لا عقلانية ما بعد الحداثة

لا عقلانية ما بعد الحداثة

04/05/2011

وهم الحريّة في المجتمع الصناعي

 ـــ د. جاد مقدسي* ـــ

لعلّ أكثر ما امتاز به عصر التنوير في الغرب، أنّه وضع أمام مُفكِّريه وفلاسفته خيار القطيعة الصارمة بين العقل والخرافة. في ذلك الوقت، كانت المجادلات الفكريّة والفلسفيّة مركوزة ضمن دائرة حسم هذه الثنائيّة لمصلحة العقل. وكانت الحجّة البالغة لدى هؤلاء، أنّ حاكميّة العقل هي الشرط التاريخي الذي لا مناصّ منه لإطلاق حركة العلم والتصنيع ودورة رأس المال.
التسويغ الثقافي والإيديولوجي الذي تقاطعت حوله أفكار التنويريّين، هو قلْب ما كان شائعاً في مجتمعات القرون الوسطى، وتحويله الى نصابٍ آخرٍ. فقد جاءت الحصيلة المعرفيّة للحداثة، لتبيَّن أنّ الإنسان هو مركز الكون، بعدما احتلّته الخرافة والميتافيزيقا الدينيّة. ولكي نستظهر الصورة المُجْملة على حقيقتها، لنا أن ننطلق من وقائع القرن الثامن عشر في أوروبا، وهو القرن المعروف بعصر النهوض في الثقافة الفرنسيّة، وعصر التنوير في نظيرتها الإنكليزيّة. على أنّ اتجاه هذا العصر نحو العلم، ومن خلال الاعتماد الصارم على العقل في معرفة أسرار الكون الفيزيائي، وقوانين التاريخ السياسي والاجتماعي، هو من مفضيات الثورة العلميّة في القرن السابع عشر. ذلك ما ظهر مع «نيوتن» في ما عُرِف بالتفسير العقلاني العلمي للعالم. وهو الأمر الذي حفّز الفكر الاجتماعي على إطلاق طموحه ليُحَقّق ما حقّقه هذا الفيزيائي في ميدان الطبيعة.
لكنّ الثّقة بقدرة العقل على فهم قوانين الكون الطبيعي، تلازمت مع ثقة موازية  بقدرته على فهم حركة التاريخ، وقوانين التغيير التي تحكمها. وعلى ذلك، يمكننا أن نلحظ كيف كان هذا العصر، هو نفسه عصر الفكر الذي انبثقت منه الإيديولوجيّة الليبراليّة التي شرَّع لها «مونتسكيو» على صعيد الفكر السياسي. وهذا الأخير –على ما نعرف- هو المشرّع الذي يُنظر إليه بوصفه والد الإيديولوجيا العقلانيّة الليبراليّة في بُعدَيْها السياسي والدستوري. بل ثمّة من مضى إلى أنّه تخطّى العلاّمة ابن خلدون باقتراحه النظام اللازم لقوننة الحريّة، والحؤول في الآن عينه، دون استشراء الاستبداد. وهذا الاقتراح هو عين المبدأ القائل بفصل السلطات، باعتبار أنّ توحيد مركز السلطة سوف يؤدّي بالضرورة إلى واحديّة المنظومة السياسيّة الحاكِمة.
لم يدُم الانخطاف طويلاً بدهشة التنوير، فالعقل الذي اتّخذ سبيله لرعاية النظام العام للدولة والمجتمع، سوف يتّخذ سبيلاً معاكساً بعد وقتٍ قصير. لقد بانَ بوضوح، ولا سيّما بعد ظهور الدولة القوميّة، وسعيها إلى تمديد سيادتها خارج أرضها، أنّ اللّاعقلانيّة في الغرب الحديث، طفقت تحتلُّ المواقع الأساسيّة في عقل الدولة والمجتمع. ففي السنين الأولى للقرن العشرين، وتحديداً في العام 1920، عمّت التشاؤميّة في حقول الفكر والثقافة والفلسفة، لتعكس ظاهرة معرفيّة مفارقة في الغرب الأوروبي. ففيما كانت النُّخب في العالم الإسلامي مأخوذةً بسحر الحداثة وأنوارها، جاءتها عواصف مفاجئة من جغرافيّات الحداثة نفسها لتهتزّ معها طائفة وازنة من العناوين، التي دأبت على الأخذ بها كسبيل هادٍ لإنجاز حداثتها. لقد جاءت عواصف النقد لتُشير إلى رجوع العقل في الغرب إلى سيرته الغابرة، ثمّ ليستأنف مأزقه على نشأة أخرى. فلئن كانت الخرافة قد تراجعت أمام سطوة الحداثة، فإنّ هذه الأخيرة ستتعرَّض لضرباتٍ شديدة الإيلام من جانب تيّارات فلسفيّة عبَّرت عن نفسها بما يشبه الاحتجاج العبثي على باب الحداثة المسدود.
نستطيع أن نرى إلى هذا التّحوّل، من خلال ما قدّمه نقّاد التنوير من بيانات متشائمة. فلمّا أعلن هؤلاء  أنّ الحضارة الغربيّة انبنت على استراتيجيّة متفسَّخة، فقد ابتغوا بذلك الإشهار الصريح على أنّ تلك الحضارة آلت إلى سحق غرائز الإنسان الحيويّة، من خلال السيطرة على الطبيعة، وعلى الذّات، وعلى الآخرين.
قبل بضعة عقود، كان للمفكِّر المعروف «هربرت ماركوز» رؤية ثاقبة في تشكيل صورة دراميّة للمجتمع الصناعي الغربي. لقد تحدّث يومها عن مقولة الإنسان ذي البعد الواحد الذي أنتجه مجتمعُهُ ذو البعد الواحد. وهو لاحظ أنّ الإنسان في هذا المجتمع فَقَدَ «حقّه» في الحياة بمجرّد أن سلّم للمجتمع مقاليد أمره، إذ توهّم بأنّه يعيش الحريّة فيما هو يغرق في استلاب سحيق لا قاع له. وفي اعتقاده، أنّه إذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات المُصطنعة، فليس ذلك لأنّها شرط استمراره ونموّ انتاجيّته فحسب، بل أيضاً لأنّها خير وسيلة لاستيلاد الإنسان المسلوب، ذاك القابل بالمجتمع «الواحدي» والمُتكيَّف معه. الإنسان ذو البُعد الواحد بهذه المعايير، هو الذي استغنى عن الحريّة بوهم الحريّة. فلو ظنّ (هذا الإنسان) أنّه حرٌّ لمُجرَّد أنّه يستطيع اختيار حاجاته من بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات، فما أشبهُهُ من هذه الزاوية، بالعبد الذي يتوهّم أنّه حرٌّ لمُجرّد نيله حريّة اختيار سادته. (...) والمجتمع الصناعي –برأي ماركوز-  لم يُزيّف حاجات الإنسان الماديّة فحسب، بل زيَّف أيضاً حاجاته الفكريّة، أي عقله وفكره بالذّات. ذاك أنّ العقل الذي يتأمّل ويتفكّر هو في واقع حاله، عدوٌّ لدود لمجتمع السيطرة، لأنّه يمثل قوّة العقل النقديّة، السالبة، التي تتحرّك دوماً باتجاه ما يجب أن يكون، لا باتّجاه ما هو كائن. وهذه القوّة هي في خاتمة المطاف قوّة إيديولوجيّة، راحت سُلطة الحداثة تُوظّفها لخدمة إمبرياليّتها الصاعدة. ولئن كان المجتمع الليبرالي، ثمّ الما بعد ليبرالي، قد أحاط الإيديولوجيا بالإزدراء والتحقير باسم عقلانيّته التكنولوجيّة، أو بذريعة النظر إلى الحقائق بزعم أنّها تتبدّى له كضوء الشمس، فذلك لا يعني أنّه لم تَعُد هناك إيديولوجيا، أو أنّها أوشكت على أن تواجه موتها المحتوم...
لدى نقّاد الحداثة، ولدينا أيضاً، أنّ المدنيّة التقنيّة وهي في ذروة جنونها، باتت هي الإيديولوجيا بعينها. ولقد تبيّن من خلال ما شهدته أطوار القرن العشرين المُنصرم، أنّ أبرز وجوهها من هذه الزاوية، هو المذهب العملي في الفيزياء، والمذهب السلوكي في العلوم الاجتماعيّة، وصولاً إلى المذهب البراغماتي في حقول الإستراتيجيّات السياسيّة والاقتصاديّة. وإلى ذلك على الجملة، سوف نجد أنّ السِمة المشتركة الأساسيّة لتلك المذاهب هي الالتزام بالواقع المُعْطَى، ونبذ المفاهيم الشموليّة أو النقدية التي تُهدَّد بالكشف عن بُعد آخر لذلك الواقع.
أمّا الصورة الآن، فلا تُفْصِح إلّا عن جرعة يسيرة ممّا منحه لنا ميراثُ العقل. ولنا أنْ نقول إنّ منطق التحوّلات الذي افتتحته الحداثة الغربيّة منذ بداية القرن العشرين وإلى بداية زمن العولمة، لم يُسفِر إلّا عن إدخال الإنسان في لُجّة غير آمنة. وأمّا كارثة التحرُّر التي تحدّث عنها نقّاد الحداثة المعاصرة، خصوصاً بعد أفول البريق الإيديولوجي للشيوعيّة، فهي تلك التي راحت تدفع العالم إلى فضاء اللاّعقلانيّة بوسائط شديدة العقلانيّة. وهنا تكمُن على نحو خاص، قوّة المجتمع العولمي ذي البُعد الواحد: أي الطابع العقلاني للاعقلانيّته. بحيث ذهب هذا النّوع من «المجتمع العولمي» إلى تسويق ما عُرف بـ«الفكر الإيجابي» .. الفِكر الذي يُمَهَّد لسيرورة مديدة من الامتثال والإذعان وعدم الاحتجاج. ذلك بأن القبول بمثل هذا النوع من «الإيجابيّة» هو قبول قسري لا بحكم الإرهاب، وإنّما بفعل سلطة المجتمع التكنو-إلكتروني وفعاليّته الساحقة.
قد يتساءل واحدنا عن مبرَّرٍ لمثل هذه المُطارحة، في هذه الحقبة بالذّات. لكن ثمّة ما يُشبه الإجماع غير المُعلن في المجتمعات الغربيّة، وبين نُخبِنا على الأخصّ، على راهنيّة مراجعة ما يُسمّى بالأُطروحة العقلانيّة. فالكلام على المآل اللّاعقلاني لسلوك الحداثة في طورها المعاصر، لا يتعلّق فحسب، بالحيّز السياسي لهذا السلوك، بل هو مُتَّصل بالدّرجة الأولى، بما بلغه مسار التصدُّع الذي يحكُم منظومات التواصُل داخل منوّعات الحضارة البشريّة المُعاصرة.

* أكاديمي وباحث عربي - باريس

إِلَهَهُ هَوَاهُ
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ الفرقان:43

اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات