الملف

الملف

06/04/2016

الإمام الكاظم عليه السلام وحكّام عصره

 

الإمام الكاظم عليه السلام وحكّام عصره

____ تنسيق: هيئة التحرير ____

عاصر الإمام الكاظم عليه السلام أكثر حكّام بني العبّاس دمويّة وأكثرهم بطشاً حيث كانت دولتهم في مراحلها الأولى يسعى القائمون عليها لتثبيت مُلكهم من خلال قمع مَن يخشونه عليه. ومن نتائج هذا الطغيان العبّاسي أن الإمام الكاظم عليه السلام تعرّض لمحاولات عديدة للقتل – فضلاً عن السجن وفترات الإقامة الجبرية – كانت تُنجيه منها العناية الربانية، إلى أن نال صلوات الله عليه الشهادة في أحد سجون هارون الملقّب – زوراً – بالرشيد.

 

شهد الإمام الكاظم عليه السلام في حياته التي سبقت إمامته ألواناً من الظلم الذي كانت تمارسه السلطة العبّاسيّة ضدّ بني هاشم، وبالخصوص أهل البيت منهم. وأوّل الملوك العبّاسيّين ممن عاصروا الإمام الكاظم هو منصور الدوانيقي الذي عُرف بالبطش والقسوة، فأباد حتّى أعمامه وإخوته أو أخضعهم، طوال حكمه الذي استمرّ ثلاثاً وعشرين سنة، فضلاً عن تنكيله بالعلويّين. ففي (عيون أخبار الرضا عليه السلام): «لما بنى المنصور الأبنية ببغداد، جعل يطلب العلويّين طلباً شديداً، ويجعل من ظفر منهم في الأسطوانات المجوّفة المبنية من الجصّ والآجر..».

ومن مثالبه أيضاً أنّه شدّد في النهي عن رواية فضائل عليّ عليه السلام، وعاقب من يرويها، كما أصدر مرسوماً أمر فيه بتعظيم خصوم أمير المؤمنين عليه السلام. وقد آلت الأمور أخيراً إلى اقتراف المنصور جريمته الكبرى بقتل الإمام الصادق عليه السلام بالسمّ في عام 148 للهجرة.

المنصور يحاول قتل الإمام الكاظم عليه السلام

في المصادر التاريخية أنّ المنصور الدوانيقي حاول قتل الإمام الكاظم عليه السلام مرّتين؛ إحداهما في حياة أبيه الإمام الصادق عليهما السلام.

فقد روى في (الدّرّ النظيم) لابن حاتم العاملي عن قيس بن الربيع، عن أبيه، قال: «دعاني المنصور يوماً وقال: أما ترى ما هو ذا يبلغني عن هذا؟ قلت: ومن هو يا سيّدي؟ قال: جعفر بن محمّد، والله لأستأصلنّ شَأْفَتَه. ثمّ دعا بقائدٍ من قوّاده فقال له: انطلق إلى المدينة في ألف رجل فاهجم على جعفر بن محمّد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر!..». ولكن شاءت العناية الإلهية أن ينجو الإمامان عليهما السلام من هذه المؤامرة بمعجزة ربّانية.

المرّة الثانية: بعد شهادة الإمام الصادق عليه السلام مباشرة، حيث أرسل المنصور إلى واليه على المدينة، يقول له: «أنظر إن كان أوصى [أي الصادق عليه السلام] إلى شخصٍ فاقتله وابعث إليَّ برأسه»!

فجاءه الجواب أنّ الإمام الصادق عليه السلام أوصى إلى خمسة نفر: المنصور نفسه، ومحمّد بن سليمان (والي المنصور على المدينة)، وعبد الله وموسى ابنَي جعفر الصادق عليهما السلام، وحميدة زوجته.

فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء من سبيل.

 

الإمام الكاظم عليه السلام والمهدي العبّاسيّ

 

كان موكب المنصور في طريقه إلى الحج سنة 158، فأخبر الإمامُ الكاظم عليه السلام بأنّه سيموت قبل أن يصل إلى مكّة، وقال: لَا وَاللهِ، لَا يَرَى بيتَ اللهِ أبداً!

قال أبو حمزة الثّمالي: «فلما نزل بئر ميمون أتيتُ أبا الحسن عليه السلام فوجدتُه في المحراب قد سجد فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال: أخرجْ فانظُرْ مَا يقولُ النّاس! فخرجتُ فسمعتُ الواعيةَ على أبي جعفر، فرجعتُ فأخبرتُه، فقال: الله أكبر، ما كان ليَرى بيتَ الله أبداً»!

وبايع الناس ابنه محمّداً بعده. وكان الخليفة الجديد – لقّبه أبوه بالمهدي - فتًى مترفاً يتجاهر بشرب الخمر ومجالس الغناء.

وقد اعترف الذهبي، وهو المتعصّب لبني أميّة وبني العبّاس، بأنّ المهدي العبّاسيّ كغيره من خلفائهم منهمكٌ في شهواته. قال في (تاريخه): «والمهدي كغيره من عموم الخلائف والملوك، له ما لهم وعليه ما عليهم، كان منهمكاً في اللذات واللهو والعبيد».

خفّض المهدي قليلاً قرار أبيه بإبادة العلويّين، ولكنّه ظلّ يبغضهم ويعتبرهم أخطر أعداء العبّاسيّين، ويدلّ على ذلك تعامله مع الإمام الكاظم عليه السلام. قال ابن شهراشوب في (مناقب آل أبي طالب): «لما بويع محمّد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف.

فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال: هذا لسائر الناس.

قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يُجبه المهدي، فقال: أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدِّين!

فقال: لله درّك! فعاهده على ذلك، وأمره بقتل الكاظم عليه السلام في السحر بغتةً!

فنام فرأى في منامه عليّاً عليه السلام يشير إليه، ويقرأ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ القتال:22، فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الكاظم عليه السلام ووصله».

وقد روت عامّة المصادر عزمَ المهدي العبّاسيّ على قتل الإمام عليه السلام وخبر منامه المتقدّم؛ كـ (تاريخ بغداد)، و(تهذيب الكمال)، و(سِيَر) الذهبي و(تاريخه)، و(صفة الصفوة)، و(المستطرف)، و(الفصول المهمّة).

أيام الهادي العبّاسيّ

حكم المهدي عشر سنوات، ومات سنة 169 في رحلة صيد وهو يطارد غزالاً، وكان أوصى بالخلافة إلى ابنيه من زوجته خيزران، فجعل وليَّ عهده موسى، وبعده أخاه هارون.

فحكم بعده ابنه موسى الذي لُقِّب بالهادي، وكان أشبه شيءٍ بيزيد بن معاوية؛ فاسقاً ماجناً، وكان عهده على قِصَره  - سنة وأيّاماً - شرّاً على الأُمّة، وخاصّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لأنّه نفّذ سياسة جدّه المنصور في إبادة أبناء عليّ وفاطمة عليهم السلام!

قال اليعقوبي في (تاريخه) إنّ «موسى ألحَّ في طلب الطالبيّين، وأخافهم خوفاً شديداً... وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم».

وقد قرّر جماعة من العلويّين مواجهة هذه السياسة الإجرامية، فكانت ثورة الحسين بن علي الحسنيّ في منطقة فخّ، وهو مكان في مكّة يعرف بوادي الزاهرية. وقد رُوي عن الأئمّة عليهم السلام مدح صاحب فخّ والثائرين معه، وذهب أكثر علمائنا إلى شرعية ثورته التي كان هدفها إيقاف خطّة إبادة العلويّين!

انتهت هذه الثورة بمجزرة كبيرة ارتكبها العبّاسيّون، حتّى روي عن الإمام الجواد عليه السلام قوله: «لَمْ يَكُنْ لَنا بَعْدَ الطَّفِّ مَصْرَعٌ أَعْظَمُ مِنْ فَخٍّ». وحُمل رأس الحسين بن علي (صاحب فخّ) إلى موسى العبّاسيّ، فأنشد شعراً في التشفّي من الطالبيّين، وجعل ينال منهم، إلى أن ذكر الإمام الكاظم عليه السلام وحلف بالله ليقتلنّه.

وفي (مهج الدعوات) للسيّد ابن طاوس أنّه لما وصل الخبر بنيّة موسى العبّاسيّ إلى الإمام عليه السلام كان عنده جماعة من أهل بيته، فقال لهم: ما تُشيرونَ؟

قالوا: نشير عليك بالابتعاد عن هذا الرجل وأن تغيّب شخصَك عنه، فإنّه لا يؤمَن شرّه، فتبسّم الإمام الكاظم عليه السلام، وتمثّل بشِعر كعب بن مالك:

زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَن سَتَغْلِبُ رَبَّها       ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَّابِ

«ثمّ أقبل الإمام على من حضره من مواليه وأهل بيته فقال: لِيُفْرِخ رَوْعُكُمْ، إِنَّهُ لا يَرِدُ أَوَّلُ كِتابٍ مِنَ العِراقِ إِلّا بِمَوْتِ موسى بْنِ مَهْدي وَهَلاكِهِ!

فقالوا: وما ذاك أصلحك الله؟

فقال: قَد وحرمةِ هذا القبر ماتَ في يومِه هذا! واللهِ ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ الذاريات:23. ".." قال: ثمّ استقبل أبو الحسن القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو!

فقال أبو الوضّاح: فحدّثني أبي قال: كان جماعةٌ من خاصّة أبي الحسن عليه السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال [جمع ميل: وهو القلم]، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك، قال فسمعناه وهو يقول في دعائه: شُكْراً للهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ.

ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: إِلَهي كَمْ مِنْ عَدُوٍّ انْتَضى عَلَيَّ سَيْفَ عَداوَتِهِ وَشَحَذَ لي ظُبَةَ مُدْيَتِهِ وَأَرْهَفَ لي شَبا حَدِّهِ.. [إلى آخر الدعاء المرويّ عنه عليه السلام والمعروف بدعاء الجوشن الصغير]

قال: ثمّ قمنا إلى الصلاة، وتفرّق القوم، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الواردِ بموتِ موسى الهادي والبيعة لهارون الرشيد».

عهد هارون العبّاسي

تقدّم أنّ المهدي العبّاسيّ أوصى بالخلافة من بعده إلى ابنيه موسى وهارون. لكنّ الخلاف وقع بين الأخوين عندما أقدم موسى على تولية ابنه جعفر، وراح يُبعد أخاه هارون حتّى حبسه وحبس معه يحيى بن خالد البرمكي الذي كان بمنزلة عرّاب هارون وأبيه الروحي. وفي حمّى الصراع بين الأخوين، انحازت أمّهما خيزران إلى ولدها هارون، ما حدا بابنها الآخر موسى إلى محاولة قتلها بسمّ دسّه في طعامها، لكنّها نجت من ذلك، فراحت تخطّط لقتله، كما في المصادر التاريخية كافّة.

وكان موسى عزم في تلك الليلة على قتل أخيه ويحيى بن خالد أيضاً في حبسيهما، فما كان من الأمّ إلّا أن بادرت إلى قتل ولدها. يقول الطبري: «وسببُ موت الهادي أنّه لما جَدَّ في خَلْع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دسَّت إليه من جواريها... مَن قتله بالغَمّ [أي بتغطية وجهه؛ غَمَّ الشَّيءَ غَمًّا: غَطَّاهُ وسَتَرهُ] والجلوس على وجهه، ووجّهت إلى يحيى بن خالد: إنّ الرجل قد توفّي، فاجدد في أمرك ولا تقصر». فقام يحيى بأخذ البيعة لهارون.

وكان عهد هارون العباسي شديد الوطأة على أهل البيت وعميدهم الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وإنّ المتّفق عليه بين المؤرّخين أنّ أيّام هارون كانت أسوأ الأيّام على الإمام الكاظم إرهاباً وسجوناً ومعتقلات، ويستفاد من مجموع كلماتهم وأقوالهم أنّ الإمام في عهد هذا الحاكم قد تكرّر سجنه أكثر من مرّة قبل سجنه الأخير الذي استُشهد فيه، كما يستفاد منها أنّه حبس في البصرة مرّة، وفي بغداد مرّات، وأنّه تنقّل في حبوس عيسى بن جعفر؛ والفضل بن الربيع؛ والفضل بن يحيى البرمكي، ثمّ السنديّ بن شاهك في آخر المطاف.

ثمّ إنّ ذرائع تكرار حبس الإمام كانت مختلفة، وأوّلها كان في أوّل حجٍّ لهارون بعد أن تولّى الحكم سنة 169. وعندما ذهب لزيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله وقف أمام القبر الشريف وسلّم عليه قائلا: «السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا ابن العمّ!»، مفتخراً بذلك على من معه بقرب نسبه من رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فما كان من الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الذي كان حاضراً وقتها إلا أن سلّم على الرسول صلّى الله عليه وآله قائلاً: «السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسولَ اللهِ! السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبِه!»، فتغيّر وجه هارون على الفور، وبان الغيظ فيه. لكنّه أراد أن يكبته، فقال للإمام عليه السلام: «هذا الفخر يا أبا الحسن حقّاً!».

قال الذهبي في (تاريخ الإسلام): «ولعلّ الرشيد ما حبسه إلّا لقولته تلك: السلام عليك يا أبه. فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا»!

وفي كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي: «وحجّ الرشيد في تلك السنة – 170 - فبدأ بقبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بأُمّتك وسفك دمائها! ثمّ أمر به فأُخذ من المسجد فأُدخل إليه، فقيّده».

وفي (عيون أخبار الرضا عليه السلام): « لما قبض الرشيد على موسى جعفر عليه السلام قبض عليه وهو عند رأس النبيّ صلّى الله عليه وآله قائماً يصلّي فقطع عليه صلاته، وحُمل وهو يقول: أَشْكو إِلَيْكَ يا رَسولَ اللهِ ما أَلْقى! وأقبل الناس من كلّ جانب يبكون ويصيحون، فلمّا حُمل إلى يدَي الرشيد شتمَه وجفاه، فلمّا جنّ عليه الليل أمر ببيتَين فهُيّآ له، فحُمل موسى بن جعفر عليه السلام إلى أحدهما في خفاء ودفعه إلى حسّان السرويّ ".." فقدِم حسّان البصرة قبل التروية بيوم فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانية حتّى عُرف ذلك وشاع خبره، فحبسه عيسى ببيتٍ من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه..».

كان هارون يحكم أكبر وأقوى دولة في عصره، لكنّ الخطر الذي أرّقه على الدوام هو أبناء عليٍّ عليه السلام الذين يعترف لخاصّته بأنّ منهم الأئمّة الربّانيين، الذين هم أحقّ من بني العبّاس بمنصب الخلافة!

ينقل المأمون رأي أبيه في الإمام الكاظم عليه السلام بعد ان استقبله واجتهد في إكرامه ثمّ أجلسه في صدر المجلس، وأمر أبناءه بأخذ الركاب له، قال المأمون: «كنت أجرأَ وُلد أبي عليه، فلمّا خلا المجلس قلت: مَن هذا الرجل الذي قد أعظمتَه وأجللتَه.... فقال أبي: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفتُه على عباده!.... أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ! والله يا بني إنّه لأَحقّ بمقام رسول الله صلّى الله عليه وآله منّي ومن الخلق جميعاً!...».

وعلى الرغم من إقرار هارون بمنزلة الإمام عليه السلام، إلا أنّه يقول للمأمون في مناسبة أخرى أنّه لا يأمن أن يخرج عليه الإمام الكاظم بمئة ألف سيف في أصحابه ومواليه! وكان يتبرّم من كرامات الإمام ومعجزاته حتى قال لوزيره البرمكيّ: «أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب! ألا تدبّر في أمر هذا الرجل تدبيراً يُريحنا من غمّه».

وقد بلغت محاولات هارون لقتل الإمام الكاظم عليه السلام عشر مرّات، وفي كلّ مرّة كانت تظهر له كرامات الإمام عليه السلام وآياته فيتراجع، لكنّه كان يعود ويكرّر محاولته!

ومن هذه المحاولات ما روي عن علي بن يقطين، قال: «كنت واقفاً على رأس هارون الرشيد إذ دعا موسى بن جعفر عليه السلام وهو يتلظّى عليه! فلمّا دخل حرّك شفتيه بشيء، فأقبل هارون عليه ولاطفه وبرّه وأذِن له في الرجوع!

فقلت له: يا ابن رسول الله جعلني الله فداك، إنك دخلت على هارون وهو يتلظّى عليك فلم أشكّ إلا أنّه يأمر بقتلك فسلّمك الله منه! فما الذي كنت تحرّك به شفتيك؟

فقال عليه السلام: «إِنّي دَعَوْتُ بِدُعائَيْنِ، أَحَدُهُما خاصٌّ وَالآخَرُ عامٌّ، فَصَرَفَ اللهُ شَرَّهُ عَنّي». فقلتُ: ما هُما يا ابن رسول الله؟

فقال: «أمّا الخاصُّ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَفِظْتَ الغُلامَيْنِ لِصَلاحِ أَبَوْيِهِما فَاحْفَظْني لِصلاحِ آبائي؛ وَأمّا العامُّ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَكْفي مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَلا يَكْفي مِنْكَ أَحَدٌ، فَاكْفِنيهِ بِما شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ وأَنّى شِئْتَ، فَكَفاني اللهُ شَرَّهُ».

الشهادة

عمد هارون إلى سجن الإمام الكاظم عليه السلام في البصرة، وبعد سنة كتب واليها إلى هارون: «خُذه منّي وسلِّمه إلى من شئت وإلا خَلَّيْتُ سبيله، فقد اجتهدتُ بأن أجد عليه حجّة، فما أقدر على ذلك، حتّى أني لأتسَمَّعُ عليه إذا دعا لعله يدعو عليَّ أو عليك، فما أسمعه يدعو إلّا لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة. فوجَّهَ [هارون] مَن تسلّمه منه».

«ثمّ صيّره إلى بغداد وسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع، وبقي عنده مدّة طويلة، ثمّ أراده الرشيد على شيء من أمره – أي طلب من الفضل قتل الإمام عليه السلام - فأبى! فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد، فكان عليه السلام مشغولاً بالعبادة يُحيي الليل كلّه صلاةً وقراءةً للقرآن، ويصوم النهار في أكثر الأيّام ولا يصرف وجهه عن المحراب، فوسّع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه، فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرّقّة، فكتب إليه يأمره بقتله فتوقّف عن ذلك! فاغتاظ الرشيد لذلك وتغيّر عليه».

واضطرّ هارون في نهاية المطاف إلى تسليمه إلى من أعرب عن استعداده في تحمّل هكذا وزر، فتولّى أمر حبسه رئيس شرطته السنديّ بن شاهك، وكان لقيطاً يُنسب إلى أُمّه، ويصفه الذهبي بأنّه كان ذميم الخُلُق يشهد للمدّعي من دون بيّنة. وكان سجن السنديّ أصعب السجون على الإمام عليه السلام، فقد زادوا عليه القيود وشدّدوا عليه.

وفي (الكافي) للشيخ الكليني، عن بعض مشايخ بغداد، قال: «.. جُمِعْنا أيّام السنديّ بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير، فأُدخلنا على موسى بن جعفر، فقال لنا السنديّ: يا هؤلاء أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟

قال: ونحن ليس لنا همٌّ إلا النظر إلى الرجل وإلى فضله وسَمْتِه.

فقال موسى بن جعفر: ... أُخْبِرُكُمْ أَيُّها النَّفَرُ أَنّي قَدْ سُقيتُ السُّمَّ في سَبْعِ تَمَراتٍ، وَأَنا غَداً أَخْضَرُّ، وَبَعْدَ غَدٍ أَموتُ.

قال: فنظرت إلى السنديّ بن شاهك يضطرب ويرتعد مثل السعفة».

قال الطبرسي في (إعلام الورى): «ولمّا استُشهد صلوات الله عليه أدخل السنديّ عليه الفقهاء ووجوه الناس من أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عديّ، فنظروا إليه لا أثرَ به من جراح ولا خنق، ثمّ وضعه على الجسر ببغداد، وأمر يحيى بن خالد فنُودي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميت...».

وفي (كمال الدين) للشيخ الصدوق: «توفّي موسى بن جعفر عليهما السلام في يد السنديّ بن شاهك فحُمل على نعش ونُودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه!».

ثمّ دفن الإمام عليه السلام في مكانه المعروف اليوم، بمدينة الكاظمية، التي سُمّيت بهذا الاسم تبركاً بلقبه الشريف، والتي كانت تُعرف قديماً بمقبرة قريش. ومرقده الآن مزارٌ شريف يقصده المؤمنون من أنحاء الأرض، وبابٌ منه يَرِدُ المذنبون طلباً للمغفرة، ويدخل المستغيثون بالله طلباً لقضاء الحاجة، لعلمهم أنّ الحاجة لا تُردّ عند باب موسى الكاظم عليه السلام.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

07/04/2016

دوريات

نفحات