الملف

الملف

22/10/2014

(حقُّ) الإمام عليه السّلام

(حقُّ) الإمام عليه السّلام
   النظام المعرفيّ العمليّ لصَلاح الإنسان وتكاملِه

--------- إعداد: أسرة التحرير----------

 

التّأكيدُ على (معرفة حقِّهِ عليه السّلام) تأكيدٌ على حقٍّ يعود نفعُهُ إلى البشريّة في صلاحها وسَعادتِها.

هكذا يكون الحقُّ الاصطفائيّ؛ نظاماً مَعرفياً عمليّاً لا بديلَ له؛ بعد (عمومه للناس كافّة)؛ من جهة، وعدم ما يسدّ مسدَّه؛ من جهة أخرى.

* للتعريف بمعنى: زيارة الإمام الحسين عليه السلام «عارفاً بحقّه» اختارت «شعائر» - بتصرّف - فقراتٍ (من فصول مختلفة) من كتاب الشيخ علي التميمي (زيارة الحسين عليه السّلام عارفاً بحقّه).

 

قبل التطرُّق إلى المراد من (حقِّ الحسين عَلَيْهِ السَّلامُ) نُبيّن المراد من (الحقّ)؛ حيثما يُطلَق.

(الحقّ): هو القدَر المحدّد في أصل وجود الأشياء وصفاتها وأحوالها وارتباطاتها، كما هو مرسومٌ لها تكويناً أو تشريعاً.

فالحقّ أمر موجود [في متن] الواقع؛ والآثارُ المخطَّطة إلهيّاً مرهونةٌ به.

(عارفاً بحقِّهِ):

أمّا المعرفة؛ [فهي] المعرفة القلبيّة؛ القائمة – بعد مَنِّهِ وتوفيقه سبحانه – على تَنقية القلب من (الأنا) ومن (فضول الدنيا)؛ [لتبدأ] حينئذٍ بوادر التفكّر؛ ثُمّ [يحصل] تنُّبه القلب أكثر فأكثر، ثُمّ الاعتبار والاتّعاظ بما يراه أو يسمعُه لحظةَ الاختيار الصحيح، [وصولاً إلى] النهوض من الزَّلَّة والابتعاد بتوفيقه سبحانه وتعالى.

 

من نتائج التفكّر الصحيح الالتزامُ بضرورة أنّ للدِّين قُوّاماً مؤهّلين مختارين؛ لأنّ هذا التفكّر مهما بلغ فإنّه لا يبلغ هدفَه الأعلى وهو الوصول إلى (مراد الله) سبحانه؛ ومن هنا تبدأ نقطة (التمييز الإلهيّ) بين مَن وصلَ إلى هذه الدرجة من التفكّر – درجة ﴿ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً﴾ – وبين مَن لم يتفكّر بشيءٍ من آيات الله، بل هو مُعرِضٌ عنها.

ويشهد على حقيقة نقطة التمييز هذه العديد من الآيات.

والغرَض من هذا التمييز هو: ﴿.. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..﴾ الأنفال:42، وليعقلَ العِبادُ عن ربِّهم ما جَهِلوه، فلا يكون خلقُهم عبثاً، بل ليعبدوه، وهو ما لا يكون إلّا ببيان نظامه المعرفيّ اللازم لذلك.

وهكذا يتشكَّل حقٌّ بشريٌّ عامٌّ، وهو (بيانُ) النظام المعرفيّ الإلهيّ. [وإقامة الحجّة لله تعالى على الخَلق] وقد تمّتْ ترجمةُ هذا الحقّ بإرسال الرُّسُل ... ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ..﴾ النساء:165، فحصل التمييزُ الحقيقيّ.

 هذا الحقّ ينشأ من [الأسس التالية:]

1- أنّ الله سبحانه خلقَهم لعبادته.

2- وأنّ بعض عِبادهِ التمسوا الطريق إليه سبحانَه بقلوبهم.

3- ولكنّهم لم ولن يصلوا من دون تعليمٍ وإخبارٍ منه سبحانه وتعالى عمّا يُريد وما لا يُريد.

4- وهذا لم يكن إلّا بتوسُّط المصطفى من قِبلهِ سبحانه.

ويدرك هذا الحقّ كلُّ الناس؛ حتى المنحَرفين منهم: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ طه:134.  "..".

غير أنّ ذلك لا يكفي لإتمام الحجّة لله، ولا يتناسب مع لُطفهِ بعبادِهِ، بل لابدّ من وجود مَن (يحفظ) هذا النظام من التحريف (ويَصُون) تطبيقَه من التبديل.

 

إنّ مشكلة الأمم السابقة، كما يحكي القرآن، لم تكن لقصورٍ في أنظمتها المعرفيّة المنزَّلة، وإنّما لقصورها في (إقامة) تلك الأنظمة؛ بعد أنّ زُويَ (الأولياء) عن دَورِهم في تلك الأُمم. "..".

إذاً؛ فَلإتمام الحجّة لله على الناس، لا بدّ للباري عزّ وجلّ أن يضمن – بِلُطفِهِ – مَن يقدر على حفظ (النظام المعرفيّ المنـزّل) وتطبيقه، ولكن من دون إلجاء وقَهْرِ الآخرين؛ وإلاّ فلا معنى للعقاب والثواب حينئذٍ، بل يَنصبُ ذلك القادرَ على (إقامة الدين) ويُعلِمُهم به، وهم يختارون.

وبعبارة تقريبيّة: إنّ هذا القادر كتابٌ إلهيّ؛ ولكنّه ليس من حروفٍ تُكتَب ولا أصواتٍ تُلفَظ، وإنّما هو كتابٌ عمليٌّ ناطق؛ يَحكي رضى الله وسخَطَه كما تحكي الحروفُ رضى الله وسخطَه.

وهكذا يتشكَّل حقٌّ بشريّ عامٌّ آخر، وهو (إقامة) النظام المعرفيّ الإلهيّ، وهو لا يكون إلّا بالمؤهَّل المختار، وهذا حقُّهُ دون غيرهِ من البشر، كما كانت النبوّة حقَّ الأنبياء دون غيرهم من الناس.

وبالتّتبع في روايات الزيارة، وغيرها، نجد أنّ تأكيد (معرفة حقّ الإمام) يتمحور في هذا النمط من الحقّ، وهو الحقُّ الاصطفائيّ لسيّد الشهداء عليه السّلام، كما هو ظاهرُ أكثر الروايات؛ لأنّ معرفة هذا النَّمَط من الحقّ يترتّب عليها العديد من الآثار، كوجوب الطاعة، والتسليم، والمودّة، والموالاة لصاحب هذا الحقّ؛ ولكلِّ مَن تابعهُ وسلّمَ إليه من المؤمنين، والبراءة من أعدائهِ في طول تَواجدهم الزمانيّ، وفي طول أدوارهم ومناهجِهم ... وهو ما يحقّقُ الاستجابةَ الحقيقيّةَ من العبد.

على أنّ تلك الاستجابة قد بيّنتها النصوص بأنحاء عديدة؛ مختصَرُها: الموالاة لوليِّ الله، والبراءة من كلّ ما يضادّهُ ويُناوئه، لا سيّما النفس والشيطان.

ولكن؛ كيف أصبح هذا الحقُّ الاصطفائيّ هو النظام المعرفيّ العمليّ للهداية والإصلاح؛ بنحوٍ لا يكونُ له بديلٌ أبداً؟

بيان ذلك يتمُّ بالنظر إلى أركانٍ، منها:

أوّلاً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ تكليفٌ دقيقٌ جدّاً على أصحابهِ المصطفَينَ به؛ وليس مجرّدَ تشريفٍ وتكريمٍ، وفي القرآن الكريم مخاطباتٌ مع النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله دالّةٌ على ذلك بوضوحٍ عالٍ.

وفي الآيات الكثيرُ من التشديد على الالتزام بما (أنزلَ الله)، والخطاب في كثيرٍ منها مع الرسول الأكرم، مع أنّه صلّى الله عليه وآله، قد فاقَ جميع البشر التزاماً، بل انسجاماً مع النظام المعرفيّ المنـزَّل إلى حَدٍّ أضحى كلُّ نَفَسٍ وكلّ كلمةٍ منه لله سبحانه، ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ النجم:8-9. "..".

وبهذا الركن تموت؛ وإلى الأبد، جميعُ الأحكام الاستثنائيّة التي تغمطُ الحقّ أو القانون؛ فيكون النظام المعرفيّ بمعزلٍ عن التلاعب أو التبديل، ولو كان من أعلى إنسانٍ في المجتمع ... ﴿.. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يونس:15.

وبهذا يكونُ هذا الحقّ الاصطفائيّ نظاماً معرفيّاً عمليّاً للإصلاح والهداية.

 

ثانياً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ جاء لإصلاح الناس وهُداهم جميعاً. ".."

فالتّأكيدُ على (معرفة حقِّهِ عليه السّلام) تأكيدٌ على حقٍّ يعود نفعُهُ إلى البشريّة في صلاحها وسعادتِها، فليس هذا التأكيد من أجل سلطة ضائعة مغتصَبة، ولا هو من أجل جاهٍ ظاهرٍ بين الناس؛ فإنّ أولياء الله لا يفكّرون بذلك، ولا يُقيمون له وزناً؛ فسُلطتهم نفعُها وثمارها إنّما تكون للناس خالصةً، كما رأينا في سلطة عليٍّ عليه السّلام! وجَاهُهُم إنّما هو الطاعة والخضوع الخالص لله سبحانه، وفي تواريخ الأولياء الكثيرُ من شواهد عدم اعتدادهم بالسلطة أو الجاه الظاهر بين الناس. ".."

وهكذا يكون الحقّ الاصطفائيّ؛ أيضاً، نظاماً مَعرفيّاً عمليّاً لا بديلَ له، بعد (عموميّته للناس كافّة)؛ من جهة، وعدم ما يسدّ مسدَّه؛ من جهة أخرى.

ثالثاً: أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ على الرغم من أنّه لا يكون إلّا بجَعلٍ من الله سبحانه، فإنّه لم يكن إلّا بعد الوفاء والإيفاء من قِبل المصطفى لهذا الحقّ! بل يَرتهن (بقاء هذا الحقّ) ببقاء الوفاء والإيفاء من قِبل المصطفَى.

وهكذا أيضاً، نعرف أنّ هذا الحقّ الاصطفائيّ هو النظامُ المعرفيُّ العمليُّ العامّ، الذي لا بديلَ له.

وبهذا الركن يصلُ النظام المعرفيّ الإلهيّ إلى آخر مفصلٍ من التهيئة والإعداد خطورةً ونِتاجاً؛ حيث توضَع (الموازنة الدقيقة) بين بقاء العطاء وتَصاعده من قِبل المولى سبحانه وبينَ ما يفي به (المُصطفى) من كلِّ مرحلةٍ وطورٍ في سلسلة استخلافهِ.

وهذا الركن لن نجدَ مَن يُمثّلهُ إلّا محمّدٌ وآله؛ صلوات الله عليهم. ".."

هذا كلّه في أنّ (الحقّ الاصطفائي) لسيّد الشهداء عليه السّلام؛ هو الحقُّ البَشريّ العامّ، الذي يمثّل النظامَ المعرفيَّ العمليَّ لإصلاح البشريّة؛ وصَدّ سبيلِ المفسدين.

فعبارة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» تشيرُ إلى ذلك.

ويمكن أن نضيف إلى (الدلائل على صاحب الحقّ):

القلب الطاهر- قلب الموالي- فإنّه لا محالةَ سيَجد ضالّتهُ وهواه في (الوليّ)؛ للتّلازم النوعيّ بينَهما. وليس دعاء إبراهيم ﴿.. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ..﴾ إبراهيم:37، لغَرضٍ غير نُصرةِ آلِ محمّدٍ بالمؤمنين؛ بالأفئدة الطّاهرة.

قال [الإمام السجّاد] عليه السّلام في دعائهِ: «اللَّهُمَّ يا مَنْ خَصَّ مُحَمَّداً وَآلَهُ بِالْكَرَامَةِ، وَحَباهُمْ بِالرِّسالَةِ، وَخَصَّصهُمْ بِالْوَسِيلَةِ، وَجَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الاَنْبِياءِ، وَخَتَمَ بِهِمُ الأوْصِياءَ وَالأئِمَّةَ، وَعَلَّمَهُمْ عِلْمَ ما كَانَ وَعِلمَ مَا بَقِيَ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ».

وعن معاوية بن وهب، قال: استأذنتُ على أبي عبد الله عليه السّلام فأَذِنَ لي، فسمعتُه يقول في كلامٍ له: «يا مَنْ خَصَّنا بِالوَصِيَّةِ وَأَعْطانا عِلْمَ ما مَضَى وَعِلْمَ ما بَقِيَ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوي إِلَيْنا وَجَعَلَنا وَرَثَةَ الأَنْبِياءِ».

هذا بحسب أصل الخِلقة، وأمّا بحسب واقع الإنسان – وقد خُرِّبَ القلبُ بشتّى أنواع العاهات – فالتّلازم النوعيّ لن يكونَ على ما هو عليه، وإنّما سيكون بالمقلوب؛ فيُنكر القلبُ المعلومةَ أو الشيء المنتسِب إلى المعروف، ويعرف المعلومة أو الشيء المنتسِب إلى المنكر."..".

فالتأكيد النبويّ على حُبِّ الآل الطاهر تأكيدٌ على فريضةٍ عُظمى؛ لأنّه تأكيدٌ وطلبٌ لتَطهير القلوب؛ إذ أنّ حُبَّهم؛ عليهم السلام، لا يكون إلّا في مثل هذه القلوب، فالحثُّ على حبّهم حثٌّ على تَطهير القلوب. "..".

وعلى هذا يكون حُبُّهم هو أصلُ الدين؛ لأنّه يَلزمُ منه اتّباعُ الله ومحَبَّته معاً.

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ آل عمران:31. وبالتدبّر: إنْ كُنتم تُحبّونَ اللهَ كما تَدّعون ... فاتّبعوني، وإنّكم لا تتّبعوني حتى تُحبّوني فأَحِبّوني، . ففي محبّتي اتّباعِي، وفي اتّباعِي اتّباعٌ لله ومحبّته، وإذا أحببتُم اللهَ واتّبعتموه أحبَّكم؛ وغفرَ لكم ذنوبَكم.

وعلى هذا الفهم يتّضح لنا الكثير من مفاهيم الروايات؛ لا سيّما الوارد منها في زيارة قبور أهل البيت عليهم السلام.

فمثلاً؛ ورد التأكيد – في روايات الزّيارة – على (إعلان الموالاة لسيّد الشهداء عليه السّلام)، فهل تظنّ أنّ ذلك لحاجةٍ في سيّد الشهداء لموالاتنا إيّاه؟ أبداً، إنّ ذلك لحاجةٍ فينا؛ فإنّ التأكيد على موالاته تكرارً ومراراً تأكيدٌ لنا على (اصطناع) موالاته شيئاً فشيئاً؛ حتّى يقذفَ الله في قلوبنا حُبَّه عليه السّلام؛ فتكون؛ حينئذٍ، موالاتنا له موالاةً حقيقيّة. وهذا معنى: «الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِصْباحُ الهُدَى».

وهذا (الاصطناع) لا يؤتي أُكُلَهُ المرجوّة إلّا إذا تزامن معه (تنظيف القلب) من [أدران المعاصي والتعلُّقات الباطلة]، التي تحولُ دونَ دخول أهل البيت الأطهار إلى القلب! لأنّ القلب لا يحبُّ ولا يبغضُ على نحو الحقيقة كلّاً من الحقِّ والباطل في آنٍ واحد! بل يُحبُّ أحدهما ويبغضُ الآخَر، أو أنّه لا يُحِبُّ الآخرَ أبداً.

وتنظيف القلب؛ غالباً، ما يكون بالتدريج ".." إنّ اتّساع المساحة المحرّرة [من القلب] لأجل (سيّد الشهداء) يؤدّي – بعد توفيقه سبحانه – إلى إزاحة تلك النقائض حقيقةً؛ ... حتى يكونَ القلبُ حُسينيّاً!

[أللّهمّ ارزُقنا].

* [نتائج]

* لماذا أكّدتِ الروايات على زيارتهِ عليه السّلام (عارِفاً بِحَقِّهِ)؟

يبدو أن ذلك أصبحَ واضحاً، من خلال:

أوّلاً: أنّ المعرفة – في القرآن والسُّنّة – هي نبراسُ مَن يُريد سلوكَ جادّة الحقّ، وبهذا ضُمِنَ للحقّ امتناعُهُ عن التزوير والتحريف؛ لأنّ كلَّ مَن حاول تحريفَه وتزويره كان منحرفاً في أصل مشروعه وحركته المعرفيّة؛ فيكون كذبُهُ ظاهراً؛ ﴿.. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..﴾ محمّد:30.

فمَن أراد الحقَّ فإنّهُ لا يجِدُ عن المعرفة بدلاً؛ فيكون صادقاً ومقبولاً على الدوام.

وهكذا مَن يُريد زيارة الحسين عليه السّلام بحسب حقيقتها فإنّه لا يجدُ عن المعرفة بدلاً.

ثانياً: أنّ المعرفة هي أساسُ الاعتقادات، التي هي ليست مجرّد معلومات وشعارات، وإنّما هي معلومات يُعقَدُ عليها القلب؛ لحُبِّه ومعرفته إيّاها، وزيارة الحسين عليه السّلام فهي إمّا أن تكون مجرّد شعار ومعلومات، وإمّا أن تكون معلومة عُقِدَ عليها القلب وأحبَّها، وهو ما لا يكون إلّا بالمعرفة بقلبٍ طاهرٍ.

ثالثاً: أنّ المعرفة هي الحدُّ الفاصل بين (التقليد والعبوديّة للهَوى والشيطان) وبين (الحكمة والعبوديّة لله سبحانه)؛ إذ بالمعرفة يَحتكِمُ الإنسان في حركتهِ إلى حقائق الأمور في نفسها؛ لانكشافها لديه، فيتعامل معها كما هي، بينما مَن يسلك غير طريق المعرفة لا يتعامل مع الأمور كما هي، وإنّما يتعامل معها على الفرض والتخمين، ولذا يكون دائماً على خطأ وضلال.

ولذا وردَ عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قد عرفَ الرسولَ بالرسالة، أي أنّه عليه السّلام عرفَ حدودَ الرسالة؛ أوّلاً؛ ثمّ وجدَها في رسول الله، لا العكس، كما هو دَيْدَن أهل الأهواء وقُرَناء الشيطان؛ فإبليس لم ينظر إلى كامل الخِلقة في الإنسان – وهو كونه مركّباً من الطِّين والروح – وإنّما نظر إلى آدم فرأى (الطِّين)؛ فقال: ﴿.. أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ الأعراف:12! فوقعَ في المعصية.

وهكذا في بقيّة الأمور؛ فالإمام يُعرَف بالإمامة، والرجال بالحقّ، كما ورد في الكلام المشهور المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَأَمّا المُحِقُّونَ فيَعْرِفُونَ الرِّجَالَ بِالحَقِّ، لا الحَقَّ بالرِّجَالِ».

وهكذا؛ نعرف أنّ فقرة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» تأكيدٌ على نهجٍ إلهيّ؛ بثَّهُ أهلُ البيت؛ عليهم السّلام، في روايات الزيارة، وهو أمرٌ كان ولا زال مهمّاً، بعد أن صار التقييمُ على الأُسس المعكوسة؛ وهذا من امتيازات هذه الروايات.

رابعاً: أنّ المعرفة من الأمور التي يُمكن أن تقُرَّ لدى الإنسان، بل يمكن إكسابُها للآخرين وتوريثُها لهم، وهو ما يضمن الحفاظ على استمرار (المعروف) وعدم اندثارِهِ بموت حامليهِ، بل حتّى الأمور الأخرى التي شجّعَ عليها الأئمة؛ عليهم السّلام، كالصَّبرِ على تخويف العدوّ وإرهابه؛ فإنّ ثبوته وثبوت آثاره الصالحة إنّما يكون بالمعرفة، وإلاّ فَقَدَ هذا الصَّبرُ محتواه الدينيّ وصار عبارةً عن تَحمُّلِ نِدٍّ إلى نِدٍّ.

خامساً: أنّ المعرفة كأساسٍ وعاملٍ رئيسٍ في حركة الإنسان ترسم حدودَ الأشياء وارتباطاتها بما يضمن – على الرغم من شَتاتنا وضياعنا وافتقارنا إلى الوجود الظاهر لحُجَّة الله عليه السّلام – الخيارات والمواقف السليمة إزاء ما يطرأ؛ يوميّاً، على الساحة الاجتماعية والفردية، فعبارة «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً» تتحدّث عن الوصف العامّ للمؤمن الزائر لا عن وصفه عند الزيارة وحسب؛ لأنّ انتهاجَ سبيل المعرفة لا يكون طارئاً آنيّاً، وإنّما هو بإعدادٍ وتهيئةٍ واسعةٍ ومتواصلةٍ؛ قَوامها التوفيق الإلهيّ لقلبٍ طاهرٍ ... فـ «مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عارِفاً بِحَقِّهِ» إنّما يُراد منه الوصف المستقرّ! لا الوصف الذي يُستعار لسُويعات التواجد في كربلاء.

إنَ أحاديث من قبيل «شِيعَتُنا مَنْ تَابَعَنَا وَلَمْ يُخَالِفْنَا» دالّة؛ بوضوح، على أنّهم، عليهم السّلام، عملوا على تهيئة شيعتهم وإعدادهم إعداداً معرفيّاً، لا في خصوص الزيارة، بل في جميع شؤونهم.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

22/10/2014

دوريات

نفحات