فكر ونظر

فكر ونظر

منذ يومين

فلسفة المواكب الحسينيّة


فلسفة المواكب الحسينيّة

عاشوراء كثقافة وحي وحرّيّة وتحرير

___ د. جويدة غانم* ___

قد يكون البحث والتقصّي عن مفاهيم الاستشهاد والتّضحية والفداء، أهمّ المنطلقات في إعادة قراءة الوقائع الحسينيّة والمحنة الكربلائيّة، في سياق معرفة مغزى الدّوافع الإلهيّة حيال معاني الحضور والغياب، لذلك الإنسان الذي يريد أن يتجاوز الظّواهر الصّوريّة في تحقيق الرّغبة التي ينقاد إليها عبر العقل المسدّد، وهو العقل الّذي لا ينفصل البتّة عن المعاني الأنتربولوجيّة والعرفانيّة الخاصّة، وعن الدّوافع الإلهيّة التي تمنحه قِيَماً سامية، وتجعل من التّجربة الاستشهاديّة قائمة في أعلى الدّرجات، هناك حيث يكون الإيمان راسخاً ولا يغادر صاحبه المعركة التّاريخيّة النّاشئة، معتمداً على خاصّيَّتَين أساسيّتَين:

الخاصّيّة الأولى: التّجميع: وهو عبّر عنه النّصّ والموروث في المراسم - الحسينيّة، وجعلها تبقى طويلاً كعلاماتٍ وآثار إيجابيّة حاصلة على مستوى الوجدان والفكر من دون أن تفقد وظيفتها. ذلك بأنّها استمرارٌ للوصل مع صراط الحقّ الذي يبلور في حدّ ذاته عقلاً، يحكم الصّراع بين قوى الخير والشّرّ.

حقائق عاشورائيّة

إنّ مشاهدتنا للسّير العاشورائيّ ومسيرته الضّخمة احتفالاً بمقتل سيّد الشّهداء عليه السّلام، تدفعنا إلى إعادة الاعتبار لهذه الشّخصيّة العظيمة في بطولتها وأخلاقها وإمكانيّاتها الرّوحيّة والمعنويّة التي أطلقت بالقوّة وبالفعل رسالة مفتوحة، تبيِّن لكلّ مستهترٍ جملة من الحقائق:                                                                        

أوّلاً: التّعريف بمعاني الحاكميّة الإلهيّة، التي تستدعي طوعاً إعادة تأسيس حاكميّة جديدة للضّمير. حيث ينفتح بهذا التّعريف المجال الأوسع لإنتاج معنى الفداء الحسينيّ في أفقه الجهاديّ والأخلاقيّ والحكميّ، وأنّ فهم الصّراع يتوخّى أشكالاً عدّة تعبّر عنها أو تعكسها لنا الثّلاثيّة المشهورة في الفكر العرفاني والأخلاقي، وهي:                              

-         التّخلّي: باعتباره تّخلُّصاً من الصّور السّالبة والارتداديّة للعقل وللخيال البشريّ الذي ينفتح إلى ما لا نهاية على التّصوّرات التّحيّزيّة المظلمة للحدث.

- التّحلّي: بجوامع الإرادة الفاعلة، والقدرة البنّاءة، لاحتواء المعاني السّامية للحقّ والعدالة في صورتها الظّاهرة والباطنة.                              

- التّجلّي: وهو العمل بقوانين التّكليف الشّرعيّ الذي تتحدّد ضمنه معاني الإخلاص لله، وللوطن وللجماعة، حيث تصير هذه المحدّدات سلوكاً واقعاً فعلاً للوحدة الجامعة.

ثانياً: لتنبيه أبناء الأمّة أنّ أمر التّفرّق، والاحتراب بين الشّعوب العربيّة والإسلاميّة وطوائفها، لا هو بأمرٍ إنسانيّ ولا دينيّ ربّانيّ أو رساليّ، وأنّ أمر الوحدة سيسود مهما بلغت قسوة المؤامرات، بما استجمعت الإرادات من قوّة ومن عزيمة تدرك في الوقت نفسه حكمة التّصرّف مع الأحداث، وقراءتها بالإيجاب لا بالسّلب.

ثالثاً: لتنبيه العالم وكلّ المستضعفين في أقطاره، أنّ دولة الظّلم ساعة ودولة الحقّ إلى قيام السّاعة.

رابعاً: ولحمل الشّهر المحرّم قداسته وانتصاراته سواء في انتصار موسى على فرعون الطّاغية، أو نصرة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله على المشركين، أو في نصرة الحسين عليه السّلام على الطّغاة والمستكبرين في مثل صورته المتّحديّة والمنتصرة للعدل والحقّ. إنّما ذلك كلّه مثابة رسالة للإنسانيّة كلّها مهما كان لونها وجنسها.

الظاهرة الحسينيّة والتوسيع المعرفي

أمّا الخاصّيّة الثّانية فهي التّوسيع: وهي ما تؤسّس له قاعدة الانتشار على أساس تمهيد ينطلق من منجزات مختلفة لفروع المعرفة، وذلك لفهم أعماق الظّاهرة الحضاريّة الحسينيّة وتلاؤمها مع التّوسّع المعرفي والثقافي عبر المجالس ورفع الرّايات، سواء للأنا الدّاخليّ، أو للضّمير الجمعيّ، أو للإنسانيّة قاطبة، بكلّ ما حملته الدّيانات من تسامح ومحبّة. فالقرآن الكريم لم يأتِ في خطابه الإلهيّ بمثل التّصنيف الجزافيّ للطّوائف الدينيّة خاصّة منها الإسلاميّة، ولا بالتّقسيم الجغرافيّ، ولا بالعداء والبغضاء حيال  ما يفهمه ويعتنقه الآخر من مسلّمات.                                               

ذلك أنّ التّعامل مع التّاريخ كوحدة إنسانيّة مترابطة ومتواصلة عبر الزّمن، يعمِّق في نفوسنا وعقولنا الوعي التّاريخيّ في إزالته للغموض، ويساهم في إزالة الخلل الكامن في البناء الاجتماعيّ، ويقضي على ما يسمّى بالوعي الطّفوليّ للتّاريخ.                                                                                 

وعلى غرار مواجهة الآلام والنّكائد الّتي ما فتئت تمزّق العالم الإسلاميّ، وبُنيته التّكوينيّة الجامعة في المنشأ والأصل، فإنّ الإصرار على مواصلة السّير في الإحياء الحضاري الحسيني يعني مواصلة المجابهة مع الأعداء، على غرار توجيه الدّرس من جديد ليفهم أنّ لغة المقاومة والتّحرير والاستشهاد، هي حقيقة ملحميّة مقدّسة، ومشرَّعة في التّراث الحضاريّ الإنسانيّ.                                                                  

الاستشهاد واستراتيجيّة التّحرير: وينطلق من فهم حقيقيّ للثّورة بمعناها العامّ والخاصّ، وهو الفهم الذي يتجذّر في كلّ إيديولوجيا دينيّة، أو سياسيّة، عبر التّاريخ البشريّ.

وإذا كان لنا أن نستقرئ هذا التّاريخ بتجاربه ودلالاته، فستبرز أمامنا خاصّيّتان ثقافيّتان:

الأولى ثقافة ذات خاصّيّة جاهليّة: وتجلّت في الإسلام المتعصّب للقول، وللحقيقة وللكرسيّ والسّلطان، ولكلّ مستبدٍّ لا ينظر بعين شاملة لكلّ الطّبقات الاجتماعيّة مهما كان مستوى تمركزها، وكلّ ذلك ضمن الإطار العامّ للوظيفة الاجتماعيّة والسّياسيّة والقياديّة، ولمفاهيم الطّاعة والولاء والانتماء.

الثّانية ثقافة ذات خاصيّة عادلة: ومثّلتها سياسة الإمام الحسين بن عليٍّ عليهما السّلام في المواجهة والصّبر، بل تجاوزها إلى ترسيخ فلسفة أخلاقيّة شكّلت الحدث الأعظم في إشاعة الخوف وعدم الثّبات عند قاتليه ومنتهكي حرماته، فارتبطت هذه الصّورة طوعاً مع فعل المقاومة في زماننا الحاليّ حيث يعدّ هذا العنصر من أهمّ مرتكزات هذا الفعل، سواء في استراتيجيّاتها القياديّة والخطابيّة والسّياسيّة، أو في محاورها الفنّيّة الشّعاريّة التي صيغت في مفردات اعتمدتها المقاومة وفقاً لنظريّة الجهاد الإسلاميّ الحقيقيّ، وقواعد التّحرير والثّورة، ومدى تحوّلات هذا المدّ في انتصار الكثير من أجهزة ومؤسّسات المقاومة الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ. وقد نشأ جرّاء ذلك مفهوم جديد للقوّة ينفتح على معاني النّصرة، والتّضامن، والتّراحم، في سياق وحدة جامعة في أهدافها وغاياتها. وهو ما يعيدنا مرّة أخرى إلى فهم البدايات والنّهايات في مجال التّصعيد الثوريّ، والإحياء الإيمانيّ الشّامل في هذه المناسبة العظيمة خياراً، وإرادةً، وشوقاً وبلوغاً للهدف. إنّ كلّ ذلك يحملنا، أفراداً وجماعات وبنية حضاريّة، على القول:                   

نحن في سير الحسين عليه السّلام ولو قُطِّعنا إرْباً                         

واتّباعاً لوصية سيّدنا الإمام عليّ عليه السّلام لولديه الحسن والحسين:                        

«كونا للظّالِمِ خَصْماً وَللمَظْلومِ عَوْناً».

 

من ذلك نستطيع أن نستخلص ثلاثة محاور لفلسفة المواكب الحسينيّة:

1- محور الحركة: من حيث امتدادها واستمرارها شعوريّاً، حيث تتلقّف مبادئ فقه العودة إلى البدايات على نحوٍ يؤسّس مرّة أخرى إلى تحوُّلٍ جديد في إدارة الأحداث من خلال الدّروس التي أفضت إليها ملحمة عاشوراء والمعاني التي ينبغي استلهامها منها.

2- محور الزّمان: وهو ما يستدعي دائماً مواجهة الظّالمين والمحتلّين في إطار استراتيجيّة فهم خاصّة، تفتح منطق علاقات الفعل، على أن تحدّد معنىً خاصّاً للحدث في إعادة تفعيل القيم والمعايير الأخلاقية التي يراد منها أن تكون عنواناً بارزاً للمؤسّسات ومختلف الرّوابط الفعليّة، بين النّصّ والمتغيّرات التّاريخيّة والثّقافيّة والسّياسيّة.

3- محور الإنسان: من حيث إعادة تشكيله وتكوينه وتهذيبه كشخصيّة تدرك معناها من خلال وجوده الأصيل، في تقرير مصيره، وصناعة التّاريخ بصوت واحدٍ، جامعاً لا مانعاً، موحِّداً لا مفرِّقاً، يتقصّى لحظات الانفراج التي تحملها أسمى المعاني لفلسفة المقاومة وسيكولوجية الشّهادة، حيث يجتاز هذا الإنسان مسافات لا مُتناهية لتحقيق حضوره الذّاتيّ ضمن المعركة التّاريخيّة التي سيجسّدها المظهر الخلاصيّ لعناوين الحق والباطل، عنوانه كالتّالي:         

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..﴾ الفتح:29

 

_____________________________

* باحثة في التّاريخ الإسلامي – الجزائر (مختصَر)

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ يومين

دوريات

نفحات