا ابنُ المؤيَّد بجبرئيل المنصور بميكائيل .

أنا ابنُ المُحامي عن حُرَمِ المسلمين، وقاتلِ النّاكثين والقاسطين والمارقين، والمُجاهدِ أعداءه النّاصبين، وأفخرِ مَن مَشى مِن قريشٍ أجمعين، وأوَّل مَن أجاب واستجاب لله مِن المؤمنين، وأقدم السّابقين، وقاصم المُعتدين، ومُبير المُشركين، وسَهْم مِن مرامي الله على المُنافقين، ولسان حِكمة العابدين، وعَيبة علم الله. سَمحٌ سَخيٌّ بُهلولٌ، زكيُّ أبطحيٌّ رضيٌّ مرضيٌّ مُقدام هُمام صابرٌ صوَّام، مُهذبٌ قوَّام شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومُفرِّق الأحزاب، أربطُهم جِناناً، وأطلقُهم عِناناً، وأجرؤهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدُّهم شكيمة. أسدٌ باسل، وغيثٌ هاطل، يطحنهم في الحروب، ويذروهم ذرو الرّيح الهشيم، ليثُ الحِجاز، صاحبُ الإعجاز، وكَبشُ العراق، الإمامُ بالنَّصِّ والاستحقاق، مَكِّيٌّ مَدنيٌّ أبطحيٌّ تِهاميٌّ، خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أُحديٌّ، وشَجريٌّ مُهاجريٌّ. مِن العرب سيِّدها، ومِن الوغى ليثها، وارث المِشعرَين، وأبو السّبطين الحسن والحسين، مُظهر العجائب، ومُفرِّق الكتائب، والشِّهاب الثّاقب، والنّور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كلِّ طالب، غالب كلِّ غالب. ذاك جَدِّي عليُّ بن أبي طالب».

إنَّ المُقتضي لهذا الإسهاب مِن الإمام زين العابدين، في حديثه عن جَدِّه أمير المؤمنين عليه السّلام، هو ما أشرنا إليه مِن تعرُّض شخصيَّة جَدِّه لمُحاولة التّشويه مِن قِبَل الإعلام الأُمويّ، ومُحاولة طَمْس مآثره وفضائله وفواضله، ما أدَّى إلى جَهل أهل الشّام بكلِّ ما يتعلَّق بشخصيَّته حتَّى أصبح يُسَبُّ على منابرهم، فأراد الإمام السّجَّاد عليه السّلام أنْ يكشف لذلك المُجتمع أنَّ هذا الّذي شتَمه ويشتمُه خُطباء النّظام الأُمويّ، هو مَن يحمل هذه الفضائل الّتي لم تجتمع لأيِّ فردٍ مِن أفراد الأُمَّة، سواءٌ في الفضائل النّفسيَّة والكمالات الذّاتيَّة، أمْ المواقف الجهاديَّة. لقد كان القوَّة الضّاربة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله في كلِّ ميادين الجهاد، ولم ينتصر المسلمون في حربٍ مِن الحروب في عهد الرّسالة، إلّا وكان محوَر ذلك الانتصار .

وأمَّا منزلته ومقامه مِن النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فهي تلك المنزلة الّتي لم تكن لأيِّ فردٍ مِن الأفراد، مِمَّن كانوا حول الرّسول صلّى الله عليه وآله مِن الأقربين والأبعدين، فهو أخوه وناصرُه وأبو ذُرَّيَّته وخليفته، بلْ هو نفسه كما قرَّر ذلك كتاب الله في آية المُباهلة .

فأينَ هذه الصّورة الّتي عرضها الإمام السّجّاد لجَدِّه أمير المؤمنين عليه السّلام، مِن الصّورة الّتي كوَّنها الأُمويُّون في الذّهنيَّة العامَّة للمُجتمع الشّاميّ للإمام عليّ عليه السّلام  .

فبهذا البيان مَزَّق ذلك الغِشاء، الّذي أراد الأُمويُّون به طَمس الحقيقة .

ثمَّ تابع الإمام السّجَّاد حديثه عن أسلافه، فقال :

«أنا ابنُ فاطمة الزّهراء، أنا ابنُ سيِّدة النّساء، أنا ابنُ الطُّهر البتول، أنا ابنُ بِضعة الرّسول صلّى الله عليه وآله، أنا ابنُ الحسين القتيل بكربلاء، أنا ابن المُزمَّل بالدّماء، أنا ابن مَن بَكى عليه الجِنُّ في الظّلماء، أنا ابنُ مَن ناحت عليه الطّيرُ في الهواء»   .

ولم يزل يقول: أنا، حتَّى ضَجَّ النّاس بالبكاء والنّحيب.

هكذا أعطى الإمام عليه السّلام لأُسرته وأسلافه هذه الصّورة المُقدَّسة، الّتي توضِح مكانتهم مِن الإسلام وتُبيِّن مدى الإجحاف والظُّلم الّذي تعرَّض له أهل البيت مِن هذه الأُمَّة، مُقابل ما قدَّموه مِن خدماتٍ وتضحياتٍ لم تُقدِّمها أيُّ أُسرة أُخرى في الإسلام .

والجدير بالذِّكْر، أنَّه لولا هذه المسيرة الّتي قطعها سبايا أهل البيت إلى الشّام، لَمَا أُتيحت الفرصة لأيِّ فردٍ مِن أهل البيت، أو مِن أتباعهم بأنْ يقوم بهذا الدّور الخطير، الّذي قام به الإمام مع رَكْبِ السّبايا مِن زخمٍ إعلاميٍّ في خدمة أهداف الثورة ومُعطياتها، والتي مِن أهمِّها بيان مقام أهل البيت مِن الرّسول والإسلام والقرآن، حتَّى خشي الطّاغية مِن وقوع الفتنة وحدوث ما لا يُحمَد عُقباه. فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فِكريَّاً في مجلس الطّاغية، وقد بادر بالإيعاز إلى المؤذِّن أنْ يؤذِّن؛ ليقطع على الإمام كلامه، فصاح المؤذِّن: اللهُ أكبر، فقال الإمام: كبَّرت كبيراً، لا يُقاس ولا يُدرك بالحواسّ، لا شيء أكبر مِن الله، فلمَّا قال المؤذِّن: أشهد أن لا إله إلَّا الله، قال عليُّ بن الحسين: شَهد بها شَعري وبشري ولحمي ودمي ومُخِّي وعَظمي.

ولمَّا قال المؤذِّن: أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، التفت عليُّ بن الحسين إلى يزيد فقال له: يا يزيد، محمّد هذا جَدِّي أمْ جَدُّك؟! إنْ زعمتَ أنَّه جَدُّك فقد كذبْتَ، وإنْ قلت: إنَّه جَدِّي، فلم قتلْتَ عِترته؟

وبعد هذين الخطابَين -اللّذين أدلت بهما الحوراء زينب والإمام زين العابدين عليهما السلام- أصبحت فاجعةُ كربلاء هي الحديث الّذي يجري بين كلِّ اثنين في المُجتمع الشّاميّ، وبهذا وجدت أصداءُ الثّورة طريقها إلى الأفكار والقلوب، حتَّى تأكَّد يزيد أنَّ بقاء سبايا آل محمّد في الشّام يُشكِّل خَطراً عليه وعلى حُكمه؛ لذلك أمرَ بتعجيل إخراجهم وإرجاعهم إلى المدينة، وخرج ركبُ السّبايا راجعاً نحو الحِجاز بعد أداء تلك الرّسالة الإعلاميَّة المُقدَّسة.

* من كتاب «قراءاتٌ في بيانات الثّورة الحسينيَّة».

 

أللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ:

وَسَدِّدْني لأَنْ أعارِضَ مَنْ غَشَّني بِالنُّصْحِ

         وَأجْزيَ مَنْ هَجَرَني بِالْبِرِّ

              وَأثيبَ مَنْ حَرَمَني بِالْبَذْلِ

                  وَأكافِيَ مَنْ قَطَعَني بِالصِّلَةِ

                    وَأخالِفَ مَنِ اغْتابَني إلى حُسْنِ الذِّكْرِ

                       وَأنْ اشْكُرَ الحَسَنَةَ وَأغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ

 من دعاء "مكارم الأخلاق" للإمام السجّاد عليه السلام

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

05/12/2013

دوريات

نفحات