الملف

الملف

11/10/2015

حُفظ الإسلام بعاشوراء


خطابُ الإمام الخميني قدس سره للمُحاضرين والخُطباء الحُسَينيّين

حُفظ الإسلام بعاشوراء

أخذ الاهتمام بإحياء المجالس الحسينيّة مكانة خاصّة في أحاديث الإمام روح الله الخميني ومؤلّفاته، قدّس سرّه. وقد تضاعفت توجيهاته للمُحاضرين والخُطباء الحُسينيّين بعد انتصار الثورة وإقامة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

في ما يلي نستعيد أحد أبرز أحاديثه، قدّس سرّه، خلال لقائه مع علماء قمّ وطهران بتاريخ 21 حزيران 1986 بمناسبة حلول شهر محرّم الحرام والاستعداد لإحياء المراسم الحسينيّة.



إنّ ما أودّ أن أعرضه على السادة الخطباء، هنا، هو أنّ قيمة العمل الذي يقومون به، ومدى أهميّة مجالس العزاء لم تُدرَك إلّا قليلاً، ولربّما لم تدرَك على الإطلاق، فالروايات التي تقول إنّ كلّ دمعة تذرَف لمصاب الحسين، عليه السلام، لها من الثواب كذا وكذا، وتلك الروايات التي تؤكّد أنّ ثواب مَن بكى أو تباكى... لم تكن من باب أنّ سيّد المظلومين، عليه السلام، بحاجة إلى مثل هذا العمل، ولا لغرض أن ينالوا هم وسائر المسلمين هذا الأجر والثواب بالرغم من أنّه محرزٌ ولا شكّ فيه حتماً.

ولكن لِمَ جُعِلَ هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء؟ ولماذا يجزي الله، تبارك وتعالى، مَن بكى أو تباكى بمثل هذا الثواب والجزاء العظيم؟

إنّ ذلك يتّضح تدريجيّاً من ناحيته السياسيّة، وسيُعرف أكثر فيما بعد إن شاء الله، إنّ هذا الثواب المُخصّص للبكاء ومجالس العزاء، إنّما يُعطى - علاوة على الناحية العباديّة والمعنويّة - على الناحية السياسيّة، فهناك مغزى سياسيّ لهذه المجالس. 

لقد قيلت هذه الروايات في وقت كانت هذه الفرقة الناجية مبتلاة بالحكم الأمويّ، وأكثر منه بالحكم العبّاسيّ، وكانت فئة قليلة مستضعفة تواجه قوى كبرى.

لذا وبهدف بناء هذه الأقليّة وتحويلها إلى حركة مُتجانسة، اختطّوا لها طريقاً بنّاءً، وتمَّ ربطُها بمنابع الوحي، وبيت النبوّة وأئمّة الهدى، عليهم السلام، فراحوا يخبرونهم بعظمة هذه المجالس واستحقاق الدموع التي تُذرف فيها الثواب الجزيل، ما جمع الشيعة - على الرغم من كونهم آنذاك أقليّة مستضعَفة - في تجمّعات [عقائدية]...

قصّتي مع المجالس الحسينيّة

وطوال التّاريخ، كانت مجالس العزاء - هذه الوسائل التنظيميّة - مُنتشرة في أرجاء البلدان الإسلاميّة. وفي إيران التي صارت مهداً للإسلام والتشيّع، أخذت هذه المجالس تتحوّل إلى وسيلة لمواجهة الحكومات التي توالت على سدّة الحكم، السّاعية لاستئصال الإسلام وقلعه من جذوره، والقضاء على العلماء، فهذه المجالس والمواكب هي التي تمكّنت من الوقوف بوجهها وإخافتها.

في المرّة الأولى التي اعتقلتني سلطات النظام الملكيّ وجيء بي من قمّ إلى طهران، قال لي بعض رجال أمنهم الذين اصطحبوني في السيّارة: لقد جئنا لإلقاء القبض عليك والخشية تملؤنا من أن يطّلع على أمرنا أولئك الموجودون في تلك الخيم والتكايا بمدينة قمّ فنعجز حينذاك عن أداء مهمّتنا. وخوف هؤلاء ليس بشيء، لكنّ القوى الكبرى تخشى هذه المواكب والمآتم، القوى الكبرى تخشى هذا التنظيم الذي لا يستند إلى يدٍ واحدة تحرّكه، فالشعب يجتمع في هذه المجالس طواعيّةً، وتنعقد هذه المجالس في كلّ أنحاء البلاد، في بلدٍ مترامي الأطراف في أيّام عاشوراء وخلال شهرَي محرّم وصفر، وفي شهر رمضان المبارك، فهذه المواكب والمآتم هي التي تجمع الناس.

وإذا كان هناك موضوع يُراد منه خدمة الإسلام، وإن أراد امرؤٌ أنّ يتحدّث عن قضية مُعيّنة، نرى أنّ ذلك يتسنّى له في كلّ أنحاء البلد بواسطة هؤلاء الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة، فينتشر الموضوع المراد تبليغه للناس دفعة واحدة في جميع أنحاء البلاد. واجتماع الناس تحت هذا اللواء الإلهيّ، هذا اللواء الحسينيّ، هو الذي يؤدّي إلى تعبئة الجماهير.

ولو أنّ القوى الكبرى عزمت على عقد مثل هذه التجمّعات الجماهيريّة الكبرى في البلدان التي تحكمها، فإنّ ذلك يحتاج منها إلى أعمال ونشاطات وجهود كبرى تستغرق عدّة أيّام أو عشرات الأيّام، فهي مضطّرة ولأجل عقد تجمّع جماهيريّ، في مدينة من المدن، يضمّ مثلاً مائة ألف أو خمسين ألفاً إلى إنفاق مبالغ طائلة وبذل جهود جبّارة، لجمع الناس وجعلهم يستمعون لحديث مُحدّثهم.

ولكنّكم ترون كيف أنّ هذه المجالس والمواكب التي ربطت الجماهير بعضهم ببعض، هذه المآتم التي حرّكت الجماهير، يلتئم شملها من جميع الشرائح الاجتماعيّة المعزّية بمجرّد أن يحصل أمر يستدعي التجمّع، وليس في مدينة واحدة بل في كلّ أنحاء البلاد، ومن دون الحاجة إلى بذل جهودٍ كبرى أو إعلام واسع النطاق.

إنّ الناس يجتمعون على كلمة واحدة لمجرّد أنّهم يعتقدون أنّها خرجت من فم الحسين سيّد الشهداء عليه السلام.

في الرواية الواردة عن أحد الأئمّة (الإمام الباقر عليه السلام) يوصي عليه السلام أن يُقام العزاء عليه ويُرثى في مِنى بعد وفاته، ليس ذلك لأنّ الإمام الباقر عليه السلام بحاجة إلى ذلك، أو أنّ هناك منفعة شخصيّة ستعود عليه، عليه السلام، ولكن انظروا إلى الأثر السياسيّ لهذا الأمر، فعندما يأتي الناس من كلّ أنحاء العالم لأداء مراسم الحجّ، ويجلس مَن يندب الإمام الباقر عليه السلام ويقرأ المراثي بشأنه، ويوضح جرائم مخالفيه ومَن سقوه كأس الشهادة، فإنّ ذلك يخلق أمواجاً من الغضب في كلّ أنحاء العالم، لكنّ البعض يستهينون بأهميّة هذه المجالس.

قد يسمّينا المتغرّبون بـ(الشعب البكّاء)، ولعلّ البعض منّا لا يتمكّن من قبول أنّ دمعة واحدة لها كلّ هذا الثواب العظيم، لا يمكن إدراك عظمة الثواب المترتّب على إقامة مجلس للعزاء، والجزاء المعدّ لقراءة الأدعية، والثواب المُعدّ لمَن يقرأ دعاء ذا سطرين مثلاً.

إنّ المهمّ في الأمر هو البُعد السياسيّ لهذه الأدعية وهذه الشعائر، المهمّ هو ذلك التوجّه إلى الله وتمركز أنظار الناس إلى نقطةٍ واحدة وهدفٍ واحد، وهذا هو الذي يعبّئ الشعب باتّجاه هدف إسلاميّ أو غاية إسلاميّة؛ فمجلس العزاء لا يهدف (فقط) للبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام والحصول على الأجر - وطبعاً فإنّ هذا حاصل وموجود - الأهمّ من ذلك هو البعد السياسيّ الذي خطَّط له أئمّتنا عليهم السلام في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية، وهو الاجتماع تحت لواءٍ واحد وبهدفٍ واحد، ولا يمكن لأيّ شيءٍ آخر أن يحقّق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيّد الشهداء عليه السلام...

إنّ هذه المجالس التي تُذكر فيها مصائب سيّد المظلومين عليه السلام، وتظهر مظلوميّة ذلك المؤمن الذي ضحّى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله، هي التي خرّجت أولئك الشبّان الذين يتحرّقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتَراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها.

هذه المجالس هي التي خرّجت أمّهات يفقدن أبناءهنّ ثمّ يقلن بأنّ لديهنّ غيرهم، وأنّهن مستعدّات للتضحية بهم أيضاً.

إنّها مجالس سيّد الشهداء عليه السلام ومجالس الأدعية من دعاء كميل وغيره، هي التي تصنع مثل هذه النماذج وتبنيها، وقد وَضع الإسلام أساس ذلك منذ البداية وعلى هذه الركائز، وقدّر له أن يتقدّم ويشقّ طريقه وفق هذا المنهج.

ولو كان هؤلاء يعلمون حقيقة ويدركون أهميّة هذه المجالس والمواكب وقيمة هذا البكاء على الحسين عليه السلام والأجر المعدّ له عند الله، لما سمّونا شعباً بكّاءً، بل لقالوا عنّا شعب الملاحم.

لو فهموا الآثار التي تركتها أدعية الإمام السجّاد، عليه السلام، وكيف أنّ بإمكانها تعبئة الجماهير وتحريكهم، وهو عليه السلام الفاقد لتوّه كلّ أهل بيته في كربلاء، والذي عاش في ظلّ حكومة مستبدّة جائرة تفرض هيمنتها على كلّ شيءٍ، لما قالوا لنا ما جدوى هذه الأدعية، ولو أنّ مثقّفينا أدركوا الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة لهذه المجالس والأدعية والأذكار لما قالوا: لِمَ تفعلون كلّ هذه الأمور وتتمسّكون بها...

ليعلم شعبنا قيمة هذه المجالس وأهميّتها، فهي التي أبقت الشعوب حيّة، في أيّام عاشوراء بنسبة أكبر وفي سائر الأيّام بدرجة أقلّ، وبهذا الشكل الذي نراه، ولو كان المبهورون بالغرب يعرفون البُعد السياسيّ لها، ولو كانوا يدّعون - حقّاً - السعي لتحقيق مصالح الشعب والبلد، لرغبوا هم فيها أيضاً ولبادروا إلى إقامتها.

إنّني آمل أن تقام هذه المجالس بشكلٍ أفضل وعلى نطاقٍ أوسع، وإنّ للجميع، بدءاً من الخطباء وانتهاءً بقرّاء المراثي والقصائد، دوراً وتأثيراً في ذلك، فإنّ ذلك الذي يقف أسفل المنبر ويقرأ بعض الرثاء، وذلك الذي يرتقي المنبر خطيباً، كلاهما له تأثيره ودوره الطبيعي، وإن كان البعض لا يدركُ قيمة عمله، من حيث لا يشعر...

إنّ على السادة الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة أن يوضّحوا هذه الأمور للناس... لا يظنّوا أنّنا مجرّد شعب بكّاء، فإنّنا شعب تمكّن بواسطة هذا البكاء والعزاء من الإطاحة بنظام عمّر ألفين وخمسمائة عام.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

11/10/2015

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات