أحسن الحديث

أحسن الحديث

22/10/2014

من الإعجازُ البيانيّ في القرآن الكريم

من الإعجازُ البيانيّ في القرآن الكريم

فروقٌ لغويّة في الكتاب المجيد

______السّيّد عبّاس أبو الحسن_______

وصفَ الله سبحانه وتعالى كتابَه في غير آيةٍ منه بـ «الحكيم»، ومُقتضى هذه الحكمة وضعُ كلّ كلمةٍ فيه في موضعِها الذي لا تشاركُها فيه غيرها من الألفاظ، وإنْ بدَتْ مشابهةً لها في المعنى.

وفي هذا الباب من أبواب الإعجاز القرآنيّ اللّفظيّ كانت هذه المقالة التي نُوردها مختصرة نقلاً عن مجلّة رسالة النّجف الأشرف.

 

فيما نحن نتلو آياتِ الكتاب المجيد ونتدبّر فيه، تستوقفُنا آياتٌ نظنُّها للوهلة الأولى تتشابه معانيها، وذلك لتشابه كلماتها، أو لتَرادفها على بعض الأقوال. ولكن بعد البحث عن تفسيرها يتبيّن أنّ كلّ آية وكلّ كلمة في كتاب الله لها معنًى مختلف، ونستطيع أن نرجّح الرّأي القائل بأنَّ التّرادف في كلمات اللّغة العربيّة قليلٌ إلى حدّ النّدرة، وقد اخترنا ثلاثة نماذج من هذه الآيات:

الفرق بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة

 قال تعالى في سورة الحجّ الآية 5: ﴿..وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.

وقال سبحانه في سورة فصّلت الآية 39: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

هنا يرد سؤال: لماذا أتى في سورة الحجّ بكلمة «هامدة»، وأتى في سورة فصّلت بكلمة «خاشعة»؟ فهل المعنى واحد، أم يوجد فرق بين المعنيَين؟ وعلى فرض ثبوت الفرق بينهما، فما الذي سبّب هذا الاختلاف في التّعبير؟

 يمكن الجواب: بأنّ هناك فرقًا بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة. فـ «هامدة» أصلُها هَمَدَ، والهَمْدَةُ السَّكْتَة. فيُقال همَدت أصواتُهم أي سَكَنَتْ. وهمدتِ النّار أي ذهبت البتّة فلم يَبِنْ لها أثر. ونباتٌ هامد أي يابس، وهمدَ شجرُ الأرض أي بَليَ وذهب، والأرض الهامدة أي الجافّة التي لا نبات فيها.

و«خاشعة»، من الخشوع، أي التّذلّل والانكسار، وأرض خاشعة أي متهشّمة ومتغبّرة ذابلة من العطش، فإذا يبست الأرض ولم تُمطَر قيل: قد خشعت.

ومن هنا يُعلم أنّ هناك فرقًا دقيقًا بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة، فالأرض الهامدة هي اليابسة القاحلة التي لا حياة فيها بسبب ما أصابها من جدب وقحط وانعدام الماء، وهذا بخلاف الأرض الخاشعة التي يوجد فيها النّباتات والزّروع، إلّا أنّ العطش وقلّة الماء وندرة الأمطار جعلتها مصفرّة الأوراق، خاشعة ذليلة، ذابلة الأغصان.

  فيكون المعنى في سورة الحجّ: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً﴾ أي ميتةً لا حياةَ فيها، ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ..﴾ وحلّت بها الحياة.

أمّا في سورة فصّلت فيكون المعنى ﴿تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ أي ساكنة يابسة وذابلة من العطش ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾.

فإذًا: تغيّر الكلمات يبيِّن أنّ هناك فرقًا بين المعنيَين، والذي يؤيد هذا الاختلافَ أنّ السّياق الذي أتت فيه كلٌّ من الكلمتين مخالفٌ للسّياق الآخر. فانظر كلمة «هامدة» وانظر ما قبلها من الكلمات والآيات:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ..﴾ إلى قوله تعالى ﴿..وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الحج:5-6.

فهذه الآيات المباركات تتحدّث عن يوم القيامة، وجِدال المنافقين والكافرين الذين يُنكرون يوم البعث بأنّه كيف يتمّ إحياء النّاس بعد صيرورتهم رمادًا؟ فخاطبَهم اللهُ تعالى بأنّ الذي خلق الانسان من تراب ثمّ من نُطفة، ثمّ من علَقَة، ثمّ من مُضغَة، قادرٌ على إحيائه في يوم القيامة، فناسب أن يأتي بكلمة هامدة لدلالتها على الموت والسّكون. وهذا بخلاف الآيات في سورة فصّلت:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ..﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الآيات:37-39. فإنّ الآيات تتحدّث عن العبادة والخشوع والتّذلّل لله سبحانه وتعالى، فناسب ذكر كلمة خاشعة لدلالتها على ذلك.

الحقّ، والحقّ المعلوم

قال تعالى في سورة الذّاريات الآية 19: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

وقال تعالى في سورة المعارج الآيتان 24-25: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾. لماذا زاد سبحانه في سورة المعارج كلمة «معلوم» دون سورة الذّاريات؟

 يمكن الجواب: أنّه بالتّأمّل في سياق الآيات السابقة في كلٍّ من هاتَين الآيتَين يتّضح الفرق، ففي سورة الذّاريات الكلام حول المتّقين، قال تعالى: ﴿إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الآيات:15-19. والمتّقون أعلى درجة من المؤمنين، فإنّهم ينفقون ما أوجبه الله عليهم مع زيادة، لذلك قال الله عنهم: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ﴾، ولكن هذا الحقّ ليس له حدّ معلوم.

وهذا بخلاف المصلّين الذين يدفعون ما فُرض عليهم من الواجب من الزّكاة والخمس والصّدقات، قال تعالى في سورة المعارج: ﴿إنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الآيات:19-25.

 

 

خَشْيَةَ إِمْلَاق

قال تعالى في سورة الأنعام 151: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..﴾.

وقال سبحانه تعالى في سورة الإسراء31: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾.

نجدُ في هاتَين الآيتَين تقاربًا في المعنى، ولكن هناك بعض الفوارق، مثلاً: في سورة الأنعام قال تعالى: ﴿نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ حيث قدّم رزق الآباء على الأولاد، أما في سورة الإسراء فقال عزَّ وجلّ: ﴿نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ حيث قدّم رزق الأولاد على الآباء، فما السرّ في ذلك؟

 وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾، بينما قال في سورة الإسراء: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾، أضف إلى ذلك أن الإملاق هو الفقر، فلماذا لم يقل سبحانه وتعالى: «ولا تقتلوا أولادكم من فقر»؟، ولماذا قال تعالى في سورة الإسراء ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾، ولم يقل «خوفَ إملاق»؟

يمكن الجواب: أنّ الآيتَين وإن كانتا تتحدّثان عن حُرمة قتل الأولاد الذكور والإناث، إلّا أنّ السبب في كلّ واحدةٍ منها مختلفٌ عن الآخر، وبعبارة أخرى: إنّ الدافع للقتل في سورة الأنعام غيره في سورة الإسراء، وهذا الاختلاف الذي سيتبيّن يقتضي تغيّرًا في التعبير.

شرحُ الألفاظ

- الإملاق: هو الافتقار، وإتلافُ المال حتّى يُحوِج، وأصلُ الإملاق الإنفاق. يُقال: أملقَ ما معَه إملاقًا، إذا أخرجَه من يدِه ولم يَحبِسه، والفقرُ تابعٌ لذلك، فاستعملوا لفظَ السّببِ في موضع المسبَّب حتّى صار به أشهر... والإملاق: كثرةُ إنفاق المال وتبذيرُه حتّى يورثَ حاجة.

- الخَشْيَة :خوفٌ يَشوبُه تعظيم، وأكثرُ ما يكون ذلك عن علمٍ بما يُخَشى منه، ولذلك خُصَّ العلماءُ بها في قوله تعالى: ﴿..إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..﴾ فاطر:28.

- الخَوف: توقُّع مكروهٍ عن أَمارةٍ مظنونة أو معلومة.

بعدما تبيّن من معنى هذه الالفاظ نأتي للجواب عن التساؤلات السابقة:

أوّلاً: إنما قدّم ذكر الآباء على الأولاد في سورة الأنعام: ﴿نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ لأنّ الخطابَ موجَّهٌ للفقراء لا للأغنياء: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..﴾، أي لا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر.

فهم فعلاً مبتلون بالفقر، وعمدوا لقتل أولادهم لعدم قدرتهم على تربيتهم حسب زعمهم، فناسب هنا أن يقدّم سبحانه تكفُّلَه برزقهم أوّلاً لفقرهم، ثم أتبعَه بتكفّله برزق أولادهم.

أما في سورة الإسراء: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾، هنا الخطاب موجَّهٌ للأغنياء، والدليل على ذلك الآيات السابقة لهذه الآية، حيث يدور الكلام حول الإسراف والتبذير، قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ الإسراء:26 إلى آخر الآية 30.

فإن الأغنياء يخشون أن يسلبَهم أولادُهم ما في أيديهم من مال، فلذلك يعمدون إلى قَتْلِهم خوفَ الوقوع في الفقر، فناسبَ هنا تقديمَ الأولاد على الآباء ليُبيّنَ اللهُ لهم أنّ ما تَخافون منهم هو بِيَد الله، فإنّ الأولاد رِزقُهم على الله لا عليكم، وكذلك رزقُكم.

ثانيًا: قد ناسب في هذا السياق استعمال لفظة «الإملاق» دون «الفقر»؛ لأنّه سبحانه وتعالى قد تكفّل في الآيتَين برزق الآباء والأبناء، ولمّا كانت الحاجة الضرورية ممتنعة بعدَ أن تكفّلَ اللهُ سبحانه وتعالى بسدّها، فلا يُتصوّر الفقر إذن إلّا من جهة سوء التصرّف في الثروة، وإن قلّتْ، أو سوء توزيعها؛ أو من جهة بلاء وامتحان.

ومن هنا جاء استعمال لفظة «الإملاق» لأنّها تُفيد إخراج ما في اليد من مال، أي أنّ الرزق موجودٌ تكفّلَ به سبحانه، إلّا أنّ صرفَه وإنفاقَه وتوزيعَه، وإن قلّ، يعود إلى الأبوَين أو إلى النظام الذي وجدا فيه. فالفقر في حقيقته هو المسبَّب والإملاق هو السّبب.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

22/10/2014

دوريات

نفحات