وصيَّة العلّامة الحلّي لولده

وصيَّة العلّامة الحلّي لولده

04/05/2011

إنّ الله لا يُسامح بكَسْرِ كَسِير

إعداد: علي حمود

«..عليك بحسن الخلق، وصلة الذريّة العلويّة، فإنّ الله تعالى قد أكّد الوصيّة فيهم، وجعل مودّتهم أجر الرسالة والإرشاد. وعليك بتعظيم الفقهاء، وتكرمة العلماء. وكثرةِ الاجتهاد في ازدياد العلم والفقه في الدين، وزُر قبري بقدر الإمكان، واقرأ عليه شيئاً من القرآن الكريم».

في آخر كتابه الفقهي المرجعي (قواعد الأحكام) كتب العلامة الحلّي، الحسن بن يوسف الأسدي (ت 726 هجريّة) قُدّس سرّه، وصيّة لولده فخر المحقّقين فقال:
إعلم يا بنيّ -أعانك الله تعالى على طاعته، ووفّقك الله لفعل الخير ومُلازمته، وأرشدك إلى ما يحبّه ويرضاه، وبلّغك ما تأمله من الخير وتتمنّاه، وأسعدك الله في الدارَين، وحباك بكلّ ما تقرّ به العين، ومدّ لك في العمر السعيد، والعيش الرغيد، وختم أعمالك بالصالحات، ورزقك أسباب السعادات، وأفاض عليك من عظائم البركات، ووقاك اللهُ كلَّ محذور، ودفع عنك الشرور- أنّي قد لخّصتُ لك في هذا الكتاب لبّ فتاوى الأحكام وبيّنت لك فيه قواعد الإسلام، بألفاظٍ مختصرة، وعبارةٍ مُحرّرة، وأوضحت لك فيه نهج الرشاد، وطريق السداد، وذلك بعد أن بلغتُ من العمر الخمسين، ودخلت في عشر الستّين، وقد حكم سيّد البرايا، بأنّها مبدأُ اعتراك المنايا، فإنْ حَكم الله تعالى عليّ فيها بأمره، وقضى فيها بقدره، وأنفذ ما حكم به على العباد، الحاضر منه والباد، فإنّي أُوصيك -كما افترضه الله تعالى عليّ من الوصية، وأمرني به حين إدراك المنيّة- بمُلازمة تقوى الله تعالى، فإنّها السُنّة القائمة، والفريضة اللازمة، والجُنّة الواقية، والعُدّة الباقية، وأنفع ما أعدّه الإنسان ليومٍ تَشْخَص فيه الأبصار، ويُعدم عنه الأنصار.

مكارم الأخلاق

وعليك باتّباع أوامر الله تعالى، وفعلِ ما يُرضيه، واجتناب ما يكرهه، والانزجار عن نواهيه، وقطع زمانك في تحصيل الكمالات النفسانيّة، وصرف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلميّة، والارتقاء عن حضيض النقصان إلى ذروة الكمال، والارتفاع إلى أوج العرفان عن مهبط الجُهّال، وبذل المعروف، ومساعدة الإخوان، ومقابلة المُسيئ بالإحسان، والمُحسن بالامتنان. وإيّاك ومصاحبة الأرذال، ومعاشرة الجهّال، فإنّها تفيد خُلُقاً ذميماً، وملكةً رديئة. بل عليك بملازمة العلماء ومجالسة الفضلاء، فإنّها تفيد استعداداً تامّاً لتحصيل الكمالات، وتُثمر لك مَلَكةً راسخة لاستنباط المجهولات. وَلْيَكن يومُك خيراً من أمسك، وعليك بالصبر والتوكُّل والرضا. وحاسب نفسك في كلّ يوم وليلة، وَأَكْثِر من الاستغفار لربّك، واتَّقِ دعاء المظلوم، خصوصاً اليتامى والعجائز، فإنّ الله لا يسامح بكسر كسير.
وعليك بصلاة الليل، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حثّ عليها، وندبَ إليها، وقال: «مَن خُتم له بقيام الليل ثمّ مات فَلَه الجنّة».
وعليك بصلة الرحم، فإنّها تزيد في العمر. وعليك بحسن الخُلق، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «إنّكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم فَسَعوهم بأخلاقكم».

مودّة الذريّة الطاهرة وإكرامها

وعليك بِصِلة الذريّة العلويّة، فإنّ الله تعالى قد أكّد الوصيّة فيهم، وجعل مودّتهم أجر الرسالة والإرشاد، فقال تعالى: ﴿.. قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى..﴾ الشورى:23. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّي شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجلٌ نصرَ ذريّتي، ورجلٌ بذل مالَه لذريّتي عند المضيق، ورجلٌ أحبّ ذريتي باللّسان والقلب، ورجلٌ سعى في حوائج ذريّتي إذا طُردوا وشُرِّدوا».
وقال الصادق عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أيّها الخلائق أَنْصِتوا، فإنّ محمّداً يُكلِّمُكم، فيُنصت الخلائق. فيقوم النبيّ صلّى الله عليه وآله فيقول: يا معشر الخلائق، مَن كانت له عندي يدٌ أو مِنَّة أو معروف فليَقُم حتّى أُكافئه. فيقولون: بآبائنا وأمّهاتنا، وأيّ يدٍ وأيّ مِنّة وأيّ معروف لنا؟! بل اليدُ والمِنَّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق. فيقول: بلى، من آوى أحداً من أهل بيتي، أو برَّهم، أو كساهم من عُري، أو أشبع جائعهم، فليَقُم حتّى أُكافئه. فيقوم أُناسٌ قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله: يا محمّد يا حبيبي، قد جعلتُ مكافأتهم إليك، فَأَسْكِنْهم من الجنّة حيث شئتَ، فيُسكنهم في الوسيلة حيث لا يُحجبون عن محمّدٍ وأهل بيته صلوات الله عليهم
».

التفقُّه وإكرام الفقهاء

وعليك بتعظيم الفقهاء، وتَكْرِمة العلماء، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «مَن أكرم فقيهاً مسلماً لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عنه راضٍ، ومَن أهان فقيهاً مسلماً لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان». وجعل [الله تعالى] النظر إلى وجه العلماء عبادة، والنظر إلى باب العالم، عبادة، ومجالسة العلماء عبادة. وعليك بكثرة الاجتهاد في ازدياد العلم والفقه في الدين، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لولده: «تفقّه في الدين، فإنّ الفقهاء وَرَثة الأنبياء، وإنّ طالب العلم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الطير في جوّ السماء والحوت في البحر، وإنّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضىً به».
وإيّاك وكتمان العلم ومنعه عن المستحقّين لِبذله، فإنّ الله تعالى يقول: ﴿إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ البقرة:159. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إذا ظهرت البدع في أمّتي فليُظهر العالم علمه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة الله»، وقال عليه السلام: «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم». وعليك بتلاوة الكتاب العزيز، والتفكّر في معانيه، وامتثال أوامره ونواهيه، وتتبُّع الأخبار النبويّة والآثار المحمّديّة، والبحث عن معانيها، واستقصاء النظر فيها، وقد وضعتُ لك كتباً متعدّدة في ذلك كلّه. هذا ما يرجع إليك.

ما طلبه لِنفسه قدّس سرّه

وأمّا ما يرجع إليّ ويعود نفعُه عليّ: فأنْ تتعهّدني بالترحُّم في بعض الأوقات، وأن تُهدي إليّ ثواب بعض الطاعات، ولا تُقلِّل من ذكري فينسبَك أهلُ الوفاء إلى الغدر، ولا تُكثر من ذكري فينسبك أهل الغرم إلى العجز، بل اذكرني في خَلواتك وعقيب صلواتك، واقضِ ما عليّ من الديون الواجبة والتعهّدات اللازمة، وزُر قبري بقدر الإمكان، واقرأ عليه شيئاً من القرآن. وكلّ كتاب صنّفته، وحكم الله تعالى بأمره قبل إتمامه، فَأَكْمِله وأصلح ما تجده من الخلل والنقصان والخطأ والنسيان. هذه وصيّتي إليك، والله خليفتي عليك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، والله أعلم بالصواب.

اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات