أحسن الحديث

أحسن الحديث

06/01/2016

العرش مقامُ العلم والتدبير الإلهيَّين

 

﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ..﴾

العرش مقامُ العلم والتدبير الإلهيَّين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«للناس في معنى العَرش بل في معنى قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ الأعراف:54، والآيات التي في هذا المساق، مسالكُ مختلفة؛ فأكثر السلف على أنّها وما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، وهؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية والتطلّع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسنّة بدعة، والعقل يخطّئهم في ذلك، والكتاب والسنّة لا يصدّقانهم. فآيات الكتاب تحرّض كلّ التحريض على التدبّر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكّر والتفكّر والنظر فيها والاحتجاج بالحُجج العقلية، ومتفرّقات السنّة المتواترة معنًى توافقها، ولا معنى للأمر بالمقدّمة والنهي عن النتيجة».

هذه المقالة نموذج للتدبّر – الذي أشار إليه العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي في الفقرة المتقدّمة - في الآيات المباركة للتوصّل إلى معنى «العرش» وسائر خصوصياته، مستلّة من الجزء الثامن من موسوعته (الميزان في تفسير القرآن) ببعض التصرّف والاختصار.

 

اختلف الباحثون في معنى العرش على أقوال:

1) حمْلُ الكلمة على ظاهر معناها، فالعرش عندهم مخلوقٌ كهيئة السرير له قوائم، وهو موضوعٌ على السماء السابعة، والله - تعالى عمّا يقول الظالمون - مُسْتوٍ عليه كاستواء الملوك منّا على عروشهم، وأكثر هؤلاء على أنّ العرش والكرسيّ شيء واحد، وهو الذي وصفناه.

وهؤلاء هم المشبِّهة من المسلمين، والكتابُ والسنّة والعقل تخاصمُهم في ذلك، وتنزّه ربّ العالمين أن يماثل شيئاً من خلقه، ويشبهه في ذاتٍ أو صفةٍ أو فعلٍ تعالى وتقدّس.

2) أنّ العرش هو الفلَك التاسع المحيط بالعالم الجسماني والمحدّد للجهات، والأطلس الخالي من الكواكب، والراسم بحركته اليومية للزمان، وفي جوفه مماسّاً به الكرسي، وهو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، وفي جوفه الأفلاك السبعة الكلّية التي هي أفلاك السيّارات السبع: زُحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر بالترتيب، محيطاً بعضها ببعض.

وهذه هي التي يفرضها علمُ الهيئة على مسلك «بطليموس» لتنظيم الحركات العُلوية الظاهرة للحسّ، طبّقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع والكرسي والعرش، فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة والطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، وما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردّوه. ".."

والظواهر من القرآن والحديث تُثبت أنّ وراء العرش حجُباً وسرادقات، وأنّ له قوائم، وأنّ له حمَلة، وأنّ الله سيطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب، وأنّ في السماء سكَنةً من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلّا وفيه ملَك راكع أو ساجد، يلِجونه وينزلون منه ويصعدون إليه، وأنّ للسماء أبواباً، وأنّ الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد، إلى غير ذلك ممّا ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة والطبيعيات سابقاً. والقائلون منّا إنّ السماوات والكرسيّ والعرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكليّة يدفعون ذلك كلّه بمخالفة الظواهر "..".

3) أن لا مصداق للعرش خارجاً، وإنّما قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ الأعراف:54، و﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ طه:5، كناية عن استيلائه تعالى على عالَم الخلق، وكثيراً ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه.

أو أنّ الاستواء على العرش معناه الشروعُ في تدبير الأمور، كما أنّ الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استوَوا على عروشهم وجلسوا عليها. ".."

وفيه: أنّ كون قوله: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ جارياً مجرى الكناية بحسب اللفظ - وإن كان حقّاً - لكنّه لا ينافي أن يكون هناك حقيقةٌ موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية. والسلطةُ، والاستيلاء، والمُلك، والإمارة، والسلطنة، والرئاسة، والولاية، والسيادة، وجميعُ ما يجري هذا المجرى فينا، أمورٌ وضعيّة اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها، والظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا وشؤوننا الاعتبارية، لكنّ الله سبحانه يبيّن لنا أنّ هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، وجهات خارجية ليست بوهميّة اعتبارية.

فمعنى المُلك، والسلطنة، والإحاطة، والولاية، وغيرها فيه سبحانه، هو المعنى الذي نفهمه من كلّ هذه الألفاظ عندنا، لكنّ المصاديق غيرُ المصاديق، فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى، وأمّا ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادّعائية، وجهاتٌ وضعية اعتبارية لا تتعدّى الوهم، وإنّما وضعناها وأخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى "..".

الاستواء عينُ القيوميّة

وبالجملة: قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ في عين أنّه تمثيل يبيَّن به أنّ له إحاطة تدبيريّة لملكه، يدلّ على أنّ هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزِمَّة الأمور على كثرتها واختلافها، ويدلّ عليه آيات أُخَر تذكر العرش وحده وينسبه إليه تعالى، كقوله تعالى: ﴿..وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ التوبة:129، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ..﴾ المؤمن:7، وقوله: ﴿..وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ الحاقة:17، وقوله: ﴿..حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ..﴾ الزمر:75.

فالآيات - كما ترى - تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينية وأمر من الأمور الخارجية، ولذلك نقول: إنّ للعرش في قوله: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ مصداقاً خارجياً، ولم يوضع في الكلام لمجرّد تتميم المَثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن. ".."

وهذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾ أنّه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمّة الحوادث والأمور كما يجتمع أزمّة المملكة في عرش الملِك، يدلّ على تحقّق هذه الصفة له قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ..﴾ يونس:3، ففَسّر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه، وعقّبه بقوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، والآية لمّا كانت في مقام وصف الربوبية والتدبير التكويني، كان المراد بالشفاعة الشفاعةَ في أمر التكوين، وهو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخلّلة بين الحوادث والكائنات وبينه تعالى، كالنار المتخلّلة بينه وبين الحرارة التي يخلقها، والحرارة المتخلّلة بينه وبين التخلخل أو ذوبان الأجسام، فنفيُ السببية عن كلّ شيء إلّا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..﴾ يونس:3.

وفي قوله: ﴿..مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ..﴾ يونس:3، بيان حقيقة أخرى وهي رجوع التخلّف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن، فإنّ الشفيع إنّما يتوسّط بين المشفوع له المحكوم بحكم المشفوع عنده، ليغيّر بالشفاعة مجرى حكم سيجري لولا الشفاعة، فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلاً شفيعة متوسّطة بين الله سبحانه وبين الأرض لاستنارتها بالنور، ولولا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامّة ونظمها أن تحيط بها الظلمة، ثمّ الحائل من سقف أو أيّ حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة وهكذا. ".."

ويقرب من آية سورة (يونس) في الدلالة على شمول التدبير ونفي مدبّر غيره تعالى قوله: ﴿.. ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ السجدة:4، ويقرب من قوله: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ..﴾ يونس:3 - في الإشارة إلى كون العرش مقاماً تنتشئ فيه التدابير العامّة وتصدر عنه الأوامر التكوينية - قولُه تعالى: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ البروج:15-16، وهو ظاهر.

وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ..﴾ الزمر:75، فإنّ الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه والمُجرون لأمره، العاملون بتدبيره، فليكونوا حافّين حول عرشه.

وكذا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا..﴾ المؤمن:7، وفي الآية مضافاً إلى ذكر احتفافهم بالعرش شيءٌ آخر، وهو أنّ هناك حمَلة يحملون العرش، وهم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع والخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية ومصدرها، ويؤيّد ذلك ما في آية أخرى وهي قوله: ﴿..وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ الحاقة:17.

وإذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمّة التدابير الإلهية والأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الحديد:4، فقوله: ﴿..يَعْلَمُ مَا يَلِجُ..﴾ الخ، يجري مجرى التفسير للاستواء على العرش، فالعرش مقام العلم كما أنّه مقام التدبير العام الذي يسع كلّ شيء، وكلّ شيء في جوفه.

ولذلك هو محفوظٌ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ..﴾ وموجودٌ مع هذا العالم المشهود كما يدلّ عليه آيات خلق السماوات والأرض، وموجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ..﴾ هود:7.

 

اخبار مرتبطة

  ملحق شعائر/ 21

ملحق شعائر/ 21

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات