الملف

الملف

11/10/2015

عاشوراءُ الحسَين عليه السّلام إحياءُ الدِّين، وصلاحُ الأمّة


عاشوراءُ الحسَين عليه السّلام

إحياءُ الدِّين، وصلاحُ الأمّة

 

اقرأ في الملف

استهلال

أشهدُ أنّ دمَك سكن في الخُلد..

حُفظ الإسلام بعاشوراء

من خطاب للإمام الخميني قدّس سرّه

في وجوب واستحباب زيارة سيد الشهداء عليه السلام

الفقيه الشيخ حسين آل عصفور رحمه الله

الأسرار الإلهية للمأتم الحسيني

الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه

من تاريخ المجالس الحسينية

فائق محمد حسين

شذرات من الأدب الحسيني

من كتاب (المصباح) للفقيه الشيخ إبراهيم الكفعمي رحمه الله

 

استهلال

أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ

عن الإمام الصّادق عليه السلام:

إذَا أَتَيْتَ أَبَا عَبْدِ الله، عَلَيْهِ السّلامُ، فَاغْتَسِلْ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، ثُمَّ الْبَسْ ثِيَابَكَ الطَّاهِرَةَ، ثُمَّ امْشِ حَافِياً، فَإِنَّكَ فِي حَرَمٍ مِنْ حَرَمِ الله وحَرَمِ رَسُولِه، وعَلَيْكَ بِالتَّكْبِير،ِ والتَّهْلِيلِ، والتَّسْبِيحِ، والتَّحْمِيدِ، والتَّعْظِيمِ للهِ، عَزَّ وجَلَّ، كَثِيراً، والصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِه، حَتَّى تَصِيرَ إِلَى بَابِ الْحَيْرِ، ثُمَّ تَقُولُ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله وابْنَ حُجَّتِه ".."

أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ واقْشَعَرَّتْ لَه أَظِلَّةُ الْعَرْشِ، وبَكَى لَه جَمِيعُ الْخَلَائِقِ

 ".." وأَشْهَدُ أَنَّكَ قَتِيلُ اللهِ وابْنُ قَتِيلِه..

(الشيخ الكليني، الكافي)

 


خطابُ الإمام الخميني قدس سره للمُحاضرين والخُطباء الحُسَينيّين

حُفظ الإسلام بعاشوراء

أخذ الاهتمام بإحياء المجالس الحسينيّة مكانة خاصّة في أحاديث الإمام روح الله الخميني ومؤلّفاته، قدّس سرّه. وقد تضاعفت توجيهاته للمُحاضرين والخُطباء الحُسينيّين بعد انتصار الثورة وإقامة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

في ما يلي نستعيد أحد أبرز أحاديثه، قدّس سرّه، خلال لقائه مع علماء قمّ وطهران بتاريخ 21 حزيران 1986 بمناسبة حلول شهر محرّم الحرام والاستعداد لإحياء المراسم الحسينيّة.



إنّ ما أودّ أن أعرضه على السادة الخطباء، هنا، هو أنّ قيمة العمل الذي يقومون به، ومدى أهميّة مجالس العزاء لم تُدرَك إلّا قليلاً، ولربّما لم تدرَك على الإطلاق، فالروايات التي تقول إنّ كلّ دمعة تذرَف لمصاب الحسين، عليه السلام، لها من الثواب كذا وكذا، وتلك الروايات التي تؤكّد أنّ ثواب مَن بكى أو تباكى... لم تكن من باب أنّ سيّد المظلومين، عليه السلام، بحاجة إلى مثل هذا العمل، ولا لغرض أن ينالوا هم وسائر المسلمين هذا الأجر والثواب بالرغم من أنّه محرزٌ ولا شكّ فيه حتماً.

ولكن لِمَ جُعِلَ هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء؟ ولماذا يجزي الله، تبارك وتعالى، مَن بكى أو تباكى بمثل هذا الثواب والجزاء العظيم؟

إنّ ذلك يتّضح تدريجيّاً من ناحيته السياسيّة، وسيُعرف أكثر فيما بعد إن شاء الله، إنّ هذا الثواب المُخصّص للبكاء ومجالس العزاء، إنّما يُعطى - علاوة على الناحية العباديّة والمعنويّة - على الناحية السياسيّة، فهناك مغزى سياسيّ لهذه المجالس. 

لقد قيلت هذه الروايات في وقت كانت هذه الفرقة الناجية مبتلاة بالحكم الأمويّ، وأكثر منه بالحكم العبّاسيّ، وكانت فئة قليلة مستضعفة تواجه قوى كبرى.

لذا وبهدف بناء هذه الأقليّة وتحويلها إلى حركة مُتجانسة، اختطّوا لها طريقاً بنّاءً، وتمَّ ربطُها بمنابع الوحي، وبيت النبوّة وأئمّة الهدى، عليهم السلام، فراحوا يخبرونهم بعظمة هذه المجالس واستحقاق الدموع التي تُذرف فيها الثواب الجزيل، ما جمع الشيعة - على الرغم من كونهم آنذاك أقليّة مستضعَفة - في تجمّعات [عقائدية]...

قصّتي مع المجالس الحسينيّة

وطوال التّاريخ، كانت مجالس العزاء - هذه الوسائل التنظيميّة - مُنتشرة في أرجاء البلدان الإسلاميّة. وفي إيران التي صارت مهداً للإسلام والتشيّع، أخذت هذه المجالس تتحوّل إلى وسيلة لمواجهة الحكومات التي توالت على سدّة الحكم، السّاعية لاستئصال الإسلام وقلعه من جذوره، والقضاء على العلماء، فهذه المجالس والمواكب هي التي تمكّنت من الوقوف بوجهها وإخافتها.

في المرّة الأولى التي اعتقلتني سلطات النظام الملكيّ وجيء بي من قمّ إلى طهران، قال لي بعض رجال أمنهم الذين اصطحبوني في السيّارة: لقد جئنا لإلقاء القبض عليك والخشية تملؤنا من أن يطّلع على أمرنا أولئك الموجودون في تلك الخيم والتكايا بمدينة قمّ فنعجز حينذاك عن أداء مهمّتنا. وخوف هؤلاء ليس بشيء، لكنّ القوى الكبرى تخشى هذه المواكب والمآتم، القوى الكبرى تخشى هذا التنظيم الذي لا يستند إلى يدٍ واحدة تحرّكه، فالشعب يجتمع في هذه المجالس طواعيّةً، وتنعقد هذه المجالس في كلّ أنحاء البلاد، في بلدٍ مترامي الأطراف في أيّام عاشوراء وخلال شهرَي محرّم وصفر، وفي شهر رمضان المبارك، فهذه المواكب والمآتم هي التي تجمع الناس.

وإذا كان هناك موضوع يُراد منه خدمة الإسلام، وإن أراد امرؤٌ أنّ يتحدّث عن قضية مُعيّنة، نرى أنّ ذلك يتسنّى له في كلّ أنحاء البلد بواسطة هؤلاء الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة، فينتشر الموضوع المراد تبليغه للناس دفعة واحدة في جميع أنحاء البلاد. واجتماع الناس تحت هذا اللواء الإلهيّ، هذا اللواء الحسينيّ، هو الذي يؤدّي إلى تعبئة الجماهير.

ولو أنّ القوى الكبرى عزمت على عقد مثل هذه التجمّعات الجماهيريّة الكبرى في البلدان التي تحكمها، فإنّ ذلك يحتاج منها إلى أعمال ونشاطات وجهود كبرى تستغرق عدّة أيّام أو عشرات الأيّام، فهي مضطّرة ولأجل عقد تجمّع جماهيريّ، في مدينة من المدن، يضمّ مثلاً مائة ألف أو خمسين ألفاً إلى إنفاق مبالغ طائلة وبذل جهود جبّارة، لجمع الناس وجعلهم يستمعون لحديث مُحدّثهم.

ولكنّكم ترون كيف أنّ هذه المجالس والمواكب التي ربطت الجماهير بعضهم ببعض، هذه المآتم التي حرّكت الجماهير، يلتئم شملها من جميع الشرائح الاجتماعيّة المعزّية بمجرّد أن يحصل أمر يستدعي التجمّع، وليس في مدينة واحدة بل في كلّ أنحاء البلاد، ومن دون الحاجة إلى بذل جهودٍ كبرى أو إعلام واسع النطاق.

إنّ الناس يجتمعون على كلمة واحدة لمجرّد أنّهم يعتقدون أنّها خرجت من فم الحسين سيّد الشهداء عليه السلام.

في الرواية الواردة عن أحد الأئمّة (الإمام الباقر عليه السلام) يوصي عليه السلام أن يُقام العزاء عليه ويُرثى في مِنى بعد وفاته، ليس ذلك لأنّ الإمام الباقر عليه السلام بحاجة إلى ذلك، أو أنّ هناك منفعة شخصيّة ستعود عليه، عليه السلام، ولكن انظروا إلى الأثر السياسيّ لهذا الأمر، فعندما يأتي الناس من كلّ أنحاء العالم لأداء مراسم الحجّ، ويجلس مَن يندب الإمام الباقر عليه السلام ويقرأ المراثي بشأنه، ويوضح جرائم مخالفيه ومَن سقوه كأس الشهادة، فإنّ ذلك يخلق أمواجاً من الغضب في كلّ أنحاء العالم، لكنّ البعض يستهينون بأهميّة هذه المجالس.

قد يسمّينا المتغرّبون بـ(الشعب البكّاء)، ولعلّ البعض منّا لا يتمكّن من قبول أنّ دمعة واحدة لها كلّ هذا الثواب العظيم، لا يمكن إدراك عظمة الثواب المترتّب على إقامة مجلس للعزاء، والجزاء المعدّ لقراءة الأدعية، والثواب المُعدّ لمَن يقرأ دعاء ذا سطرين مثلاً.

إنّ المهمّ في الأمر هو البُعد السياسيّ لهذه الأدعية وهذه الشعائر، المهمّ هو ذلك التوجّه إلى الله وتمركز أنظار الناس إلى نقطةٍ واحدة وهدفٍ واحد، وهذا هو الذي يعبّئ الشعب باتّجاه هدف إسلاميّ أو غاية إسلاميّة؛ فمجلس العزاء لا يهدف (فقط) للبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام والحصول على الأجر - وطبعاً فإنّ هذا حاصل وموجود - الأهمّ من ذلك هو البعد السياسيّ الذي خطَّط له أئمّتنا عليهم السلام في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية، وهو الاجتماع تحت لواءٍ واحد وبهدفٍ واحد، ولا يمكن لأيّ شيءٍ آخر أن يحقّق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيّد الشهداء عليه السلام...

إنّ هذه المجالس التي تُذكر فيها مصائب سيّد المظلومين عليه السلام، وتظهر مظلوميّة ذلك المؤمن الذي ضحّى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله، هي التي خرّجت أولئك الشبّان الذين يتحرّقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتَراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها.

هذه المجالس هي التي خرّجت أمّهات يفقدن أبناءهنّ ثمّ يقلن بأنّ لديهنّ غيرهم، وأنّهن مستعدّات للتضحية بهم أيضاً.

إنّها مجالس سيّد الشهداء عليه السلام ومجالس الأدعية من دعاء كميل وغيره، هي التي تصنع مثل هذه النماذج وتبنيها، وقد وَضع الإسلام أساس ذلك منذ البداية وعلى هذه الركائز، وقدّر له أن يتقدّم ويشقّ طريقه وفق هذا المنهج.

ولو كان هؤلاء يعلمون حقيقة ويدركون أهميّة هذه المجالس والمواكب وقيمة هذا البكاء على الحسين عليه السلام والأجر المعدّ له عند الله، لما سمّونا شعباً بكّاءً، بل لقالوا عنّا شعب الملاحم.

لو فهموا الآثار التي تركتها أدعية الإمام السجّاد، عليه السلام، وكيف أنّ بإمكانها تعبئة الجماهير وتحريكهم، وهو عليه السلام الفاقد لتوّه كلّ أهل بيته في كربلاء، والذي عاش في ظلّ حكومة مستبدّة جائرة تفرض هيمنتها على كلّ شيءٍ، لما قالوا لنا ما جدوى هذه الأدعية، ولو أنّ مثقّفينا أدركوا الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة لهذه المجالس والأدعية والأذكار لما قالوا: لِمَ تفعلون كلّ هذه الأمور وتتمسّكون بها...

ليعلم شعبنا قيمة هذه المجالس وأهميّتها، فهي التي أبقت الشعوب حيّة، في أيّام عاشوراء بنسبة أكبر وفي سائر الأيّام بدرجة أقلّ، وبهذا الشكل الذي نراه، ولو كان المبهورون بالغرب يعرفون البُعد السياسيّ لها، ولو كانوا يدّعون - حقّاً - السعي لتحقيق مصالح الشعب والبلد، لرغبوا هم فيها أيضاً ولبادروا إلى إقامتها.

إنّني آمل أن تقام هذه المجالس بشكلٍ أفضل وعلى نطاقٍ أوسع، وإنّ للجميع، بدءاً من الخطباء وانتهاءً بقرّاء المراثي والقصائد، دوراً وتأثيراً في ذلك، فإنّ ذلك الذي يقف أسفل المنبر ويقرأ بعض الرثاء، وذلك الذي يرتقي المنبر خطيباً، كلاهما له تأثيره ودوره الطبيعي، وإن كان البعض لا يدركُ قيمة عمله، من حيث لا يشعر...

إنّ على السادة الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة أن يوضّحوا هذه الأمور للناس... لا يظنّوا أنّنا مجرّد شعب بكّاء، فإنّنا شعب تمكّن بواسطة هذا البكاء والعزاء من الإطاحة بنظام عمّر ألفين وخمسمائة عام.


 

زيارة سيّد الشهداء عليه السلام

في الوجوب والاستحباب

ـــــــــــــــــ الفقيه الشيخ حسين آل عصفور رحمه الله ـــــــــــــــــ

وجوب زيارة سيّد الشهداء عليه السلام واستحباب ما يترتّب عليها من أعمال، هي موضوع المقالة التالية للعلّامة الشيخ حسين آل عصفور، وقد اخترناها من كتابه (سداد العباد ورشاد العُبّاد)، وفي ما يلي نصّها:

 

تجب زيارة الحسين عليه السلام على الرجال والنساء من القادرين على ذلك، للتعبير في جملة من [الروايات] المُعتبرة وغيرها، بأنّها فريضة واجبة على الرجال والنساء.

ومَن لم يقدر على ذلك فليجهّز غيره، والمشهور بين أصحابنا الاستحباب المؤكّد، ومنهم مَن جمع بالواجب الكفائي كالمحدّث النوري (صاحب الوسائل).

وما زاد على المرّة الواحدة فهو من السُّنن المندوبة. وتتأكّد [زيارة الحسين عليه السلام] في النصف من شعبان، ويوم مقتله عليه السلام، ويوم عرفة، وكلّ يوم عيد، ونصف رجب وأوّل يوم منه، وأوّل ليلة من شهر رمضان، وليلة نصفه، وليالي القدر، وفي آخر ليلةٍ منه، وفي ليلة كلّ جمعة، ويوم الأربعين من مقتله عليه السلام، وهو اليوم العشرون من صفر.

وينبغي أن يزوروه شُعثاً غُبراً، ويُستحبّ الغسل لزيارته من الفرا    ت وغيره... وينبغي التسليم عليه من بُعد، ويستحبّ إكثار الصلاة عند قبره نفلاً وفرضاً.

وينبغي أن يستعمل من الآداب ما تضمّنه خبر محمّد بن مسلم، كما في (كامل الزيارات) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. قال: «قلتُ له: إذا خرجنا إلى أبيك، أَفَلسنا في حجّ؟

قال: بَلَى.

قلت: فيلزمنا ما يلزم الحاجّ؟

قال: ماذا؟

قُلْتُ: من الأشياء التي تلزم الحاجّ.

قال: يَلْزَمُكَ حُسْنُ الصَّحابَةِ (الصّحبة) لِمَنْ يَصْحَبُكَ، وَيَلْزَمُكَ قِلَّةُ الكَلامِ إِلَّا بِخَيرٍ، وَيَلْزَمُكَ كَثْرَةُ ذِكْرِ الله، وَيَلْزَمُكَ نَظافَةُ الثِّيابِ، وَيَلْزَمُكَ الغُسْلُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ الحائِرَ، وَيَلْزَمُكَ الخُشوعُ وَكَثَرْةُ الصَّلاةِ، وَالصَّلاةُ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُكَ التَّوَقّي لِأَخْذِ ما لَيْسَ لَكَ، وَيَلْزَمُكَ أَنْ تَغُضَّ بَصَرَكَ، وَيَلْزَمُكَ أَنْ تَعودَ عَلى أَهْلِ الحاجَةِ مِنْ إِخْوانِكَ إِذا رَأَيْتَ مُنْقَطِعاً، وَالمُواساةُ، وَيَلْزَمُكَ التَّقِيَّةُ الّتي قِوامُ دينِكَ بِها، وَالوَرَعُ عَمّا نُهيتَ عَنْهُ، وَتَرْكُ الخُصومَةِ وَكَثْرَةِ الأيْمانِ، والجِدالِ الّذي فيهِ الأَيْمانُ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ تَمَّ زَورتُكَ كَما تَمَّ حَجُّكَ وَعُمْرَتُكَ، وَاسْتَوْجَبْتَ - مِنَ الّذي طَلَبْتَ ما عِنْدَهُ بِسَعْيِكَ - أَنْ تَنْصَرِفَ بِالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوانِ».

وينبغي الإكثار من الدعاء وطلب الحوائج عند قبره عليه السلام.

ويستحبّ لمن أراد زيارته أن:

* يصوم ثلاثاً، آخرها [يوم] الجمعة.

* ثمّ يغتسل ليلتها ويخرج على غُسلٍ.

* تاركاً الدّهنَ والطِّيب، ملازماً الحزنَ والشّعث والجوع والعطش.

* متجنّباً الطّيّباتِ من الطعام كالحلاوة والأخبصة... وأشباهها، والاقتصار على أكل الخبز واللَّبن، وترك اللّحم ما دام في كربلاء.

* وإذا أراد الصلاة عنده فليصلّ خلفه؛ ويصلّي من النوافل الراتبة حتّى الصلاة المقصورة، ويبالغ في الصلاة تماماً.

* وجاء في من أقام عنده كلّ يوم بألف شهر.

* والمُنفق كلّ درهم عنده بألف درهم.

* وفي إنفاق من يجهّز إليه، ولم يخرج لِعِلَّة تصيبه، أن يعطيه الله بكلّ درهم مثل أُحُد من الحسنات، ويخلف عليه أضعاف ما أنفق.

* وينبغي أن يزوره ماشياً؛ فإنّ له بكلّ خطوة ألف حسنة، وتُمحى عنه ألف سيّئة، وتُرفع له ألف درجة.

* فإذا أتى الفرات فليغتسل منه.

* وليخلع نعليه، وليمشِ حافياً مشية العبد الذليل.

* فإذا انتهى إلى الحائر فليكبّر أربعاً، ثمّ ليمشِ قليلا فيكبّر أربعاً، ثم يأتي رأسه وليكبّر أربعاً.

* وجاء في الماشي: «يكتبُ اللهُ له بكلّ خطوةٍ وبكلّ قَدَمٍ يرفعُها ويضعُها عتقُ رقبةٍ من وُلد إسماعيل عليه السلام». وليبالغ في تكرارها بقدر الإمكان.

* وجاء في القريب [أي في البلاد القريبة من كربلاء] في السنة مرّتين إذا كان غنيّاً.

* وعلى الفقير مرّة.

* وللقريب الملاصق أن يأتيه كلّ جمعة.

* ويكره الجوار عنده لمَن يورثه القسوة.

* ويستحبّ أن يضيف إلى زيارته زيارة ابنه عليٍّ عليه السّلام، وهو أقربُ الشهداء إليه.

* ثمّ يتبعه بزيارة الشهداء ويومئ إليهم في الأرض، فإنّ حومة الحائر مشتملة عليهم، وليس لهم أجداث على الحقيقة متميّزة، سوى العبّاس بن عليٍّ عليه السّلام، فإنّ مشهده على الانفراد كما هو مشاهد الآن.

* وينبغي أن يفعل في زيارته [العبّاس عليه السّلام] مثل ما فعل في زيارة أخيه الإمام الحسين من الآداب، ومن زيارته من وجهه كما يزار المعصوم، لا زيارته من خلفه كما تُزار سائر الناس.

* ثم يودّع الحسين عليه السّلام عند منصرفه، ناوياً العود إليه.

* وجاء [في الأخبار] زيارته عليه السلام من بُعد، إمّا بأن يبرز إلى الصحراء، أو يصعد على سطح، مقدّماً الصّلاة على التسليم، أو مؤخّراً لها عنه، كما جاء في الأمرين.

 
 

الأسرار الإلهيّة للمأتم الحسيني

بقلم: الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه

للإمام المرجع السيّد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه مطالعات مشهودة في ترسيخ البنيان الثقافي والمعرفي للثقافة العاشورائيّة. ولأجل تظهير أهميّة مطالعاته، اختارت «شعائر» من كتابه (المجالس الفاخرة) هذا النصّ الذي يضيء على الدلالات الإيمانيّة والعقائديّة العميقة لإحياء العزاء الحسيني.

 

عَلِمَ الباحثون من مدقِّقي الفلاسفة أنّ في مآتمنا المُختصّة بأهل البيت عليهم السلام، أسراراً شريفة تعود على الأمّة بصلاح آخرتها ودنياها، أُنبّهك إليها بذكر بعضها، وأُوكل الباقي إلى فطنتك:

* فَمنها: إنّ المصلحة التي استُشهد الحسين عليه السّلام - بأبي وأمّي - في سبيلها، وسُفك دمه الزكي تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة، وبيان ذلك:

إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عليهم السلام عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأظهروا التأييد لدينه، والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس، واغترّ بهم أكثر الناس، ولمّا ملكوا من الأمّة أزمّتها، واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا - والناسُ في سِنَةٍ عن سوء مقاصدهم - من حلال الله ما شاؤوا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكّموا فيه القاسطين، فَسَمَلُوا أعينَ أولياء الله، وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم على جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم حتى تفرّقوا أيدي سبأ، ولعنوا أمير المؤمنين عليه السّلام، وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين صلّى الله عليه وآله.

استنقاذ الدين

فلو دامت تلك الأحوال، وهم أولياء السلطة المطلقة، والرئاسة الروحانيّة، لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً، لكنْ ثارَ الحسينُ عليه السّلام فادياً دين الله، عزّ وجلّ، بنفسه وأحبّائه حتّى وردوا حياض المنايا، ولسان حاله يقول:

إِنْ كانَ دينُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَسْتَقِمْ

إِلّا بِقَتْلي فَيَا سُيوفُ خُذيني

 

فاستَنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء - بوقوع تلك الرزايا - عن نفاق القوم حتّى تجلّت عداوتهم لله، عزّ وجلّ، وظهر انتقامهم من رسول الله، صلّى الله عليه وآله، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عُطاشى والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياءً، وقد غارت أعينهم من شدّة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شَيبة الحمد حتّى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤوسهم على أطراف الأسنّة، وتركوا أشلاءهم الموزّعة بالعراء، ثمّ أزروا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلّبات، وطافوا البلاد بهنّ سبايا كأنهنّ من كوافر البربر، حتّى أدخلوهنّ تارةً على ابن مرجانة، وأخرى على ابن آكلة الأكباد، وأوقفوهنّ على درج الجامع في دمشق حيث تُباع جواري السبي.

فلم تبقَ بعدها وقفةٌ من عداوتهم لله، ولا ريبةٌ بنفاقهم في دين الإسلام، وعَلِمَ، حينئذٍ، أهلُ البحث والتنقيب من أولي الألباب أنّ هذه أمورٌ دُبِّرت بليلٍ، وأنّها عن عَهْدٍ عهدَ السلف بها إلى خَلَفه، وما كانت ارتجالاً من يزيد - وما المسبّب لو لم ينجح السبب - ثمّ لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكلّ مَن نظر نظراً فلسفيّاً في فجائع الطفّ وخطوب أهل البيت عليهم السلام، أو بَحَثَ بَحْثَ مدقّقٍ عن أساس تلك القوارع، وأسباب هاتيك الفظائع.

وقد علم أهل التدقيق من أولي البصائر أنّه ما كان لهذا الفاجر أن يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده سلَفُه من هدم سورهم، وإطفاء نورهم، وحمله الناس على رقابهم، وفعله الشنيع يوم بابهم. وتَاللهِ لولا ما بذله الحسين عليه السّلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكيّة، ونفوس أحبّائه بتلك الكيفيّة، لأمسى الإسلام خبراً من الأخبار السالفة، وأضحى المسلمون أُمّةً من الأمم التالفة، إذ لو بقي المنافقون على ما كانوا عليه من الظهور للعامّة بالنيابة عن رسول الله، والنصح لدينه صلّى الله عليه وآله، وهم أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدّسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا، وبثّوا من روح الزندقة ما شاؤوا، وفعلوا بالدين ما تُوجبه عداواتهم له، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.

وأمّا وشَيبة الحسين عليه السلام المخضوبة بدمه الطاهر، لولا ما تحمّله سلام الله عليه، في سبيل الله، ما قامت لأهل البيت عليهم السلام (وهم حُجج الله) قائمة، ولا عرفهم (وهم أولو الأمر) ممّن تأخّر عنهم أحدٌ، لكنّه - بأبي وأُمّي - فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار العالمين، واستلفت الأبصار مصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت، واضطرّ الناس، بحلول هذه القارعة، إلى البحث عن أساسها، وحملَهم على التنقيب عن أسبابها، والفحص عن جذرها وبذرها، واستنهض الهِمم إلى حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام، وحرّك الحميّة على الانتصار لهم، لأنّ الطبيعة البشريّة، والجِبلّة الإنسانيّة تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الظالمين، فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت عليهم السلام حتّى كأنّهم قد دخلوا - بعد فاجعة الطفّ - في دور جديد، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة بأجلى مظاهرها، وسطع نور أهل البيت عليهم السلام بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنّة فيهم عليهم السلام، فهدى الله بها مَن هدى لدينه، وضلّ عنها مَن عميَ عن سبيله.

وكان الحسين - بأبي وأُمّي - على يقينٍ من ترتُّب هذه الآثار الشريفة على قتله، وانتهاب رحْله، وذبح أطفاله، وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمّة بالحق، واستنقاذ الدين من أئمّة المنافقين - الذين خفيَ مكرهم، وعلا في نفوس العامّة أمرهم - إلّا الاستسلام لتلك الرزايا، والصبر على هاتيك البلايا، وما قصد كربلاء إلّا لتحمّل ذلك البلاء؛ عهد معهود عن أخيه، عن أبيه، عن جدّه، عن الله، عزّ وجلّ، ويرشدك إلى ذلك - مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة - دلائل أقواله، وقرائن أفعاله، فإنّها نصٌّ فيما قلناه..

 

* ومنها: إنّها جامعة إسلاميّة، ورابطة إماميّة باسم النبيّ وآله، صلّى الله عليه وآله، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله، عزّ وجلّ، والتمسّك بثقلَي رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وفيها من اجتماع القلوب على أداء الرسالة بمودّة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في غيرها.

وحسبك في رجحانها ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلاميّة، والأمور الإماميّة ولو إجمالاً، وبذلك يكون أمل العامليّ، نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.

ولا تنسَ ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما يتيسّر لهم حينئذٍ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ أَنَّتْ له سائر الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطّةٍ واحدة، يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه.

* ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلى صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبِّه الجاهل من سكراته، بما تُشربه في قلوب المجتمعين، وتَنفثه في آذان المستمعين، وتبثّه في العالم وتصوّره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلّة الدين، وحُجج المسلمين، والسيرة النبويّة، والخصائص العلويّة، ومصائب أهل البيت عليهم السلام في سبيل الله، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله.

فَأُولو النظر والتحقيق يعلمون أنّ خطباء المآتم كلّهم دعاة إلى الدين من حيث لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشّر بالإسلام على التحقيق سواهم، وأنت تعلم أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظّفوا دعاة إلى دينهم بعد أولئك الخطباء ما تيسّر ذلك لهم، لما تيسّر مَن يستمع الدعوة، على مرّ الدهور، استماع الناس لما يُتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.

* ومنها: ما قد أثبته العيان، وشهد به الحسّ والوجدان، من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم، ونشر أطرافٍ من العلوم ببركتها، إذ هي - بشرط كونها على أصولها - أرقى مدارس للعوامّ، يستضيئون فيها بأنوار الحِكَم من جوامع الكَلم، ويلتقطون منها دُرَر السِّيَر، ويقفون بها على أنواع العِبر، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حملُه ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوامّ في جميع بلاد الإسلام.

مكارم الإحياءات وكراماتها

وقد تفنّن خطباؤها في ما يصدعون به أوّلاً على أعوادها، ثمّ يتخلّصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.

فمنهم: مَن يشنف المسامع ويشرّف الجوامع بالحِكم النبويّة، والمواعظ العلويّة، أو يتلو أوّلاً من كلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما يُقرِّب المستمعين إلى الله، ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.

ومنهم: مَن يتلو أوّلاً من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتاريخ أوصيائه عليهم السلام، ما يبعث المستمعين على مودّتهم، ويضطرّهم إلى بذل الجهد في طاعتهم.

ومنهم: مَن ينبّه الأفكار، أوّلاً، إلى فضل رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومقام أوصيائه عليهم السلام، بما يسرده من الأحاديث الصحيحة، والآيات المحكمة الصريحة.

ومنهم: مَن يتلو أوّلاً الأحكام الشرعيّة والعقائد الدينيّة ما تعمّ به البلوى المكلّفين، ولا مندوحة من معرفته لأحدٍ من العالمين.

هذه سيرتهم المستمرّة أيّام حياتهم، فهل ترى بجدّك للعوامّ مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أولياءهم إليها.

* ومنها: الارتقاء في الخطابة، والعروج إلى منتهى البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلى برهان.

* ومنها: العزاءُ عن كلّ مصيبة، والسّلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتُنسى القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم عليه السلام:

أَنْسَتْ رَزِيَّتُكُمْ رَزايانا الّتي

سَلَفَتْ وَهوَّنَتِ الرَّزايا الآتية

 

* ومنها: إنعاشُ أهل الفاقة، وإثلاج أكبادٍ حرّى من أهل المسكَنة على الدوام بما يُنفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل الله، عزّ وجلّ، وما يُبذل فيها لأهل المَسْغَبة وغيرهم...

 

من تاريخ المجالس الحسينية

محطّات مشرقة في حياة الأُمّة

فائــق محمّد حسيــن*

 

يذكر التاريخ أنّ أوّل مأتم أقيم بعد واقعة الطفّ مباشرةً تكوّن من السيّدات العلويّات، وهنّ زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين عليه السلام والهاشميين الذين استشهدوا معه، وقد عُقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة، وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من المحرّم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان، والصدور ملأى باللوعة والأحزان، تعالت فيها صرخات نساء بني هاشم في كلّ ركن من أركان الطفّ.

كما أقيمت مآتم أُخَرُ في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهنّ وينشرن مظلومية أهل البيت، عليهم السلام، والمبادئ التي قتل من أجلها الإمام الحسين وأصحابه. ولقد شاء الله تعالى أن يفضح جريمة بني أميّة في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب عليها السلام وبقية الهاشميات بيتاً للعزاء على الإمام الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد حزناً على الإمام الحسين عليه السلام وندبته.

وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنوّرة، «وكانت أوّل صارخة فيها على الحسين، عليه السلام، عندما قتل بكربلاء أمّ سلمة زوج النبي، صلّى الله عليه وآله، وذلك أنّ رسول الله دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: إِنَّ جَبْرَئيلَ أَعْلَمَني أَنَّ أُمَّتي تَقْتُلُ الحُسَيْنَ، وَأَعْطاني هَذِهِ التُّرْبَةَ، فَإِذا صارَتْ دَماً عَبيطاً فَاعْلَمي أَنَّ الحُسَيْنَ قَدْ قُتِلَ ".." صارَتِ القارورَةُ عِنْدَها، فَلَمّا حَضَرَ ذَلِكَ الوَقْتُ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلى القارورَةِ في كُلِّ ساعَةٍ، وَفي يَوْمِ الطَّفِّ رَأَتْها صارَتْ دَماً عَبيطاً! فَصاحَتْ: واحُسَيْناهُ! يا ابْنَ رَسولِ اللهِ!.. فَتَصارَخَتِ النِّساءُ في المَدينَةِ حَتّى سُمِعَ في المَدينَةِ رَجَّةٌ ما سُمِعَ مِثْلُها قَط».

ومن أجل استمرار ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وتثبيت مفاهيمها الأساسية في وجدان الشعب، واستيعاب معانيها، وبيان ظلم الطاغية يزيد، كان لا بدّ من استنهاض الهمم وبثّ روح الكفاح والجهاد، فاقتضت الضرورة انبثاق المنبر الحسيني، وكانت وظيفته يومذاك وستبقى وظيفة بالغة الأهمية، إذ تميّزت بخصوصية غير عادية وقدّمت لوحة ناطقة ببشاعة ما أقدم عليه بنو أُميّة.

بدايات العزاء الحسيني

تروي كتب التاريخ أنّ أوّل زائر لقبر الإمام الحسين عليه السلام هو عبد الله بن الحرّ الجعفي لقرب موضعه منه، فقد قصد – بعد أن كان تخلّف عن نصرة سيّد الشهداء عليه السلام - الطفّ ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً.

وجاء في (بحار الأنوار) للعلّامة المجلسي أنّ أوّل من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي، من قبيلة بني سهم:

إذا العَيْنُ قَرَّتْ في الحياةِ وَأَنْتُمْ

تَخافونَ في الدُّنْيا فَأَظْلَمَ نورُها

مَرَرْتُ عَلى قَبْرِ الحُسَيْنِ بِكَرْبَلا

فَفاضَ عَلَيْهِ مِنْ دُموعي غَزيرُها

فَما زِلْتُ أَرْثيهِ وَأَبْكي لِشَجْوِهِ

وَيَسْعَدُ عَيْني دَمْعُها وَزَفيرُها

 

لقد أثّرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم.. لا سيّما وأن مدينة كربلاء أضحت قبلة للزوّار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، ما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد.

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخّل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الإمام الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضدّ بني أمية وفي تحريك الثوار..

وبعد هذا كلّه وغيره نشطت، وبصورة ملحوظة، دعوات الثأر للحسين، عليه السلام وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. ففي ربيع الأول من عام 65 للهجرة، وفي عهد عبد الملك بن مروان، قصد كربلاء جماعة من «التوابين» من أهل الكوفة يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين عليه السلام، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلّل القبر فكان ظاهراً معروفاً، ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، يبكون ويتفجّعون، ثمّ رحلوا إلى «عين الوردة» فقاتلوا الأمويين فيها، وقُتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتّت شملهم. ولهم في رثاء الإمام الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره.

استمرت حركة الدعوة لإحياء ثورة الإمام الحسين دون توقّف، وغدت أكثر تنظيماً وفعالية بمرور الأيام، وأصبح الكميت بن زيد الأسدي أبرز الدعاة، وكان خطيباً وشاعراً وعالماً بمختلف علوم عصره، وقد وظّف قدراته بإخلاصٍ وتفان في سبيل نصرة حركة الثورة على الأمويين، فأنتج أدبَ دعوةٍ جديداً، يعدّه الباحثون المحرّض الأول على التجديد الشعري الثوري، الذي عرف فيما بعد باسم «الشعراء المحدثين».

ذلك الأمر شجّع أنصار الإمام الحسين على المضيّ قدماً في تقديم أوضح الصور عن مأساة الطف، «وكان أول من مثّل واقعة كربلاء وأشاع التمثيل فيها هو العلّامة المجلسي الذي كان أكثر العلماء اطلاعاً على الأخبار وكلمات الفقهاء، وكلّ من جاء بعده من علماء البلاد أمضى فعله ولم يُنكر عليه».

وكان الإمام الصادق عليه السلام قد حدّد الطريق إلى إقامة مراسم العزاء الحسيني، فقال للفضيل: «بَلَغَني أَنَّ قَوْماً يَأْتونَ قَبْرَ جَدّي الحُسَيْن، عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ نَواحي الكوفَةِ، وَناساً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَنِساءً يَنْدُبْنَهُ، وَذَلِكَ في النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، فَمِنْ بَيْن قارِئٍ يَقْرَأُ، وَقاصٍّ يَقُصُّ، وَنادِبٍ يَنْدُبُ، وَقائِلٍ يَقولُ المَراثي. فقلت: نعم جُعلت فداك، قد شهدتُ بعض ما تصف. فقال: الحَمْدُ للهِ الّذي جَعَلَ في النّاسِ مَنْ يَفِدُ إِلَيْنا وَيَمْدَحُنا وَيَرْثي لَنا».

لقد عدّ بعض الباحثين والمتخصّصين في المنبر الحسيني قول الإمام الصادق عليه السلام بدايات نشوء المأتم وبروز دور البعض في إدارة ما يشبه مجالس العزاء الحالية.

ومرّت على المآتم الحسينية فترات ضعف وقوّة تبعاً للظروف، ففي العهد العباسي كانت المآتم تُمنع تارة ويُسمح بإقامتها تارة أخرى، وإن هذه المجالس كانت تقام علناً أيام المأمون. غير أن المجالس التي كان يقيمها أهل البيت أصبحت شعائر ثابتة في القرن الثالث للهجرة حين ظهر اسم النائح الذي يرثي الإمام الحسين عليه السلام بشعر ملحن.

وقد تطورت النياحة إلى قراءة (مقتل الحسين) لابن نما وابن طاوس وهي أول كُتب المقاتل، ومن ذلك الحين أطلق على من يقرأ النياحة في عاشوراء اسم «قارئ المقتل» أو «القارئ»، ثم ألّفت عدّة كتب خاصة كانت بمنزلة المادة التي يلقيها الخطباء.

وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معزّ الدولة البويهي (936 - 967م) وكان مع وزيره ابن المهلّبي من الموالين. قال ابن الجوزي في (المنتظم): «جرت في العاشر من محرّم عام (352 للهجرة/ 963م) ولأوّل مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء، حيث أغلقت الأسواق...».

وإثر ذلك تنفس الموالون الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الإمام الحسين، عليه السلام، أمراً متاحاً. وأخذوا يمارسون شعائرهم بحرّية تامة وبصورة علنية، وينقل المقريزي أيضاً: «جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر واتّسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقّف البيع والشراء وتعطّلت الأسواق وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة وهم باكون نائحون».

وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس «فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطّل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حافٍ وعليه شعار الحزن، فيُقرأ مقتل الحسين عليه السلام، ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت عليهم السلام إلى أن ينتصف النهار ..».

امتداد المجالس الحسينية

وعلى أثر مجيء الصفويين إلى الحكم في إيران في بداية القرن السادس عشر الميلادي، «قامت الاحتفالات بيوم عاشوراء في كل عام، ثم تطورت مراسم العزاء خلال القرن التاسع عشر وانتشرت في جميع أنحاء إيران».

وبعد إيران انتشرت مجالس العزاء الحسيني بكثافة، وامتدّت إلى الهند وآذربيجان التركية والأناضول... لكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً وهيناً، إذ واجه المنبر الحسيني عراقيل وصعاب ليس في البلاد البعيدة فحسب، بل في العراق أيضاً «خلال حكم السلاجقة والعثمانيين حيث أصدر الولاة في العراق مراسم لمنع أو تحريم مراسم العزاء الحسيني أو التضييق عليها ما أجبر شيعة بغداد على إقامة مجالس التعزية في بيوتهم ولكن بصورة سرية، خوفاً من السلطات العثمانية خصوصاً في بغداد والكاظمية».

وبقي الحال كما هو عليه حتى انعقاد صلح عام (1821م) بين داود باشا والحكومة الإيرانية، فانتهز البعض هذه المناسبة فأقاموا مجالس العزاء علناً.. وكان الشيخ موسى كاشف الغطاء أول من أقام مجلس عزاء في داره بالنجف الأشرف. وكان الشيخ محمد نصار النجفي المتوفي عام (1824م) أول خطباء وشعراء المنبر الحسيني الذي أقام في داره مجلس العزاء الحسيني وقرأ بنفسه التعزية.

وفي سنة (1831م) أصبح علي رضا والياً على العراق، وكان غير متعصّب، فمنح أنصار الإمام الحسين عليه السلام الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وجرّاء ذلك تطورت مراسم العزاء ونمت بسرعة، وأخذت تقام بصورة علنية ومكثفة «وحضر الوالي شخصياً أحد مجالس التعزية الذي أقامته إحدى العوائل الشيعية في بغداد يوم عاشوراء».

وفي عام (1921م) وعند تأسيس الحكومة العراقية الأولى أُعلن يوم عاشوراء عطلة رسمية لأول مرة حداداً في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وسُمح بإقامة مراسيم العزاء الحسيني.. (مختصَر)

 

* أديب وباحث في التاريخ الإسلامي - العراق

 
 

الأدب الحسيني في (مصباح) الكفعمي

ألم ترَ أنّ الشمس أضحتْ مريضةً؟

§        الشيخ إبراهيم الكفعمي رحمه الله

 

اختارت «شعائر» هذا المقتطف من كتاب (المصباح - جُنّة الأمان الواقية) للفقيه الشيخ إبراهيم الكفعمي رضوان الله عليه (ت: 905 للهجرة)، وهو نصّ أدبي رفيع، يجمع بين النثر والشعر ليُعرب عن الأثر العميق لواقعة الطفّ في وجدان التابعين بإحسان للخطّ الحسيني في وجه الظلم الأموي اليزيدي ماضياً وحاضراً.

 

في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين للهجرة، كان مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وإنّما تشاءمت الفرقة الناجية بهلاله، وأهمَلوا العبرات عند إقباله، وتجدّدت لأهل البيت وشيعتهم الأحزان، وأُضرمت في قلوبهم النيران لفقود سيّدهم وإمامهم عنهم فيه؛ فلهذا كلّ منهم يتشاءم به ولا يرتضيه.

فيجب على المؤمنين أن يقيموا سُنن المصائب والأحزان، ويُظهروا شعار الجزع والنوح بقدر الإمكان، فقد تهدّمت بقتله أركان الدين، وتضَعْضعتْ جوانبُ الدين المبين.

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ أَضْحَتْ مَريضةً

لِقَتْلِ حُسَيْنٍ وَالبِلادُ اقْشَعَرَّتْ

وَأَنَّ قَتيلَ الطَّفِّ مِنْ آلِ هاشِمٍ

أَذَلَّ رِقابَ المُسْلمينَ فَذَلَّتْ

 

فلعَمري لو بدّلنا الدموع دماً، وصار العمر بأجمعه مأتماً، ما قمنا بعُشر العشير ممّا يجب من حقوقهم علينا وأياديهم الحسنة الواصلة إلينا. فلو كنتُ حاضراً يوم الطفوف، لوقيتُه من الحتوف وطعْن الرماح وضرب السيوف، وما كنتُ، لعَمري، أبخل عليه بعُمري. غيرَ إنْ حجَبني عن نصره الأقدار - كما يشاء القادر المختار - فلأُعْمِلَنّ صوائب فكري في تعازيه بنظمي ونثري. فيا أيّها المؤمنون، أجروا ماء عيون العيون، ويا أيّها الباكون، سلوا لذيذ الرقاد من جفون الجفون، أما تنظرون إلى هذا الخطب الفادح؟! أما تبكون على هذا المصاب القادح؟! فيا عجباه لمن يطيل النوح على الديار، ويندب الربوع والآثار، ولا يبكي لمصاب السادة الأطهار الأبرار.

لِمُصابِكُمْ تَتَزَلْزَلُ الأَطْوادُ

وَلِقَتْلِكُمْ تَتَفَتَّتُ الأَكْبادُ

كُلُّ الرَّزايا بَعْدَ حينِ حُلولِها

تُنْسى، وَرِزْؤُكُمُ الجَليلُ يُعادُ

 

فيا فؤادي! أَبقريحٍ من الكآبة لا تستريح، ويا قلبيَ الواله الحيران دُمْ في البكاء والأحزان، فيا حُزناه عليهم ويا شوقاه إليهم.

حَنيناً إِلى الأَرْضِ الّتي تَسْكُنونَها

أُقَبِّلُ تُرْبَ الأَرْضِ في كُلِّ مَنْزِلِ

وَحُزْناً عَلى ما قَدْ لَقيتُمْ مِنَ الظَّمَا

أَغَصُّ بِشُرْبِ الماءِ في كُلِّ مَنْهَلِ

 

أما يليق هذا الرزء العظيم أن تذهب عليه الأحلام، أما يجب أن تشقّق عليه القلوب فضلاً عن الجيوب من شدّة الآلام؟ فأَقيموا، رحمكم الله، المآتم والأحزان، والبسوا على هذا المصاب جلابيب النياحة والامتحان، وانظروا إلى الحواسر من النساء الطّاهرات على أقتاب الجمال... يُساق بهنّ أسارى...

يَا لَلرَّجَالِ لِهَوْلِ عِظمِ مُصيبَةٍ

حَلَّتْ فَلَيْسَ مُصَابُها بالحَائِلِ

الشَّمْسُ كاسِفَةٌ لِفَقْدِ إِمامِنا

خَيْرِ الخَلائِقِ وَالإِمامِ العادِلِ

 

واعلموا، رحمكم الله، أنّ نفثَات الأحزان إذا صدرت عن زفير نيران الأشجان، فرّجت بعض الكروب عن الواله المكروب، والدموع الهتان إذا أُسيلت عن مقرّحات الأجفان، نَفّسَ ذلك الدمعُ المصبوب بعضَ ما يجده المتيّم المتعوب، أفيحسن عندكم النوح والبكاء على فقد الأليفِ والخَدينِ [أي الصّديق]، ولا يحسن النوح والبكاء على ابن أمير المؤمنين عليه السلام؟!

ماءٌ تَدَفَّقَ مِنْ جُفونِي

وَهُوَ عَنْ نارٍ بِصَدْري

كَالعُودِ يُوقِدُ بَعْضَهُ

وَالبَعْضُ مِنْهُ الماءَ يُجْري

 

فلو علم الباكون أيّ أجرٍ يُحرزون، أو درى النائحون أيّ ثواب يحصّلون، لتمنّوا دوام هذا الحال حتّى المآل. أتدرون بالله مَن تعزّون؟ ولأيّ شيءٍ أنتم جالسون؟ أنتم تعزّون خاتمَ النبيّين صلّى الله عليه وآله، وعليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أشفيتم، واللهِ، ببكائكم صدور الأئمّة المعصومين، وفرّجتم، والله، همّ البتول سيّدة نساء العالمين. فيا حبّذا، واللهِ، لبكاءٍ تُجلى به الكُرُبات، ويا طوبى والله لنَوحٍ تحصل بها السعادات، فكيف تلتذّون بالماء وإمامُكم قتيل الظَّمأ؟ وكيف تشبعون من الطعام وإمامكم وشيعته الكرام وأقرباؤه الأمناء الأعلام قد حكمتْ فيهم الطغام وسقوهم كأس الحِمام!؟

لَهُمْ جُسومٌ عَلى الرَّمْضاءِ ذائِبَةٌ

وَأَنْفُسٌ جاوَرَتْ جَنّاتِ باريها

كَأَنَّ قاصِدَها بِالضُّرِّ نافِعُها

أَوْ أَنَّ قاتِلَها بِالسَّيْفِ مُحْييها

 

وانظروا إلى الشهداء من الشيعة والأقرباء لمّا علموا أنّهم لا يصلون إلى خِلَع الله السنية إلّا بخَلْعِ الحياة ولبس المنيّة، وأنّهم لا يصلون إلى مطلوبهم إلّا ببذل النفوس في طاعة محبوبهم، وعلموا أنّها المرتبة العالية والبُغْية الغالية، تهافتوا على ذهاب النفوس يوم البؤس، وبذل الأرواح يوم الكفاح، والأجساد يوم الجِلاد، والأبدان يوم الطِّعان. فلو شاهدتَ كلّ واحدٍ منهم يوم الطفوف وهو يبادر إلى نقط الرماح وشكل السيوف كعطشانٍ أضرّ به الظمأ إلى شرب ماء السماء.

يَلْقى الرِّماحَ بِنَحْرِهِ فَكَأَنَّما

في ظَنِّهِ عودٌ مِنَ الرَّيْحانِ

وَيَرى السُّيوفَ وَصَوْتَ وَقْعِ حُدودِها

عِرْساً تُجَلّيها عَلَيْهِ غَوانِ

 

فيا لها من منقبة حصّلوها، وفضيلة أحرزوها، فاقوا بها الأوّلين والآخرين في رضى ابن أمير المؤمنين عليهما السلام.

كَأَنَّ رَسولَ اللهِ أَوْصَى بِقَتْلِهِمْ

فَأَجْسادُهُمْ في كُلِّ أَرْضٍ توزَّعُ

 

فكم يومئذٍ من كبدٍ مقروحة، وعيونٍ مسفوحة، ولاطمةٍ خدّها، ومُستندبةٍ جدّها، فأَسعدوني أيّها الناس بالبكاء والعويل، واندبوا لمَن اهتزّ لفقده عرش الجليل، واسكبوا العبرات على الغريب القتيل.

وَجَرَّعَ كَأْسُ المَوْتِ بِالطَّفِّ أَنْفُساً

كِراماً وَكانوا للرَّسولِ وَدائِعا

وَبُدِّلَ سَعْدُ الشُّمِّ مِنْ آلِ هاشِمٍ

بِنَحْسٍ وَكانوا كَالبُدورِ طَوالِعا

 

قالت سكينة عليها السلام لمّا قُتل الحسين عليه السلام: «اعتنقتُه فأغمي عليّ، فسمعته يقول:

شيعَتي ما إِنْ شَرِبْتُمْ رِيَّ عَذْبٍ فَاذْكُروني

أَوْ سَمِعْتُمْ بِغَريبٍ أَوْ شَهيدٍ فَانْدُبوني».

 

فقامت مرعوبةً قد قرحت مآقيها وهي تلطم على خدّيها، وإذا بهاتفٍ يقول:

بَكَتِ الأَرْضُ وَالسَّماءُ عَلَيْهِ

بِدُموعٍ غَزيرَةٍ وَدِماءِ

يَبْكِيانِ المَقْتولَ في كَرْبَلا

بَيْنَ غَوْغاءِ أُمَّةٍ أَدْعياءِ

مُنِعَ الماءُ وَهُوَ عَنْهُ قَريبٌ

عَيْنِ ابْكي المَمْنوعَ شُرْبَ الماءِ


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

11/10/2015

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات