الفقيه الشهيد، «الفَتّال النَّيْسابُوري»

الفقيه الشهيد، «الفَتّال النَّيْسابُوري»

04/05/2011

متكلّم جليل القدر

إعداد: أكرم زيدان

الشيخ أبو علي، محمّد بن الحسن (ت 508 هجريّة) المعروف بالفتّال النيسابوري نسبة إلى موطنه «نيسابور» من بلاد خراسان، كما يُعرف بالفارسي. وأمّا لقبه الفتّال، فمعناه «البلبل»، والفَتْلُ شدْوُه، وربّما لُقّب بذلك لطلاقة لسانه وعُذوبة منطقِه.
عدّه معاصرُه الشيخ عبد الجليل القزويني في جملة أعلام الطائفة، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشريفين الرضي والمرتضى فقال: «وكلٌّ منهم كان مدرّساً، ومتكلّماً، وفقيهاً، وعالماً، ومُقرئاً، ومفسّراً، ومتديّناً وزاهداً».
اشتهر بـ(صاحب روضة الواعظين) وهو كتابه الوحيد الذي وصلنا، وقد اعتنى العلماء به عناية خاصّة، لمكانة مؤلّفه العلميّة، وفرادة منهجيّته، وشموله لأهمّ ما يحتاجه المؤمن في مختلف المجالات الثقافيّة.
عالم جليل، وفقيه كبير من الرعيل الأوّل بين كبار العلماء، لقي الله تعالى مخضّباً بدم الشهادة، في درب واجب المودّة في القربى، دفاعاً عن أهل البيت عليهم السلام.
ذكره الشيخ محمّد بن الحسن «الحرّ العاملي» في كتابه (أمل الآمل) ثلاث مرات، مرّةً بعنوان: الشيخ الشهيد محمّد بن أحمد الفارسي الفتّال، ثقة جليل له كتاب (روضة الواعظين). وثانيةً بعنوان: محمّد بن الحسن الفتّال الفارسي النيسابوري، له (التنوير في معاني التفسير) و(روضة الواعظين وبصيرة المتّعظين). وثالثةً بعنوان: الشيخ محمّد بن علي الفتّال النيسابوري صاحب التفسير، ثقة وأيّ ثقة، أخبرنا جماعة من الثقاة عنه بتفسيره. انتهى.
قال المحدّث الشيخ عباس القمّي في كتابه (الكنى والألقاب): «هو الشيخ الأجلّ، الشهيد السعيد، أبو علي محمّد بن الحسن، بن علي بن أحمد النيسابوري، المعروف بابن الفارسي، الحافظ الواعظ، صاحب كتابَي (روضة الواعظين) و(التنوير في التفسير)، كان من علماء المائة السادسة، ومن مشايخ ابن شهرآشوب، يروي عن الشيخ الطوسي، وعن أبيه الحسن بن علي، وعن السيد المرتضى رضي الله عنه».
وكلُّ من ذكَرَه وصفَه بما مرّ آنفاً، وقد اقتصرنا على الأقوال المتقدّمة رعاية للإختصار.

نَيسابور

هي «نيشابور» كما تُعرف الآن في إيران، قال الحموي في (معجم البلدان): «نَيسابور بفتح أوّله، والعامّة يُسمّونه نشاوور، وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء ومنبع العلماء، لم أرَ فيما طوّفتُ من البلاد مدينة كانت مثلها..».
وقد تشرّفتْ نيسابور بمرور الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام فيها أثناء توجّهه إلى مَرو عاصمة المأمون، وقد أوقفه علماؤها في جمهرة كبيرة من الناس ملتمسين منه أن يحدّثهم بحديث عن آبائه، عن رسول الله صلّى الله عليه وعليهم أجمعين، فحدّثهم بالحديث المعروف بحديث «سلسلة الذهب»، وقد ذكرت التواريخ أنه عُدَّ أهل المحابر والدويّ [جمع دواة] الذين حضروا لكتابة الحديث فأنافوا على عشرين ألفاً.
وفي «نيشابور» الآن مقام «قَدَمْكاه» أو «موضِع القدم»، وفي أحد جدارن هذا المقام صخرةٌ عليها أثرُ قدم، يُنقل أنّه أثر قدم الإمام الرضا عليه السلام، عندما توضّأ في هذا المكان، وهو مزار معروف تتوافد إليه أفواج الزائرين.
ومن الرواة والعلماء المشهورين بالنيسابوري:
- حمدان [أحمد] بن إسحاق النيسابوري، من أصحاب الامام الجواد عليه السلام.
- المتكلّم والفقيه الفضل بن شاذان النيسابوري، من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام.
- الحسين بن علي النيسابوري، من تلامذة الشيخ المفيد.
- فريد الدين النيسابوري المعروف بـ«الداماد».. وغيرهم كثير.

أساتذته

 لم يرد في التراجم ما يشير إلى أساتذة الشيخ الفتّال ولا تلامذته، ولكن يُستفاد أنّه قضى شطراً من عمره في بغداد، التي كانت آنذاك (القرن الخامس الهجري) محطّ أكابر العلماء وجامعة الإسلام، فهو قد روى عن الشريف المرتضى المتوفّى سنة 436 ه‍جريّة، وروى عن الشيخ الطوسي المتوفّى سنة 460 هجريّة، وروى عن أبيه الشيخ الحسن بن علي الفتّال، وعن عبد الجبار بن عبد الله الرازي فقية الرّي، وذو الفَخرَين المرتضى أبي الحسن المطهّر كما في (لسان الميزان) لإبن حجر.

الرواة عنه

أمّا من سمع منه، فالحافظ محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني المتوفّى سنة 588 ه‍ـ، وعليّ بن الحسن بن عبد الله النيسابوري. يقول ابن شهرآشوب في مقدمة كتابه (مناقب آل أبي طالب): «وحدثني الفتّال بـ (التنوير في معاني التفسير) وبكتاب (روضة الواعظين وبصيرة المتعظين)».

مكانته العلميّة

يؤكّد المكانة العلمية السامية لهذا العالم الجليل، ما قاله في التعريف به عالم معاصر له، وهو الشيخ عبد الجليل القزويني، حيث عدّه في جملة أعلام الطائفة، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشريفين الرضي والمرتضى ثم قال: «وكلٌّ منهم كان مدرّساً، ومتكلّماً، وفقيهاً، وعالماً، ومُقرئاً، ومفسّراً، ومتديّناً، وزاهداً».
وبناءً على هذا النص المُقتضب، الغنيّ بمخزون الدلالة على أبعاد شخصية الشهيد الفتَََّال، فمن الواضح أنه قدّس سرّه الشريف، في الرَّعيل الأول من كبار العلماء. ويمكن تعزيز ذلك -وإن كان لا يحتاج إلى التعزيز- بملاحظة العناصر الثلاثة التالية:
أ- المكانة العلميّة لشيوخه في الرواية.
ب- المكانة العلميّة لتلامذته الرواة عنه.
ج- عناية العلماء عبر القرون بما وصلنا من كُتبه، وهو كتاب (روضة الواعظين) إلى حدّ أنّ المؤلّف أصبح يُعرف بـ (صاحب روضة الواعظين) وهو أشهر ألقابه في المصادر المختلفة.

منهجه في التأليف

في ضوء النصوص التي تكشف على ندرتها بعض التفاصيل عن مكانته العلميّة السامية، سنقف عند منهج الشهيد الفتّال النيسابوري، كما يتّضح من كتابه الوحيد الذي وصلنا.
في مقدّمة كتاب (روضة الواعظين) وفي خاتمته نصّان، يُسلّطان الضوء على منهجيّة الشهيد في التأليف، وهي منهجية علميّة وعمليّة، تجمع بين الدقّة العقليّة، ويُسر التناول للمُتعلّمين، وتتبُّع المحاور التي تمسّ الحاجة إليها في العمل والتطبيق.
* حول تبويب الكتاب، وتتبُّعه ما تمسُّ الحاجة إليه، ممّا لم يجده مجتمعاً في المؤلّفات، قال رحمه الله: «..فإنّي كنت في عنفوان شبابي قد اتفقَتْ لي مجالس، وعرضت محافل، والناس يسألونني عن أصول الديانات، والفروع عنها في المقامات، فأجبتُهم عنها بجواب يكفيهم ومقال يشفيهم، فحاولوا منّي بالكلام في التذكير والزهد، والمواعظ والزواجر، والحِكم والآداب، فرجعتُ إلى كُتب أصحابنا، فما وجدت لهم كتاباً يشتمل على هذه المطلوبات، ويدور على جُمل هذه المذكورات، إلا متبتّرات في كُتبهم، وتفريقاتٌ في زُبُرهم، فهممتُ أن أجمع كتاباً يشتمل على بعض كلام الله تعالى، ويدور على محاسن أخبار النبي صلّى الله عليه وآله، ويحتوي على جواهر كلام الأئمّة عليهم السلام، وأُبوّبه أبواباً ومجالس، وأضع كلَّ جنسٍ موضعَه، فإنّه لم يسبقني أحد من أصحابنا إلى تأليف مثل هذا الكتاب..».
 * وحول المنهج الذي اعتمده في التبويب واختيار المضمون، يقول رحمه الله تعالى: «وإن ورد خبرٌ في هذا الكتاب يقتضي ظاهرُه مذهب الحشو والاختلاط، ينبغي أن يتأمّله الناظر ويتفكّر فيه، فإنْ عرف تأويلَه عرف معناه، وإنْ لم يظهر له معناه رجع إلى مَن عرف معناه ليُعرِّفه المرادَ به، فإنّ كلام النبيّ والأئمّة عليهم السلام ليس له مزيّة على كلام الله، فكلامُ الله تعالى لم يخلُ من المتشابه، فكذلك كلام النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام، لكنّه يرجع إلى مَن كان عالماً، حاذقاً، بصيراً بالأصول والفروع، واللغة والإعراب، حتى يتبيّن المراد ، فيعلم أنّه ليس بين كلام الله تعالى، والنبيّ والأئمّة عليهم السلام تناقضٌ سوى مَن كان من أهل الحشو، وقليل البضاعة في العلم، وأنا أذكر أمام هذا الكتاب طرَفاً من الأصول لأنّها المفزع، وإليها المرجع، بعد أن أذكر الكلام في العقول والعلوم، والله الموفّق للصواب، بمنّه ولطفه».
ثم يعود في آخر الكتاب إلى توكيد أنّه حقّق في النصوص التي أوردها، ولم يورد إلّا ما يعتقد بصحّته، وإذا كان ظاهره يُشعر بخلاف ذلك، فالسبب أنّه نصٌّ يجب التدبّر فيه، لتتّضح دلالته المُنسجمة مع الثوابت. قال رحمه الله تعالى: «وقد شرطنا في أوّل الكتاب ونبّهنا على أنّ أخباراً كثيرة وآثاراً جمّة، يقتضي ظاهرُها مذهب الحشو وخلاف الحقّ، ينبغي أن يتأمّلها الناظر ويتفكّر فيها، ويحملها على وجه يكون موافقاً للأصول ودلائل العقول، فإنّي لم أذكر شيئاً في هذا الكتاب من الخبر والأثر الذي يقتضي ظاهره مذهب الحشو حتّى كنتُ عالماً لمعناه قبل إيراده، لكنْ لم أذكر معناه لئلّا يطول به الكتاب، فينبغي أن لا يعتقد أحد أنّي كنت حشويّاً ومخلِّطا فإنّي رجلٌ مُحقِّق..».
وأهل الحشو الذين يبرأ المؤلّف من منهجهم، هم الذين يُعبّر عنهم الشيخ المفيد «أهل الحشو والتخليط» وهم الذين لا يُحقِّقون في النصوص، ويأخذون بالظاهر الذي لا يصمد أمام التحقيق والعرْضِ على سائر النصوص، وخصوصاً القرآن الكريم.

مؤلّفاته

1- (التنوير في معالم التفسير): وهو من الكتب المعتبرة عند الشيعة، وفى عداد تفاسيرهم المعتمد عليها، وقد ذكره الشيخ عبد الجليل في كتابه (النقض) وأطراه كثيراً، كما رواه الحافظ ابن شهرآشوب عن مؤلِّفه، أشار إلى ذلك في مقدّمة (المناقب).
2- (مؤنس الحزين): تفرّد ابن شهرآشوب بنقل رواية في (المناقب) عن كتاب اسمه (مؤنس الحزين) نسبه إلى الشيخ الفتّال يقول: «محمّد الفتّال النيسابوري في (مؤنس الحزين) بالإسناد عن عيسى بن الحسن عن الصادق قال بعضهم للحسن بن علي ..». ولعلّه غير كتاب (مؤنس الحزين في معرفة الحق واليقين) للشيخ الصدوق.
3- (روضة الواعظين وبصيرة المتّعظين): وهو الأثر الوحيد الباقي للشيخ الفتّال، وقلّما يُذكر المؤلّفُ دون أن يُذكر معه، وقد أثبته العلماء وأصحاب التراجم والمصنفات في كتبهم، ابتداءً من العلّامة ابن شهرآشوب الذي رواه عنه مباشرة وحتى يومنا هذا، وقد طُبع مرّات عدّة. يقول عنه العلّامة المجلسي في مقدّمة (بحار الأنوار): « كتاب (روضة الواعظين وتبصرة المتّعظين) للشيخ محمد [بن الحسن] بن علي بن أحمد الفارسي، وأخطأ جماعة ونسبوه إلى الشيخ المفيد، وقد صرّح بما ذكرناه [نسبة الكتاب إلى النيسابوري] ابن شهرآشوب في (المناقب)، والشيخ منتجب الدين في (الفهرست) ".."وعلى أيّ حال يظهر ممّا نقلنا جلالة المؤلف، وأنّ كتابه كان من الكتب المشهورة عند الشيعة».

شهادته

جاء في التواريخ عن شهادة الفتّال النيسابوري أنّه قتله أبو المحاسن عبد الرّزاق رئيس نيسابور الملقّب بشهاب الإسلام، وأنّه قتله على «الرفض». وفي ذلك يقول العلّامة الأميني في كتابه (شهداء الفضيلة): «وصرّح بشهادته وأطراه صاحب (الأمل) والعلّامة المجلسي والنوري وغيرهم، غير أنّي لم أقف على تاريخ شهادته تفصيلاً عدا ما في فهرست المكتبة الرضويّة من أنّه قُتل على التشيُّع».
وبالرجوع إلى المصادر، يظهر أنّ عبد الرزاق هذا، كان ابن أخ «نظام الملك» السلجوقي، وأنّه كان من قروم الأئمّة وفحول العلماء المشاهير، وكان مُظهراً للنُّسك والورع، إلى أن ولّاه السلطان «سنجر» مقاليد الوزارة، فتبدّلت أحواله وصار شارباًً للخمر منتهكاً للحرمات، ولم يُعلم إن كانت فتواه بقتل الشيخ الشهيد قبل أن يتولّى الوزارة أو بعد تولّيها، لأنّ المذكور في شهادة الشيخ أنّها كانت سنة 508، وأنّ تولّي عبد الرزاق للوزارة كان سنة 513 هجريّة.

مدفنه

جاء في (تاريخ نيسابور) في أسماء الذين لهم قبور معلومة فيها، ما ترجمته: «الشيخ محمّد الفتّال رحمه الله، وتربته في قِبلي مقبرة (خيرة) بنيسابور».
وبالرجوع إلى المصادر الفارسيّة الحديثة، لم يرد ذكرٌ لمقبرة (خيرة)، وإنّما إشارة موجزة لمقبرة (حيرة) بالحاء المهملة، وأنّها كانت تُعرف بمقبرة زياد بن نصر القاضي، وهي على مقربة من المقام المعروف اليوم باسم (إمامزاده محروق).


 

اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات