كتاباً موقوتاً

كتاباً موقوتاً

08/02/2016

السجودُ لله تعالى

 

حقيقتُه فراغ القلب من الفانيات

السجودُ لله تعالى

ــــــــــــــــــــ الشيخ جواد الكربلائي ـــــــــــــــــــــ

من كتاب (الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة)  للشيخ عبّاس بن جواد الكربلائي هذا المقتطف حول حقيقة السجود؛ أورده عند شرحه للآيتين المباركتين من سورة الحِجر: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

 

الأمر بالسجود لله تعالى هو الأمر بالفناء! فإنّ حقيقة السجود - الذي هو غاية الخضوع والخشوع - ظاهراً بوضع عتائق الوجوه على التراب، وباطناً هو فراغ القلب من الفانيات. وإليه يشير ما في (غُرر الحكم) للآمدي، رحمه الله، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «السُّجُودُ الجِسْمَانِيُّ هُوَ وَضْعُ عَتَائِقِ الوُجُوهِ عَلَى التُّرابِ، وَاسْتِقْبَالُ الأَرْضِ بِالرَّاحَتَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ، مَع خُشُوعِ القَلْبِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ.

والسُّجُودُ النَّفْسَانِيُّ فَرَاغُ القَلْبِ مِنَ الفَانِيَاتِ، وَالإِقْبَالُ بِكُنْهِ الهِمَّةِ عَلَى البَاقِيَاتِ، وَخَلْعُ الكِبْرِ والحَمِيَّة، وقَطْعُ العَلَائِقِ الدُّنْيَوِيَّة، والتَّحَلِّي بِالخَلَائِقِ النَّبَوِيَّةِ».

وهذا لا يتحقّق إلّا بفناء النفس، أي الرجوع إلى الإمكان والفقر، بحيث يشاهد فقرَه الذاتي، وأنّه عَدَمٌ محض، وأنّ ما به وجودُه هو تجلِّيات الربّ ومظاهره الموجودة بإشراقه تعالى، وإنّ معيّة الحقّ معها معيّة قيّوميّة. وهذا الفناء محقِّقٌ لحقيقة العبودية واتّصافِ العبد بأنّه عبدٌ حقيقةً. فقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ الحجر:99، أمرٌ بتحصيل حقيقة العبودية التي تتحقّق بها العبادة الحقيقية، والله العالم. ومعلومٌ أنّها لا تكون إلّا بالفناء المذكور.

والفناء المذكور وحقيقة العبودية يأتيان باليقين، أي يتبيّن أنّه تعالى هو الحقّ، وأنّ ما دونه هو الباطل والسراب: ﴿..يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً..﴾ النور:39، أي موجوداً سرابيّاً خياليّاً.

وإلى شرافة مقام العبودية، وأنّه لا شرافة فوقها، مدح الله نبيّه صلّى الله عليه وآله بقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..﴾ الإسراء:1.

وقال عيسى عليه السّلام في أول نُطقه: ﴿..إِنِّي عَبْدُ اللهِ..﴾ مريم:30.

وقال سيّد الأولياء أمير المؤمنين عليه السّلام: «إِلهِي! كَفى بِي عِزَّاً أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْداً، وَكَفى بِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبَّاً، أَنْتَ كَما أُحِبُّ فَاجْعَلْنِي كَما تُحِبُّ».

ولذا اشتُهر أنّ العبودية أشرف من الرسالة، لأنّ بالعبوديّة ينصرفُ من الخَلق إلى الحقّ، وبالرسالة ينصرف من الحقّ إلى الخَلق، ولهذا نال شرف التقدّم في قول الموحّد في التشهّد: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وقال تعالى إشارةً إلى تعظيم العبوديّة: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ..﴾ النساء:172، وهم الذين حصل لهم الفناء في الحقّ والهيمان به.

وإلى كمال هذه العبودية، وسعة قابليّتها لتجلِّيات الأنوار الإلهيّة، يشير الحديث القدسيّ: «لَا تَسعُنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ المُؤْمِن».

ولا يخفى أنّ سبب هذه الوسعة لقلب العبد، والانشراح لصدره، إنّما هو تركُ الالتفات إلى غير الله، والإقبال بالكلِّية إليه تعالى، والتّحقّق بالعبودية الصرفة، والاستهلاك بنار العشق والمحبّة، ولهذه الدقيقة ذُكر في الحديث الإلهيّ بهذا العنوان، أي عنوان - العبد المؤمن - دون الرسالة وغيرها من الألقاب.

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

08/02/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات