البَداء.. في القرآن الكريم

البَداء.. في القرآن الكريم

03/05/2011

مثارٌ للجدل بين المتكلّمين

 الشيخ عبدالكريم آل نجف

البَداء في اللّغة يعني الظهور بعد الخفاء، ويُستعمل في المحاورات العرفيّة في موارد تبدّل الآراء والأفكار والأغراض والأهداف والمقاصد، فيُقال: «كان رأيه كذا ثمّ بدا له فيه»، وواضح أنّ البداء بهذا المعنى يستبطن جهلاً سابقاً وعلماً مستحدثاً، وكلاهما مَنفيّان عن الله تعالى، لأنّ علمه الله عزّ وجلّ ذاتي غير مسبوق بجهل.
ويُعتبر موضوع البَداء من جملة المسائل الكلاميّة التوحيديّة التي ثار حولها بحث واسع النطاق بين علماء الكلام، وذلك لِما ينطوي عليه من نكات دقيقة وحسّاسة.
 
إذا دقّقنا في البَداء بمعناه اللّغوي، من حيث هو الظهور بعد الخفاء، وتبدّل الآراء والمقاصد، لَوَجدناه مُركّباً من عنصرين :
1 ـ جهل سابق وعلم لاحق.
2 ـ تبدّل في الرأي والأغراض والأهداف تبعاً للعلم اللّاحق .
وهنا يُطرح التساؤل التالي:، أيّ من العنصرين يتنافى مع التوحيد، الأوّل أم الثاني أم كلاهما؟
وهل بالإمكان التفكيك بينهما بحيث نؤمن بنوع من التبدّل والتغيّر لا يكون ناشئاً من جهل سابق وعلم لاحق؟
بخصوص العنصر الأوّل: نلاحظ ببداهة أنّه يتنافى مع التوحيد، وليس هناك مُسلم يقبل بنسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نحتاج إلى سرد آيات وروايات في ذلك.
أمّا بخصوص العنصر الثاني: فإنّ كان التبدّل لازماً ذاتيّاً لوجود الجهل السابق وطروء العلم اللّاحق، فهو في هذه الحالة يتنافى مع التوحيد أيضاً، فكما أنّ الجهل يتنافى معه، كذلك يتنافى معه كلّ تبديل وتغيير يكون بسببه. وإنْ كان التبدّل ليس لازماً لذلك ولا ناشئاً منه، وإنّما ناشئ من عوامل أُخرى، فهو في هذه الحالة لا يتنافى مع التوحيد .
فتبدّل الرأي والنظر -مثلاً- من اللّوازم الذاتيّة لظهور العلم واضمحلال الجهل، ولذا فكما لا يُمكن نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، كذلك لا يُمكن نسبة التبدّل في الرأي والنظر إليه تعالى. بل إنّ مفهوم الرأي والنظر في نفسه لا يمكن نسبتُه إلى الله سبحانه، فضلاً عن تبدّله وتغيّره؛ لأنّ هذا المفهوم متقوِّم بالمعنى الحصولي الاكتسابي للعلم، وعلم الله ليس حصوليّاً اكتسابيّاً حتى يقال هذا نظر الله ورأيه، وإنّما هو علم ذاتي متقوِّم بذاته.
وبعد اتّضاح الجواب عن هذين السؤالين، نحاول أن نلقي نظرة في القرآن الكريم لنرى هل توجد فيه آية نَسبت إلى الله سبحانه التغيير والتبديل في أمر من الأمور، أو جانب من الجوانب؟
هناك مَن يُبادر إلى الإجابة عن ذلك بسرعة، قائلاً بأنّ القرآن الكريم قد نفى كلّ تغيير وتبديل عن الله سبحانه وتعالى، وذلك طبقاً لقوله تعالى: ﴿..ولن تجد لسنَّة الله تحويلاً﴾ فاطر:43، وقوله تعالى: ﴿..ولن تجد لسنَّةِ الله تبديلاً﴾ الأحزاب:62 .
غير أنّ هذا الجواب ليس كافياً، لأنّ الحقيقة القرآنيّة أمرٌ مُستفادٌ من القرآن كلِّه، وما كان مُستفاداً من جانب معيّن فقط منه لا يُمثّل إلّا نصف الحقيقة القرآنيّة، وهذا الجواب يعبِّر عن نصف الحقيقة لأنّه مُستفاد من جانب واحد من القرآن الكريم، وهناك جانب آخر منه نسب التغيير والتبديل إلى الله سبحانه وتعالى، مثل قوله تعالى: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب﴾ الرعد:39، وقوله تعالى: ﴿..إنّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم..﴾ الرعد:11.
فالآية الاولى تدلُّ على أنّ الله يمحو ويُثْبِت، وفي ذلك كناية عن التغيير والتبديل، أمّا الآية الثانية فقد صرّحت بأنّ الله يغيِّر حال الناس إذا ما غيَّر الناس ما بأنفسهم. فالواقع الاقتصادي والسياسي للناس، عبارة عن تقديرات ربانيّة قابلة للتغيير، إذا ما قرّر الناس تغيير واقعهم النفسي والثقافي، من الشرك إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهداية. فهناك تقديران، تقدير ربّاني لحالة الناس في الطاعة، وتقدير ربّاني لحالتهم في المعصية، فإن اختاروا الطاعة أجرى لهم التقدير الأوّل، وإن اختاروا المعصية أجرى عليهم التقدير الثاني، ومن هذا القبيل ما دلّ من الآيات والروايات على تأثير بعض الأعمال في الرزق والآجال والابتلاءات.

البَداء لُغةً واصطلاحاً

هذا ممّا لا يخالف فيه أحد من المسلمين؛ وإنّما نشأ الخلاف في مفهوم البداء عندما أُخذ بمعناه اللّغوي المتنافي مع التوحيد، وسينتفي الخلاف عند الالتفات إلى أنّ المراد به معنى اصطلاحي لا يلزم منه نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، فالمُراد بالبداء عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام هو: «إنّ الله سبحانه يُقدِّر لعبده تقديراً طبقاً لمقتضىً معيّن، ثمّ يبدّل الله تقديره طبقاً لمقتضىً جديد يظهر في العبد نتيجة عمل معيّن يقوم به، مع علمه السابق في كِلا الأمرين والحالين»، ولو أنّ المُعترضين اطّلعوا على هذا المعنى لعلموا أنّه ممّا اتّفق المسلمون عليه، فالنزاع في الأمر لفظي فقط، وصدق العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين، إذ يقول: «فالنزاع في هذه المسألة بيننا وبين أهل السنّة لفظي»، ثمّ يقول: «فإن أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللّفظي وأبى التجوّز باطلاق البداء على ما قلناه، فنحن نازلون على حُكمه، فليُبدِّل لفظ البداء بما يشاء وليتّقِ الله ربّه في أخيه المؤمن».
وقبله كتب الشيخ المفيد يقول: «أمّا إطلاق لفظ البداء، فإنّّما صرتُ إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عزّ وجلّ، ولو لم يَرِد به سمعٌ أعلمُ صحّته لما استجزتُ إطلاقه، كما أنّه لو لم يرد عليَّ سمع بأن الله يغضب ويرضى ويحبّ ويعجب، لما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنّه لمّا جاء السمع به، صرتُ إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافّة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف مَن خالفهم في اللّفظ دونما سواه. وقد أوضحت من علّتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإماميّة بأسرها، وكلّ مَن فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا يرضاه».
وقبله قال الإمام الصادق عليه السلام، في تفسير قوله تعالى: ﴿يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أمّ الكتاب﴾ الرعد:39: «فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له من جهل». وقال عليه السلام أيضاً: «مَن زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس، فابرؤوا منه».
ثمّ إنّ عمدة أدلّة الإماميّة في مسألة البداء أمور ثلاثة هي:
1 ـ قوله تعالى: ﴿يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أُمّ الكتاب﴾ الرعد:39، وقوله تعالى: ﴿يسأله من في السموات والأرض كلّ يوم هو في شأن﴾ الرحمن:29.
2 ـ البداء مشابهٌ لمسألة النسخ في التشريع، حيث قالوا بأنّ النسخ في التكوين كالنسخ في التشريع، والبَداء نسخ تكويني، والنسخ بَداء تشريعي، وكما أثبت المسلمون النسخ في التشريع، مثل مسألة تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة الشريفة، ولم يخالف منهم في ذلك أحد، ولم يعتبر أحد منهم ذلك مخالفاً لعلمه الأزلي سبحانه وتعالى، ولا مستلزماً لثبوت جهل سابق، كذلك البداء تغيير في الأحكام الكونيّة من دون أن يلزم منها جهل سابق، ولا مخالفة لعلمه الأزلي سبحانه وتعالى، فإنْ أَشكل أحد على البداء فإنّ إشكاله يقع على النسخ، وما يذكر من الجواب في باب النسخ يمكننا إيراده بتمامه في باب البداء، بلا أدنى فرق بين الأمرين، والإشكال على البداء إنّما هو تكرارٌ لِمَا أشكل به اليهود على النسخ في التشريع، حيث إنّهم يرون بطلان ذلك، وعدم إمكان نسبته إلى الله سبحانه وتعالى، كما أنّ إجابة علماء المسلمين على هذا الإشكال، وإثباتهم لإمكان النسخ في التشريع من دون لزوم خلل منه في الساحة الربوبيّة المقدّسة، قابلة للانطباق على باب النسخ في عالم التكوين والتدبير.
3 ـ تأثير الأعمال في مصائر الإنسان، وهذه حقيقة قرآنية مؤكّدة، إضافة إلى ما في السنّة النبويّة من تأكيد متواتر عليها، وهي أنّ أعمال الإنسان من الإيمان والشرك والطاعة والمعصية، أو برّ الوالدين وعقوقهما والانفاق على الفقراء والإمساك عن ذلك، وصلة الرحم وقطيعتها، ... إلخ، مؤثّرة في الرزق والبركة وطول العمر والسعادة، وهذه الأمور ذكرها القرآن الكريم مراراً، وأيّدتها السنّة النبويّة تكراراً، وقد لخّصها القرآن الكريم، بقوله تعالى: ﴿..إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم..﴾ الرعد:11، والذي يُنكر البداء لا بدّ وأن يعرف أنّ إنكاره ينجرّ إلى إنكار مثل هذه الحقيقة الواضحة، فإنْ كان يؤمن بها، فليعلم أنّ هذا الذي يؤمن به هو الذي تُسمّيه الإماميّة بالبداء.

الدور العقائدي والتربوي البنّـاء للبداء

اتّضح ممّا سبق أنّ البداء معنى قرآني متداول لدى المسلمين جميعاً، وأنّ الإماميّة لا يمتازون على سائر المسلمين إلّا في التسمية التي يُفهم منها خطأً نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، وقد اتّضح عدم صحّة هذه النسبة.
يهمّنا الآن أن نطرح جانباً آخر من البحث، وهو أهميّة فكرة البداء بالنسبة إلى عقيدة الإنسان المسلم، فإنّ الأفكار توزن بأُسسها العلميّة وأدلّتها المنطقيّة تارة، وبجدواها وثمرتها من جهة أخرى. وفي موضوع البداء قد يقال على وجه الاستفهام، إذا كان الجعلُ الأوّل لن يأخذ دوره إلى الواقع، بل سينتهي إلى الإلغاء، فما الفائدة من الإخبار عنه؟ وما هي الثمرة المُترتِّبة على الاعتقاد بالبداء حينئذٍ؟
والجواب: أنّ الاعتقاد بالبداء ينطوي على أهميّة فائقة من جهتين: جهة عقائديّة وجهة تربويّة.
أمّا الجهة العقائديّة: فيكفينا فيها كلام العلّامة المجلسي، حيث كتب يقول: «إنّهم عليهم السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون: إنّ الله قد فرغ من الأمر ومن النظام، وعلى بعض المعتزلة الذين يقولون إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، من معادن ونبات وحيوان وإنسان، ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها. وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكيّة، والقائلين بأنّ الله تعالى لم يؤثّر حقيقة إلّا في العقل الأوّل، فهم يعزلونه تعالى عن مُلكه، وينسبون الحوادث إليها لا إلى الباري عزّ وجلّ».
بمعنى أنّ تأكيد الأئمّة عليهم السلام على البداء، جاء لإبطال كلّ فكرة تجعل قدرة الله ومشيئته سبحانه وتعالى محدودة بحدٍّ معيّن، وإثبات أنّها حقيقة مطلقة من كلّ الجهات، حتى من جهة القدر الذي يقدّره الله سبحانه وتعالى بنفسه في عالم التكوين والخلقة والتدبير والربوبيّة، وأنّ تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه الأقدار لا يجعله مسلوب الإرادة والاختيار إزاءها.
كما أنّ البداء جاء للتأكيد على اختيار الإنسان وإرادته من خلال بيان أنّ القدر الإلهي فيه لوح محفوظ لا يقبل التغيير، ولوح آخر هو لوح المحو والإثبات الذي قد قدّره الله سبحانه وتعالى منذ البدء قابلاً للتغيير، تبعاً لما يقوم به الإنسان من أعمال في دار الدنيا.
وكأنّ عقيدة البداء جاءت تكملة لعقيدة القضاء والقدر، فَلِكَي يُدفع الغلوّ والإفراط في عقيدة القضاء والقدر، ولا تؤخذ بمعنى يسلب الاختيار عن الله سبحانه وتعالى وعن الإنسان، كان لا بدّ من تتميمها بعقيدة البداء، التي جاءت لتؤكِّد أنّ القدر لا يصل حدّ سلب الاختيار عن الله، ولا سلب الاختيار عن الإنسان.
ومن الجهة التربويّة: نلاحظ أنّ عقيدة البداء ذات أثر تربوي بنّاء في حياة الإنسان، وقد بيّن العلّامة المجلسي هذا الأثر في تتمّة كلامه السابق عن أسباب تأكيد الأئمّة عليهم السلام على البداء، حيث ذكر أوّلاً الفائدة العقائديّة التي ذكرناها، وعطف عليها بذكر الفائدة التربويّة: «فنفوا عليهم السلام ذلك، وأثبتوا أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام وإحداث آخر، وإماتة شخص وإحياء آخر، إلى غير ذلك، لئلّا يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته، والقرب إليه بما يصلح أمور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق».
ومن هذه الجهة تكون عقيدة البداء مساوقة في إيجابيّتها لعقيدة التوبة وشروط قبولها عند الله، فكما أنّ للتوبة أثراً إيجابيّاً في بناء الإنسان، ومن جهة غلق منافذ اليأس والقنوط، وفتح أبواب الأمل والرجاء، وخلق روحيّة التغيير والاستعداد للصلاح، كذلك للبداء هذا الأثر في حياة الإنسان، بل البداء لازم من لوازم التوبة وأمثالها من الأعمال، فإنّ من لوازم التوبة أن يعتقد التائب بأنّ قلم الله سبحانه وتعالى لم يجفّ بعد في لوح المحو والإثبات، فله سبحانه أن يمحو ما يشاء ويُثبت ما يشاء، فليست مشيئته سبحانه جزافيّة غير تابعة لضابطة حكيمة، بل لو تاب العبد وعمل بالفرائض وتمسّك بالعِصَم، خرج من صفوف الأشقياء ودخل في عداد السعداء، وبالعكس.
وفي إطار ذلك كلّه، نستطيع أن نفهم معنى كلام الأئمّة عليهم السلام بأنّه: «ما عُبِد الله بشيء مثل البداء»، «وما عُظّم الله عزّ وجلّ بمثل البداء»، «ما بعث الله نبيّاً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبوديّة، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء».


اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات