«إسرائيل» الخائفة من عقلانيّة أعدائها

«إسرائيل» الخائفة من عقلانيّة أعدائها

04/05/2011

«والشعب يريد إنهاء الاحتلال»

كريم عبد الرحمن*

أكثر ما يخشاه «الإسرائيليّون» وهم يرقبون مسار التحوّلات الثوريّة في العالم العربي، هو أن يعود الفلسطينيّون إلى العمل وفق منطق الانتفاضة الأولى أواخر الثمانينات. يومذاك استطاع شعب فلسطين أن يُبدع مقاومة عطَّلت الآلة العسكريّة الضخمة «لإسرائيل»، ووضعت دولة الاحتلال أمام خيارات سياسيّة وأمنيّة شديدة الخطورة.
ومع أنّ القيادة «الإسرائيليّة» انصرفت على مدى عقدين من الزمن إلى إجراء عمليّات احتواء متعدّدة الأنساق والتقنيّات حيال الانتفاضة، إلّا أنّ المخاوف الاستراتيجيّة من استئناف ثورة الحجارة، بالتّزامن مع التحوّلات الحاصلة في الأمن الإقليمي، تبدو الآن في ذروتها. والتساؤل الذي يشغل مدارات التفكير في «إسرائيل» اليوم، يجري في الاتجاه الذي يمكن أن يتوحّد فيه فلسطينيّو غزّة والضفة، إلى فلسطينيِّي أراضي 48، تحت شعار مركزي هو «شعب فلسطين يريد إنهاء الاحتلال».
أمّا السؤال الذي يُتداول بزخم خاص في الوسط الفكري «الإسرائيلي»، فيتركّز على الخيارات الممكنة التي سوف تعتمدها دولة تقوم على خاصيّة الاستيطان والاحتلال، حيال شعب يريد خوض حرب استنزاف طويلة الأمد بالصدور العارية؟ الخشية «الإسرائيليّة» من مآل متوقّع كهذا، لا تتأتّى من النظر إلى ثورة حجارة جديدة بوصفها نسخة مكرّرة عن سابقاتها، بل في اندراجها ضمن سلسلة متّصلة من الثورات والانتفاضات أسقطت أنظمة وحكومات، يعتبرها «الإسرائيليّون» شريكاً استراتيجيّاً في أمنهم  القومي والإقليمي. وما يضاعف من مثل هذه المخاوف، هو الحضور الوازن لميراث الخسارات التي مرّت بها «إسرائيل» في خلال العقدَين المُنصرمَين. لذا سنرى كيف أن التنظير «الإسرائيلي» ذا الطابع التشاؤمي راح يتّكئ على جملة من الحقائق السوسيو-ثقافيّة والنفسيّة، ستكون لها فعاليّة حاسمة في سياق البحث عن سبب الإخفاق في المواجهات المديدة مع الشعب الفلسطيني.
أساس هذا التنظير ينطلق من أطروحة مفادها «إنّ الضعفاء هم غالباً ما يكونون الأكثر عقلانيّة».
وبيان ذلك -حسب عدد من المفكِّرين «الإسرائيليّين»- أنّ الضّعفاء، وهم يواجهون القوّة العاتية، يقيسون موازين القوى بمعايير أكثر دقّة ممّا يقيس به المنتصرون.
يقول الجنرال «الإسرائيلي» المتقاعد فان كريفيلد في هذا الصّدد: «عندما كنّا ضعفاء في الماضي، كنّا عقلاء وجسورين فحقَّقنا الانتصار. لكنّ تحولات جذريّة طرأت على الصراع لتصبح المعادلة مقلوبة تماماً. فلقد بدأت المشكلة في لبنان عندما باشرنا بقتال من هم أضعف منّا. ومنذ ذلك الوقت ونحن نمضي من فشل إلى آخر».
الخط الانحداري الذي بلغ مع حرب تموز 2006 مستويات أكثر عمقاً ممّا كان يتوقّعه كثير من علماء المستقبليّات في «إسرائيل»، أخذ يكمل مساره المدوِّي في تجربة‌ الحرب على‌ غزّة عام 2009. لذا لن يكون من الغلوّ في شيء، حين ينبري جمعٌ من الباحثين «الإسرائيليّين» إلى حدّ القول أنّه إذا استمرّت الأمور على هذا النحو، فسوف نصل إلى مرحلة تنهار فيها دولة «إسرائيل».
لدينا أيضاً مشهد آخر من الكلام الساري في  فضاء التشاؤم. فلقد مضى الكاتب السياسي «الإسرائيلي» أهارون لبرون قبل سنوات ليطرح في كثير من المرارة التساؤل الحادّ، عمّا إذا كانت «إسرائيل» هي حقاً قويّة بالصورة التي تجعلها صاحبة النهي والأمر في محيطها. وهو إذ يجيب بأنَّ «إسرائيل» هي حقّاً قويّة من الناحية العسكريّة، فلا يسعه إلاَّ أن يرثي أحوال هذه القوّة ما دامت برأيه غير قابلة للاستعمال.
مثل هذا الشعور يجري التعامل معه الآن، كأحد أكثر الزوايا الحادّة التي يجد فيها «الإسرائيليّون» أنّهم أسرى جدرانها المغلقة. في الماضي القريب، لم يكن ثمّة مشكلة تطرح نفسها على هذا النحو. كانت القوّة قابلة للاستخدام في أيّة لحظة ضد عرب الأراضي المحتلة العام 1967، وضد فلسطينيّي 1948، ناهيك عن الحروب والمعارك الخاطفة التي اعتاد أن يشنّها الجيش «الإسرائيلي» في جنوب لبنان. وليس من شكّ في أنَّ الوعي «الإسرائيلي» سيمتلئ على مدى أكثر من نصف قرن، بحقيقة أنَّ لدى «إسرائيل» من القوّة ما يُمكّنها من إحراز الانتصار بيُسر نادر، وأنَّ مبدأ القوّة واستعماله حين الضرورة -سواء كتدبير احترازي أو كقوّة ردع في أيّ حرب محتملة- هو المبدأ الذي يستحيل على الدولة العبريّة أن تتجاهله لو هي قرّرت البقاء في منطقة مملوءة بالأعداء. غير أنَّ هذه الحقيقة سوف تأخذ مساراً معاكساً على امتداد العقدين المنصرمين. فهنالك قطاعات وازنة في المجتمع «الإسرائيلي» تلاحظ حقيقة رسّختها تجارب الحروب الماضية، وهي اللَّاجدوى من استخدام قوى الحرب الكلاسيكيّة. ولقد أعطت الانتفاضة الفلسطينيّة نماذج أكيدة على الشلل الذي يصيب الآلة العسكريّة «الإسرائيليّة» جرّاء استخدام سلاح شعبي، لم تعتد «إسرائيل» على مواجهته منذ قيامها. ويعترف كثيرون من السياسيّين والخبراء بواقع أنّ «إسرائيل» لم تُظهر أيّ استعداد حقيقي لمكافحة الانتفاضة، فضلاً عن العمليّات الفدائيّة داخل ما يُسمّى «الخط الأخضر»، أو على خطوط إمداد الجيش في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة.
ومِن «الإسرائيليّين» مَن يرى أنّ الإثبات البسيط لعدم كون «إسرائيل» قادرة على صناعة الزمن السياسي في المنطقة، هو الحقيقة التي لم تعد تخفى على أحد: فشل منطق القوّة في إنهاء الانتفاضة. فلو كانت «إسرائيل» لا تزال تملك حقيقة القوّة، لاستطاعت كسب معركة استنزاف مروِّعة فُرِضت عليها فرضاً منذ الثمانينيات.
 أكثر من ذلك، فإنَّ مِن هؤلاء مَنْ وجد أنّ مِن نتائج الانتفاضة أن استطاع الفلسطينيّون، ولأوّل مرّة، فرض إرادتهم على «إسرائيل»، وتالياً إجبارها -وإن بطريقة غير مكشوفة- على الانسحاب القسري من غزّة، والتفكير بالأمر نفسه في الضفة الغربيّة. ويعترف كثيرون منهم اليوم بأنَّ المُعادين «لإسرائيل» اكتسبوا معارف سياسيّة وأمنيّة فائقة الخطورة، وتتمثَّل بظهور نقاط ضعفها على نحوٍ بيّن. فما لا يُشكُّ فيه، أنّ السجال «الإسرائيلي» الحالي حول قوّة وضعف «إسرائيل» بات يتوسّع باستمرار. ومع هذا التوسُّع تراكمت نزعات التشكيك ضمن مسار دراماتيكي، راحت معه الدولة اليهوديّة تفتقد عوامل القوّة التقليديّة.
على أنّ التحوّل الجيو-استراتيجي منذ احتلال العراق، إلى إخفاقها المدِّوي في لبنان وغزّة، سوف يشكِّل مانعاً جديّاً من التفكير في شنِّ حرب تُعيد التوازن والتماسك لمجتمعها السياسي والعسكري والمدني. والواضح أنّ أحد أبرز الأسباب المُستدعية للخوف لدى «الإسرائيليّين»، هوالتصدُّع الذي أصاب كتلتهم التاريخيّة.
في الماضي مثلاً، كان التشكيك في عمل وأداء القيادتين السياسيّة والعسكريّة يُعتبر عاملاً مهمّاً في إعادة ترميم التصدّعات ومناطق الخلل. أمّا الآن، فقد تعرّضت ما يسمّى بـ«الغريزة القوميّة الجماعيّة» إلى ضرب من الاهتزاز نتيجة المراجعات الذاتيّة، متزامنة مع نشوء مناخات عارمة توحي بنهاية تاريخ كامل من اقتدار الظاهرة «الإسرائيليّة».
واقع الحال أنَّ «إسرائيل» تعيش الآن على آثار مقولة الاحتلال التي بلغت حدّ الإشباع. فمفهوم التوسُّع، خارج ما يُسمَّى «إسرائيل الصغرى»، لم يعد حقيقة إيديولوجيّة قابلة للتنظير، مثلما لم يعد حقيقة سياسيّة قابلة للتطبيق ... بل يبدو أنّه يتراجع إلى الداخل، معبِّراً عن نفسه بتصعيد لاعقلاني وغير مسبوق في حركة الاستيطان. وهكذا ظهر مفهوم التوسُّع، وكأنّه يولد على نشأة أخرى مؤدَّاها: استحالة عودة نظريّة الاحتلال من خلال تقنيّات الحروب الفائقة القدرة.
بعد ثورات الشارع العربي، بدت الصورة «الإسرائيليّة» تتموضع في مكان مفارق. ففي هذا التموضع غير القابل للاستقرار في القريب المنظور، لا يجد «الإسرائيليّون» أنفسهم إلاّ أنّهم أمام اختبار مرير مع شعب يريد إنهاء الاحتلال.

* باحث في القضايا الاقليميّة
 


اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات