الملف

الملف

منذ أسبوع

«لَتَتَّبِعُنّ سَنَن مَن كان قَبْلَكم..» منهجٌ نبويٌّ لتحصين الأجيال



اقرأ في الملف

استهلال: ..سَنَن مَن كان من قبلكم                     من حديث الإمام الصّادق عليه السّلام

روايات حول اتّباع سنن الأمم السّابقة                                    إعداد: «شعائر»

تحصين الأجيال من التّحريف والانحراف                                 الشيخ حسين كوراني

المسلمون واقتداؤهم باليهود والنّصارى                                          أ. عبير ياسين

 


استهلال

سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم

عَن حنان بن سدير، عن أبيه ، عن أبي عبد الله الصّادق عليه السلام:

 قال: إنّ للقَايم منّا غَيبَةً يَطولُ أَمَدُهَا.

 فقلتُ له: وَلِمَ ذاكَ يا ابنَ رسولِ الله؟

قال: إنّ اللهَ عزّ وجلّ أبى إلّا أن يُجريَ فيه سَنَنَ الأنبياء عليهم

السّلام في غَيباتهم، وإنّه لا بدّ له يا "سَدِير" من

استيفاء مُدَدِ غَيباتِهم

 قال الله عزّ وجلّ: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ أي سَنَناً عَلَى سَنَنِ مَن

كانَ قَبلَكم.

الشيخ الصّدوق ، عِلَل الشرائع: ج 1/ ص 245

«باب قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَن كانَ قبلَكم»


روايات حول اتّباع سَنَن الأمم السّابقة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تضعنا الروايات التالية أمام منهجٍ نبويٍّ في تحصين الأجيال المسلمة من خلال دعوة الفرد والجماعة إلى النظر والتفكير وحُسن الاعتبار بما جرى على الأُمم السابقة.

تتبّعت «شعائر» روايات هذا الباب في عددٍ وافر من أبرز المصادر الإسلامية واختارت هذا الحشد من الروايات.

 

رواية البخاري

 
1)
«عن أبي هُريرة ".." عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى تَأْخُذَ أُمَّتي بِأَخْذِ القُرونِ قَبْلَها، شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ، فقيل: يا رسول الله كفَارس والروم؟ فقال: وَمَنِ النّاسُ إِلّا أُولَئِكَ؟».

2) «عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: لَتَتَّبِعُنَّ [وفي رواية لَتَتْبَعُنَّ] سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهُمْ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قالَ: فَمَنْ؟». [الضّبُّ حيوان من الزّواحف يشبه التّمساح، يعيش في الصّحاري والبراري]

(صحيح البخاري: ج 8/ ص 151)

رواية أحمد بن حنبل

* «عن أبي هُريرة أنّ النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتموهُ».

(مسند أحمد: ج 2/ ص 511)

رواية الترمذي


* «.. عن أبي واقدٍ اللّيثيِّ: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا خرج إلى حُنَيْنٍ مرّ بشجرة للمشركين يقال لها ذات أَنْوَاط
[الأنواط: المعاليق] يُعلّقون عليها أسلحتَهم، قالوا: يا رسول الله، (اجعل) لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: سُبْحانَ اللهِ، هَذا كَما قالَ قَوْمُ موسى: ﴿.. اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ..﴾، وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ). هذا حديث حسنٌ صحيح».

(سَنَن الترمذي: ج 3/ ص 322، باب لتَركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ)

[ذاتُ أَنواطٍ: شجرة كانت تُعبد في الجاهليّة؛ قال ابن الأَثير: هي اسم سَمُرةٍ بعينها كانت للمشركين يَنُوطون بها سِلاحَهُم، أَي يعلِّقونه بها ويَعْكُفون حولَها]

 الحاكم النيسابوري

* «.. عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: (لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّريقِ لَفَعَلْتُموهُ). صحيح».

(المستدرك: ج 4/ ص 455)

رواية الهيثمي

1) «عن سهل بن سعد الأنصاري، عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: (وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مِثْلاً بِمِثْلٍ). رواه أحمد والطبراني بنحوه، وزاد: (حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبْعْتُموهُ).
 قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فَمَنْ إِلّا اليَهودُ وَالنَّصارى؟!).

وفي إسناد أحمد: ابن لهيعة، وفيه ضعف. وفي إسناد الطّبراني: يحيى بن عثمان عن أبي حازم، ولم أعرفه، وبقيّة رجالهما ثقات».

2) «وعن شدّاد بن أوس، عن حديث رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: (لَيُحْمَلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ). رواه أحمد والطّبراني، ورجاله مختلف فيهم».

3) «وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: (لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ وَباعاً ببَاعٍ، حَتّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُمْ). رواه البزّار ورجاله ثقات».

4) «وعن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: (أنْتُمْ أَشْبَهُ الأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لَتَرْكَبُنَّ طَرِيقَتَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لا يَكُونَ فِيهِمْ شَيْءٌ إِلا كَانَ فِيكُمْ مِثْلُهُ، حَتَّى إِنَّ الْقَوْمَ لَتَمُرُّ عَلَيْهِمُ الْمَرْأَةُ فَيَقُومُ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ فَيُجَامِعُهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ). رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه».

5) «وعن المُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدّادٍ أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: (لا تَتْرُكُ هَذِهِ الأُمَّةُ شَيْئاً مِنْ سَنَنِ الأَوَلَّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُ). رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات».

(مجمع الزوائد: ج 7/ ص 261، بابٌ منه في اتّباع سَنَن من مضى)

 رواية ابن أبي عاصم

1)  «".." عن أبي هُريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: (سَتَتَّبِعونَ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ وَباعاً ببَاعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فيهِ)، قالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن إذاً؟!).

* إسنادُه حَسَن، رجاله ثقات رجال الشّيخَين، لكنّهما لم يحتجّا بمحمّد بن عمرو، وهو حسن الحديث كما تقدّم.
والحديث أخرجه أحمد وابن ماجة من هذا الوجه. وهو صحيح، فإنّ له شواهد كثيرة، بعضها في (الصّحيحَين) كما يأتي (74 -75)، وله بعد هذا شاهد من حديث ابن عمرو، وآخر من حديث ابن عبّاس خرّجته في (الصحيحة 1348)».

 2) «عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ وَباعاً ببَاعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبَعْتموهُ). قالوا: يا رسول الله مَن؟ اليهود والنصارى؟ قال: (فَمَنْ إذاً؟!).

* إسنادُه حَسَن، ورجاله ثقات، على الخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص. وابن أبي حازم اسمه عبد العزيز، واسم أبيه سلمة بن دينار. والحديث صحيح بشواهده المتقدّمة والآتية».

3) «عن أبي سعيد الخدريّ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال: (لَتَتَّبِعُنَّ [لَتَتْبَعُنَّ] سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُموهُ)، قالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، من اليهود والنصارى؟ قال: (فَمَنْ إِذاً؟!).

* إسناده صحيح، رجاله كلّهم ثقات على شرط الشيخَين غير محمّد بن عوف وهو ثقة حافظ مات سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين ومائتين. والحديث أخرجه أحمد (3/84 و89 و94) والشيخان".." من طرق عن يزيد بن أسلم به. وهو مخرج في تعليقي على (إصلاح المساجد) للعلّامة القاسميّ رقم (31)».

4) «".." عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: مثله. إسناده صحيح على شرط الشيخَين غير سلَمة وهو ابن شبيب النيسابوري، فلم يروِ له البخاري وهو من الثقات المتّفق على إتقانه وصِدقه، مات سنة 47. والحديث مكرّر ما قبله».

 5) «".." عن سنان بن أبي سنان أنه سمع أبا واقد الليثيّ، يقول: (خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى حُنين، ونحن حديثو عهد بكفرٍ - وكانوا أسلموا يوم الفتح - قال: فمررنا بشجرةٍ فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ نواط كما لهم ذات أنواط، وكان (للكفّار) سِدرة [السِّدْرُ شجر النّبق واحدتها سِدْرَة] يعكفون حولها، ويعلّقون بها أسلحتَهم يدعُونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: (اللهُ أَكْبَرُ، وَقُلْتُمْ، وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ، كَما قالَتْ بَنو إِسْرائيلَ لِموسى: ﴿..اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ الأعراف:138، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ).

- ورواه ابن عيينة ومالك أيضاً- إسناده حَسَن. رجاله ثقات رجال الشيخَين غير يعقوب بن حُمَيْدٍ، وهو ثقة فيه ضعفٌ يسير، وقد توبِع كما يأتي، فالحديث صحيح.

* والحديث أخرجه الترمذي (2/27-28) وأحمد (5/218) من طرق أخرى عن الزهريّ به. وقال الترمذي: حديث حَسَنٌ صحيح».

(السنّة: ص 36)

«شعائر»: ليلاحَظ أنّ الشرح الآتي للمباركفوري هو شرح لهذ الحديث الذي أخرجه الترمذي وقال عنه: حسنٌ صحيح.

شرح المباركفوري لرواية الترمذي

1) «قوله: (عن سنان بن أبي سنان): الدِّيلِيِّ المدنيّ ثقة، من الثالثة. عن أبي واقد الليثيّ صحابيّ قيل اسمه الحارث بن مالك، وقيل ابن عوف، وقيل عوف بن الحارث.

2) قوله: (لمّا خرج): أي عن مكّة كما في رواية لأحمد. (إلى حُنين): كزُبَير، موضعٌ بين الطّائف ومكّة.

3) [قوله]: (يقال لها ذات أنواط):

قال الجزريّ في (النهاية): هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحَهم، أي يعلّقونه بها ويعكفون حولها، فسألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك؛ وأنواط جمع نوط وهو مصدر سُمّي به المنوط. انتهى.

4) [قوله]: (سبحان الله): تنزيهاً وتعجّباً. (هذا) أي هذا القول منكم، (كما قال قوم موسى): ﴿..اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ..﴾ الأعراف:138.

لكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت المستفاد من التشبيه حيث يكون المشبّه به أقوى (لَتَرْكَبُنَّ)، بِضَمّ المُوَحَّدَةِ، والمعنى لتتبعنّ (سُنَّةَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ)، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهُمْ)، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمَن؟). ورواه الحاكم عن ابن عباس وفي آخره: (وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّريقِ لَفَعَلْتُموهُ).

قال المناوي: إسناده صحيح والسّنّة لغةً، الطّريقة؛ حَسَنة كانت أو سيّئة، والمراد هنا طريقة أهل (الأهواء) والبِدع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم من تغيير دينهم وتحريف كتابهم كما أتى على بني إسرائيل حذوَ النّعل بالنّعل.

وقال النّووي: المراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فقد وقع ما أخبر به صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. انتهى

[«شعائر»: لا وجه لاستثناء المناوي الكفر، بقوله: والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر، لأنّ الكفر وقع في الأُمم السابقة وهو يدخل تحت عمومات هذه النّصوص، ودليله تصريح القرآن الكريم بعبادة اليهود «العِجل»]

5) قوله: (هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح): وأخرجه أحمد في (مسنده) قوله: (وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة)، أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان وقد تقدّم لفظه، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً: (لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى تَأْخُذَ أُمَّتي بِأَخْذِ القُرونِ قَبْلَها، شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ)، فقيل: يا رسول الله، كفارس والرّوم؟ قال، وَمَنِ النّاسِ إِلّا أُولَئِكَ؟)».

(تحفة الآحوذي بشرح جامع الترمذي: ج 6/ ص 340،   باب ما جاء لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ)

رواية الطبري الإمامي

* «قال صلّى الله عليه وآله: لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ، فقيل: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فَمَنْ أَرَى؟».

(المسترشد: ص 229)

رواية السيد ابن طاوس

* «ومن ذلك ما ذكره صاحب (الكشّاف) في تفسير قوله تعالى: ﴿..وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ المائدة:44. عن حذيفة، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: وَأَنْتُمْ أَشْبَهُ الأُمَمِ سَمْتاً بِبَني إِسْرائيلَ، لَتَرْكَبُنَّ طَريقَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، غَيْرَ أَنّي لا أَدْري أَتَعْبُدونَ العِجْلَ أَمْ لا؟».

(الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ص 380)

﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ

هل هي بمعنى: لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ؟

* الطّبَق في اللّغة له مَعنيان:

أحدهما: ما طابقَ غيره. يقال: هَذا طَبَقٌ لِهَذا، إذا طابقه.

والآخر: جمع طبقة.

فعلى الأوّل: يكون المعنى لتركبُنّ حالاً بعد حالٍ، كلّ واحدة منها مطابقة للأخرى.

وعلى الثاني: يكون المعنى لتركبُنّ أحوالاً بعد أحوالٍ، هي طبقاتٌ بعضها فوق بعض.

ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال، وفي قراءة «تركبنّ»:

فأمّا مَن قرأ بضم الباء فهو خطابٌ لجنس الإنسان.

وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال:

أحدها أنّها: شدائد الموت، ثمّ البعث، ثمّ الحساب، ثمّ الجزاء.

والآخر أنّها: كون الإنسان نطفة، ثم علَقَة، إلى أن يخرج إلى الدنيا، ثمّ إلى أن يهرم، ثمّ يموت.

والثالث: لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ.

وأما من قرأ «تركبنّ» بفتح الباء فهو خطابٌ للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا، وقيل: هي خطاب للنبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال:

أحدها: لتركبَنّ مكابدة الكفار حالاً بعد حال.

والآخر: لتركبَنّ فتح البلاد شيئاً بعد شيء.

والثالث: لتركبَنّ السّماوات في الإسراء [سماء] بعد سماء. وقوله: ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾ في موضع الصِّفة لــ ﴿طَبَقَاً﴾، أو في موضع حال من الضمير في تركبنّ، قاله الزمخشري.

(الغرناطي الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل: ج 2/ ص 466)

 

الروايات في تقويم العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه

قال السيد الطباطبائي في (تفسير الميزان: ج 12/ ص 110):

«ورد (في) الروايات أنه يقع في هذه الأُمّة ما وقع في بني إسرائيل حَذْوَ النّعل بالنّعل والقُذّة بالقُذّة "..".

والرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدري كما مرّ، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عبّاس، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، وسهل بن سعد، وعمر بن عوف، وعمرو بن العاص، وشدّاد بن أوس، والمستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

وهي مرويّة مستفيضة من طُرق الشيعة عن عدّة من أئمة أهل البيت عليهم السّلام، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في (تفسير القمّي) عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لَتَرْكَبُنَّ سَبيلَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، لا تُخْطِئونَ طَريقَهُمْ، (ولا يُخطَى) شِبْرٌ بِشِبْرٍ وَذِراعٌ بِذِراعٍ وباعٌ بِباعٍ، حَتّى لَوْ أَنْ كانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ، قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قالَ: فَمَنْ أَعْني؟ لَتَنْقُضُنَّ عُرَى الإِسْلامَ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكونُ أَوَّلَ ما تَنْقُضونَ مِنْ دينِكُمُ الأَمانَةُ، وَآخِرَهُ الصَّلاةُ».

 

شرح المفردات

1) سَنَن: (قوله سَنَن مِنْ كانَ قَبْلَكُمْ): بفتح أوّله أي طريقهم. (ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص 131).

2) سَنَنٌ: امْضِ على سَنَنِكَ، أَي وَجْهِكَ وَقَصْدِكَ. وللطَّريقِ سَنَنٌ أَيْضاً، وَسَنَنُ الطَّريقِ وَسُنَنُهُ وَسِنَنُهُ وَسُنُنُهُ: نَهْجُهُ.

يقال: خَدَعَك سَنَنُ الطَّريقِ وَسُنَّتُهُ. "..".

ويقال: سَنّ الطَّريق سَنّاً وسَنَناً، فالسَّنُّ المصدر، والسَّنَنُ الاسم بمعنى المَسْنون.

ويقال: تَنَحَّ عن سَنَنِ الطَّريقِ وَسُنَنِهِ وَسِنَنِهِ، ثلاثُ لُغاتٍ.

قال أَبو عبيد: سَنَنُ الطَّريقِ وَسُنَنُهُ: مَحَجَّتُهُ. وتَنَحَّ عَنْ سَنَنِ الجَبَلِ، أَيْ عَنْ وَجْهِهِ.

الجوهري: السَّنَنُ: الطَّريقَةُ. يقال: اسْتَقامَ فُلانٌ عَلى سَنَنٍ واحِدِ.

ويقال: امْضِ على سَنَنِكَ وسُنَنِكَ، أَي على وجهك. (ابن منظور، لسان العرب).

3) القُذَّةُ: قال في (النهاية): القُذَذُ: ريشُ السَّهْمِ، واحِدَتُها قُذَّةٌ، ومنه الحديث: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»، أي كما تُقدّر كلّ واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطَع؛ يضرب مثلاً للشّيئين يستويان ولا يتفاوتان، انتهى. (المجلسي، مرآة العقول: ج 3/ ص 373).

4) حذوتُ النّعل بالنّعل: إذا قدّرت كلّ واحدةٍ من طاقاتها على صاحبتها ليكونا على سواء. وفي حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله: «لَتَرْكَبُنَّ سَبيلَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ» أي تشابهونهم وتعملون مثل أعمالهم على السّواء. (الطريحي، مجمع البحرين)

5) حذو: في (النهاية لابن الأثير: 1/357): - حذا: «لَتَرْكَبُنَّ سَبيلَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ»: أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطَع إحدى النّعلين على قدْر النعل الأخرى. والحَذو: التقدير والقطع. في (النهاية لابن الأثير: 4/28): - قذذ : «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»: أي كما تقدَّر كلّ واحدةٍ منهما على قدر صاحبتها وتقطع. يضرب مثلاً. (السيد بهاء الدين النجفي، منتخب الأنوار المضيئة: ص23)

6) خَشْرَم: والخشرَمُ أَيضاً: مأْوى الزّنابير والنّحل وبيتُها ذو النَّخاريب.

وفي الحديث: « لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ ذِراعاً بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ سَلَكوا خَشْرَم دَبْرٍ لَسَلَكْتُموهُ»؛ هو مأْوى النّحل والزنابير والدَّبْرِ، قال: وقد يطلق عليها أَنفسها؛ والدَّبْرُ: النّحل. (ابن منظور، لسان العرب: ج 12/ ص 179)

خَشْرم: بِمُعْجَمَتَيْنِ [أي بالخاء والشّين] على وزن جعفر. (تحفة الآحوذيّ: ج 1/ ص 115)

والخَشْرم مأوى النّحل. (الدّمْيري، حياة الحيوان: ج 1/ ص 457).

 


التّحذير من اتّباع سَنن الأمم السّابقة

تحصين الأجيال من التّحريف والانحراف

ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــــــــ

منهج مركزيّ:

- يكشف وحدةَ خصائص النّفس البشريّة.

 - ويُضيء على تهافت ربط التّحضّر بالتّقدّم التّقنيّ.

 - ويصوّب البحوث الفكريّة باتّجاه إنسانيّة الإنسان.

 - ويعصم من السّقوط في الغرائزيّة الحيوانيّة التي نتج عنها: ثقافة «الغرائز والحيوان».

 كما يعصم من «التّشيئة»، التي أفرزت «ثقافة الآلة».

من تجلِّيات الإعجاز النّبويّ، تَعدُّد المناهج التي يشكّل كلٌّ منها قاعدة راسخة، تنطلق منها الأجيال وتستضيء بنورها لتضمن سلامة الفكر والسّلوك، عبر خطّين مُتلازمَين:

1) الاهتداء إلى سلامة العقيدة ونقائها من التّحريف بمستوياته المختلفة.

2) والمحافظة على استقامة سلوك الفرد والأُمّة في جميع المجالات، بما يشمل نظامَ الحكم وإقامةَ العدل في خطّ التزام العقيدة الأصيلة.

أبرز هذه المناهج

1) منهج التزام القرآن الكريم والعترة المعصومة: «كتاب اللهِ وَعِتْرَتي». وتندرج فيه جميع النّصوص حول مرجعيّة القرآن الكريم المُهيمنة، وحيث إنّ القرآن الكريم يصرّح بمرجعيّة أهل البيت، عليهم السّلام، في تفسيره فإن هذا المنهج يشمل - بالدّرجة الأولى والمباشرة - كلّ الرّوايات النّبويّة في أهل البيت، عليهم السّلام، عموماً أي بالعناوين العامّة من قبيل: «أهل البيت» أو «العِترة».

وينبغي التّنبّه بعناية إلى أنّ هذا المنهج هو الأصل الذي تصبّ فيه كلّ المناهج الآتية، وتتقوّم به، حيث إنّ منهجيّة كلٍّ منها مُتوقّفة على كون ما يعتبَر منهجاً يوصل إلى الالتزام بالقرآن الكريم والعترة المعصومة.

وبما أنّ الأخذ بالكتاب مع إنكار الرّسول صلّى الله عليه وآله، هو في الحقيقة إنكارٌ للمرسِل والرّسالة، فكذلك هو الأخذ بالكتاب والتزامه مع إنكار وجوب التزام العِترة عليهم السّلام.

يتّضح – إذاً - أنّ جوهر هذا المنهج الأصل والغاية هو التزام أهل البيت عليهم السّلام، وهو ما تُجمع عليه الأُمّة بإجماعها على ما صحّ عن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، ورواه العلماء المسلمون وصرّحوا بالاعتقاد به.

* في معرض نقْله عن بعض كبار العلماء تأكيد أهل السّنّة وجوبَ حبِّ أهل البيت، عليهم السّلام، قال الأصبهانيّ: «يقولون [أي السّنَّة]: إنّ الله تعالى أوجب محبّة أهل بيت نبيّه على جميع بريّته، ولا يؤمن أحدُكم حتّى تكونَ عترة النّبيّ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أحبّ إليه من نفسه، ويروون في ذلك أحاديث. منها: ما رواه البيهقيّ، وأبو الشّيخ، والدّيلميّ، أنّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَكونَ عِتْرَتي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ). وأخرج التّرمذيّ، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - قال: (أَحِّبوا أَهْلَ بَيْتي بِحُبّي)، إلى غير ذلك من الأخبار. ويقولون: مَن ترك المودّة في أهل بيت رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فقد خانه، وقد قال الله تعالى: ﴿..لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرّسُولَ..﴾ الأنفال:27، ومن كره أهل بيته فقد كرهَه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ولقد أجاد من أفاد:

وَلا تَعْدِلْ بِأَهْلِ البَيْتِ خَلْقاً

فَأَهْلُ البَيْتِ هُمْ أَهْلُ السّيادَة

وبُغْضُهُمْ لِأَهْلِ العَقْلِ خُسْرٌ

حَقيقِيٌّ وَحُبُّهُمُ عِبادَة

 

ويُوجبون الصّلاة عليهم في الصّلوات، قال الشّيخ الجليل فريد الدّين أحمد بن محمّد النّيسابوريّ رحمه الله: من آمن بمحمّد ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن، أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم يُنكره أحد. انتهى كلام صاحب (الصّواعق)». (الأصبهانيّ «الوفاة: 1339»، القول الصّراح في البخاريّ وصحيحه الجامع: ص48؛ وانظر: النقويّ، خلاصة عبقات الأنوار: ج 9\ ص 191 نقلاً عن الصّواقع للكابليّ، ولعلّ «الصّواعق» هنا تصحيف الصّواقع).

2) منهج التزام أمير المؤمنين، عليه السّلام، فإنّ الحقّ معه يدور «كَيْفَما دارَ». وتندرج فيه من النّصوص النّبويّة المتفّق عليها بين المسلمين ما يفوق التّصوّر ويُبهر العقول.

3) منهج التزام الزّهراء، عليها السّلام، «أُمّ أبيها»، في مقابل استغلال الإمبراطوريّات الظّالمة لعنوان «أمّ المؤمنين» حتّى بما لا ترضى به أمّ المؤمنين.

4) منهج التزام الحَسَنَيْن، عليهما السّلام، وتندرج فيه الأفعال والنّصوص النّبويّة في التّعريف بعظيم مقاماتهما، عليهما السّلام، وكذلك النّصوص حول ما عُرِفَ باسم «صلح الحسن»، وحول «كربلاء» وشهادة الإمام الحسين عليهما السّلام.

5) منهج التزام «الأئمّة الاثني عشر»: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»، وأنّ الاثني عشر موزّعون على امتداد بقاء الدّنيا ليبقى الإسلام – بل الدّنيا - ببقائهم كما قضت مشيئة الله تعالى. وتندرج فيه روايات: «لا تَخْلو الأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ»، و«النُّجومُ أَمانٌ لِأَهْلِ السّماءِ، وَأَهْلُ بَيْتي أَمانٌ لِأَهْلِ الأَرْضِ». وممّن نصَّ على ذلك «الهَيتميّ» في (الصّواعق المُحرقة)!

 6) منهج التّحذير من «الشّجرة الملعونة في القرآن»، أي بني أُميّة، وبالخصوص أبي سفيان ومعاوية ويزيد، ومن آل العاص، وأنّهم يحكمون باسم الإسلام، والإسلام منهم بريء، ويتّخذون «مالَ اللهِ دُوَلاً، وَعِبادَهُ خَوَلاً..».

7) منهج إخبارات النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يكون، أي بما سيقع من بعده من تحريف وانحراف، وهو على قسمين: خاصّ وعامّ.

* والمراد بالخاصّ:

1) إخبارات النّبيّ بحوادث مركزيّة بخصوصها كإخباره صلّى الله عليه وآله وسلّم بحروب الإمام عليّ، عليه السّلام، النّاكثين والقاسطين والمارقين، وكإخباره بصلح الإمام الحسن، وبشهادة الإمام الحسين عليهما السّلام.

2) وإخباره أيضاً بمفردات جُزئيّة تقع في سياقها من قبيل «راكبة الجمل»، أو «الحوأَب»، أو عدد قتلى الخوارج في «النّهروان»، أو تفاصيل في سياق أحداث كربلاء، كخبر قطع السِّدرة:  «لَعَنَ اللهُ قاطِعَ السّدْرَة»، وهي شجرة سِدر كانت في كربلاء يستظلّ بها الزوّار، فأمر «هارون» المُسمّى بالرّشيد، أو المُتَوَكّل بقطعها، ويحتمل أنّ أَمْرَ القطعِ صدر مرّتين، وعندما قُطعت جاء زائر من كربلاء إلى الكوفة فذكر في مجلس أحد المُحدّثين أنَّ الخليفة أمر بقطع السّدرة، فقال المُحدّث: الله أكبر، خبرٌ كنّا نرويه ولا نفقه معناه: «لَعَنَ اللهُ قاطِعَ السِّدْرَة»!

3) وممّا يدخل في الخاصّ إخبار النّبيّ صلّى الله عليه وآله بأمور جزئيّة لكنّها مَفصليّة ومركزيّة تشكّل دليلاً موصلاً إلى الحقّ ومن أمثلته:

أ) إخباره صلّى الله عليه وآله بمقتل عمّار بن ياسر على يد الفئة الباغية: «عَمّارٌ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ الباغِية».

ب) أمْر النّبيّ صلّى الله عليه وآله، الأمّة بالتفريق بين معاوية وعمرو بن العاص إذا اجتمعا، فإنّهما لا يجتمعان على خير. أورد نصر بن مزاحم المنقريّ (ت:212) في كتابه (وقعة صفّين: ص 218)، حول ذلك ما يلي: «دخل [الصّحابيّ] زيد بن أرقم على معاوية، فإذا عمرو بن العاص جالسّ معه على السّرير، فلما رأى ذلك زيد جاء حتّى رمى بنفسه بينهما، فقال له عمرو بن العاص: أما وجدتَ لك مجلساً إلّا أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين؟

فقال زيد: إنّ رسول الله غزا غزوةً وأنتما معه، فرآكما مجتمعَين فنظر إليكما نظراً شديداً، ثمّ رآكما اليوم الثّاني واليوم الثّالث، كلّ ذلك يُديم النّظر إليكما، فقال في اليوم الثّالث: إِذا رَأَيْتُمْ مُعاوِية وَعَمْرو بْنَ العاصِ مُجْتَمِعَيْنِ فَفَرِّقوا بَيْنَهُما، فَإِنَّهُما لَنْ يَجْتَمِعا عَلى خَيْرٍ».

* والمراد بالعامّ: إخباره، صلّى الله عليه وآله، بضابطة كلّيّة وقاعدة عامّة يعرَف بها جميع أنواع التّحريف والانحراف، ومثاله المنهج الثّامن التّالي الذي هو موضوع «الملفّ» في هذا العدد.

تدبّر تجارب الأمم السّابقة

منهج، «يَجْري في هَذِهِ الأُمَّةِ ما جَرَى في الأُمَمِ السّابِقَةِ»، «شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِراعاً بِذِراعٍ»، بل «حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»، أي كتطابق ريشة الفرشاة مع ريشةٍ أخرى.

يعني هذا المنهج توكيد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وحدةَ السّنَن الاجتماعيّة بين جميع أُمَم الأنبياء، في البُعدَين الفرديّ والجماعيّ، ولذلك فإنّ ما سيجري على الأُمّة الإسلاميّة هو عين ما جرى على الأُمم من قبلها. وحيث إنّ تجارب الأُمم السّابقة تمتدّ على مساحة التّاريخ كلّه من النّبيّ آدم، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، فإنّ خزين تجارب جميع الأمم السّالفة - وهو نفسه خزين انطباق جميع السّنن الاجتماعيّة - يشكّل لهذه الأُمّة رصيداً معرفيّاً وسلوكيّاً بحجم أعمدة القرون، ليسددّ مسار الفرد والجماعة في مختلف ميادين الحياة، ليتناسب رشد الأُمّة مع مستوى الرّسالة الخاتمة التي تحملها.

وتندرج في هذا المنهج رواياتٌ كثيرة بلغت حد التّواتر. (انظُرْ في هذا الملفّ: روايات اتّباع سنن الأُمم من قبلنا). وهذا بعض القليل منها:

* في كتاب (المسترشد للطّبريّ الإماميّ: ص229):

قال صلّى الله عليه وآله: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، حَتّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ، فقيل: يا رسول الله: اليهود والنّصارى، قال: فَمَنْ أَرَى؟».

* وفي (كمال الدّين) للشّيخ الصّدوق، بإسناده عن غياث بن إبراهيم، عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام:
 «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كُلُّ ما كانَ في الأُمَمِ السّالِفَةِ فَإِنَّهُ يَكونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ مِثْلُهُ،
حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

* وفي روايّة ثالثة زيادة: «حَتّى أَنَّ لَوْ كانَ مَنْ قَبْلِكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ».

 * وفي رابعة زيادة: «حَتّى إِنْ كانَ فيهِمْ مَنْ أَتى أُمَّهُ يَكونُ فيكُمْ».

* من خصائص هذا المنهج: أنّه المنهج الأشمل الذي تتعدّد فيه مسارات البحث الفرديّة والاجتماعيّة إلى حيث يصعب حصرُها.

والسّبب في هذا التّعدّد القياسيّ أن النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، أكّد شمول قاعدة هذا المنهج للحالات الفرديّة كما تقدّم، وتجد المزيد في سائر الرّوايات.

نموذج لِسعة دوائر هذا المنهج

يكفي لإدراك سعته المترامية الأطراف وجامعيّته الفريدة التأمّل في تسع آيات متتالية من سورة النّساء هي الآيات 46 إلى 55، إذ نجد فيها حشداً ممّا جرى على بعض الأُمم السّابقة وهو يدخل ضمن قاعدة: «يجري على هذه الأمّة ما جرى على الأُمَم قبلها».

تتضمّن هذه الآيات التسع كلّ المحاور التاليّة:

1) تحريف الكَلِم عن مواضعه: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..﴾ النساء:46.

2) استحقاق الإضلال المعبّر عنه بقوله تعالى: ﴿..مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا..﴾ النّساء:47.

3) واستحقاق اللّعن: ﴿..أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السّبْتِ..﴾ النّساء:47.

4) الوقوع في المعصية والحاجة إلى المغفرة: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ النّساء:48.

5) تزكيّة النّفس: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ النّساء:49.

6) افتراء الكذب على الله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ النّساء:50.

7) الإيمان بالجبت والطّاغوت: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا﴾ النّساء:51. 

8) استحقاق اللّعن (ما تقدّم لمجرّد معصيتهم، وهنا بسبب إيمانهم بالجبت والطّاغوت): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ النّساء:52. 

9) البُخل: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًاالنّساء:53. 

10) الحسد: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًاالنّساء:54. 

11) إيمان البعض وكفر البعض الآخر: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ النّساء:55. 

الانقلاب على الأعقاب والصراع على السّلطة

ومن أبرز المسارات الاجتماعيّة والسّياسيّة الحسّاسة والمصيريّة التي تتجلّى فيها فرادة هذا المنهج، أنّه يقدّم للأُمّة تجارب الأُمم السّابقة بعد الأنبياء، في المحافظة على الاستقامة - أو عدمها - عندما يتوفّى النّبيّ وتخيّم على أُمّته أجواء السّنّة الاجتماعيّة الأخطر وهي الانقلاب على الأعقاب، والسّقوط في فِتن الصّراع على السّلطة وحروبها، استجابة لإغواء الشّيطان ببهارج حبّ الدّنيا.

في سياق ضمانة استمرار التّوحيد كان تحذيرُ القرآن الكريم من الانقلاب على الأعقاب: ﴿وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ﴾ آل عمران:144.

وفي سياق هذا التأسيس القرآنيّ كان التأسيس النّبويّ المنهجيّ في المسارات التي تحدّ من أخطار الانقلاب على الأعقاب، وتحصّن الأجيال من التّلبيسات والتّمويهات التي اختلط الباطل فيها بالحقّ، إلى حيث أصبح معاوية بن أبي سفيان «خليفة رسول الله».

* ويكشف التأمّل في سيرة النّبيّ الأعظم، صلّى الله عليه وآله، أنّه أمضى مرحلة النّبوّة كلّها يركّز على محور تثبيت التّوحيد، وعلى محور التّحذير من الانقلاب على الأعقاب، وهما في الحقيقة واحد، فالانقلاب على الأعقاب ارتداد إلى الشّرك.

يتّضح ممّا تقدّم أنّ في طليعة ما يجري على الأُمّة ممّا جرى على الأمم السّابقة هو الاستبدال في المجال السّياسيّ، وكلّ ما يرتبط بمركز القرار في إدارة شؤون الأُمّة.

وقد أجمع المسلمون على أنّ بقاءَ التّوحيد في هذه الأُمّة رهنٌ بالتزامِ أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً،  ولن تتّبع الأُمّة سَنن الأمم من قبلها إلّا من خلال تنكّب صراط أهل البيت، عليهم السّلام. وهذا يعني بوضوح أن منهج: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ» هو منهج سياسيّ بامتياز مصبّه الرّئيس هو «مركز القرار في إدارة الأُمّة»، وأنّ ما جرى على أوصياء الأنبياء السّابقين سيجري على أوصياء النّبي محمّد، صلّى الله عليه وآله، «شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ»، و«حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

* من أمثلة ذلك:

1) تفرّق الأُمّة عمّن هو من النّبيّ بمنزلة هارون من موسى، عليهم السّلام، كما خالف قومُ موسى هارونَ ولم يرقبوا قولَهُ حين مضى موسى إلى «ميقات ربّه».

 2) خروج أُمّ المؤمنين عائشة على وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما حاربت «صفورا» زوجة النّبي موسى عليه السّلام وصيّه يوشع عليه السّلام.

***

تنقسم الأمور التي تقع في هذه الأُمّة وقد وقع مثلها في الأُمم السّابقة إلى قسمَين:

الأوّل: ما تتبّع فيه الأُمّةُ الأُممَ السّابقة.

الثّاني: حوادث تقع في الأُمّة وقد وقع مثلها في الأُمم السّابقة ولكن لا مدخليّة في وقوعها للاتّباع.

التّطابق في الفكر والسّلوك

مواردَ التّطابق بين هذه الأمّة والأمم السّابقة في الفكر والسّلوك خاصّةٌ وعامّة، والدّليل على ذلك أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله ذكر أمثلة فرديّة في سياق الحديث عن موارد التّطابق العامّة من قبيل قوله صلّى الله عليه وآله: «حَتّى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ».

وتقدّم أنّ موارد التّطابق بين هذه الأُمّة وبين الأُمم السّابقة مُتراميّة الأطراف كثيرة التّشعّب، بما يتناسب مع تجارب تلك الأُمم في قرون مُتمادية.

لذلك لا يمكن التّقصّي إلّا بتراكم الجهد وتعدّد الأبحاث، إلّا أنّ الحاجة ماسّة – للاعتبار- إلى تتبّع أبرز موارد هذا التّطابق، وما يلي محاولة أوليّة في ذلك أمكن من خلالها رصد ما يلي:

1) الكفر بعد الإيمان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا..﴾ النساء:137¬  يماثله الانقلاب على الأعقاب.

قال الشّيخ الطّوسيّ: «فأين التّعجّب من ذلك [الانقلاب على الأعقاب] وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..﴾ آل عمران:144.

وقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتّى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموهُ. فقالوا: يا رسول الله اليهود والنّصارى، فقال عليه السّلام: فَمَنْ إِذاً؟!».

2) اختراع إله: ﴿..اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا..﴾ الأعراف:138. )العجل - ذات أنواط(.

3) النّفاق: ﴿.. قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ..﴾ البقرة:14.

4) ضعف الإيمان بالغيب: وهو مرض عضال يؤدي إلى رفض «التّعبّد»: ﴿..فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ البقرة:71، ﴿..فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي..﴾ البقرة:249.

والتّعبُّد هو الالتزام بما يحدّده المُختصّ الذي حكم العقلُ بوجوب الرّجوع إليه، والالتزامِ بتوجيهاته، وهو - أي التّعبّد - حكمٌ عقليٌّ تقوم عليه أمور الدّنيا، ومن مصاديقه التزامُ قولِ الطّبيب الموثوق الذي يأمر بالخضوع لعمليّة جراحيّة حسّاسة فيحكم العقل بوجوب الامتثال، بل ويحكم العقل بمسؤوليّة مَن يموت لامتناعه عن إجراء هذه العمليّة لأنّه مختصّ يجب الرّجوع إليه و«التّعبّد» برأيه.

«التّعبّد» قاعدة عقليّة: ﴿..فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل:43، ورفض التّعبّد هو في جوهره رفض التزام القانون والنّزوع نحو العبثيّة والتفلّت، وهو تغييب للفكر والعقل وتحكيمٌ للغرائزيّة ورواسب الجاهليّة: ﴿..وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ..﴾ الزّخرف:22.

5) التّشريع: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ﴾ الأنعام:21، ﴿..وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:169.

6) البِدعة: نوع خاصّ من التّشريع هو إفراطٌ في تطبيق حكم شرعيّ: ﴿..وَرَهْبَانِيّة ابْتَدَعُوهَا..﴾ الحديد:27.

7) تحريف الكلِم عن مواضعه: قال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِالسّنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ النّساء:46.

8) تغليب الحسّ على العقل، وهو يعني النّزوع إلى المحسوس: ﴿..لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً..﴾ البقرة:55، ﴿..هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً..﴾ المائدة:112.

9) الرّجعة: وهي تعني رجوع موتى بعد موتهم إلى هذه الحياة الدّنيا، وأدلّته القرآنيّة الصّريحة متعددةٌ كما لا يخفى.

ومعنى التّطابق بين هذه الأُمّة في الرّجعة، حذو القُذّة بالقُذّة، أن يتعاظم إنكارُ البَعث، أو تُطبق الغفلة فيظنّ النّاس أنّهم قادرون على اجتناب الموت، فيستتبع تعاظم الإنكار أو إطباق الغفلة وقوع الرّجعة، أو أن تحصل في الأُمّة أو الفرد درجة من إنكار الغَيب تستدعي إقامة الحجّة بطريقة إعجازيّة، فتقع الرّجعة.

 يدلّ على التّرابط بين إنكار البعث بعد الموت ووقوع الرّجعة قوله تعالى: ﴿أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيّة وَهِيَ خَاوِيّة عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيّة لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة:259.

ويدلّ على التّرابط بين إطباق الغفلة ووقوع الرّجعة، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ البقرة-243.

قول في الرّجعة

* حول «الرّجعة» قال السّيّد الطّباطائيّ:

«الرّوايات متواترة معنى عن أئمّة أهل البيت، حتّى عدّ القول بالرّجعة عند المخالفين من مُختصّات الشّيعة وأئمّتهم من لدن الصّدر الأوّل، والتّواتر لا يبطل بقبول آحاد الرّوايات للخدشة والمناقشة، على أن عدّة من الآيات النّازلة فيها، والرّوايات الواردة فيها تامّة الدّلالة قابلة الاعتماد، وسيجيء التّعرّض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا..﴾ النمل:83 وغيره من الآيات.

على أنّ الآيات بنحو الإجمال دالّة عليها كقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ..﴾ البقرة: 214.

ومن الحوادث الواقعة قبلنا، ما وقع من إحياء الأموات كما قصَّه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعُزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الفريقان: (وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، لا تُخْطِئونَ طَريقَهُمْ ولا يُخْطِئُكُمْ سَنَنُ بَني إِسْرائيلَ).

على أنّ هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمّة أهل البيت من الملاحم المُتعلّقة بآخر الزّمان، وقد أثبتها النّقلةُ والرّواةُ في كتب محفوظة النّسَخ عندنا، سابقة تأليفاً وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كلّ يوم صدقَ شطرٍ منها من غير زيادةٍ ونقيصةٍ، فلنحقّق صحّةَ جميعِها وصدقَ جميعِ مضامينها».

(الميزان: ج 2/ ص 108)


رؤية الشيخ محمّد الغزالي لرواية «اتّباع الأمم السابقة»

قلّدناهم في انحدارهم لا في نهوضهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أ.عبير عبد الرحمن ياسين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من بين مؤلّفات العالم الجليل الراحل الشيخ محمّد الغزالي كتاب (كيف نتعامل مع القرآن)، الذي صدر عنه في أواخر عمره المديد الحافل بالعطاء المتميّز، وقد تتبّعت السيّدة عبير ياسين ما قاله الشيخ الغزالي - وغيره - في موضوع اتّباع هذه الأمّة الأُممَ السّابقة، وقدّمت نصّاً يستحقّ العناية، وقد اختارته «شعائر» - بتصرّف - لهذا الملف.


«لاحظت أنّ الرّسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حذّرنا من اتّباع اليهود والنّصارى.
[ونحن] نحذر أن نكون كاليهود في تجسيد الله، وكالنصارى في نبوّة المسيح.

لكن قال صلى الله عليه وآله: لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ (الحديث رواه البخاري ومسلم)، ومع هذا لم أرَ بحثاً في تتبّعنا لليهود والنّصارى في تفكيرنا، وفي أخلاقنا، وفي أعمالنا.

ببساطة، انحدرنا وانتهى الأمر، استطعنا أن نقلّدهم بانهيارهم ولم نستطع أن نقلّدهم في نهوضهم، وانتقلت إلينا عِلل التديّن [المحرّف].

اعتقد أنّ ما حدث اليوم في الأُمّة الإسلاميّة هو ما حدث في الأمم الأخرى تاريخيّاً والعقاب الإلهي أنّ الله نزع قيادة البشرية من أيدي المتديّنين ووضعها في العلمانيّين». (كيف نتعامل مع القران، محمد الغزالي: ص 158)

مواطن تشابه المسلمين مع اليهود والنصارى

من الناحية الفكرية، وتشمل:

1) نَهي القرآن عن الوقوع في ما أخذَه على علماء أهل الكتاب (الأحبار والرّهبان) من الاختلاف في كتاب الله.

2) النَّهي عن اتّباع الآباء السابقين دون تفكير وتمحيص.

3) النَّهي عن تزكية النفس في مقابل رَمي الخصوم بكلّ سوء.

 

مصائب الاستبداد الدّيني في واقعنا المعاصر

الاختلاف في الكتاب من بعد العلم:

قال تعالى:

- ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هود:110-112 وتكرّرت الآية في موضعٍ آخر من القرآن الكريم.

- ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ الجاثية:16-17.

- ﴿.. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ الحشر:14.
كان من نتيجة هذا الاختلاف في الدّين أنّه أدّى إلى العداوة والأحقاد بينهم، كما في قوله تعالى:
- ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ البقرة:176.

- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران:19-20.

- ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..﴾ النحل:124-125.

- ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ المائدة:48.

ليس هناك إكراهٌ لأهل الكتاب على اعتناق عقيدة الإسلام، وقد أمر الله رسوله والمسلمين بأن يتركوهم وما يختارون في الدّنيا من الدّين، وأمرُهم في ذلك يفوّض لله يوم القيامة لمحاسبتهم. [و] إذا كان هذا هو المنهج المتبّع مع مَن يرفض عقيدتك، فما بالنا لا نجد في قلوب بعض المسلمين مُتّسعاً لتقبّل الاختلاف مع إخوانهم في العقيدة.

 

التأويل من أبرز أسباب الاختلاف

 التأويل الذي حذّر منه الرّسول [صلّى الله عليه وآله] وقد وقع فيه المسلمون، كما فعل أهل الكتاب، ما أدّى إلى انقسامهم. قال تعالى:

- ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.. الأعراف:52-53.

معنى تأوّل الكلام: الخطاب هنا مُوجّهٌ لأهل الكتاب، وفيه إشارة واضحة إلى أنّ القرآن خطابه واضح ومفصّل - ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ - بيّناه بالأخبار والوعد والوعيد وكلّها تؤدّي إلى إشاعة الرحمة والهداية للمؤمنين.
فالتأويل قد يغطّي على المعاني الواضحة التي أرادها ربّ العالمين، والتي عبّر عن تجاهلها بالنسيان، ونفهم ذلك من الأثر الذي أحدثته كلّ فرقة من تأويلٍ وادّعت أنّ هذا مراد الشارع لكي تجتذب الناس إليها.

وكان لهذا التأويل الأثر السّيِّءُ، لأنه أحدث خصومة وعداء، وليس هذا مراد ربّ العالمين.
وتأويل أهل الكتاب كان طريقه إخفاء بعض تعاليم الله أو تأويلها بما يوافق هواهم، والادّعاء بأن هذا من عند الله، وهذا مراده أو كلامه، وما ذلك إلّا بسبب فساد قلوبهم ونيّاتهم وإرادتهم السّوء كما قال تعالى: ﴿..فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ..﴾ آل عمران:7.

أمّا الراسخون في العلم فيؤمنون به كلّه على ظاهره لأنّه واضحٌ وجَلِيّ، دون تأويلٍ فاسدٍ يُخفي أو ينفي الكثير ممّا حواه كتاب الله من آيات مُفصّلات أريدَ إيقافُ العمل بها ونسيانها.

يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ..﴾ آل عمران:7: أي أصله المعتمد عليه في الأحكام.

﴿..وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..﴾ آل عمران:7: لا تُفهم معانيها كأوائل السّور.

وجعله كلّه محكماً في قوله: ﴿..أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ..﴾ هود:1، ومتشابهاً كما في قوله: ﴿..كِتَابًا مُتَشَابِهًا..﴾ الزمر:23، بمعنى أنّه يشبه بعضه بعضاً في الحُسن والصِّدق.

﴿..فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ..﴾ آل عمران:7: ميل عن الحقّ.

﴿..فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ..﴾ آل عمران:7: طلب (الفتنة) لجهّالهم بوقوعهم في الشّبهات واللّبس.

﴿..وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ..﴾ آل عمران:7: تفسيره.

﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ..﴾ آل عمران:7: وحده.

﴿..وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..﴾ آل عمران:7: الثابتون المتمكّنون.

﴿..يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ..﴾ آل عمران:7: أي بالمتشابه أنّه من عند الله ولا نعلم معناه.

﴿..كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا..﴾ آل عمران:7: كلّ من المحكم والمتشابه.

﴿..وَمَا يَذَّكَّرُ..﴾ آل عمران:7: يتّعظ، ﴿..إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران:7: أصحاب العقول.

* ويقولون أيضاً إذا رأوا من يتّبعه:

﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا..﴾ آل عمران:8: لا تُمِلها عن الحقّ بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما زاغت قلوب أولئك.

﴿..بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا..﴾ آل عمران:8: أرشدتنا.

﴿..وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً..﴾ آل عمران:8: تثبّتاً؛ والغرض من الدّعاء بذلك بيان أنّ همّهم أمر الآخرة، ولذلك سألوا الله الثبات على الهداية لينالوا ثوابها.

روى الشيخان عن عائشة ".." قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ..﴾ آل عمران:7، إلى آخرها، وقال: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ».

وروى الطّبراني في (الكبير) عن أبي موسى الأشعري أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وآله يقول: «مَا (لا) أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إلّا ثَلاثَ خِلالٍ...» وذكر منها أن يفتَح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويلَه وليس يعلم ﴿..تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾آل عمران:7.

***

والتأويل الفاسد من أجل الدّفاع عن المذهب أو الطائفة - والادّعاء بأنّ هذا مراد الشارع - يتساوى مع ما ذكره الله سبحانه في أهل الكتاب بادّعائهم وافترائهم الكذبَ على الله، وبالتالي فإنّ معيار الإيمان والعقل الذي أشاد الله به [في] عباده المتّقين هو إرادة الآخرة، لا العلوّ في الدّنيا والتّطاحن فيها. قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص:83.

من أسباب الاختلاف اتّباع هوى النّفس


قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الأعراف:177.

«والآية نزلت في (بلعم بن باعوراء) وهو من علماء بني إسرائيل، ولو شاء اللهُ تعالى لوفّقه للعمل بآياته ورفعَه إلى منازل العلماء، ولكنّه سكن إلى الدّنيا ومال إليها واتّبع هواه، فصار لاهثاً ذليلاً بكلّ حال؛ مثل الكلب في الخسّة والوضاعة». (من تفسير الجلالين).

- ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ الفرقان:43.

- ﴿..وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ..﴾ القصص:50.

- ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ الجاثية:23.

وقعنا فيما وقع فيه أهل الكتاب من اتّباع هوى أنفسهم مع أن الله حذّرنا من ذلك، فقال تعالى:

- ﴿..وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ البقرة:120.

- ﴿..وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:145.

- ﴿.. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ الرعد:37.

ما سبق يمثّل تحذيراً من اتّباعنا هوى أهل الكتاب، وهنا تحذير آخر من اتّباع هوى النّفس. قال تعالى: ﴿..فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا..﴾ النساء:135، كما أثنى الله سبحانه على من يقاوم هواه، فقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ النازعات:40-41. ".."

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ أسبوع

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

  إصدارات عربيّة

إصدارات عربيّة

نفحات