إشكاليّة اشتباك النفس بالمال

إشكاليّة اشتباك النفس بالمال

31/05/2011

فرز الأجيال على أساس المبدئيّة أو المصلحة

الشيخ حسين كوراني

كما أنّ يعسوب النحل هو ملاذٌ، وأميرٌ، وقائدٌ، من أجل إنجاز مهمّة، كذلك هو عليّ عليه السلام ملاذٌ، وأميرٌ، وقائدٌ، لإنجاز مهمّة التوحيد العملي في النفس والحياة، من خلال بناء النفس بناءً توحيديّاً كما بلّغ سيّدُ النبيّين صلّى الله عليه وآله. أمّا المال، فهو الملاذ والأمير المُطاع والقائد المفدّى، لأنّه وسيلة إشباع الرغبات والإستجابة لجامح الأهواء.


هل القائد الذي يجب اتّباعه هو الذي يؤمِّن المال لتحقيق الرغبات والمصالح والأهواء؟

أم أنّ القائد هو الذي يحقّق العدالة بما تعنيه من قِيَم، وبما تتوقّف عليه القِيَم والعدالة من عِلم واستقامة في صراط الحقّ؟
أسّس رسول الله صلّى الله عليه وآله للإجابة الوافية عمّا تقدَّم بما أجمع المسلمون على روايته عنه صلّى الله عليه وآله، حول يعسوب الدِّين والإيمان والمؤمنين، ويعسوب الكفر والنفاق والظلم والفجور.
تشكّل هذه الروايات قاعدة نبويّة مبدئيّة، تتقاطع مع أُسُس عالميّة، وقِيَمٍٍ كَوْنيّة، ترسم بمجموعها منطلقات الهدى الإلهي وركائز الأديان السماويّة، في دروب تحقيق العدالة الإجتماعيّة وبناء الإنسان الفاضل.
تتقاطع هذه القاعدة مع قيمة العلم والمعرفة، ومع قيمة الأخلاق الفاضلة، ومع قيمة العدل، ومع نظام الحكم والإدارة القائم على أساس أنّ الحكم للأعلم الأفضل، وتتقاطع بالتالي مع  حاكميّة العقل والتزام خطّه في مقابل التزام الغرائز والهوى والشهوات.
القاعدة النبويّة «يعسوب المؤمنين..» هي -إذاً- عمليّة فرز للأجيال على أساس مبدئيّةِ عليّ عليه السلام، أو على أساس المال، وحيث إنّ المال لا يُطلب إلّا لتحقيق مصلحة تتوقّف عليه، فقد أمكن، بل تعيَّن القولُ بأنّ الطرف الثاني للفرز هو «المصلحة» و«النفعيّة».

**


لم يُبعث نبيّ إلّا وفي صُلب أهدافه قوت الفقراء، والتوزيع العادل للثروة، حتى لا يكون المال «دُولة» بين الملإ والمترَفين، والطواغيت والقوارين.
ولطالما شهد تاريخ البشريّة -ويشهد- إنتفاضاتٍ وثوراتٍ ترفع شعار تحقيق العدالة، ثمّ يتحوَّل دعاتها إلى قوارين وفراعنة. والسبب، أنّ أنفسهم لم تَسلم من مفارقات إشكاليّة اشتباك النفس بالمال. إنّهم من مدرسة المصلحة، ولا عهد لهم بالمبدأ والمبدئيّة.
ولم يشهد تاريخ البشريّة أنّ نبيّاً أو وصيَّ نبيّ، أو مَن صدَق في التزام نهج النبوّات، تحوَّل إلى قارون، أو حتى إلى مُترَف جرى الشيطان منه مجرى الدم، كما يصف عليٌّ عليه السلام معاوية بن أبي سفيان.
بُعث الأنبياء من بين الفقراء، وظلّوا مع الفقراء. مَن كان لديه منهم مالٌٌ حصل عليه بالطرق المشروعة، كان يصرف ماله على الفقراء، مُصرّاً على أن يعيش هو عيشة الفقراء.
موقع خدمة الفقير وسدّ حاجته الماليّة في الدِّين، هو موقع القرب الأعلى من الله تعالى «صدقة السرّ تُطفىء غضب الرَّب»، «خير الناس مَن نَفَع الناس».
لا يمكن الجمع بين السقوط في إغراء المال، وبين الصِّدق في حمل همِّ الفقراء، فضلاً عن المناقبيّة في حمل هذا الهمّ، والتي هي مدارج التأسّي بعليّ عليه السلام: «ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع».
السقوط في مستنقع مال الشهوات تدريجيّ، والشهوة الحلال -إذا استبدَّت- تجُرّ صاحبها   مُرغماً إلى الشهوة الحرام.

**


لكي يحفظ الإنسان سلامة إنسانيّته في دروب الحياة، عليه أن يوازن بين العمل لتحصيل المال لتأمين حاجاته الماديّة، وبين عدم السقوط أمام إغراء المال.
ليس للمال أن يستوطن القلب، فيستعبِد صاحبه فيتحوّل المال من خادم إلى مخدوم، ويتحّول القلب من مخزن القِيَم الإنسانيّة إلى مستودعٍ لرأسمال الهوى والنزوات.
مكان المال الجيْب، وحافظة النقود، وحيث يوضع الرصيد. وليس للمال من القلب إلّا مكان العناية بتحصيله، ليُصرَف في وجوه صرفه المشروعة على النفس والأسرة والأقربين وسائر الناس.
تتوقّف هذه الموازنة بين العمل لتحصيل المال، وبين تماسك الشخصيّة فلا تنهار أمام المال، على بساطة العيش وتقنين الأخذ من الدنيا. ليس المراد بالتقنين الكمّ ولا النوع، بل المراد تقنين حالة النفس حين تتناول لوازم الجسد من مأكل وملبس وغيرهما.
لا يسمح للنفس بأن تذلّ أمام حاجة. يجب أن يكون «تعلّقها» بكلٍّ من حاجاتها متناسباً مع قيمة النفس ومع قيمة الحاجة. عندما يختلّ تقنين «التعلّق» وتصبح الحاجة الآمر الناهي، فقد صادر الهوى العقل: «كم من عقل أسير تحت هوىً أمير» و«أكثرُ مصارع العقول، تحت بُروق المطامع» كما يقول عليّ عليه السلام.

**


حيث إنّ الفَلاح في مهمّة تقنين «تعلّق النفس» بحاجات الجسد، يتوقّف -غالباً- على تحديد الكميّة، وعدم العناية باختيار «مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح» تماهى الزهد مع تقليل «الكَمّ» وبساطة «النوعيّة».
في هذه النقطة بالذات، يلتقي البحث في مكامن إشكاليّة اشتباك النفس بالمال، عند مبدأ آخر، يجعل اختيار الكَمّ القليل والنوعيّة العاديّة، في باب الأخذ من الدنيا وتناولها أمراً متعيّناً، وهدفاً يحظى بالعناية التامّة، ولا يجوز التنازل عنه بحال. هذا المبدأ هو موقع الدنيا من الآخرة، الذي يعني أنّ البشرية كلّها مسافرة إلى الدار الآخرة، وزاد المسافر، ليس مأدبة، ولا مائدة وجِفان.
هنا بالذات هو المفصل الخطير، الذي يتلخّص في اعتبار أنّ بالإمكان الأخذ من طيّبات الدنيا بمأمنٍ من مُنزلق الغرق التدريجي في بحر شهواتها. ولهذا المفصل وجهٌ آخر هو أيضاً خطير جداً، وهو تصوُّر أنّ الزهد يعني منع النفس الطيّبات، وحملها قسراً على هجر اللّذائذ.
كِلا وجهَيْ هذا المفصل الخطير، لا علاقة لهما من قريب أو بعيد بسياسة النفس وترشيد نوع «تعلّقها»؛ لأنّ مَن أقبل على اللّذائذ وهو يأمن الإنزلاق والغرق التدريجي، لا يراقب تقلّب نفسه على أعتاب الشهوات، وما تعانيه من الذلّ والهوان. كذلك الأمر بالنسبة إلى مَن يمنع نفسه اللّذائذ قسراً وبالإجبار، فهو لا يراقب حركة الثورة المضادّة في النفس التي لا يلبث بركانها أن ينفجر.

**


الزهد عمليّة بناء للنفس لبنة لبنة، وخاطرة خاطرة، وخلجة خلجة، فالإسترسال والإستسهال اعتماداً على ثقة بالنفس في غير محلّها، ليس من ترويض النفس وبنائها في شيء، بل هو قرارٌ بعدم الحاجة إلى ما يرقى إلى مستوى جهاد النفس، كما أنّ الزهد ليس تجبّراً وقَمْعاً. قال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض، فإنَّ القلب إذا أُكره عَمِيَ».
والهدف الأوّل والأخير في عمليّة بناء النفس هو ميول النفس ورغباتها، ولا هدف غير ذلك، إلى حدّ أنّه يصحّ القول إنّ عملية بناء النفس هي عمليّة تنظيم أهوائها، لتتمحّض النفس في الميل المشروع الذي يقع في خطّ العقل، فيتحقّق العدل في «مملكة» النفس.
من هنا كان تقسيم القيادة إلى قيادة هدى «يعسوب الدِّين» وقيادة ضلال «يعسوب المال»، إنّما هو في جوهره تقسيم بحسب الميول والرغبات والأهواء. الأئمّة صنفان: أئمّة يدعون بأمر الله، هم أئمّة تنظيم الميول ونظْمها في خطّ العقل والشرع، وأئمّة يدعون إلى النار، هم أئمّة يقودون جموح الهوى إلى حيث يصبح الهوى المتفلِّت من حُكم العقل ربّاً يُعبد من دون الله: ﴿أرأيتَ مَن اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً﴾ الفرقان:43.

**


ويكشف التأمّل في هذه الروايات عن حقيقة تكاد تكون مُضيَّعة، وهي أنّ الزهد هو الأصل والقاعدة في الأخذ من الدنيا، وما عداه خروج عن الأصل وتجاوزٌ للقاعدة. في هذا السياق، يجب أن تتواصل عمليّة بناء النفس في كلّ المراحل، حتى في مرحلة الطفولة، حيث ينبغي أن يلحظ المربُّون قدرة الحدَث على مواجهة الإغراءات المختلفة، التي تمهّد لوقوعه في أسر إغراء المال.
يلتقي هذا الأصل مع روح كلّ التعاليم المأثورة عن النبيّ وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم، ومن ذلك ما بيّنه رسول الله صلّى الله عليه وآله حول تمثيل حال الإنسان والدنيا بقوله: «ما لي والدنيا! إنّما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب مرّ للقيلولة في ظلّ شجرة في يوم صيف، ثمّ راح وتركها».
وفي ما هو كالشرح والتفسير لهذا الحديث الشريف، يقول الإمام عليٌّ عليه السلام: «إنّما مثل مَن خبِر الدنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب، فأمّوا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم، ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم». وهذا المعنى «أنّ الزهد هو الأصل» مستفيض جداً في الآيات والروايات، بل إنّ أصل بقاء الإيمان بالآخرة في النفس قائم على هذا الأساس.

**


يمكن تلخيص ما تقدّم بالنتائج التالية:

1- أنّ التقابل بين «يعسوب الدين» و«يعسوب الظالمين» بكلّ تمظهراتهم، إنّما هو في الحقيقة تقابل بين العقل والهوى.
2- أنّ التَّدين ثمرة سلامة التفكير، وحُسْنِ استعمال العقل. والظلم ومتفرّعاته الواردة في روايات الحديث عن «اليعسوب» (وهي: الكفّار، والفجّار، والمنافقون) هو ثمرة التقلّب في أودية الهوى، والعبِّ من أكؤوس الشهوات.
3- أنّ القيمة العليا للأخلاق الفاضلة، حاضرة بقوّة في روايات «اليعسوب»، فمكارم الأخلاق هي الإلتزام بخطّ العقل، ومساوىء الأخلاق هي اتّباع الهوى.
4- كما أنّ يعسوب النحل هو ملاذٌ، وأميرٌ، وقائدٌ، من أجل إنجاز مهمّة، فكذلك هو عليّ عليه السلام ملاذٌ، وأميرٌ، وقائدٌ، لإنجاز مهمّة التوحيد العملي في النفس والحياة، من خلال بناء النفس بناءً توحيديّاً كما بلّغ سيد النبيّين صلّى الله عليه وآله. أمّا المال فهو الملاذ والأمير المطاع والقائد المفدّى، لأنّه وسيلة إشباع الرغبات والإستجابة لجامح الأهواء.
5-  الدرس العملي الأبرز، هو أن يراقب كلّ مسلم نفسه باستمرار، فلا تستدرجه إغراءات المأكل والملبس وسائر الشهوات، إلى الوقوع في  ورطة إغراء المال، فيقوده إلى الهلاك.

«ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ،ولكن هيهات أن يقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة،ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالقُرص،ولا طمع له بالشَّبَع».
الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام




اخبار مرتبطة

  إصدارات : دوريات

إصدارات : دوريات

02/06/2011

  إصدارات : كتب أجنبية

إصدارات : كتب أجنبية

02/06/2011

  إصدارات : كتب عربية

إصدارات : كتب عربية

02/06/2011

نفحات