الملف

الملف

22/10/2014

فقهُ زيارة الإمام الحسين عليه السّلام «عارفاً بِحَقِّه»

فقهُ زيارة الإمام الحسين عليه السّلام

«عارفاً بِحَقِّه»

 

اقرأ في الملف..

(1)

معالجات كونيّة في روايات الزّيارة

عروجٌ متعدّد الطُّرُق إلى الله

--- الشيخ علي التميمي – العراق ---

 

(2)

حقيقة الزّيارة ومنتهاها إلى الله تعالى

«مَن زارَ قبرَ الحسين لله، وفي الله، أعتقَهُ اللهُ..»

--- إعداد: «شعائر» ---

(3)

(حقُّ) الإمام عليه السّلام
     النّظامُ المَعرفيّ العَمليّ لصَلاح الإنسان وتَكامُلِه

--- إعداد: أسرة التحرير ---

 

 

 

 

استهلال

قَالَ الإمام الصّادق عليه السّلام

إِذَا أَتَيْتَ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام، فَاغْتَسِلْ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ثُمَّ الْبَسْ ثِيَابَكَ الطَّاهِرَةَ ثُمَّ امْشِ حَافِياً فَإِنَّكَ فِي حَرَمٍ مِنْ حَرَمِ الله وحَرَمِ رَسُولِه وعَلَيْكَ بِالتَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ والتَّسْبِيحِ والتَّحْمِيدِ والتَّعْظِيمِ لله عَزَّ وجَلَّ كَثِيراً والصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِه حَتَّى تَصِيرَ إِلَى بَابِ الْحَيْرِ ثُمَّ تَقُولُ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله وابْنَ حُجَّتِه،

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا مَلَائِكَةَ الله وزُوَّارَ قَبْرِ ابْنِ نَبِيِّ الله

ثُمَّ اخْطُ عَشْرَ خُطُوَاتٍ ثُمَّ قِفْ وكَبِّرْ ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ امْشِ ِلَيْه حَتَّى تَأْتِيَه مِنْ قِبَلِ وَجْهِه فَاسْتَقْبِلْ وَجْهَكَ بِوَجْهِه وتَجْعَلُ الْقِبْلَةَ بَيْنَ كَتِفَيْكَ، ثُمَّ قُلِ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله وابْنَ حُجَّتِه.

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا قَتِيلَ الله وابْنَ قَتِيلِه

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ الله وابْنَ ثَارِه

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ الله الْمَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ

 أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ، واقْشَعَرَّتْ لَه أَظِلَّةُ الْعَرْشِ، وبَكَى لَه جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وبَكَتْ لَه السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأَرَضُونَ السَّبْعُ ومَا فِيهِنَّ ومَا بَيْنَهُنَّ ومَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ والنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا، ومَا يُرَى ومَا لَا يُرَى..".

من الزيارة السادسة عشر، من زيارات الإمام الحسين عليه السلام

 

 

رواياتُ الزّيارة، معالجاتٌ كَونيّة

عروجٌ متعدّد الطُّرق إلى الله

ــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ علي التميمي* ــــــــــــــــــــــــــــ

 

رواياتُ الزيارة شبكة متكاملة من (معالجات كونيّة) تفوق البُعد الفرديّ والاجتماعيّ، وتفوق البُعد الدنيويّ، وتفوق البُعد البَرزخيّ أو الحسابيّ. تفوق كلَّ هذه الأبعاد؛ لأنّها - كما سنقرأ في الروايات - عروجٌ متعدّد الطُّرق والأنحاء إلى الله سبحانه وتعالى!

بعضُ الجديد الذي كتبَه الباحث الشيخ علي التميمي في كتابه القيّم والنوعيّ (زيارة الحسين عليه السلام، عارفاً بحقّه)، الذي اختارت منه «شعائر» - لهذا الملف - التمهيد، وبعض الفصول، بتصرّفٍ يسير.

 

إنّ البحث في روايات الزيارة الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام يُفضي إلى نتائج كثيرة تمتدّ إلى جوانب عديدة من حياة الإنسان؛ فهي لا تقتصر على الجانب العباديّ الاستحبابيّ، كما قد يُتوهّم، وإنّما تغطّي مساحات واسعة؛ بدءاً من الأصول الاعتقاديّة إلى آخر الجوانب الحياتية للإنسان، ولذا نجد في تلك الروايات إشارات كثيرة إلى مفردات لا علاقة لها بأصل هذه الزيارة أو تلك!

* كإشارتها إلى نتائج الانحراف عن نهج أهل البيت عليهم السلام!

* أو إشارتها إلى حوادث تاريخية مُغيَّبة!

* أو إشارتها إلى سلوكيّات ونفسيّات القريبين أو البعيدين من أئمة أهل البيت عليهم السلام!

* أو إشارتها إلى علومٍ مجهولة لا يعلمُها مَن غرق في براثن المادة.

 وغير ذلك مما يصلح أن يكون بحثاً مستقلاً.

***

إنّ روايات الزيارة شبكة متكاملة من (معالجات كونيّة) تفوق البُعد الفرديّ والاجتماعيّ، وتفوق البُعد الدنيويّ، وتفوق البُعد البرزخيّ أو الحسابيّ.

تفوق كلَّ هذه الأبعاد؛ لأنّها - كما سنقرأ في الروايات - عروجٌ متعدّد الطُّرُق والأنحاء إلى الله سبحانه وتعالى!

والأهمّ في ذلك أنّ بعضاً منها ينتهي إلى مشاهد من القُربِ والعطايا لا نظير لها في شيءٍ من العبادات!

بديهيّ أنّ مَن يحصل على مثل هذه العطايا من الزيارة هم أُناسٌ التمسوا الآثار الطيبة بقلوبٍ طيّبة فطابَ ما جَنَوا من زيارتهم، وهم مَن وصفَهم أمير المؤمنين بأنّهم: «والجَنَّة كَمَن قَد رَآها، فَهُمْ فِيها مُنَعَّمُون، وَهُمْ وَالنّارُ كَمَنْ قَد رَآها فَهُمْ فِيها مُعَذَّبُونَ»، وهذه حركة قلبيّة سيأتي بيانها.

والأئمةُ عليهم السّلام مثلما أرشدوا إلى الطريق نبَّهوا على وجود القدرة عليه لدى الإنسان، كما في المَرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام عندما وصفَ المتّقين بقوله: «أَمّا اللَّيْلُ، فَصَافّونَ أَقدَامَهُمْ؛ تَالينَ لِأَجْزاءِ القُرْآنِ يُرتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً، يُحزِّنون بِهِ أَنفُسَهُمْ وَيَسْتَثيرُونَ بِهِ دَواءَ دَائِهِمْ؛ فَإِذا مَرُّوا بِآيَةٍ فيها تَشْويقٌ رَكَنُوا إِلَيْها طَمَعَاً، وَتَطلَّعَتْ نُفوسُهُمْ إِلَيْها شَوْقاً، وَظَنَّوا أَنَّها نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ؛ وَإِذا مَرُّوا بِآيَةٍ فيها تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَيْها مَسَامِعَ قُلوبِهِمْ، وَظَنّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهنَّمَ وَشَهيقَها في أُصولِ آذانِهِمْ»! فما أرشدوا إليه وحثّوا عليه إنّما هو لاستِثارة المكنون من كمالات الفطرة؛ الوافرة جدّاً، التي يُمكن من خلالها النَّظَر، ومن ثُمّ التكامل في آثار معرفتهم وولايتهم؛ عليهم السّلام.

وبهذه النظرة المَعرفية التفاعلية ستكون الزيارة المطلوبة عبارةً عن تفاعل روحيٍّ واقعيٍّ؛ سواء أكان في:

* التكبير والتحميد.

* أم في الرجاء والخوف.

* أم في السلام على المَزور عليه السّلام.

* أم في التوسُّل إليه.

* أم في تعداد خصائصه ومقاماته.

فإنّ ذلك كلّه يحصل بهذا النحو من الاستثارة والتفاعل الروحيّ؛ فتخرج الزيارة من دائرة الألفاظ، وكتابة الملائكة إلى ما هو أجلى وأعظم.

***

أهمُّ الأبعاد المعرفية والعملية من زيارة سيّد الشهداء عليه السّلام، هي كما يلي:

أولاً: الأُسس والمنطلقات المعرفية المطلوبة في زيارة سيّد الشهداء، وهي على مستويَين:

1- ما يرتبط من تلك الأُسس والمنطلقات بالزيارة نفسها كمنظومة تشريعية مَعْرِفيّة أُسِّستْ لتكامل الإنسان وسعادته، وهذا يتطلّب النظر في كلمات مَن شرَّع الزيارة.

2- ما يرتبط من تلك الأُسس والمنطلقات بالزائر نفسه، وهو ما يُمكن تسميته بالشروط الموضوعيّة التي ينبغي تَوافرها فيه؛ كي يكون مصداقاً حقيقيّاً يمكن أن يتفاعل، فعلاً، مع الأُسس والمنطلقات في المستوى الأول.

ثانياً: الأسس والمنطلقات العمليّة (الأطر الخارجيّة للزيارة)، وهو ما يُعبّر عنه في الكلمات بالعمل المأثور، أي العمل الذي رسمه المشرّع؛ وربما طبّقه بنفسه عليه السّلام.

وسنرى أنّ هذه الأُطُر أَولى وأشمل مما يُخترَع ويتوالد من هنا وهناك؛ لانتظام وإحكامِ الأُسس والمنطلقات المعرفيّة المذكورة في المستوى الأوّل.

 ***

ستكون نقطة البدء (عبارةً) وردت في كثيرٍ من الروايات، وهي قوله عليه السّلام: «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عارِفاً بِحَقِّهِ..»؛ حيث سنقوم بتَجزئتها إلى مفرداتها الأساسية، ومن ثمّ البحث فيها مفردةً مفردة، وهي:

الأولى: الزيارة.

الثانية: سيّد الشهداء عليه السّلام.

الثالثة: المعرفة.

الرابعة: حقُّ سيّد الشهداء عليه السّلام.

وسنبحث بعض المفردات الأخرى المرتبطة بالزيارة كعملٍ معرفيٍّ عباديٍّ جامعٍ، وهي:

الأولى: بعض آثار الزيارة من قبيل (زيارة الله فوق عرشه)، ومصافحة الرسول الأعظم، صلّى الله عليه وآله للزائر، وفَرَحه ونظره وكلامه مع الزائر!

الثانية: في رفع الاستغراب عن عظيم الثواب الوارد في زيارة سيّد الشهداء عليه السّلام.

الثالثة: في بيان المراد من أنّ زيارة سيّد الشهداء (مفروضة)، كما وَرَدَ في بعض الروايات.

الرابعة: في الأبعاد المَعرفيّة من البكاء.

الخامسة: الإشارة إلى تمثُّل الحقيقة الإلهيّة لعالَم الدِّين والمُداينة في سيّدنا ومولانا رسول الله وأهل بيتهِ، صلوات الله عليهم أجمعين؛ فهم بالنسبة إلى جميع حُجج الله السابقين كالشمس إلى أنوارها، إلى غير ذلك من اللوازم والآثار.

***

هناك بعض الموضوعات قد وردت في روايات الزيارة [وهي] لا ترتبط بمراسم الزيارة مباشرةً، وإنّما جاءت في هذه الروايات لأغراض أخرى عديدة، كالمحافظة على بقائها في ذاكرة الأمّة وشعورها، أو للتقية من طَرحها بنحوٍ مستقلّ وصريح، أو للتعريض ببعض القِيَم أو الممارسات سواء أكانت عامّة بالنسبة إلى المجتمع الإسلاميّ أم كانت خاصّة بالنسبة إلى المجتمع الشيعيّ، وربّما كان الطابع الماديّ قد غَلَبَ على المجتمع آنذاك فتطلّب الأمرُ التنبيهَ على بعض الأمور؛ ولو بالإشارة، التي لا تُخرِجُ الكلام عن كونه مطابقاً لمُقتضَى الحال؛ عقلائيّاً وبلاغةً، كما هو معروف.

ويمكننا أن نُقسِّمَ تلك الموضوعات إلى أقسام ثلاثة، وهي:

* القسم الأول: الأمور العقائدية.

وهو ما نجده بكثرةٍ وافرة، ربما لا نجِدُها في مقامات الكلام الأخرى للمعصومين عليهم السلام، ولذا يُمكن أن نستخرج دورة عقائدية كاملة من روايات الزيارة من التوحيد إلى آخر فروع الاعتقاد، ولذا يُمكن أن نشيرَ إلى المضامين العقائديّة الواردة في روايات الزيارة؛ بنحوٍ إجماليّ، بما يلي:

1- إنّ التوحيد بمختلف أنحائِهِ، يرتبط بحركة الإنسان؛ صغيرها وكبيرها، فلا يخلو شبرٌ من مكان ولا لحظةٌ من زمان إلّا ويَسْبَحُ في ظِلال توحيده جلّ جلاله! وهذا ما نجده في فقرات الزيارة، فإنّه لا يخلو شيءٌ منها من ملامح توحيده سبحانه، كما سيتّضح جليّاً.

2- إنّ النبوّة الإلهيّة ".." نقطةٌ في سلسلة اصطفائيّة داخل الذُّرّيّة الطاهرة؛ تحصل بعد الوفاء والإيفاء بما اشتُرط عليهم من العهد والميثاق، وهو ما صرّح به القرآن الكريم، والروايات، ومنها روايات الزيارة.

وهكذا الإمامة الإلهيّة.

ولهذا النهج الإلهيّ في توالد النبوّة والإمامة دوره الفاعل في أنحاء كثيرة، كالمحافظة على الإمامة من التبديل والتحريف؛ لأنّ كثيراً من شياطين الإنس يركبون موجة الدِّين، ولكن لمصالحهم وأهوائهم! ولذا كان هاجسُهم الأوّل في ميراث النبوّة أين يكون! ولذا عَمِلوا على نسْف ميراث النّبوة بجميع أشكاله؛ بدءاً من [الميراث المادّيّ] والرابطة المخصوصة، وانتهاءً بالولاية.

وفي روايات الزيارة معالجاتٌ عديدةٌ لهذه الجهة من الإمامة؛ بدءاً من ارتباط الإمامة بالنبوّة بالتّوالد في سلسلة الذُّرّيّة الطاهرة، إلى وفائها وإيفائها بعهودها وميثاقها، إلى كونها الصراط إلى أمر الله سبحانه، ولذا ورد اللّعنُ على مَن خالفهم!

3- إنّ ما يظهر من عظيم مقامات الأئمة عليهم السلام لا ينبغي أن يكون سبباً وذريعةً للغلوّ أو الاغترار بالانتماء إليهم عليهم السلام! بل ينبغي أن تكون تلك المقامات المشهودة والكرامات الظاهرة مرآةً تعكس عظَمة الخالق وقدرتَه وجليلَ تفضُّلِهِ علينا، وهو ما يتطلّب مزيدَ شكرٍ وحمدٍ وعملٍ.

4- إنّ الأئمة عليهم السلام سواء في حياتهم أم مماتهم، هم مواضعُ فيضِ الله سبحانه وتعالى في أمرهِ ومشيئته، وعلى ذلك شواهد كثيرة من روايات الزيارة.

5- إنّ الوعد الإلهيّ بانتصار الإمامة الإلهيّة وظهورها، آتٍ لا محالة؛ فلا يكون الزائر – عند القبر الشريف – لافظاً لهمومِهِ آيساً من غَدهِ، بل يكون – مع عظيم عَبرته وحزنهِ – حاملاً لآمالهِ بالفرج والانتصار؛ بمنِّه وتوفيقه سبحانه، وهكذا كان حزنُ أئمّتنا، على الرغم من أنّهم يرَون كربلاء كما هي عند الله سبحانه، من عظيم الجُرأة والانتهاك: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف 86-87.

والتعبير المرويّ عن الإمام الرِّضا عليه السّلام بأنّ حزنه باقٍ إلى (يوم الانْقِضاء) لا يعني بقاءَه إلى يوم القيامة وإنّما بقاؤه إلى يوم الظهور؛ حيث تُشفى صدورُهم وصدورُ المؤمنين، وهو من الوعد الإلهيّ، الذي لا يقبل التخلّف أبداً؛ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...﴾ النور:55، إضافةً إلى روايات كثيرة بهذا المعنى.

6- إنّ لأهل البيت عليهم السلام، تبعاً للنبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، الهيمنةَ وفائقَ المقام على جميع مَن سبقهم من الأنبياء والرُّسُل، فإنّ القرآن الكريم قد صرّح بأنّه مهيمنٌ على ما سبقَه من الكتاب، فَمَن نزل عليه؛ صلّى الله عليه وآله، يكون مهيمناً على مَن سبقه من الأنبياء والرُّسُل؛ لا محالة، ومَن ثبت أنّه عِدلُ القرآن، ولا يفارقُ القرآن، ولا القرآن يُفارقه، يكون مهيمناً على ما سبقه، لا محالةَ؛ أيضاً.

وسنذكر ذلك في إشارتنا إلى كونهم؛ صلوات الله عليهم، هم عينُ الحقائق الإلهيّة لعالَم الدِّين والمُداينة.

* القسم الثاني: الأمور التاريخية.

وهي مجموعة أمور أشارت إليها روايات الزيارة بنحوٍ مقتضَب جدّاً؛ إلاّ أنّ مواضعَ ذِكرها فيها، وتلميحاتها تدعو إلى دراستها والتنقيب أكثر فأكثر عنها، وربما هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى هذه الإشارات المقتضَبة، كرَفْع شُبهة مضادّة أو نَفْضِ التراب عن حقائق تقادمت وتلاشت بين الناس! ومن تلك الأمور:

1- ما يرتبط بأمير المؤمنين عليه السّلام؛ مثلاً، فقد أشارت روايات الزيارة إلى أنّه أوّلُ المظلومين، وأنّه قد افترِيَ عليه، ووقع التظاهرُ عليه، ولكنّه عليه السّلام صبَرَ محتسباً.

2- ما يرتبط بالعترة الطاهرة ككلّ؛ فقد ورد أنّها مقتولة، وأنّها كانت تُشتَمُ من قِبل بعض الجماعات، وغير ذلك، ممّا يكون مؤيّداً لكثيرٍ من الأحداث التاريخية التي قد يُشكّك البعض بسنَدها التاريخي بحجّة أنّه ضعيف غالباً؛ ولكن هذه الروايات مسندَة بطبيعتها ومتعدّدة الطُّرُق.

* القسم الثالث: الأمور العامّة.

مِن قبيل ما أشارت إليه بعض روايات الزيارة من العلاقات التكوينيّة المحيطة بالإنسان والتي يُمكن التفاعل معها وسَوْقُها إلى حَيِّز نفعهِ وتكامله، وهذا أمرٌ ثابتٌ في نفسه، وصرّح القرآن الكريم بوجوده، كإخباره عمّا فعله السامريّ بتُراب أثرِ الرسول، وما أحدثه قميصُ يوسف عليه السّلام بعينَي أبيه، وفي الروايات الكثير من ذلك.

ولكنّ المهم أنّ بعض تلك العلاقات يمكن أن تكون في متناول الإنسان، كما هو مقتضى الإرشاد إليها في روايات الزيارة.

وأُشير؛ هنا، إلى بعض تلك العلاقات:

الأول: ما يرتبط بالكون المكانيّ.

الثانيّ: ما يرتبط بالكون الزماني.

الثالث: ما يرتبط بالتخاطر الروحيّ مع أُناسٍ بعيدين عنّا زماناً أو مكاناً أو كلَيهما.

وسيأتي توضيحُ ذلك في أماكنه.

**

 يراجع حول ذلك الكتاب الذي اخترنا منه هذا التمهيد، وهو كتاب (مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ) وكتاب آخر للمؤلّف الشيخ علي التميمي أشار إليه للتوسّع في بعض المحاور الواردة أعلاه وهو: (هداية الأبرار إلى فضل التوسّل بالنبيّ وآله الأطهار).

«شعائر»

----------

* مؤلّف في الفكر الديني، من العراق.

 


حقيقة الزّيارة ومنتهاها إلى الله تعالى

«مَن زارَ قبر الحسين لله، وفي الله، أعتقَهُ اللهُ..»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: شعائر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

زيارة الحسين لله، محضُ التّوحيد، فهي زيارةُ عبدِه الذي تجلّى توحيدُه سبحانَه فيه إلى حيث أصبح سرَّ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، وهو أقربُ الخلق إلى الله تعالى.

في هذا السياق اختارت «شعائر» من كتاب (مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ) للشّيخ علي التميمي - بتصرّف وإضافات – ما يلي:

 

ما ورَدَ من أنّ زائر الحسين عليه السّلام؛ عارفاً بحقّه، يكون كمَن زارَ الله فوق عرشهِ؛ يُعرَف [معناه] بالانتباه إلى أمور، منها:

 

الأوّل: أنّ العرش المذكور في الآيات والروايات ليس عرشاً ماديّاً؛ فإنّه اسمُ عِلمٍ وقُدرة، كما ورد في الخبر، وهو بعدُ يوافق الجَمّ الكثير من الروايات التي تناولتْ ما يصدر عن هذا العرش.

ففي هذا العرش مكنونُ ما كان وما يكون مِن عالَم الإيجاد والتدبير وعالَم الدِّين والمُداينة.

 

الثاني: قد تقدّم أنّ سيّدنا محمّداً وآله؛ صلوات الله عليهم، هم عينُ الحقائق الإلهيّة لعالَم الدِّين والمُداينة، وهو ما استفدناه من روايات كثيرة، وبهذا يكون العرش مصدرَ آثارهم وحقائقهم وولايتهم؛ وهو ما ذكرتْه بعض الأخبار، وهو أنّهم؛ صلوات الله عليهم، يوفون (يوافون) على العرش كلّ ليلةِ جُمعة فلا تُردُّ أرواحهم إلى أبدانهم إلاّ بعِلمٍ مُستفادٍ، ولولا ذلك لنفدَ ما عندهم كما نصّت تلك الأخبار.

 

وعلى هذا فعبارة: «مَنْ زَارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَنْ زارَ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ» دالّةٌ على قُرب الزائر من تلك الحقائق الإلهية المكنونة في عرشهِ، التي فيها ما شاء وما أراد، وهو ما لا يكون إلّا بهم؛ عليهم السلام، وبمواضع وأفعالٍ تنفذُ إليهم؛ عليهم السلام.

وهكذا بقية الآثار الواردة في زيارتهِ عليه السّلام.

 

ويشير إلى أنّ المزور حقيقةً بزيارة الإمام الحسين عليه السّلام هو اللهُ تعالى، العديد من روايات زيارتهِ عليه السّلام؛ منها:

1- قول الصادق عليه السّلام: «مَن زارَ قَبْرَ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يُريدُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، شَيَّعَهُ جَبْرَئيلُ وَميكائيلُ وَإِسْرافيلُ حَتّى يُرَدَّ إِلى مَنْـِزلِهِ».

2- قوله عليه السّلام: «سَمِعْتُ أَبي يَقولُ لِرَجُلٍ مِنْ مَواليهِ - وَسَأَلَهُ عَنِ الزِّيارَةِ - فَقالَ لَهُ: مَنْ تَزورُ وَمَنْ تُريدُ بِهِ؟ قالَ: اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى، فَقالَ: مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ صَلاةً واحِدَةً يُريدُ بِها اللهَ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ يَلْقاهُ وَعَلَيْهِ مِنَ النّورِ ما يَغْشى لَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَراهُ، وَاللهُ يُكْرِمُ زُوّارَهُ...».

3- قوله عليه السّلام عن زائري سيّد الشهداء عليه السّلام: «...فَإِذا اغْتَسَلُوا ناداهُمْ مُحَمّدٌ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ: يا وَفْدَ اللهِ أَبْشِروا بِمُرافَقَتي في الجَنَّةِ...».

4- قوله عليه السّلام: «مَنْ أَتى قَبْرَ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ زائِراً لَهُ عارِفاً بِحَقِّهِ يُريدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ وَالدّارَ الآخِرَةَ غَفَرَ اللهُ – واللهِ – ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَما تَأَخَّرَ...».

5- قوله عليه السّلام: «مَنْ زارَهُ يُريدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ، أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ ذُنوبهِ كَمَوْلودٍ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ...».

6- قوله عليه السّلام: «مَن زارَ قَبْرَ الحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، للهِ وَفي اللهِ، أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النّارِ وَآمَنَهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ..».

7- عن جابر الجُعفيّ قال: دخلتُ على جعفر بن محمّد عليه السّلام في يوم عاشوراء فقال لي: «هَؤُلاءِ زُوّارُ اللهِ، وَحَقٌّ عَلى المَزورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ..».

8- قوله عليه السّلام: «...اللَّهُمَّ إِنّي إِلَيْكَ وَجَّهْتُ وَجْهي وَإِلَيْكَ فَوَّضْتُ أَمْري وَإِلَيْكَ أَسْلَمْتُ نَفْسي، وَإِلَيْكَ أَلْجَأْتُ ظَهْري... اللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَنْ وَفَدَ إِلَيْهِ الرحال (الرّجال، وشُدّت إليه الرّحال)، وَأَنْتَ يا سَيِّدي أَكْرَمُ مَأْتِيٍّ وَأَكْرَمُ مَزُورٍ... اللَّهُمَّ إِلَيْكَ توجّهتُ، وَإِلَيْكَ خَرَجْتُ، وَإِلَيْكَ وَفدْتُ وَلِخَيْرِكَ تَعَرَّضْتُ».

9- قوله عليه السّلام: «...الحَمْدُ للهِ الذي إِلَيْهِ قَصَدْتُ فَبَلَّغني، وَإِيَّاهُ أَرَدْتُ فَقَبِلَني... اللَّهُمَّ إنّي أَرَدْتُكَ فَأَرِدْنِي، وَإِنّي أَقْبَلْتُ بِوَجْهي إِلَيْكَ فَلا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنّي، فَإِنْ كُنْتَ عَلَيَّ ساخِطاً فَتُبْ عَلَيَّ، وَارْحَمْ مَسيري إِلى ابْنِ حَبيبِكَ؛ أَبْتَغي بِذَلِكَ رِضاكَ عَنِيّ فَارْضَ عَنّي...».

10- قوله عليه السّلام: «إِلَيْكَ يا رَبِّ صَمَدْتُ مِنْ أَرْضي...».

زيارة سيّد الشهداء عليه السّلام صورة توحيدية خالصة

يمكن أن نستعرض صورة إجمالية مختزلَة من إحدى زيارات سيّد الشهداء عليه السّلام، كي نرى المقدار المطلوب من التوجّه إلى الله سبحانه في زيارته عليه السّلام، وهو ما يعكس دلالاته التوحيدية الرائعة؛ و ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ق:37.

جاء في الزيارة السادسة عشرة، [في كتاب (كامل الزيارات) ص 236 -258 ]، ما يلي:

إِذا أَرْدَتَ المسيرَ إِلى قَبْرِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ...

قُلْ حين تغتسل: اللَّهُمَّ طهِّرْ قَلْبي ...

فَإِذا خَرَجْتَ فَقُلُ: اللَّهُمَّ إِنّي إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ ...

ثُمّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ ... اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَإِلَيْكَ خَرَجْتُ...

اللَّهُمَّ اجْعَلْني في دِرْعِكَ ...

اللَّهُمَّ إنّي أَعوذُ بِكَ ...

اللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَنْ وَفَدَ إِلَيْهِ ...

اللَّهُمَّ إِنّي أَرَدْتُكَ فأَرِدْني.

اللَّهُمَّ صلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْ سَعْيي مَشْكوراً.

اللَّهُمَّ طَهِّرْني ...

اللهُ أَكْبَر - ثلاثين مرّةً -

الحَمْدُ للهِ الّذي إِلَيْهِ قَصَدْتُ فبلّغَني وَإِيَّاهُ أَرَدْتُ فَقَبِلَني...

اللَّهُمَّ إنّي أَرَدْتُكَ فَأَرِدْنِي...

التَكْبيرُ وَالتَّهْليلُ وَالتَّمْجيدُ وَالتَّحْميدُ وَالتَّعْظيمُ للهِ وَلِرَسولِهِ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ.

اللهُ أَكْبَر – ثلاثين مرّةً –

لا إلهَ إلّا الله ... [ ثلاثاً ]

والحَمْدُ للهِ... [ ثلاثاً ]

وَسَبْحانَ اللهِ ... [ ثلاثاً ]

وَالحَمْدُ للهِ ...

وَلا إِلَهَ إِلّا اللهُ ... [ أربعاً ]

وَالحَمْدُ للهِ...

كبِّرْ ثلاثينَ تكبيرة ...

لا إلهَ إلّا اللهُ تَهْليلاً لا يُحْصيهِ غَيْرُهُ ...

وَسَبْحانَ اللهِ...

وَالحَمْدُ للهِ ولا إلهَ إلّا اللهُ واللهُ أكَبْرُ ... أَبَداً أَبَداً أَبَداً ...

اللَّهُمَّ ...

..أنَّك حقٌّ وَأنّ رَسولَكَ حَقٌّ وأنّ قولَكَ حَقٌّ وأنَّ قضاءَكَ حَقٌّ وَأَنَّ قُدْرَتَكَ حَقٌّ وَأَنَّ فِعْلَكَ حَقٌّ وأَنَّ جَنَّتَكَ حَقٌّ وَأنَّكَ مُميتُ الأَحْياءِ وَأَنَّكَ مُحْيي المَوْتى وأَنَّكَ باعِثُ مَنْ في القُبورِ...

ثمّ امشِ...

بالتكبير والتهليل والتمجيد والتحميد والتعظيم لله ولرسوله؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ...

أشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له...

(هنا فقرات من الإقرار ببعض العقائد المرتبطة بسيّد الشهداء عليه السّلام، ككَونه صفوة الله مِن خلقهِ، والسلام عليه بما يليق به عَلَيْهِ السَّلامُ)

ثمّ امشِ قليلاً وقُلْ:

اللهُ أكبر – سبع مرّات – وهلِّله سبعاً، واحمده سَبعاً، وسبِّحه سَبعاً، وقُلْ لَبَّيْكَ داعِيَ الله سَبعاً...

***

 [ثم تأتي] فقرات من إظهار النُّصرة لسيّد الشهداء، والتسليم بأمرهِ عليه السّلام، والسلام عليه بما ثبت له من مقامات، وهي بمجموعها لا تُخرجه عليه السّلام من عبوديّته لله سبحانه، ولا تُخرج الزائر من دائرة «اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَتَّبِعُ النّورَ الّذي أُنْزِلَ مَعَهُ (معَهم)، وَأَحْيِنا مَحْياهُمْ وَأَمِتْنا مَماتَهُمْ...: اللَّهُمَّ هَذا مَقامٌ أَكْرَمْتَني بِهِ وَشَرَّفْتَني بهِ، وَأَعْطَيْتَني فيهِ رَغْبَتي عَلى حَقيقَةِ إيماني بِكَ وَبِرَسولِكَ». فاقرأ وتدبّر ولا تكن ممّن يجحدُ الحقّ ويزِلُّ عن الصّراط المستقيم.

اللَّهُمَّ أَدْخِلْني في أَوْلِيائِكَ ...

رَحِمَكَ اللهُ يا أبا عَبْدِ اللهِ ...

أَنَّكَ عَبَدْتَهُ حَتّى أَتاكَ اليَقين ...

فَأَسْأَلُ اللهَ البَرَّ الرَّحيم ...

أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللهِ وَأَمينُه ...

اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ ...

رَبِّ أَفْحَمَتْني ذُنوبي ...

يا سَبْحانَكَ! ...

يا سَيّدي فَارْحَمْ كَبْوَتي ...

رَبِّ أَشْكو إِلَيْكَ قَسَاوَةَ قَلْبي ...

أَسْتَكينُ لَكَ ...

فَاقْبَلْ تَوْبَتي ...

وَنَفِّسْ كُرْبَتي وَارْحَمْ خُشوعي وَخُضوعي وَانْقِطاعي إِلَيْكَ سَيِّدي ...

فَأَنْتَ رَجائي وَظَهْري وَعُدَّتي وَمُعْتَمَدي لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ.

ثُمَّ كَبِّرْ خَمْسَةً وَثَلاثينَ تكبيرةً

ثمّ ... إِلَيْكَ يا رَبِّ صَمَدْتُ مِنْ أَرْضي ...

اللَّهُمَّ ارْحَمْ تَضَرُّعي ...

ثم تسبِّح عند رأسه ألف تسبيحة ...

اللَّهُمَّ رَبَّ الأَرْباب ...

أَتَوَسَّلُ إِلى اللهِ في جَميعِ حَوائِجي ...

اللَّهُمَّ رَبَّ الحُسَيْنِ! ...

وتُسَبِّح عند رِجلَيه ألفَ تسبيحة ... فإنْ لم تقدر فمائة ... (انتهى).

فهل يوجد توجُّهٌ وانقطاعٌ إلى الله سبحانه وتعالى مثلُ هذا؟!   

 

نعم؛ هناك بعض الفقرات الموجودة في هذه الزيارة [السادسة عشرة] وغيرها، مرتبطة بسيّد الشهداء عليه السّلام مباشرةً؛ فإنّه على الرغم من شرح الزيارة نفسها لتلك الفقرات بما يُبقي حقيقة الزيارة على صراطها الحقّ من الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى؛ كقوله عليه السّلام: «اللَّهُمَّ... وَقَدْ أَتَيْتُكَ زائِراً قَبْرَ ابْنِ نَبِيِّكَ صَلَواتُك عَلَيْهِ...».

وهذا نحوٌ من التعبُّد جَرتْ عليه سُنَنُ الله في خلقهِ، وإلّا فهو؛ جلَّ جلاله، محيطٌ بكلِّ شيءٍ، وهو أقربُ إلى الإنسان من حبل الوريد، ولكن على الرغم من ذلك ﴿..فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..﴾ البقرة:144. والحكمة في هذا التحديد المكانيّ، بل في كلِّ تحديدٍ مكانيٍّ أو زمانيٍّ إنّما هو ﴿.. لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ..﴾ البقرة:143.

فعلى الرغم من تعدّد صوَر الإتيان والتوجّه إليه سبحانه؛ سواء أكان من مكانٍ محدَّدٍ أو زمان معلومٍ، فالمَأْتِيُّ واحدٌ؛ سبحانه وتعالى؛ فلم يتعدّد ولم يختلط ولم يشارِكْهُ شيءٌ من تلك الأماكن أو الأزمِنة على الرغم من شديد احترامها وقَداستِها لدى المسلمين، فهم لا يعبدون الكعبةَ على الرغم من تحرِّيهم لها ومواظبتِهم على استقبالها وتقديسها.

وكلامنا هذا لا نَعني بِهِ مَن ﴿..صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ..﴾ سبأ:20؛ فإنّهم إنّما يُريدون أن يعبدوا الله كما يُريدون لا كما يُريدُ الله سبحانه وتعالى، فهم؛ في واقع الأمر يعبدون أهواءَهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء، فهم مستكبرون، غافلون، كما وصفَهم القرآن الكريم.

فالنتيجة؛ أنّ زيارة سيّد الشهداء زيارةُ اللهِ سبحانه وتعالى؛ أي قصدُ قُربِهِ ورضاه، كغيرها من أعمال القُرب، فهي مهما امتزجتْ بلباس المكان أو الزمان أو غيرهما مِن خَلْقِ الله لا تخرجُ عن حدِّ العبادة، بل المناقشة فيها خروجٌ عن حدِّ العبادة، فضلاً عن إنكارها وعدم امتثالها؛ فإنّه خروجٌ عن أمر الله سبحانه.

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ..﴾ الأعراف:12.

هذا هو الأساس المعرفيّ العمليّ الأوّل لزيارة سيّد الشهداء عليه السّلام، وهو أن تكون الزيارة لله سبحانه وتعالى، وهذا ما دأَبَ عليه الشيعة الملتزمون بعُروة أهل البيت عليهم السلام.

 

السيّدُ ابنُ طاوس يشرح مَعنى:

«زارَ اللهَ في عَرْشِهِ»

عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ صامَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبانَ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ البَتَّةَ، ومَنْ صامَ يَوْمَيْنِ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ في دارِ الدُّنْيا وَدامَ نَظَرُهُ إِلَيْهِ في الجَنَّةِ، وَمَنْ صامَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ زارَ اللهَ في عَرْشِهِ في جَنَّتِهِ كُلَّ يَوْمٍ».

قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة: «أقول: لعلّ المراد بزيارة الله في عرشِه، أن يكونَ لقومٍ من أهل الجنّة مكانٌ من العَرش، مَن وصل إليه يُسمَّى زائرَ الله، كما جعلَ اللهُ الكعبةَ الشريفة بيتَه الحرام، مَن حجَّها فقد حجَّ الله.

وذكر الشيخ ابن بابويه رحمَه الله في كتاب (مَن لا يحضره الفقيه) أنّ معنى هذا الحديث زيارة أنبياء الله وحُجَجِه في الجنان، وأنّ من زارهم فقد زارَ الله.

وقد وردتْ أحاديث كثيرة: أنّ زيارة المؤمن وعيادتَه وإطعامَه، وكسوتَه، منسوبةٌ إلى أنّها زيارةُ الله وموصوفةٌ بأنّها عُمِلَت مع الله».

السيد ابن طاوس، إقبال الأعمال: ج 3/ ص 294.

 

  

زيارةُ الأنبياء والحُجَج

زيارةُ الله

قال الشيخ الصّدوق عليه الرحمة والرضوان:

«روى الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن مرحوم الأزدىّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله صلوات الله عليه يقول: مَنْ صامَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبانَ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ البَتَّةَ، ومَنْ صامَ يَوْمَيْنِ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ في دارِ الدُّنْيا وَدامَ نَظَرُهُ إِلَيْهِ في الجَنَّةِ، وَمَنْ صامَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ زارَ اللهَ في عَرْشِهِ مِن جَنَّتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ».

أضاف رحمَه الله تعالى:

«قال مصنِّف هذا الكتاب: زيارةُ الله زيارةُ أنبيائه و حُجَجِه صلواتُ الله عليهم. مَن زارَهم فقد زارَ اللهَ، كما أنّ من أطاعَهم فقد أطاعَ الله، ومَن عَصاهم فقد عَصى الله، ومَن بايعَهم فقد بايعَ الله عزّ وجلّ، وليس ذلك على ما يتأَوّلُه المشبِّهة، تَعالى اللهُ عمّا يقولون علوّاً كبيراً».

الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه: ج 2/ ص 93،

وانظر: فضائل الأشهر الثلاثة: ص57. 

«شعائر»

 

.. واللهُ يُكرِمُ زُوّاره

«عن أبي عبد الله (الصّادق) عليه السّلام، قال:

سمعتُ أبي يقولُ لرَجلٍ من مَواليه و[قد] سألَه عن الزّيارة، فقالَ له: مَن تزورُ ومَن تريدُ به؟

 قال [السّائل]: [أريدُ به] اللهَ تبارك وتعالى، فقال:

مَن صلّى خلفَه صلاةً واحدةً يريدُ بها اللهَ، لَقِيَ اللهَ يومَ يلقاه وعليه من النّور ما يَغشى لَه كلُّ شَيءٍ يَراه، واللهُ يُكرِمُ زُوّارَه ويَمنعُ النارَ أن تنالَ منهم شيئاً، وإنّ الزائرَ له لا يتناهى له دونَ الحَوض، وأميرُ المؤمنين عليه السّلام قائمٌ على الحَوض يصافحُه ويَرويه من الماء، وما يسبقُه أحدٌ إلى وُروده الحوضَ حتّى يَروى، ثمّ ينصَرِف إلى منزلِه من الجنّة، ومعه ملَكٌ من قِبَلِ أميرِ المؤمنين يأمرُ الصّراطَ أن يذلَّ له، ويأمرُ النارَ أن لا يصيبَه من لَفْحِها شيءٌ حتّى يَجُوزَها، ومَعه رسولُه الّذي بعثَه أميرُ المؤمنين عليه السّلام».

ابن قُولويه، كامل الزيارات: الباب (44)، ص238.

«شعائر»


(حقُّ) الإمام عليه السّلام
   النظام المعرفيّ العمليّ لصَلاح الإنسان وتكاملِه

--------- إعداد: أسرة التحرير----------

 

التّأكيدُ على (معرفة حقِّهِ عليه السّلام) تأكيدٌ على حقٍّ يعود نفعُهُ إلى البشريّة في صلاحها وسَعادتِها.

هكذا يكون الحقُّ الاصطفائيّ؛ نظاماً مَعرفياً عمليّاً لا بديلَ له؛ بعد (عمومه للناس كافّة)؛ من جهة، وعدم ما يسدّ مسدَّه؛ من جهة أخرى.

* للتعريف بمعنى: زيارة الإمام الحسين عليه السلام «عارفاً بحقّه» اختارت «شعائر» - بتصرّف - فقراتٍ (من فصول مختلفة) من كتاب الشيخ علي التميمي (زيارة الحسين عليه السّلام عارفاً بحقّه).

 

قبل التطرُّق إلى المراد من (حقِّ الحسين عَلَيْهِ السَّلامُ) نُبيّن المراد من (الحقّ)؛ حيثما يُطلَق.

(الحقّ): هو القدَر المحدّد في أصل وجود الأشياء وصفاتها وأحوالها وارتباطاتها، كما هو مرسومٌ لها تكويناً أو تشريعاً.

فالحقّ أمر موجود [في متن] الواقع؛ والآثارُ المخطَّطة إلهيّاً مرهونةٌ به.

(عارفاً بحقِّهِ):

أمّا المعرفة؛ [فهي] المعرفة القلبيّة؛ القائمة – بعد مَنِّهِ وتوفيقه سبحانه – على تَنقية القلب من (الأنا) ومن (فضول الدنيا)؛ [لتبدأ] حينئذٍ بوادر التفكّر؛ ثُمّ [يحصل] تنُّبه القلب أكثر فأكثر، ثُمّ الاعتبار والاتّعاظ بما يراه أو يسمعُه لحظةَ الاختيار الصحيح، [وصولاً إلى] النهوض من الزَّلَّة والابتعاد بتوفيقه سبحانه وتعالى.

 

من نتائج التفكّر الصحيح الالتزامُ بضرورة أنّ للدِّين قُوّاماً مؤهّلين مختارين؛ لأنّ هذا التفكّر مهما بلغ فإنّه لا يبلغ هدفَه الأعلى وهو الوصول إلى (مراد الله) سبحانه؛ ومن هنا تبدأ نقطة (التمييز الإلهيّ) بين مَن وصلَ إلى هذه الدرجة من التفكّر – درجة ﴿ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً﴾ – وبين مَن لم يتفكّر بشيءٍ من آيات الله، بل هو مُعرِضٌ عنها.

ويشهد على حقيقة نقطة التمييز هذه العديد من الآيات.

والغرَض من هذا التمييز هو: ﴿.. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..﴾ الأنفال:42، وليعقلَ العِبادُ عن ربِّهم ما جَهِلوه، فلا يكون خلقُهم عبثاً، بل ليعبدوه، وهو ما لا يكون إلّا ببيان نظامه المعرفيّ اللازم لذلك.

وهكذا يتشكَّل حقٌّ بشريٌّ عامٌّ، وهو (بيانُ) النظام المعرفيّ الإلهيّ. [وإقامة الحجّة لله تعالى على الخَلق] وقد تمّتْ ترجمةُ هذا الحقّ بإرسال الرُّسُل ... ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ..﴾ النساء:165، فحصل التمييزُ الحقيقيّ.

 هذا الحقّ ينشأ من [الأسس التالية:]

1- أنّ الله سبحانه خلقَهم لعبادته.

2- وأنّ بعض عِبادهِ التمسوا الطريق إليه سبحانَه بقلوبهم.

3- ولكنّهم لم ولن يصلوا من دون تعليمٍ وإخبارٍ منه سبحانه وتعالى عمّا يُريد وما لا يُريد.

4- وهذا لم يكن إلّا بتوسُّط المصطفى من قِبلهِ سبحانه.

ويدرك هذا الحقّ كلُّ الناس؛ حتى المنحَرفين منهم: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ طه:134.  "..".

غير أنّ ذلك لا يكفي لإتمام الحجّة لله، ولا يتناسب مع لُطفهِ بعبادِهِ، بل لابدّ من وجود مَن (يحفظ) هذا النظام من التحريف (ويَصُون) تطبيقَه من التبديل.

 

إنّ مشكلة الأمم السابقة، كما يحكي القرآن، لم تكن لقصورٍ في أنظمتها المعرفيّة المنزَّلة، وإنّما لقصورها في (إقامة) تلك الأنظمة؛ بعد أنّ زُويَ (الأولياء) عن دَورِهم في تلك الأُمم. "..".

إذاً؛ فَلإتمام الحجّة لله على الناس، لا بدّ للباري عزّ وجلّ أن يضمن – بِلُطفِهِ – مَن يقدر على حفظ (النظام المعرفيّ المنـزّل) وتطبيقه، ولكن من دون إلجاء وقَهْرِ الآخرين؛ وإلاّ فلا معنى للعقاب والثواب حينئذٍ، بل يَنصبُ ذلك القادرَ على (إقامة الدين) ويُعلِمُهم به، وهم يختارون.

وبعبارة تقريبيّة: إنّ هذا القادر كتابٌ إلهيّ؛ ولكنّه ليس من حروفٍ تُكتَب ولا أصواتٍ تُلفَظ، وإنّما هو كتابٌ عمليٌّ ناطق؛ يَحكي رضى الله وسخَطَه كما تحكي الحروفُ رضى الله وسخطَه.

وهكذا يتشكَّل حقٌّ بشريّ عامٌّ آخر، وهو (إقامة) النظام المعرفيّ الإلهيّ، وهو لا يكون إلّا بالمؤهَّل المختار، وهذا حقُّهُ دون غيرهِ من البشر، كما كانت النبوّة حقَّ الأنبياء دون غيرهم من الناس.

وبالتّتبع في روايات الزيارة، وغيرها، نجد أنّ تأكيد (معرفة حقّ الإمام) يتمحور في هذا النمط من الحقّ، وهو الحقُّ الاصطفائيّ لسيّد الشهداء عليه السّلام، كما هو ظاهرُ أكثر الروايات؛ لأنّ معرفة هذا النَّمَط من الحقّ يترتّب عليها العديد من الآثار، كوجوب الطاعة، والتسليم، والمودّة، والموالاة لصاحب هذا الحقّ؛ ولكلِّ مَن تابعهُ وسلّمَ إليه من المؤمنين، والبراءة من أعدائهِ في طول تَواجدهم الزمانيّ، وفي طول أدوارهم ومناهجِهم ... وهو ما يحقّقُ الاستجابةَ الحقيقيّةَ من العبد.

على أنّ تلك الاستجابة قد بيّنتها النصوص بأنحاء عديدة؛ مختصَرُها: الموالاة لوليِّ الله، والبراءة من كلّ ما يضادّهُ ويُناوئه، لا سيّما النفس والشيطان.

ولكن؛ كيف أصبح هذا الحقُّ الاصطفائيّ هو النظام المعرفيّ العمليّ للهداية والإصلاح؛ بنحوٍ لا يكونُ له بديلٌ أبداً؟

بيان ذلك يتمُّ بالنظر إلى أركانٍ، منها:

أوّلاً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ تكليفٌ دقيقٌ جدّاً على أصحابهِ المصطفَينَ به؛ وليس مجرّدَ تشريفٍ وتكريمٍ، وفي القرآن الكريم مخاطباتٌ مع النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله دالّةٌ على ذلك بوضوحٍ عالٍ.

وفي الآيات الكثيرُ من التشديد على الالتزام بما (أنزلَ الله)، والخطاب في كثيرٍ منها مع الرسول الأكرم، مع أنّه صلّى الله عليه وآله، قد فاقَ جميع البشر التزاماً، بل انسجاماً مع النظام المعرفيّ المنـزَّل إلى حَدٍّ أضحى كلُّ نَفَسٍ وكلّ كلمةٍ منه لله سبحانه، ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ النجم:8-9. "..".

وبهذا الركن تموت؛ وإلى الأبد، جميعُ الأحكام الاستثنائيّة التي تغمطُ الحقّ أو القانون؛ فيكون النظام المعرفيّ بمعزلٍ عن التلاعب أو التبديل، ولو كان من أعلى إنسانٍ في المجتمع ... ﴿.. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يونس:15.

وبهذا يكونُ هذا الحقّ الاصطفائيّ نظاماً معرفيّاً عمليّاً للإصلاح والهداية.

 

ثانياً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ جاء لإصلاح الناس وهُداهم جميعاً. ".."

فالتّأكيدُ على (معرفة حقِّهِ عليه السّلام) تأكيدٌ على حقٍّ يعود نفعُهُ إلى البشريّة في صلاحها وسعادتِها، فليس هذا التأكيد من أجل سلطة ضائعة مغتصَبة، ولا هو من أجل جاهٍ ظاهرٍ بين الناس؛ فإنّ أولياء الله لا يفكّرون بذلك، ولا يُقيمون له وزناً؛ فسُلطتهم نفعُها وثمارها إنّما تكون للناس خالصةً، كما رأينا في سلطة عليٍّ عليه السّلام! وجَاهُهُم إنّما هو الطاعة والخضوع الخالص لله سبحانه، وفي تواريخ الأولياء الكثيرُ من شواهد عدم اعتدادهم بالسلطة أو الجاه الظاهر بين الناس. ".."

وهكذا يكون الحقّ الاصطفائيّ؛ أيضاً، نظاماً مَعرفيّاً عمليّاً لا بديلَ له، بعد (عموميّته للناس كافّة)؛ من جهة، وعدم ما يسدّ مسدَّه؛ من جهة أخرى.

ثالثاً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ على الرغم من أنّه لا يكون إلّا بجَعلٍ من الله سبحانه، فإنّه لم يكن إلّا بعد الوفاء والإيفاء من قِبل المصطفى لهذا الحقّ! بل يَرتهن (بقاء هذا الحقّ) ببقاء الوفاء والإيفاء من قِبل المصطفَى.

وهكذا أيضاً، نعرف أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ هو النظامُ المعرفيُّ العمليُّ العامّ، الذي لا بديلَ له.

وبهذا الركن يصلُ النظام المعرفيّ الإلهيّ إلى آخر مفصلٍ من التهيئة والإعداد خطورةً ونِتاجاً؛ حيث توضَع (الموازنة الدقيقة) بين بقاء العطاء وتَصاعده من قِبل المولى سبحانه وبينَ ما يفي به (المُصطفى) من كلِّ مرحلةٍ وطورٍ في سلسلة استخلافهِ.

وهذا الركن لن نجدَ مَن يُمثّلهُ إلّا محمّدٌ وآله؛ صلوات الله عليهم. ".."

هذا كلّه في أنّ (الحقّ الاصطفائي) لسيّد الشهداء عليه السّلام؛ هو الحقُّ البَشريّ العامّ، الذي يمثّل النظامَ المعرفيَّ العمليَّ لإصلاح البشريّة؛ وصَدّ سبيلِ المفسدين.

فعبارة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» تشيرُ إلى ذلك.

ويمكن أن نضيف إلى (الدلائل على صاحب الحقّ):

القلب الطاهر- قلب الموالي- فإنّه لا محالةَ سيَجد ضالّتهُ وهواه في (الوليّ)؛ للتّلازم النوعيّ بينَهما. وليس دعاء إبراهيم ﴿.. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ..﴾ إبراهيم:37، لغَرضٍ غير نُصرةِ آلِ محمّدٍ بالمؤمنين؛ بالأفئدة الطّاهرة.

قال [الإمام السجّاد] عليه السّلام في دعائهِ: «اللَّهُمَّ يا مَنْ خَصَّ مُحَمَّداً وَآلَهُ بِالْكَرَامَةِ، وَحَباهُمْ بِالرِّسالَةِ، وَخَصَّصهُمْ بِالْوَسِيلَةِ، وَجَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الاَنْبِياءِ، وَخَتَمَ بِهِمُ الأوْصِياءَ وَالأئِمَّةَ، وَعَلَّمَهُمْ عِلْمَ ما كَانَ وَعِلمَ مَا بَقِيَ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ».

وعن معاوية بن وهب، قال: استأذنتُ على أبي عبد الله عليه السّلام فأَذِنَ لي، فسمعتُه يقول في كلامٍ له: «يا مَنْ خَصَّنا بِالوَصِيَّةِ وَأَعْطانا عِلْمَ ما مَضَى وَعِلْمَ ما بَقِيَ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوي إِلَيْنا وَجَعَلَنا وَرَثَةَ الأَنْبِياءِ».

هذا بحسب أصل الخِلقة، وأمّا بحسب واقع الإنسان – وقد خُرِّبَ القلبُ بشتّى أنواع العاهات – فالتّلازم النوعيّ لن يكونَ على ما هو عليه، وإنّما سيكون بالمقلوب؛ فيُنكر القلبُ المعلومةَ أو الشيء المنتسِب إلى المعروف، ويعرف المعلومة أو الشيء المنتسِب إلى المنكر."..".

فالتأكيد النبويّ على حُبِّ الآل الطاهر تأكيدٌ على فريضةٍ عُظمى؛ لأنّه تأكيدٌ وطلبٌ لتَطهير القلوب؛ إذ أنّ حُبَّهم؛ عليهم السلام، لا يكون إلّا في مثل هذه القلوب، فالحثُّ على حبّهم حثٌّ على تَطهير القلوب. "..".

وعلى هذا يكون حُبُّهم هو أصلُ الدين؛ لأنّه يَلزمُ منه اتّباعُ الله ومحَبَّته معاً.

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ آل عمران:31. وبالتدبّر: إنْ كُنتم تُحبّونَ اللهَ كما تَدّعون ... فاتّبعوني، وإنّكم لا تتّبعوني حتى تُحبّوني فأَحِبّوني، . ففي محبّتي اتّباعِي، وفي اتّباعِي اتّباعٌ لله ومحبّته، وإذا أحببتُم اللهَ واتّبعتموه أحبَّكم؛ وغفرَ لكم ذنوبَكم.

وعلى هذا الفهم يتّضح لنا الكثير من مفاهيم الروايات؛ لا سيّما الوارد منها في زيارة قبور أهل البيت عليهم السلام.

فمثلاً؛ ورد التأكيد – في روايات الزّيارة – على (إعلان الموالاة لسيّد الشهداء عليه السّلام)، فهل تظنّ أنّ ذلك لحاجةٍ في سيّد الشهداء لموالاتنا إيّاه؟ أبداً، إنّ ذلك لحاجةٍ فينا؛ فإنّ التأكيد على موالاته تكرارً ومراراً تأكيدٌ لنا على (اصطناع) موالاته شيئاً فشيئاً؛ حتّى يقذفَ الله في قلوبنا حُبَّه عليه السّلام؛ فتكون؛ حينئذٍ، موالاتنا له موالاةً حقيقيّة. وهذا معنى: «الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِصْباحُ الهُدَى».

وهذا (الاصطناع) لا يؤتي أُكُلَهُ المرجوّة إلّا إذا تزامن معه (تنظيف القلب) من [أدران المعاصي والتعلُّقات الباطلة]، التي تحولُ دونَ دخول أهل البيت الأطهار إلى القلب! لأنّ القلب لا يحبُّ ولا يبغضُ على نحو الحقيقة كلّاً من الحقِّ والباطل في آنٍ واحد! بل يُحبُّ أحدهما ويبغضُ الآخَر، أو أنّه لا يُحِبُّ الآخرَ أبداً.

وتنظيف القلب؛ غالباً، ما يكون بالتدريج ".." إنّ اتّساع المساحة المحرّرة [من القلب] لأجل (سيّد الشهداء) يؤدّي – بعد توفيقه سبحانه – إلى إزاحة تلك النقائض حقيقةً؛ ... حتى يكونَ القلبُ حُسينيّاً!

[أللّهمّ ارزُقنا].

* [نتائج]

* لماذا أكّدتِ الروايات على زيارتهِ عليه السّلام (عارِفاً بِحَقِّهِ)؟

يبدو أن ذلك أصبحَ واضحاً، من خلال:

أوّلاً: أنّ المعرفة – في القرآن والسُّنّة – هي نبراسُ مَن يُريد سلوكَ جادّة الحقّ، وبهذا ضُمِنَ للحقّ امتناعُهُ عن التزوير والتحريف؛ لأنّ كلَّ مَن حاول تحريفَه وتزويره كان منحرفاً في أصل مشروعه وحركته المعرفيّة؛ فيكون كذبُهُ ظاهراً؛ ﴿.. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..﴾ محمّد:30.

فمَن أراد الحقَّ فإنّهُ لا يجِدُ عن المعرفة بدلاً؛ فيكون صادقاً ومقبولاً على الدوام.

وهكذا مَن يُريد زيارة الحسين عليه السّلام بحسب حقيقتها فإنّه لا يجدُ عن المعرفة بدلاً.

ثانياً: أنّ المعرفة هي أساسُ الاعتقادات، التي هي ليست مجرّد معلومات وشعارات، وإنّما هي معلومات يُعقَدُ عليها القلب؛ لحُبِّه ومعرفته إيّاها، وزيارة الحسين عليه السّلام فهي إمّا أن تكون مجرّد شعار ومعلومات، وإمّا أن تكون معلومة عُقِدَ عليها القلب وأحبَّها، وهو ما لا يكون إلّا بالمعرفة بقلبٍ طاهرٍ.

ثالثاً: أنّ المعرفة هي الحدُّ الفاصل بين (التقليد والعبوديّة للهَوى والشيطان) وبين (الحكمة والعبوديّة لله سبحانه)؛ إذ بالمعرفة يَحتكِمُ الإنسان في حركتهِ إلى حقائق الأمور في نفسها؛ لانكشافها لديه، فيتعامل معها كما هي، بينما مَن يسلك غير طريق المعرفة لا يتعامل مع الأمور كما هي، وإنّما يتعامل معها على الفرض والتخمين، ولذا يكون دائماً على خطأ وضلال.

ولذا وردَ عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قد عرفَ الرسولَ بالرسالة، أي أنّه عليه السّلام عرفَ حدودَ الرسالة؛ أوّلاً؛ ثمّ وجدَها في رسول الله، لا العكس، كما هو دَيْدَن أهل الأهواء وقُرَناء الشيطان؛ فإبليس لم ينظر إلى كامل الخِلقة في الإنسان – وهو كونه مركّباً من الطِّين والروح – وإنّما نظر إلى آدم فرأى (الطِّين)؛ فقال: ﴿.. أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ الأعراف:12! فوقعَ في المعصية.

وهكذا في بقيّة الأمور؛ فالإمام يُعرَف بالإمامة، والرجال بالحقّ، كما ورد في الكلام المشهور المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَأَمّا المُحِقُّونَ فيَعْرِفُونَ الرِّجَالَ بِالحَقِّ، لا الحَقَّ بالرِّجَالِ».

وهكذا؛ نعرف أنّ فقرة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» تأكيدٌ على نهجٍ إلهيّ؛ بثَّهُ أهلُ البيت؛ عليهم السّلام، في روايات الزيارة، وهو أمرٌ كان ولا زال مهمّاً، بعد أن صار التقييمُ على الأُسس المعكوسة؛ وهذا من امتيازات هذه الروايات.

رابعاً: أنّ المعرفة من الأمور التي يُمكن أن تقُرَّ لدى الإنسان، بل يمكن إكسابُها للآخرين وتوريثُها لهم، وهو ما يضمن الحفاظ على استمرار (المعروف) وعدم اندثارِهِ بموت حامليهِ، بل حتّى الأمور الأخرى التي شجّعَ عليها الأئمة؛ عليهم السّلام، كالصَّبرِ على تخويف العدوّ وإرهابه؛ فإنّ ثبوته وثبوت آثاره الصالحة إنّما يكون بالمعرفة، وإلاّ فَقَدَ هذا الصَّبرُ محتواه الدينيّ وصار عبارةً عن تَحمُّلِ نِدٍّ إلى نِدٍّ.

خامساً: أنّ المعرفة كأساسٍ وعاملٍ رئيسٍ في حركة الإنسان ترسم حدودَ الأشياء وارتباطاتها بما يضمن – على الرغم من شَتاتنا وضياعنا وافتقارنا إلى الوجود الظاهر لحُجَّة الله عليه السّلام – الخيارات والمواقف السليمة إزاء ما يطرأ؛ يوميّاً، على الساحة الاجتماعية والفردية، فعبارة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً» تتحدّث عن الوصف العامّ للمؤمن الزائر لا عن وصفه عند الزيارة وحسب؛ لأنّ انتهاجَ سبيل المعرفة لا يكون طارئاً آنيّاً، وإنّما هو بإعدادٍ وتهيئةٍ واسعةٍ ومتواصلةٍ؛ قَوامها التوفيق الإلهيّ لقلبٍ طاهرٍ ... فـ «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» إنّما يُراد منه الوصف المستقرّ! لا الوصف الذي يُستعار لسُويعات التواجد في كربلاء.

إنَ أحاديث من قبيل «شِيعَتُنا مَنْ تَابَعَنَا وَلَمْ يُخَالِفْنَا» دالّة؛ بوضوح، على أنّهم، عليهم السّلام، عملوا على تهيئة شيعتهم وإعدادهم إعداداً معرفيّاً، لا في خصوص الزيارة، بل في جميع شؤونهم.

 

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

22/10/2014

دوريات

نفحات