فكر ونظر

فكر ونظر

16/07/2015

ثقافة المقاومة الإسلاميّة


ثقافة المقاومة الإسلاميّة

التحلّي بمكارم الأخلاق، والتسديد الإلهيّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

أيّ ثقافة هي ثقافة المقاومة الإسلاميّة؟
يكتسب هذا السؤال قيمة جوهريّة بعد نحو ثلاثة عقود على الولادة المباركة للمقاومة الإسلاميّة في لبنان، وما تلا ذلك من انجازات مظفّرة على مستوى الوطن والأمّة.
هذه المقالة لسماحة العلّامة الشيخ حسين كوراني تسعى إلى تقديم الجواب على السؤال الآنف الذكر، ثمّ لتبيّن السِّمات الفريدة والمميّزة للخصوصيّة الثقافيّة للمقاومة الإسلاميّة التي أفضت إلى تحقيق الانتصارات الإلهيّة على امتداد عقدَين متّصلَين.
«شعائر»

 

لقد شكّلت المقاومة الإسلاميّة في لبنان، وما تزال، علامة فارقة، بل مفصلاً رئيساً، بل قطعاً في مسار المواجهة مع العدو الصهيونيّ، واستحقّت بجدارة أن تفرضَ على كلّ مقاربة للاحتلال الصهيونيّ لفلسطين وسِجّل احتلالاته وإجرامه في المنطقة، أن تنقسم إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل المقاومة الإسلاميّة، ومرحلة ما بعدها.

وسيتّضح، يوماً بعد يوم، أنّ آثار هذا الإنجاز النوعيّ المستمرّ ليست، في جوهرها، من المعدن الذي يمكن محاصرته في نطاق جغرافيّ مُعيّن.

ولم تكن المقاومة الإسلاميّة لتحقّق ذلك، ولا شيئاً منه، لو أنّها كانت تصدر في مجال الفكر والرؤية والثقافة، ممّا يصدر منه الآخرون.

وتمسّ الحاجة إلى تأصيل هذا الأصل وبلورة مفرداته، مخافة أن تزداد موجات الخطاب السياسيّ التكتيكيّ، قوّةَ تردُّد، وتتراجع موجات الخطاب الاستراتيجيّ، فيختلط الأمر على الأجيال القادمة، ويغلب عليها الظنّ بأنّ فرادة المقاومة الإسلاميّة ترجع إلى عوامل يجمعها عامل «الصدفة»، ولا ترجع إلى تميُّزٍ فكريّ وثقافيّ.

لقد جرّب الجميع مناهجهم في مواجهة العدوّ الصهيونيّ، وعندما تراجعوا وانحسروا تقدّمت المقاومة الإسلاميّة، وأمكنها أن تحصد من النتائج ما عجز عنه الآخرون، وفي حين لم تحتكر المقاومة الإسلاميّة العمل العسكريّ، وكان من مصلحتها أن يشارك الآخرون؛ ظلّ الجميع بكلّ أطيافهم متفرّجين، لم يقووا على المنازلة إلّا لماماً، وبشكلٍ أشبه ما يكون بالاستعراض.

وربَّ قائل: إنّ السبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين بناء الشخصيّة على أساس الرؤية الإسلاميّة، وبين غيرها، وهو أمرٌ مفروغٌ منه، إلّا أنّ هذا لا يفسّر السبب في بقاء الكثيرين من الإسلاميّين، في الوسطَيْن الشيعيّ والسنّيّ، أيضاً متفرّجين، لم يتمكّنوا من الانخراط في خوض لُجَج المواجهة.

إنّ هذا يكشف بوضوح أنّ البناء الفكريّ والثقافيّ للمقاومة الإسلاميّة بناءٌ إسلاميّ، بإضافةِ أنّه من نوعٍ خاصّ.

هذه الخصوصيّة هي التي ينبغي التركيز عليها وتبيان مميّزاتها، عن طريق طرح السؤال التالي: أيُّ ثقافة إسلاميّة هي ثقافة المقاومة؟

يبرّر هذا السؤال، بالإضافة إلى ما تقدّم، أنّ وصف «الإسلاميّة» في ما درج عليه الاستعمال فضفاض جدّاً يتّسع لمشارب مُتعدّدة، واتّجاهات متغايرة، قد تَصِل إلى حدّ التباين، تباينِ الإسلام الإيرانيّ، والإسلام السعوديّ، كما يذكر مثلاً.

ولا تهدف هذه الإثارة إلّا للقيام ببعض واجب حفظ دماء الشهداء، وجهاد المجاهدين من خلال تظهير الإطار الفكريّ الذي أمكنه أن يسطِّر بهم، بتوفيق الله تعالى، أروع الملاحم في الزمن الصعب، الذي أُريدَ له أن يكون بداية النهاية للأُمّة، فضلاً عن قضيّتها المركزية.

ولا يهدف حفظ دماء الشهداء وجهاد المجاهدين إلى وضع الأمور في نصابها فحسب، بل يهدف إلى الإسهام في حراسة النهج الذي أحرز النصر؛ فالمعركة مستمرّة، وما أُنجز هو بمنزلة التأسيس لكلّ الجولات القادمة.

من هنا فإنّ الحديث عن ثقافة المقاومة يدخل في صميم الضّرورات، ويجب أن ينأى بنفسه ويُرْبَأَ به عن الانحدار إلى بيئة تسجيل النقاط، أو الغمز من قناة هذا المنحى الثقافيّ أو ذاك.

إنَّ البُعد الإيجابيّ هو الهدف.

وعلى هذا الأساس يُمكن الإجابة عن سؤال ثقافة المقاومة الإسلاميّة كما يلي:

إنّها الثقافة الإسلاميّة في خطّ الإمام الخمينيّ رضوان الله عليه.

وبديهيّ أنّ للبعض ملاحظاتهم وآراءهم وردّات فعلهم على هذه الإجابة، والتي ترجع كلّها إلى السؤال التالي:

وهل طرح الإمام الخمينيّ شيئاً غير الإسلام؟

والجواب: إنّ ما كان سائداً قبل الإمام – في أوساط الإسلام الحركيّ - هو اجتهاداتٌ في فهم الإسلام، كشفَ طرحُ الإمام نقاطَ الضعف فيها، ليخرج الطرح الإسلاميّ من دائرة الانتقائيّة والتجزئة وردّات الفعل، إلى دائرة الفعل، ويقدّم الإسلام كما هو بشموليّته وكلّ أبعاده.

 

الإمام الخمينيّ مرشداً ومؤسِّساً

ولدى الدخول في الخطوط العامّة لذلك... أكتفي بذكر أنّ طرحَ الإمام للإسلام تميّز - في ما تميّز به - بما يلي:

1-    تظهير الإسلام كلّه، غَيبه وشهادته، عبادته وجهاده، العمل على إقامة الحُكم والزهد، حقوق الإنسان بكلّ أطيافها وموقعها من حقّ الله تعالى، حمْل هموم المسلمين والمستضعفين عموماً، وحمْل هَمِّ بناء النفس، وهكذا..

فلم يُعْنَ خطّ الإمام بتظهير جملة من المفاهيم على حساب المفاهيم الأخرى، ولم يقع في شراك الانتقائيّة ليعرض من الإسلام ما ينسجم مع روح العصر ويحيّد من التداول ما يصدم هذه الروح، فمستحبّات رجب وشعبان والمستحبّات عموماً، ينبغي الحديث عنها كما ينبغي الحديث عن إقامة الحكم الإسلاميّ مثلاً، حيث إنّهما معاً من الإسلام، وإذا كان ثمّة من اختلاف في الرتبة، فالذي يحدّد ذلك هو النّصّ وليس الانسجام مع روح العصر.

2-    أنّ الهدف من الخطاب الإسلاميّ أخلاقيّ، وهو يعني إيلاء عمليّة التحلّي بمكارم الأخلاق الأهميّة القصوى، بحيث تصبح الإطار لكلّ فعاليّة، حتّى السياسيّة والعسكريّة والفكريّة، ولذلك نجد أنّ الخطاب السياسيّ للإمام ينطلق من البُعد الأخلاقيّ، سواء في مجال حديثه عن «الشاه»، أو عن القوى المُتجبّرة التي يعتبر أنّ مشكلتها تكمن في الأهواء النفسيّة، أو غير ذلك.

وبهذا يصبح خطاب الإمام منسجماً غاية الانسجام مع الهدف من بعثة المصطفى الحبيب التي هي تتميم مكارم الأخلاق.

3-    أنّ الواقعيّة والعقلانيّة والموضوعيّة تعني عدم الفصل بين ساحات الوجود عبر السائد من أخذ شريحة الدنيا بمعزل عن الآخرة،  بل يجب النظر إلى الدنيا في موقعها من منظومة الوجود ككرة صغيرة من كُرات مجرّاته اللامتناهية.

ولئن كان كلّ طرحٍ إسلاميٍّ يدّعي أنّه يصدر من ذلك، فإنّ العبرة بالتزام هذه الحقيقة والإصرار على استحضارها والصدور منها في المواقف والمنعطفات، بحيث يبدو جليّاً للمراقب أنّ هذا الطرح يراعي منطلقاته تماماً، وهذا ما نجده بكلّ جلاءٍ في مفردات خطاب الإمام، ما يجعلنا عبره نتواصل مع روح النصّ وجوهره.

4-    التعامل مع الأمّة الإسلاميّة، وعدم الخضوع للتقسيمات التي تفرض حضورها بقوّة، سواء في ذلك التقسيمات الطائفيّة أو العرقيّة أو السياسيّة، وغيرها، مع مراعاة الأحكام الشرعيّة بدقّة.

وفي هذا السياق لا يعترف خطاب الإمام بتقسيم العالم الإسلاميّ إلى أقطار مُتناحرة وكيانات مُتباينة، الأمر الذي لا يستطيع أي طرح إسلاميّ أن يهمله، وإن كان بالوسع اللجوء في تظهيره إلى المراتب الدنيا، التي تصل إلى حيث تلحّ على مسلمي كلّ بلد بالاندماج في مجتمعاتهم، وهو ما يعني عمليّاً نسيان مقولة دار الإسلام أو العالم الإسلاميّ.

والمتأمّل في خطاب الإمام حول فلسطين والغدّة السرطانيّة الصهيونيّة، يدرك بجلاء أنّ القدس كانت دائماً وأبداً محطّ الاهتمام، ولم يكن الاهتمام بإيران يوماً بمنأى عن كونها جزءأ من العالم الإسلاميّ الذي تُشنّ عليه الغارة الاستعماريّة، التي يشكّل الوجود الصهيونّي في فلسطين حجر الزاوية لمشروعها في إخضاع الأُمّة والقضاء عليها.

5-    لم يهادن خطاب الإمام يوماً نواطير الاستعمار الذين نصّبهم اليهود والمستعمرون «حكّاماً» على الكانتونات الإسلاميّة الممزّقة لجسد الأُمّة، وهو يعتبر التحالف معهم بمنزلة الاستقالة من الممانعة والاعتراض، فالثورة تعني الخروج من أَسْر معادلاتهم، وتشكّل هذه القناعةُ النقيضَ للقناعة السائدة التي تمّ التعبير عنها بضرورات الأنظمة وخيارات الأمّة، حيث إنّ المنطلق في خطاب الإمام كان دائماً هو أنّ ضرورات الأنظمة تستدعي قبل كلّ شيء قمع الأُمّة ومصادرات كلّ خياراتها.

6-    الفهم المتميّز للاحتياط في الدماء: ففي حين يحاذر الكثيرون من أيّ عمل يؤدّي إلى إراقة الدماء، يصرّ خطّ الإمام على أنّ تجنّب المواجهة كثيراً ما يؤدّي إلى إراقة سيل عَرِم من الدماء كان بالإمكان تجنّبها لو حملت روح التضحية البعض على بذل القليل من الدماء.

مثال ذلك: إنّ وجود حاكم ظالم يُمعن في الناس بطشاً وتنكيلاً يؤدّي إلى إراقة الكثير من الدماء، ولكن لو تصدّى عددٌ من الاستشهاديّين لإنزال حكم الله العادل بهذا الحاكم الطاغية لأَمكنَ أن تتجنّب الأمّة الأخطر من الدماء، وبهذا يكون التطبيق الدقيق للاحتياط في الدماء.

ولدى تطبيق هذا المبدأ على الصراع مع العدوّ الصهيونيّ، وما أنجزته المقاومة الإسلاميّة، نجد أحد أوجه الفرق بين خطّ الإمام وغيره.

وبمقدار ما يعبّر الخطاب الإسلاميّ عن حقيقة الإسلام، يكون فطريّاً تهفو له النفوس وتهوي إليه الأفئدة، ولقد وجد أهلنا في لبنان في خطاب الإمام ذلك، فكانت استجابتهم له نوعيّة، وهو ما مكَّن من انطلاقة المقاومة الإسلاميّة وتصاعد وتيرتها، وصولاً إلى النصر الأوّل المبين.

ومن المفيد أن نستحضر الأجواء التي رافقت دخول الصهاينة إلى لبنان في البداية، والاسترخاء الذي طبع تواجدهم داخل التجمّعات السكّانيّة ونزهاتهم على شواطئ البحر وغيره، وكيف انقلب الأمر فجأة إلى ما جعلهم حتّى الآن غارقين في ندمٍ مقيم ودهشةٍ مذهلة.

يؤكّد ما تقدّم، أنّ المقاومة الإسلاميّة ليست استمراراً لأيّ نهجٍ كان قبلَها، غير خطّ الإمام الخمينيّ.

ويؤكّد أيضاً أنّها لم تحقّق إنجازاتها بفعلٍ استراتيجيٍّ لبنانيّ، بل بفعلٍ استراتيجيٍّ إسلاميّ على أيدي مسلمين من لبنان تواصلوا مع خطاب الإمام، ولم يجدوا في ما كان سائداً من الطروحات الإسلاميّة في لبنان ما يصوغُ شخصيّاتهم في مدرسة الحبّ الإلهيّ، مدرسة ﴿..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ طه:39.

هذه هي بعض ملامح ثقافة المقاومة، وهذه هي مدرسة شهداء المقاومة الإسلاميّة ومجاهديها الجرحى والأسرى وسائر المنتظِرين، وفي جنباتها يتردّد صدى الجراح.. والحديث ذو شجون..

8 رجب 1423هجرية

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

16/07/2015

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات