فكر ونظر

فكر ونظر

26/07/2014

الكبائر والصّغائر


الكبائر والصّغائر

تحديداتها، وما قاله فيها المتكلّمون

ـــــ   أستاذ الفقهاء الشّيخ ضياء الدّين العراقيّ قدّس سرّه ـــــ

 

في ما يلي بحثٌ حول الكبائر والصّغائر، والجدل الكلاميّ والفقهيّ الّذي دار حوله، حيث جرى تناول آراء متكلّمي المعتزلة والإماميّة في هذا الخصوص، نقلاً مختصراً عن كتاب (شرح تبصرة المتعلّمين – كتاب القضاء) لأستاذ الفقهاء الشّيخ ضياء الدّين العراقيّ.

 

ذهب أهلُ الاعتزال إلى الاعتراف بوجود صغائر الذّنوب إلى جنب كبائرها، حسبما ورد في كلام الشّيخ المفيد، وهكذا صرّح به الشّيخ الطّوسيّ في (التّبيان)، فأصبح هذا القول شعاراً للمعتزلة تجاه مذهب الإماميّة.

نعم ذهب إليه أيضاً بعض أصحابنا الإماميّة، كالفقيه البحرانيّ [في الحدائق النّاضرة]، وصاحب (الجواهر) الشّيخ محمّد حسن النّجفيّ، وتلميذه المولى عليّ الكَنى، استناداً إلى ظواهر آياتٍ وروايات، ولكن حيث كان أصل اختيار هذا المذهب للمعتزلة، وهم سبقوا غيرهم في أصول الاستدلال عليه بما لم يتركوا لمَن بعدهم شيئاً يُذكر، كان من الواجب النّظر في ما قالوه تحديداً بهذا الصّدد.

قال القاضي عبد الجبّار، هو من أكابر شيوخ الاعتزال: «فإن قيل: وما تلك الدّلالة الشّرعيّة الّتي دلّتكم على أنّ في المعاصي ما هو كبير وفيها ما هو صغير، أفِي كتاب الله تعالى أم في سُنّة رسوله صلّى الله عليه وآله، أم في اتّفاق الأمّة؟

قيل له: أمّا اتّفاق الأمّة، فظاهرٌ على أنّ أفعال العباد تشتمل على الصّغير والكبير. غير أنّا نتبرّك به، ونتلو آياتٍ فيها ذِكرُ الصّغير والكبير، وما في معناه:

* قال الله سبحانه وتعالى: ﴿..مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا..﴾ الكهف:49.

* وقال تعالى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ القمر:53.

* وقال: ﴿..وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ..﴾ الحجرات:7. فرتّب المعاصي هذا التّرتيب، بدأ بالكفر الّذي هو أعظمُ المعاصي، وثنّاه بالفسق، وختمَ بالعصيان. فلا بدّ من أن يكون قد أراد به الصّغائر، وقد صرّح بذكر الكفر والفسق قبلَه.

* وقال أيضاً: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ..﴾ النّجم:32. فلا بدّ من أن يكون المراد باللّمم الصّغائر، وإلّا كان لا يكون للاستثناء معنًى وفائدة، إذ المُستثنى لا بدّ من أن يكون غير المستَثنى منه.

* وقال أيضاً: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..﴾ النّساء:48. وأراد به الصّغيرة، على ما شرحه المفسّرون.

فبهذه الوجوه الّتي ذكرناها، عُلم أنّ في المعاصي صغيراً كما أنّ فيها كبيراً، وإلّا فلو خُلّينا وقضية العقل، لكنّا نقطع على أنّ الكلّ كبير».

وزاد في (جواهر الكلام) [تقدّم أنّ صاحب الجواهر من القائلين بثنائيّة الصّغائر والكبائر] الاستشهاد بروايات تعداد الكبائر، وبما ورد من التّصريح بالصّغائر، وأنّها مغفورةٌ عند اجتناب الكبائر أو بالأعمال الصّالحة.

 

تفنيد أدلّة القاضي المعتزلي

هذا ما استندَ إليه أهل الاعتزال، على الرّغم من أنّه لا موضعَ في الآيات ولا في الرّوايات، للاستدلال بها على إثبات الصّغائر بإزاء الكبائر، أللّهمّ إلّا بالنّسبة وباعتبار الإضافة.

* أمّا آية الكهف، التي استدلّ بها القاضي المعتزلي: ﴿..مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا..﴾، فالاستشهادُ بها موقوفٌ على إرادة صغائر السّيّئات وكبائرها، في حين أنّ المقصود جزئيّات الأمور وكلّيّاتها، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ق:18.

وهذا كقوله تعالى ﴿..وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ..﴾ البقرة:282. وقوله: ﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ..﴾ التّوبة:121. وقوله ﴿..وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ يونس:61.

ومن ثمَّ تعقّبت الآية بقوله: ﴿..وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا..﴾ الكهف:49. وهكذا آية: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ القمر:52-53.

* وأمّا آية الحجرات: ﴿..وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ..﴾، فالكفرُ هو جحودُ الحقّ، والفسوق هو الخروجُ عن القَصد والاعتدال، والعصيان هو التّمرّد على المَولى الكريم. وليست الثّلاثة مانعةَ الجَمع، بعد قابليّة انطباق بعضها على بعض وتصادقها جميعاً، كما صحّ الافتراق في البعض. فهذه عناوين سيّئة لا يرتضيها ربّ العالمين لعباده الأكرمين، سواء تصادقت كما في الكافر الاصطلاحيّ، جاحدٌ وفاسقٌ وعاصٍ، أم تفارقت، كما في المؤمن العاصي بالإصرار على الذّنوب، أو الفاسق بارتكاب حرام.

* وقد سبق تفسير اللّمَم من آية النّجم [فسّره بالمَرويّ عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «اللَّمَم: الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذّنْبِ فَيَستَغْفِرُ اللهَ». ثمّ قال المحقّق العراقيّ: كأنّه لم يُرِد إيقاعه، وإنّما وقع منه وقوعاً على خلاف طبعِه]

* وكذلك آية النّساء: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..﴾، حيث كانت بياناً للفارق الكبير بين معصية الإشراك وغيره، فإنّها معصية لا تُغفَر أبداً إذا مات صاحبُها عليها. أمّا غيرها من المعاصي فقابلة للغفران مهما كان كبيراً أو عظيماً.

 

محدّدات الكبائر

على فرض وجود صغائر بالذّات بإزاء الكبائر، فهل نستطيع تحديد هذه الكبائر وتمييزها عن الصّغائر، بحيث يمكننا وضع اليد على واحدة واحدة من المعاصي فنقول: هذه صغيرة مغفورة وتلك كبيرة مغلَّظٌ تحريمُها؟ هَهنا عدّة تحديدات وضوابط، هي:

1) أحسن تحديد ضابط ورد بهذا الشّأن، ما ورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام، في تفسير الآية (31) من سورة النّساء. قال عليه السّلام: «الكبائرُ، الّتي أوجبَ اللهُ عزّ وجلّ عليها النّارَ».

هذا هو المعروف في لسان روايات أهل البيت عليهم السّلام، وعليه أكثر أصحابنا الإماميّة في مصنّفاتهم الفقهيّة. لكن هل هذا تحديدٌ للكبيرة بحيث يفصلها عن الصّغيرة ويميّزها عنها من بين السّيّئات، كي نستطيع بعدها تقسيم السّيّئات إلى قسمَين، فنقول: هذه صغيرة وتلك كبيرة؟! أَوَليس قد أوعد اللهُ على جميع المعاصي نار جهنّم: ﴿..وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ الجنّ:23.

إذاً، فكلّ معصيةٍ تستوجبُ ناراً، وقد أوعدَ اللهُ عليها النّار، وقد اتّحد هذا التّعريف مع المأثور عن ابن عبّاس: «كلّ ما نهى الله عنه فهو كبيرة». وعليه فكلّ معصية هي كبيرة، كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة المحقّقين.

وربّما فهم بعضُهم من قوله عليه السّلام: «الّتي أوجبَ اللهُ عليها النّار»، أو «أوعدَ اللهُ عليها النّار»، الإيعاد عليها بالخصوص، كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ النّساء:10. لكنْ لا وجهَ لهذا التّخصيص بعد عموم اللّفظ، وكون كلّ معصية ممّا أوعدَ اللهُ عليها النّار، فكأنّ الغرض تعميم الكبائر لجميع المعاصي، فلا صغيرةَ فيها.

هذا مضافاً إلى النّقض بكثيرٍ من الكبائر لم يتوعّد عليها بالنّار بالخصوص: مثل شرب الخمر، وترك صوم شهر رمضان، وشهادة الزّور، وإيواء عين المشركين، والتّجسّس لهم، إلى كثير من أشباه ذلك، ممّا ورد على أكثرها حدٌّ شرعيّ.

وقيلَ في تحديد الكبيرة أيضاً:

2) «كلُّ ذَنْبٍ كان له حدٌّ شرعيّ». لكن لا مستندَ له مع كثرة النّقوض عليه.

3) «كلّ ذنبِ علمتَ حرمتَه بدليلٍ قاطع». وهي جميع الذّنوب المعروفة.

4) «كلّ معصية تؤذِن بقلّة اكتراث فاعلها بالدِّين». هذا في كلّ المعاصي على سواء.

5) «كلّ معصية عدّها أهلُ الشّرع كبيرة». وهو إيكالٌ إلى فَهم المتشرّعة.

6) وقالت المعتزلة: «الكبيرة ما يكون عقابُ فاعله أكثر ممّا فعلَه من المثوبات. والصّغيرة ما كان ثواب فاعله أكثر من العقاب الّذي ترتّب على تلك المعصية». وهذا رجمٌ بالغيب وإيكالٌ إلى مجهول مختلف الأحوال بالنّسبة إلى الأشخاص.

وبالتّأسيس على ما تقدّم، نقول إنّ الصّحيح هو عدم وجود صغائر بالذّات بإزاء الكبائر، ومن ثمَّ فلا واقع لها كي يُمكن تحديدها.

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

26/07/2014

دوريّات

نفحات