العلّامة الشهيد مرتضى مطهّري

تدخل هذه المقالة للعلاّمة الشهيد مرتضى مطهّري ضمن الدروس في العلوم العرفانيّة التي ألقاها على طلّابه في الجامعات والحوزات الدينيّة خلال سنوات التدريس التي سبقت استشهاده.
يتناول هذا المقال باب المنازل والمقامات التي يجاهد العرفاء للوصول من خلالها إلى مقام العرفان الحقيقي. كما يتطرّق إلى وجوه الإشتراك والإفتراق بين العرفان والفلسفة الإلهيّة، مع إشارته إلى التقائهما عند الغاية العُليا، وهي «معرفة الله تعالى». 
               

يُؤمِن العُرفاء بضرورة طيّ منازل ومقامات لأجل الوصول إلى مقام العرفان الحقيقي، ويقولون بأنّ عدم عبورها يجعل الوصول إلى ذلك المقام غير مُمكِن.
ويوجد ما بين العرفان والحكمة الإلهيّة جهة اشتراك ووجوه افتراق. فالنقطة المُشتركة هي أنّ هدف الإثنين «معرفة الله تعالى». أما وجوه الإفتراق والإختلاف فهي:
أوّلاً: إنّ الحكمة الإلهيّة ترى في الهدف شيئاً آخر غير معرفة الله تعالى بالخصوص، وهو نظام الوجود كما هو موجود. فالمعرفة التي هي هدف الحكيم، تشكّل نظاماً تُعتبر معرفة الله رُكناً مهمّاً فيه. إلّا أنّ هذا الهدف في المدرسة العرفانيّة ينحصر في معرفة الله تعالى. فالعارف ينظر إلى معرفة الله على أنّها معرفة كلّ شيء. وكلُّ شيء ينبغي أن يُعرَف في ظلّها وفي الوجهة التوحيديّة. وهذا النّمط من المعرفة هو فرع معرفة الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: إنّ المعرفة المطلوبة عند الحكيم، هي معرفة فكريّة وذهنيّة، كتلك المعرفة التي يريد الرياضيّون الحصول عليها في حلّ المعضلات والمسائل الرياضيّة. أمّا المعرفة المطلوبة عند العارف، فهي المعرفة الحُضوريّة والشهوديّة، كتلك التي تحصل للباحث في المُختبر. فالحكيم يطلُب علم اليقين، والعارف يريد عين اليقين.
ثالثاً: الوسيلة التي يستخدمها الحكيم هي العقل والإستدلال والبُرهان، أمّا الوسيلة التي يستَخدِمها العارف فهي القلب والتصفية والتهذيب والتكميل للنفس. فالحكيم يحرِّك منظار ذهنه ليُطالع نظام العالم من خلاله، أمّا العارف فإنّه يتحرّك بكلّ وجوده ليصل إلى كُنه الوجود وحقيقته. وهو يتّصل بالحقيقة كالقطرة التي تمتزج بالبحر.
كذلك فإنّ الكمال الفطري والمطلوب في نظر الحكيم يَكمُن في الفهم، أمّا الكمال الفطري والمرجوّ عند العارف فهو في الوصول. وعند الحكيم يكون الإنسان ناقصاً إذا كان جاهلاً، أمّا العارف فإنّه يرى نقص الإنسان مُساوياً للبُعد والهجر من أصله أو ناتج منهما.
رابعاً: يعتبرُ العارفُ أنّ الوصول إلى المقصد الأصلي والعرفان الحقيقي، لا يتمّ إلّا من خلال عبور سلسلة من المنازل والمراحل والمقامات، ويُسمّي هذا الأمر بـ«السير والسلوك». وفي الكتب العرفانيّة بُحِثَت مسائل المنازل والمقامات بالتّفصيل، وقد خصّص الشيخ الرئيس ابن سينا -الذي لم يكن فيلسوفاً جامداً، وخصوصاً في أواخر عمره حيث أظهر ميولاً نحو العرفان- فصلاً كاملاً عن «مقامات العارفين» في كتابه (الإشارات).


تعريف العارف

يقول ابن سينا في (الإشارات):

«المُعرِض عن متاع الدنيا وطيّباتها يُخصُّ باسم الزاهد؛ وأمّا المواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوها فيُخصُّ باسم العابد؛ والمتصرّف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحقّ في سرّه يُخَصُّ باسم العارف، وقد يتركّب بعض هذه مع بعض».
عرَّف ابن سينا الزاهد والعابد والعارف، وفي الوقت نفسه عرَّف الزهد والعبادة والعرفان ضمنيّاً. لأنّ تعريف الزاهد بما هو زهد، والعابد بما هو عبادة، والعارف بما هو عرفان، مستلزمٌ لتعريف الزهد والعبادة والعرفان.
وهكذا تكون نتيجة المطلب أنّ الزهد عبارة عن الإعراض عن المشتهيات الدنيويّة، والعبادة عبارة عن أداء أعمال خاصّة من قبيل الصلاة والصوم وتلاوة القرآن وأمثالها، أمّا العرفان فهو انصراف الذهن عمّا سوى الله تعالى، والتوجّه الكامل إلى ذات الحقّ لأجل شروق نور الحقّ في القلب.
وقد أشار في الجملة الأخيرة إلى نقطة مهمّة وهي أنّه قد «يتركّب بعض هذه مع بعض». فيمكن إذن أن يكون شخص ما زاهداً وعابداً في الوقت نفسه، أو عابداً وعارفاً، أو زاهداً وعارفاً، أو يَجمع كلّ المراتب.
والنقطة الجدير بالإنتباه هَهنا هي أنّ كلّ عارف هو زاهد وعابد، ولكن ليس بالضرورة أن يكون الزاهد أو العابد عارفاً.
وسوف يأتي الحديث لاحقاً أنّ لزهد العارف فلسفة مختلفة عن زهد غير العارف. ففلسفة زهد الزاهد العارف شيء آخر، كما أنّ فلسفة عبادة العارف تختلف عن عبادة غير العارف، بل أنّ روح وماهيّة زهد العارف وعبادته تختلف عن زهد غيره وعبادته.
«الزهد عند غير العارف معاملة ما، كأنّه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة، وعند العارف تنزّه عمّا يشغُل سرّه عن الحقّ، وتكبّر على كلّ شيء غير الحقّ. والعبادة عند غير العارف معاملة ما كأنّه يعمل في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الأجر والثواب، وعند العارف رياضة ما لِهِمَمِه، وقوى نفسه المتوهِّمة والمتخيّلة، ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحق».

هدف العارف

«العارف يريد الحقّ الأوّل لا لشيءٍ غيره، ولا يُؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبُّده فقط للله تعالى لأنّه مستحقّ للعبادة، ولأنّها نسبة شرف إليه لا لرغبة أو رهبة».
العارف يريد الله سبحانه وتعالى فقط، ولا يريده بواسطة النِّعَم الدنيويّة أو الأخرويّة. لأنّ هذا الأمر يجعل تلك النَّعَم هي المطلوبة بالذّات ويكون الله مقدّمة ووسيلة. ممّا يعني أنّ المعبود الحقيقي هو النفس، لأنّ تلك النِّعَم ليست إلّا لإرضاء النفس.
فكلُّ ما يطلُبُه العارف يكون لله عزّ وجلّ. وهذه النَّعم الإلهيّة ليست إلّا مظهراً لعنايته وتوجّهه وكرمه ولُطفِه.
غيرُ العارف يريد الله لأجل الحصول على نِعَمِه، أمّا العارف فإنّه يجعلها وسيلة للوصول إلى الله.
وهنا يبرز سؤال وهو أنّ العارف لو كان يُريد الله لا لشيء، فلماذا يعبُدُه؟ أليس أنّ كلّ عبادة لأجل مقصدٍ ما؟
إنّ هدف العارف ودافعه للعبادة أمران:
الأوّل: الإستحقاق الذاتي للمعبود للعبادة؛ يعبده لأنّه أهلٌ لذلك. كما يحدث عندما يرى الإنسان كمالاً ما في شخص أو شيء فيمدحه، وإذا سُئِل: ما الذي دفعك إلى مدحه والثناء عليه؟ ماذا تستفيد من هذا المدح؟ يقول: «لم أمدحه لأجل الحصول على فائدةٍ ما، وإنّما أثنيتُ عليه لأنّه يستحقّ هذا الثناء».
الثاني: اللَّياقَة الذاتية للعبادة. أي الشرف والحُسن الذاتي الذي تتمتّع به. وذلك لأنّها نسبة وارتباط ما بين الله والعبد. فلا يلزم إذن أن تكون كلّ عبادة لأجِل طمع أو خوف.
وهنا نُحيل إلى الجملة المعروفة المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام:
«إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارِك، ولا طمعاً في جنّتِك، بل وجدتُك أهلاً للعِبادة فعبدتُّكَ».
يعتمد العرفاء على هذا الأمر كثيراً، فلو كان الهدف الذي ينشده الإنسان في الحياة وفي خصوص العبادة غير ذات الحقّ، لكان ذلك نوعاً من الشَّرك، والعرفان يقف مقابل الشرك بِقُوّة.

الإيمانُ عقلٌ وقَلب

يتحقَّق الإيمان عندما يصل إلى القلب هذا الإدراك العقلي والتَّصوُّرات المفهوميّة التي أُقيم عليها البرهان، وعندما يَصل إلى القلب هذا المعنى القرآني البرهاني ويقرأ (الشخص) بالقلب ما قَرأَه بالعقل، وعندما يعلم القلب ذلك بالتكرار والرياضات والمُجاهدات، عندها يُؤمن القلب بأن «ليس في الدار غيرُ دَيَّار»
                                                                                                                           الإمام الخميني قدّس سرّه