الملف

الملف

24/08/2014

وثائق مهمّة عن «ولاية العهد»

الإمام الرّضا عليه السّلام وولاية العهد

ثلاث وثائق سياسيّة مُهمّة

------- الشّيخ باقر شريف القرشي----------

 

نعرض في ما يلي ثلاثاً من أبرز الوثائق السّياسيّة التي ترتبط بولاية العهد للإمام الرّضا عليه السّلام، هي رسالةُ الفضل بن سهل التي هي في الحقيقة رسالة المأمون إلى الإمام عليه السّلام، ووثيقتا ولاية العهد.

نصوص هذه الوثائق، مقتبسة باختصار شديد، ممّا ذكره الرّاحل الشّيخ باقر شريف القرشيّ، في كتابه (حياة الإمام الرّضا عليه السّلام).

يُشار هنا إلى أنّ وقائع الحديث الأوّل بين الإمام الرّضا عليه السّلام، والمأمون قد أورده المؤلّف مُجتزَءاً، فأوردناه من (عيون أخبار الرّضا عليه السّلام) للشيخ الصّدوق رحمه الله تعالى.

 

الوثيقة الأولى:

رسالة الفضل إلى الإمام: أرسلَ الفضل بن سهل رسالةً إلى الإمام الرّضا عليه السّلام يطلب فيها القدوم إلى (خراسان)، ليتسلّم الخلافة من المأمون وهذا نصُّها بعد البسملة:

لعليّ بن موسى الرّضا، وابنِ رسول الله المصطفى، والمهتدي بهَديه، والمقتدى بفعله، الحافظِ لدين الله، الخازنِ لوَحي الله، من وّليّه الفضل بن سهل، الذي بذلَ في ردِّ حقِّه إليه مُهجتَه، ووصلَ ليلَه فيه بنهاره.

سلامٌ عليك أيّها المهتدي ورحمة الله وبركاته، فإنّي أحمدُ إليك الله الذي لا إلهَ إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على محمّدٍ عبدِه.

أمّا بعد: فإنّي أرجو أنّ اللهَ قد أدّى لك، وأذِن لك في ارتجاع حقّك ممّن استضعفَك، وأن يعظّمَ مِننَه عليك، وأن يجعلَك الإمامَ الوارث، ويرِيَ أعداءك، ومَن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون.

وإنّ كتابي هذا عن إزماعٍ من أمير المؤمنين عبد الله الإمام المأمون، ومنّي، على ردِّ مظلَمتِك عليك، وإثباتِ حقوقِك في يدَيك، والتّخلّي منها إليك، على ما أسألُ اللهَ الذي وقف عليه: أن تبلّغني ما أكون بها أسعدَ العالَمين، وعند الله من الفائزين، ولِحَقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله من المؤدّين، ولك عليه من المعاونين، حتّى أبلغ في توليّك ودولتك كِلتا الحسنتَين.

فإذا أتاك كتابي - جُعِلتُ فِداك - وأمكنَك أن لا تضعَه من يدك، حتّى تسيرَ إلى أمير المؤمنين، الذي يراكَ شريكاً في أمره، وشفيعاً في نَسَبِه، وأَولى النّاس بما تحتَ يده... فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملائكته محفوظاً، وبكلَاءته محروساً، وإنّ الله كفيلٌ لك بكلّ ما يجمعُ حُسنَ العائدة عليك، وصلاحِ الأمّة بك، وحسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته».

رُسُل المأمون إلى الإمام:

وأرسل المأمون وفداً رسميّاً لإشخاص الإمام الرّضا عليه السّلام من (يثرب) إلى (خراسان)، وقد عهد المأمون إلى رئيس الوفد أن يأتيَ بالإمام عليه السّلام على طريق (البصرة)، و(الأهواز) و(فارس)، وأن لا يأتي به على طريق (الكوفة) و(قم)، كما كتب المأمون إلى الإمام الرّضا عليه السّلام أن لا يأخذَ على طريق الجبل وقم، وإنّما يأخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس.

ومرورُ الإمام على (البصرة) لا مكسب فيه للإمام، لأنّها كانت عثمانيّة الهوى، كما كانت تَدينُ بالولاء للعبّاسيّين، وهذا الإجراء يكشفُ عن زَيفِ خطّة المأمون في التّخلّي عن الحكم، وإرجاعه للعلويّين.

الإمام يودّع قبر النّبيّ

ولم يَجِد الإمام عليه السّلام بدّاً من إجابة المأمون، فمَضى إلى قبر جدّه الرّسول صلّى الله عليه وآله فودّعه الوداعَ الأخير، وعلمَ أنّه لا عودةَ له إلى جواره.

 قال «محول السّجستاني»:

لمّا وردَ البريد بإشخاص الإمام الرّضا إلى (خراسان) كنتُ أنا بالمدينة، فدخلَ المسجدَ ليودّعَ قبر جدِّه رسول الله صلّى الله عليه وآله فودّعَه مراراً، وكان صوتُه يعلو بالبكاء والنّحيب، فتقدّمتُ إليه، وسلّمتُ عليه، فردّ السّلام، وهنّأتُه بما يصيرُ إليه، فقال عليه السّلام: «ذَرْنِي، فَإِنّي أَخْرُجُ مِنْ جِوارِ جَدِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَأَموتُ في غُرْبَةٍ وَأُدْفَنُ في جَنْبِ هارونَ».

الإمام يأمر أهله بالبكاء عليه:

وكان الإمام الرّضا عليه السّلام على علمٍ لا يخامرُه أدنى شكّ في أن لا عودةَ له إلى أهله ووطنه، فودّعهم الوداعَ الأخير، وجمعَ عياله وأمرَهم بالبكاء والنّحيب عليه، وهو يسمعُ ذلك، ووزّعَ عليهم اثنَي عشر ألف دينار، وعرّفَهم أنّه لا يرجعُ إليهم أبداً.

إقامةُ ولده الجواد مقامه:

وأقام الإمام الرّضا عليه السّلام ولدَه الجواد عليه السّلام مقامَه وهو ابنُ سبع سنين أو يزيد على ذلك، وأدخلَه مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وآله ووضعَ يده على حافّة القبر الشّريف وألصقَ ولدَه بالقبر، واستحفظه عند جدّه الرّسول صلّى الله عليه وآله، وقال له: «أَمَرْتُ جَميعَ وُكَلائِي، وَحَشَمي، بِالسَّمْعِ وَالطّاعَةِ لَكَ»، وعرّف أصحابَه أنّه القيّمُ من بَعدِه.

إلى بيت الله الحرام:

وقبل أن يتوجّه الإمام إلى (خراسان) يمّمَ وجهَه نحو بيتِ الله الحرام ليودّعَه الوداعَ الأخير، وقد صحبَ معه معظمَ عائلتِه، وكان من بينهم ولدُه الإمام الجواد عليه السّلام، ولمّا انتهى إلى بيت الله المعظّم أدى التّحيّةَ فطافَ بالبيت وصلّى بمقامِ إبراهيم، وسعى، وطافَ معه ولدُه الإمام الجواد، فلمّا انتهى الإمامُ الجواد إلى حِجر إسماعيل جلسَ فيه، وأطالَ الجلوس فانبرى إليه موفّق الخادم، وطلبَ منه القيامَ فأبى، وقد بدا عليه الحزنُ والأسى، فأسرعَ موفّق نحو الإمام الرّضا، وأخبره بشأن ولده، وبادر الإمام الرّضا نحو ولده فطلب منه القيامَ فأجابه بنبراتٍ مشفوعةٍ بالبكاء والحَسَراتِ قائلاً:

«كَيْفَ أَقُومُ وَقَد وَدَّعْتَ يَا أَبَتِ البَيْتَ ودَاعَاً لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ؟!».

إلى خراسان:

وغادر الإمام الرّضا عليه السّلام بيتَ الله الحرام مُتوجّهاً إلى خراسان، وقد قُوبل بمنتَهى الحفاوة والتّكريم والإجلال في كلّ بلدٍ أو حيٍّ اجتازَه، فقد سارعَ المسلمون إلى الاحتفاء به، وهم يتبرّكون بتقبيل يدَيه، ويعرضون عليه التّشرفَ بضيافتِه وتقديمِ الخدمات له، كما يسألونه عن أحكام دينِهم، وهو، عليه السّلام، يجيبُهم عن ذلك.

في نيسابور:

استُقبل عليه السّلام في (نيسابور) استقبالاً شعبيّاً منقطعَ النّظير، فلم تشهد (نيسابور) في جميع تاريخِها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبارُ العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وقد رووا عنه الحديثَ الذّهبيّ الذي سنذكره.

ونزل الإمام عليه السّلام في محلّة الغربيّ أو «الفرويّ» في دار شخصٍ سمّاه أهل نيسابور (بَّسَنْدَه) وهي كلمة فارسيّة معناها في العربيّة (مَرْضِيّ)، لأنّ الإمام عليه السّلام ارتضاه من دون النّاس فنزلَ في داره، وزرعَ الإمام في تلك الدّار لوزةً فنبتًت، وصارت شجرةً وأثمرت في سنة، ولمّا علمَ النّاسُ جعلوا يستشفون بِلَوْزِها، فمَن أصابَتْه عِلّةٌ تبرّك بالتّناول من لَوْزِها فَعُوفِيَ ببركة الإمام العظيم، وقد قطعَ بعضَ أغصانِها شخصٌ فَعَمِي، وقطعَ تلك الشّجرة ابنُ حمدان فأصابَه العَمى.

وكان في (نيسابور) حمّامٌ فدخل فيه الإمام عليه السّلام فاغتسلَ فيه ثمّ خرجَ منه وصلّى على ظهرِه، وأخذَ أهالي (نيسابور) يتبرّكون بذلك الحمّام فيغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره ويدعون اللهَ عزَّ وجلَّ في حوائجِهم فتُقضى لهم ببركة الإمام العظيم.

الحديث الذّهبيّ:

أحاط العلماءُ ورواة الحديث بالإمام عليه السّلام، وكان على بغلةٍ شَهباء، وقد لبس عمامتَه، وكان في مقدّمة العلماء يَحيى بنُ يحيى، وإسحاقُ بن راهويه، ومحمّدُ بن رافع، وأحمدُ بن حرب وغيرُهم، ولمّا رأتْه الجماهير الحاشدة وهو بتلك الهيئة التي تحكي هيئةَ جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، تعالتْ أصواتُهم بالتّهليل والتّكبير مشفوعةً بالأسى والبكاء، وقد ضجّت البقعةُ بالبكاء فنَادى العلماءُ والحفّاظ:

«معاشرَ النّاس، أنصِتوا، وَعُوا، ولا تؤذوا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في عترته».

وألقى الإمامُ عليه السّلام على العلماء هذا الحديث الشّريف، فقال:

«سَمِعْتُ أَبي موسى بْنَ جَعْفَرٍ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقولُ:

سَمِعْتُ أَبي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبي أَميرَ المُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَقولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقولُ: قالَ اللهُ جَلَّ جَلالُه: (لا إِلَهَ إِلّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذابي)».

ولمّا مرت الرّاحلةُ نادى أهل (نيسابور) فقال: «وَلَكِنْ بِشُروطِها، وَأَنا مِنْ شُروطِها».

وقد كتب هذا الحديث الشّريف ما ينيفُ على عشرين ألفاً من العلماء والحفّاظ والرّواة، أمّا أسنادُ هذا الحديث الشّريف فهو من أَجَلِّ وأروع الأحاديث المسنَدة. يقول أحمدُ بنُ حنبل: لو قُرِئَ هذا الإسناد على مجنونٍ لبرئ من جنّته. وقد أوصى بعضُ أمراء السّامانيّة أن يكتبَ هذا الحديث بالذّهب ويدفَن معه.

إلى طوس:

وسَرَتْ قافلةُ الإمام عليه السّلام من (نيسابور)، وهي تطوي الصّحراء حتّى انتهت إلى (سُناباد)، وفيه جبلٌ كانت تُنحَتُ منه القدور، فاستندَ إليه، وقال: «أللَّهُمَّ أَنْفِعْ بِهِ، وَبارِكْ فيما يُجْعَلُ فيهِ، وَفيما يُنْحَتُ مِنْهُ»، ثمّ أمر بأن ينحتَ منه قدورٌ له فنٌحِتت له، وقال: «لا يُطْبَخُ ما آكُلُهُ إِلّا فيها».

وفي (سناباد) دارُ حميد بن قحطبة الطّائي التي فيها قبرُ هارون الرّشيد، فمَضى إليها الإمام، وانتهى إلى قبر هارون فخطَّ بيده إلى جانبِه، وقال لمَن حوله: «هَذِهِ تُرْبَتي، وَفيها أُدْفَنُ، وَسَيَجْعَلُ اللهُ هَذا المَكانَ مُخْتَلَفَ شيعَتي وَأَهْلِ مَحَبَّتي، وَاللهِ ما يَزورُني مِنْهُمْ زائِرٌ، وَلا يُسَلِّمُ عَلَيَّ مِنْهُمْ مُسَلِّمٌ إِلّا وَجَبَ لَهُ غُفْرانُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ بِشَفاعَتِنا أَهْلَ البَيْتِ».

 ثمّ استقبلَ القبلةَ فصلّى ركعتَين ودعا بدَعَوات، ولمّا فرغَ من صلاته سجدَ سجدةً طالَ مكثُه فيها، فأُحصِيَت له فيها خمسمائةُ تَسبيحة.

 ثمّ ناول، عليه السّلام، بعضَ ثيابه إلى حميد لغَسلِها، فأخذَها حميد وأعطاها إحدى جواريه فأخذَتْها، وسرعانَ ما أقبلت وقالت: وجدتُ رقعةً في قميص أبي الحسن، فناولَتْها إلى حميد وسارعَ بها إلى الإمام عليه السّلام وقال له: ما فيها يا ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ فقال عليه السّلام:

«هَذِهِ عُوذَةٌ مَنْ أَمْسَكَها في جَيْبِهِ كانَ مَدْفوعاً عَنْهُ، وَكانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ، وَمِنَ السُّلْطانِ».

وطلب حميدُ من الإمام أن يُمليها عليه، فأملاها وهذا نصُّها بعد البسملة:

بِسْمِ اللهِ. إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً أوْ غَيْرَ تَقيٍّ. أَخَذْتُ بِاللهِ السَّميعِ البَصيرِ عَلى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، لا سُلْطانَ لَكَ عَلَيَّ، وَلا عَلى سَمْعي وَبَصَري، وَلا عَلى شَعْري، وَلا عَلى بَشَري، وَلا عَلى لَحْمي، وَلا عَلى دَمي، وَلا عَلى مُخِّي، وَلا عَلى عَصَبي، وَلا عَلى عِظامي، وَلا عَلى أَهْلي، وَلا عَلى مالي، وَلا عَلى ما رَزَقَنِي رَبِّي. سَتَرْتُ بَيْني وَبَيْنَكَ بَسِتْرِ النُّبُوَّةِ الَّذي اسْتَتَرَ بِهِ أَنْبِياءُ اللهِ مِنْ سُلطانِ الفَراعِنَةِ. جِبْرَئيلُ عَنْ يَميني، وَميكائيلُ عَنْ يَساري، وَإسْرافيلُ مِنْ وَرائي، وَمُحَمَّدٌ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ أمَامِي، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا يَمْنَعُكَ وَيَمْنَعُ الشَّيْطانَ مِنّي.

اللَّهُمَّ لا يَغْلِبْ جَهْلُهُ أَناتَكَ أَنْ يَسْتَفِزَّني وَيَسْتَخِفَّني، اللَّهُمَّ إلَيْكَ الْتَجأتُ، اللَّهُمَّ إلَيْكَ الْتَجأتُ، اللَّهُمَّ إلَيْكَ إلْتَجأتُ.

 

استقبال المأمون للإمام:

وأمر المأمون باستقبال الإمام استقبالاً رسميّاً، فخرجت القوّات المسلّحة لاستقباله وسائرُ أبناء الشّعب، وكان المأمون في مقدّمة مستقبليه، ومعه الفضل بن سهل، وبقيّة وزرائه ومستشاريه.

عَرضُ الخلافة على الإمام:

 «عن أبي الصّلت الهَرَويّ، قال: إنّ المأمون قال للرّضا عليه السّلام: يا ابنَ رسول الله، قد عرفتُ علمَك وفضلَك وزهدَك وورعَك وعبادتَك، وأراكَ أحقُّ بالخلافة منّي.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: بِالعُبودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَفْتَخِرُ، وَبِالزُّهْدِ في الدُّنْيا أَرْجُو النَّجاةَ مِنْ شَرِّ الدُّنْيا، وَبِالوَرَعِ عَنِ المَحارِمِ أَرْجُو الفَوْزَ بِالمَغانِمِ، وَبِالتَّواضُعِ في الدُّنْيا أَرْجُو الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

 فقال له المأمون: فإنّي قد رأيتُ أن أعزلَ نفسي عن الخلافة وأجعلها [لك] وأبايعك.

 فقالَ له الرّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنْ كانَتْ هَذِهِ الخِلافَةُ لَكَ، وَاللهُ جَعَلَها لَكَ، فَلا يَجوزُ لَكَ أَنْ تَخْلَعَ لِباساً أَلْبَسَكَ اللهُ وَتَجْعَلَهُ لِغَيْرِكَ، وَإِنْ كانَتِ الخِلافَةُ لَيْسَتْ لَكَ، فَلا يَجوزُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لي ما لَيْسَ لَكَ.

 فقال له المأمون: يا ابنَ رسول الله، فلا بدّ لك من قبول هذا الأمر.

فَقالَ: لَسْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ طائِعاً أَبَداً.

فما زال يجهدُ به أيّاماً حتّى يئسَ من قبوله، فقال له: فإنْ لم تقبلِ الخلافة ولم تُجِب مبايعتي لك، فكُن وَلِيَّ عهدي له [كذا] تكون (لك) الخلافةُ بعدي.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: وَاللهِ، لَقَدْ حَدَّثَني أَبي، عَنْ آبائِهِ، عَنْ أَميرِ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ، عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنّي أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا قَبْلَكَ مَقْتولاً بِالسُّمِّ مَظْلوماً تَبْكِي عَلَيَّ مَلائِكَةُ السَّماءِ وَمَلائِكَةُ الأَرْضِ، وَأُدْفَنُ في أَرْضِ غُرْبَةٍ إِلى جَنْبِ هارونَ الرَّشيدِ.

 فبكى المأمون، ثمّ قال له: يا ابنَ رسول الله، ومَنْ الذي يقتلُك أو يقدرُ على الإساءة إليك وأنا حَيّ؟

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: أَما إِنّي لَوْ أَشاءُ أَنْ أَقولَ، لَقُلْتُ مَنْ يَقْتُلُني.

 فقال المأمون: يا ابن رسول الله، إنّما تريدُ بقولك هذا التّخفيفَ عن نفسِك ودفعَ هذا الأمر عنك، ليقولَ النّاسُ إنّك زاهدٌ في الدّنيا.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: وَاللهِ، ما كَذَبْتُ مُنْذُ خَلَقَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، وَما زَهِدْتُ في الدُّنْيا للدُّنْيا، وَإِنّي لَأَعْلَمُ ما تُريدُ.

 فقال المأمون: وما أريد؟

قال: الأمانُ عَلى الصِّدْقِ؟

 قال: لك الأمان.

«تُريدُ بِذَلِكَ أَنْ يَقولَ النّاسُ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ موسى الرِّضا لَمْ يَزْهَدْ في الدُّنْيا، بَلْ زَهِدَتِ الدُّنْيا فيهِ، أَلا تَرَوْنَ كَيْفَ قَبِلَ وِلايَةَ العَهْدِ طَمَعاً في الخِلافَةِ؟

فغضبَ المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهُه وأمنتَ سطوتي، فَبِاللهِ أُقسم، لَئِنْ قبلتَ ولايةَ العَهد، وإلّا أجبرتُك على ذلك، فإنْ فعلتَ وإلّا ضربتُ عُنُقَك.

 فَقالَ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلامُ: قَدْ نَهاني اللهُ تَعالى أَنْ ألْقِيَ بِيَدي [إلى] التَّهْلُكَةِ، فَإِنْ كانَ الأَمْرُ عَلى هَذا فَافْعَلْ ما بَدا لَكَ، وَأَنا أَقْبَلُ عَلى أَنّي لا أُوَلّي أَحَداً وَلا أَعْزِلُ أَحَداً وَلا أَنْقُضُ رَسْماً وَلا سُنَّةً، وَأَكونُ في الأَمْرِ مِنْ بَعيدٍ مُشيراً. فَرَضِيَ منه بذلك، وجعلَه وليَّ عهدِه على كراهةٍ منه عليه السّلام بذلك».

 (الصّدوق، عيون أخبار الرّضا عليه السّلام)

 

الوثيقة الثّانية:

نَصُّ وثيقة ولاية العهد:

ولم تقتصر ولايةُ العهد بين الإمام عليه السّلام وبين المأمون على البحوث الكلاميّة، وإنّما دُوّنت في وثيقة رسميّة، وقّع عليها الإمام والمأمون، وشهدَ عليها كبارُ رجال الدّولة، وقد نقلَتْها جمهرةٌ من مصادر التّاريخ، وقد اطّلعَ عليها ابن الجوزيّ وقال: ابتاعَها خالي بمأتَي دينار، وحملَها إلى سيف الدّولة صدقة بن منصور، وكان فيها خطوطُ جماعةٍ من الكُتّاب، مثل: الصّوليّ عبد الله بن العبّاس، والوزير المغربيّ، وقد اطّلع عليها عليّ بن عيسى الأربليّ، ونقل نصَّها في كتابة (كشف الغُمّة) [انظر: ج 3، ص 124] وذلك في سنة 670 هجريّة‍، ونحن ننقلُ نصَّها، فقد جاء فيها بعد البَسملة:

«هذا كتابٌ كتبَه عبدُ الله بن هارونِ الرّشيد، أمير المؤمنين لعليِّ بن موسى بن جَعفر.

أمّا بعد: فإنّ اللهَ عزّ وجلّ اصطفى الإسلامَ ديناً، واصطفى من عبادِه رُسلاً دالّين عليه، وهادين إليه، ويُبَشِّرُ أوّلُهم بآخرهم، ويصدّقُ تاليهم ماضيهم، حتّى انتهت نبوّة الله إلى محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على فترةٍ [من] الرُّسُل، ودُروسٍ من العلم، وانقطاعٍ من الوَحي، واقترابٍ من السّاعة، فختمَ اللهُ به النّبيّين، وجعلَه شاهداً لهم، ومُهيمناً عليهم، وأنزلَ عليه كتابَه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه، ولا من خلفه. تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، بما أحلَّ وحرّمَ ووعدَ وأوعدَ، وحذّر وأنذَر، وأمر به، ونهى عنه، لتكونَ له الحجّةُ البالغةُ على خلقِه، ليهلكَ من هلكَ عن بيّنة، ويحيا من حَيَّ عن بيّنة، وإنّ الله لسميعٌ عليم. فبلّغ عن الله رسالتَه، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالّتي هي أحسن، ثمّ بالجهاد والغِلظة، حتّى قبَضَه الله إليه، واختار له ما عنده، صلّى الله عليه وآله، فلمّا انقضتِ النّبوة، وختمَ اللهُ بمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، الوحيَ والرّسالة، وجعل قِوامَ الدّين ونظامَ أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامَها وعزّها والقيامَ بحقّ الله فيها بالطّاعة التي يقامُ بها فرائضُ الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسُننه، ويجاهد بها عدوّه.

فعلى خلفاء الله طاعتُه فيما استحفظَهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعةُ خلفائهم، ومعاونتُهم على إقامة حقِّ الله وعدْله، وأمن السّبيل، وحقْن الدّماء، وصلاح ذات البَيْن، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطرابُ حبلِ المسلمين، واختلالهم، واختلاف مِلّتهم، وقهرُ دينِهم، واستعلاءُ عدوّهم، وتفرُّق الكلمة، وخسرانُ الدّنيا والآخرة.

فحقٌّ على مَن استخلفه الله في أرضه، وائتمنَه على خلقه أن يُجهِدَ لله نفسَه، ويُؤْثِرَ ما فيه رضى الله وطاعته، ويعتمد لِما اللهُ مواقفُه عليه، ومسائلُه عنه، ويحكم بالحقّ، ويعمل بالعدل فيما أحلّه الله وقلَّده، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول لنبيّه داود: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ص:26، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الحجر:92-93. وبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها).

وَأَيْمُ اللهِ، إنّ المسؤولَ عن خاصّة نفسِه، الموقوفَ على عمله في ما بينه وبين الله، لَيُعْرَض على أمرٍ كبيرٍ، وعلى خطرٍ عظيمٍ، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأُمّة، وبالله الثّقة، وإليه المَفزع، والرّغبة في التّوفيق والعصمة، والتّسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحُجّة، والفوز من الله بالرّضوان والرّحمة.

وَأَنْظَرُ الأُمّة لنفسِه، وأَنصحُهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه، مَن عمل بطاعة الله وكتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، في مدّة أيّامه وبعدها، وأجهدَ رأيَه فيمَن يُولّيه عهدَه، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعدَه، وينصبُه علماً لهم، ومفزعاً في جمْع ألفتهم، ولَمِّ شعثِهم، وحقنِ دمائهم، والأمنِ بإذن الله من فرقتِهم، وفسادِ ذات بينِهم، واختلافِهم، ورفع نزغِ الشّيطان وكيدِه عنهم، فإنّ الله عزّ وجلّ جعلَ العهدَ بعد الخلافة من تمام (أمر) الإسلام وكمالِه، وعزِّه وصلاحِ أهلِه، وألهَمَ خلفاءه الخلافة من توكيده لمَن يختارونه له من بعدهم ما عظُمت به النّعمة وشملت فيه العافية، ونقضَ اللهُ بذلك مكرَ أهل الشّقاق والعداوة والسّعي والفرقة والتّربّص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضتْ إليه الخلافة فاختبرَ بشاعةَ مذاقها، وثقلَ محملِها، وشدّة مؤونتها، وما يجب على مَن تقلّدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبتِه في ما حمّلَه منها، فأنْصَبَ [أي أتعب] بدنَه، وأسهر عينَه، وأطال فكرَه في ما فيه عزُّ الدّين، وقمعُ المشركين، وصلاحُ الأُمّة ونشرُ العدل، وإقامةُ الكتاب والسّنّة، ومنعَه ذلك من الخفض والدَّعَة، ومَهْنَأ العيش، علماً بما اللهُ سائلُه عنه، ومحبّةَ أن يلقى الله مُناصِحاً له في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده، ورعاية الأُمّة من بعده أفضلَ مَن يقدر عليه، في دينِه ووَرَعِه وعملِه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقِّه، مناجياً بالاستخارة في ذلك، ومسألته إلهامَه ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليلِه ونهاره، ومعملاً - في طلبِه والتماسِه في أهل بيتِه من وُلد عبد الله بن العبّاس، وعليّ بن أبي طالب  - فكرَه ونظرَه، مقتصراً ممَّن عَلِمَ حالَه ومذهبَه منهم على علمه، وبالغاً في المسألة عمّن خفي عليه أمرُه جهدَه وطاقتَه، حتّى استقصى أمورَهم معرفةً، وابتلى أخبارَهم مُشاهدةً، واستبرأ أحوالَهم مُعاينةً، وكشفَ ما عندهم مسألةً، فكان خَيَرَتُه بعد استخارته الله، وإجهاده نفسَه في قضاء حقِّه في عباده وبلاده في البيتَين جميعاً: عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، لِمَا رأى من فضله البارع، وعلمِه النّافع، ووَرعِه الظّاهر، وزُهدِه الخالص، وتَخلّيه من الدّنيا، وتسلّمه من النّاس.

وقد استبانَ له ما لم تزل الأخبارُ عليه مُتواطئةً والألسن عليه مُتّفقة، والكلمةُ فيه جامعة، ولِما لم يزَل يعرفُه به من الفضل يافعاً، وناشئاً، وحَدَثاً ومُكتهِلاً، فعقدَ له بالخلافة من بعده، واثقاً بخِيَرة الله في ذلك، إذ علمَ اللهُ أنّه فعلَه إيثاراً له، وللدّين، ونظراً للإسلام والمسلمين، وطلباً للسّلامة، وثبات الحُجّة والنّجاة في اليوم الذي يقومُ النّاس فيه لربّ العالمين.

ودعا أمير المؤمنين وُلدَه وأهلَ بيتِه وخاصّته وقوّادَه وخدمَه، فبايعوا مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعةَ الله على الهوى في وُلده وغيرهم ممّن هو أشبك منه رَحِماً وأقربُ قرابةً.

وسمّاه الرّضا، إذ كان رضاً عند أمير المؤمنين، فبايِعوا، معشرَ أهل بيت أمير المؤمنين، ومَن بالمدينة المحروسة من قوّاده وجندِه وعامّة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرّضا من بعده عليّ بن موسى على اسمِ الله وبركتِه، وحُسنِ قضائه لدينِه وعبادِه، بيعةً مبسوطةً إليها أيديكم منشرحةً لها صدورُكم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثرَ طاعة الله، والنّظر لنفسِه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهمَ أمير المؤمنين بها من قضاء حقّه في رعايتِكم، وحرصه على رُشدِكم، وصلاحكم، راجين عائدةَ ذلك في جمْع ألفتكم، وحقْن دمائكم، ولمِّ شعثِكم، وسدّ ثغورِكم وقوّة دينِكم، ورغم عدوِّكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنّه الأمن إنْ سارعتم إليه، وحمدْتُم اللهَ عليه، عرفتم الحظّ فيه إن شاء الله، وكتب بيده يوم الاثنين بسبعٍ خلونَ من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين».

 

الوثيقة الثّالثة:

ما كتبه الإمام الرّضا عليه السّلام:

وطلب المأمون من الإمام الرّضا عليه السّلام أن يكتبَ بيده الشّريفة بقبول هذا العهد، فكتبَ عليه السّلام بخطّه بعد البَسملة ما يلي:

«الحَمْدُ للهِ الفَعّالِ لِما يَشاءُ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا رادَّ لِقَضائِهِ؛ يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وَما تُخْفي الصُّدورُ، وَصَلاتُهُ عَلَى نَبِيِّهِ خاتَمِ النَّبِيّينَ وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ.

أَقولُ: وَأَنا عَلِيُّ بْنُ موسى بْنِ جَعْفَرٍ: إِنَّ أَميرَ المُؤْمِنينَ عَضَدَهُ اللهُ بِالسَّدادِ، وَوَفَّقَهُ للرَّشادِ، عَرَفَ مِنْ حَقِّنا ما جَهِلَهُ غَيْرُهُ، فَوَصَلَ أَرْحاماً قُطِعَتْ، وَأَمَّنَ أَنْفُساً فَزَعَتْ، بَلْ أَحْياها وَقَدْ تَلِفَتْ، وَأَغْناها إِذِ افْتَقَرَتْ، مُبْتَغِياً رِضَى رَبِّ العالَمينَ، لا يُريدُ جَزاءً مِنْ غَيْرِهِ، وَسَيَجْزي اللهُ الشّاكِرينَ، وَلا يُضيعُ أَجْرَ المُحْسِنينَ.

وَإِنَّهُ جَعَلَ إِلَيَّ عَهْدَهُ، وَالإِمْرَةَ الكُبْرَى إِنْ بَقيتُ بَعْدَهُ، فَمَنْ حَلَّ عُقْدَةً أَمْرَ اللهُ بِشَدِّها، وَفَصَمَ عُرْوَةً أَحَبَّ اللهُ إيثاقَها، فَقَدْ أَباحَ اللهُ حَريمَهُ، وَأَحَلَّ مُحَرَّمَهُ، إِذْ كانَ بِذَلِكَ زارِياً عَلى الإِمامِ مُنْتَهِكاً حُرْمَةَ الإِسْلامِ، بِذَلِكَ جَرَى السّالِفُ، فصبر مِنْهُ عَلى الفَلَتاتِ وَلَمْ يعترض عَلى العَزَماتِ، خَوْفاً مِنْ شَتاتِ الدِّينِ، وَاضْطِرابِ حَبْلِ المُسْلِمينَ، وَلِقُرْبِ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ، وَرَصْدِ فُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَبايقةٍ [البائقة أي الدّاهية] تبتدرُ.

وَقَدْ جَعَلْتُ اللهَ عَلَى نَفْسِي إِنِ اسْتَرْعاني أَمْرَ المُسْلِمينَ وَقَلَّدَني خِلافَةَ العَمَلِ فيهِمْ - عامَّةً، وَفي بَنِي العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ خاصَّةً - بِطاعَتِهِ وَطاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا أَسْفِكَ دَمَاً حَراماً، وَلا أُبيحَ فَرْجاً، وَلا مالاً إِلّا ما سَفَكَتْهُ حُدودُ اللهِ، وَأَباحَتْهُ فَرائِضُهُ، وَأَنْ أَتَخَيَّرَ الكُفاةَ جَهْدِي وَطَاقَتي، وَجَعَلْتُ بِذَلِكَ عَلى نَفْسي عَهْداً مُؤَكَّداً، يَسْأَلُني اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقولُ: ﴿..وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء:34.

وَإِنْ أَحْدَثْتُ أَوْ غَيَّرْتُ أَوْ بَدَّلْتُ كُنْتُ للغِيَرِ مُسْتَحَقّاً، وَللنَّكالِ مُتَعَرِّضاً، وَأَعوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِهِ، وَإِلَيْهِ أَرْغَبُ في التَّوْفيقِ لِطاعَتِهِ، وَالحَوْلِ بَيْني وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، في عافِيَةٍ لي وَللمُسْلِمينَ.

وَالجامِعَةُ وَالجَفْرُ يَدُلّانِ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، وَما أَدْري ما يُفْعَلُ بي وَلا بِكُمْ، إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقْضي بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلينَ، وَلِكِنّي امْتَثَلْتُ أَمْرَ أَميرِ المُؤْمِنينَ، وَآثَرْتُ رِضاهُ وَاللهُ يَعْصِمُني وَإِيّاهُ، وَأَشْهَدْتُ اللهَ عَلى نَفْسي بِذَلِكَ، وَكَفى بِاللهِ شَهيداً...

وَكَتَبْتُ بِخَطّي، بِحَضْرَةِ أَميرِ المُؤْمِنينَ - أَطالَ اللهُ بَقاءَهُ - وَالفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، وَسَهْلِ بْنِ الفَضْلِ، وَيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ، وَبِشْرِ بْنِ المُعْتَمَرِ، وَحَمّادِ بْنِ النُّعْمانِ، في شَهْرِ رَمَضانَ سَنَةَ إِحْدَى وَمائَتَيْنِ».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

24/08/2014

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات