الملف

الملف

04/07/2016

الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
سادسُ الأسباط الاثنَي عشر عليهم السلام

الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام

سادسُ الأسباط الاثنَي عشر عليهم السلام

 

 

 

اقرأ في الملف

استهلال

 

قبساتٌ من سيرة سادسِ أئمّة المسلمين

الفقيه المحدّث الشيخ عبّاس القمّي رحمه الله

نبذة يسيرة ممّا أُثِر عن الإمام الصادق عليه السلام

العلامة المحقٌّق عليّ بن عيسى الإربلي رحمه الله

المواجهة السياسية عند الإمام الصادق عليه السلام

الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه

مناظرة الإمام الصادق عليه السلام مع عمرو بن عبيد المعتزلي

رواية الشيخ الكليني

 

 

 

أنا ابنُ أَعراقِ الثَّرى

قبساتٌ من سيرة سادس أئمّة المسلمين

ـــــــ الفقيه المُحدّث الشيخ عباس القمّي رحمه الله ـــــــ

* كتاب (الأنوار البهية في تواريخ الحُجج الإلهية) للفقيه المحدّث الشيخ عبّاس القمّي المتوفّى سنة 1359 للهجرة (1940م) يعدّ من المصادر المُهمّة في سيرة المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم أجمعين.

رتّبه المؤلف – وهو صاحب المصنّفات المشهورة مثل (سفينة البحار)، و(الكُنى والألقاب)، و(مفاتيح الجنان)، وغيرها -  على أربعة عشر نوراً؛ بعدد المعصومين عليهم السلام.

يتضمّن هذا المقال مختصر ما ورد تحت عنوان «النور الثامن»، وهو في سيرة الإمام أبي عبد الله، جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام، وفيه بعض ما يرتبط بولادته وشهادته عليه السلام، وطرفاً من مناقبه، وشواهد علمه الإلهيّ، وأحواله مع حكّام عصره.

«شعائر»

 

النور الثامن: الإمام السادس، ينبوع العلم ومعدن الحكمة واليقين، مولانا أبو عبد الله، جعفر بن محمّد الصادق الأمين، صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين.

وُلد، عليه السلام، بالمدينة المنوّرة يوم الاثنين، سابع عشر من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وثمانين من الهجرة، وهو اليوم الذي وُلد فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهو يوم شريف عظيم البركة، ولم يزل الصالحون من آل محمّد عليهم السلام، من قديم الأيام يعظّمون حقّه، ويرعون حرمته؛ وفي صومه فضل كبير وثواب جزيل، ويستحبّ فيه الصدقة وزيارة المشاهد المشرّفة، والتطوّع بالخيرات، وإدخال المسرّة على أهل الإيمان.

أعلمُ الناس باختلاف الناس

* قال السيد الشبلنجي الشافعي في (نور الأبصار)، في أحوال أبي عبد الله الصادق عليه السلام، ما هذا لفظه:

«ومناقبه كثيرة تكاد تفوت عند الحاسب، ويحار في أنواعها فهمُ اليقِظ الكاتب. روى عنه جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم، كيحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك بن أنَس، والثوريّ، وابن عُيَينة، وأبي حنيفة، وأيوب السجستاني، وغيرهم.

* وقال شيخنا المفيد رحمه الله: «... ونقل الناس عنه – أي عن الإمام الصادق عليه السلام - من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلاد، ولم يُنقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نُقل عنه، ولا لقيَ أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقَلَة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل».

* وذُكر عن بعض علماء المخالفين أنهم كانوا من تلامذته ومن خَدَمه وأتباعه والآخذين عنه، كأبي حنيفة، ومحمّد بن الحسن، وأنّ أبا يزيد طيفور السقّاء خدمَه وسقاه ثلاث عشرة سنة، وأن إبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار، كانا من غلمانه.

* وروى ابن شهرآشوب عن (مُسند) أبي حنيفة، قال الحسن بن زياد: «سمعتُ أبا حنيفة وقد سُئل: من أَفقهُ مَن رأيت؟

قال: جعفر بن محمّد؛ لمّا أقدمه المنصور - الدوانيقي العبّاسي - بعث إليّ، فقال: (يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد؛ فهيّئ له من مسائلك الشِّداد).

فهيّأتُ له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر – المنصور - وهو بالحِيرة، فأتيته فدخلت عليه؛ وجعفر - الصادق عليه السلام - جالسٌ عن يمينه. فلمّا بَصُرتُ به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور)، فسلّمتُ عليه، فأومأ إليّ فجلستُ، ثمّ التفتَ إليه، فقال: يا أبا عبد الله! هذا أبو حنيفة.

قال: (نَعَمْ، أَعْرِفُهُ).

ثمّ التفت – المنصور - إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك.

فجعلتُ أُلقي عليه فيُجيبني، فيقول: (أَنْتُمْ تَقولونَ كَذا، وَأَهْلُ المَدينَةِ يَقولونَ كَذا، وَنَحْنُ نَقولُ كَذا). فربّما تابعَنا، وربما تابعَهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيتُ على الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشيء، ثم قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلمَ الناس أعلمُهم باختلاف الناس؟».

أخلاقُ الأنبياء

* في (تذكرة) السِّبط، قال: «ومن مكارم أخلاقه عليه السلام، ما ذكره الزمخشريّ في كتاب (ربيع الأبرار)، عن الشُّقرانيّ مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله (من أولاد شُقران مولى النبيّ صلّى الله عليه وآله)، قال:

خرج العطاءُ أيام المنصور وما لي شفيع، فوقفتُ على الباب متحيّراً، وإذا بجعفر بن محمّد قد أقبل، فذكرتُ له حاجتي، فدخل وخرج وإذا بعطائي في كُمّه، فناولني إيّاه، وقال: (إِنَّ الحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وإنّهُ مِنْكَ أَحْسَنُ لِمَكانِكَ مِنّا. وَإِنَّ القَبيحَ مِنْ كُلِّ أَحْدٍ قَبيحٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَحُ لِمَكانِكَ مِنّا).

وإنّما قال له جعفر عليه السلام ذلك، لأن الشُّقرانيّ كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر عليه السلام أنّه رحّبَ به وقضى حاجتَه مع علمه بحاله، ووعظَه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام».

* ورُؤي عليه قميصٌ شِبهُ الكرابيس (صنف من الثياب خشِن)... وبِيَده مِسْحاةٌ يَفتحُ بها الماءَ، وقال: (أُحِبُّ أنْ يَتَأذّى الرَّجُلُ بِحَرِّ الشَّمْسِ في طَلَبِ المَعيشَةِ).

* وكان يأمر بإعطاء أجور العمَلَة قبل أن يجفَّ عَرَقُهم.

 

مع فرعون زمانه

كان المنصور قد هَمّ بقتل أبي عبد الله عليه السلام غير مرّة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله، فإذا نظر إليه هابه ولم يقتله، غير أنّه منع الناس عنه، ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء، حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه، في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علمُ ذلك عندهم – أي عند الفقهاء من أصحابه عليه السلام - ولا يَصِلون إليه، فيعتزلُ الرجلُ أهلَه.

وكان رجلٌ من الإماميّة طلّق امرأته ثلاثاً، فسأل الفقهاء، فقالوا: ليس بشيءٍ، فقالت امرأته: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله عليه السلام، وكان بالحِيرة إذ ذاك أيّام أبي العبّاس.

قال الرجل: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه، إذ منع الخليفةُ الناسَ من الدخول على أبي عبد الله عليه السلام، وأنا أنظر كيف ألتمسُ لقاءه، فإذا سَوادِيٌّ – أي رجلٌ من أهل السواد - عليه جبّة صوفٍ يبيعُ خياراً، فقلت له: بكم خيارك هذا كلّه؟

قال: بدرهم، فأعطيته درهماً. وقلت له: أعطِني جبّتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: مَن يشتري خياراً؟ ودنوت منه عليه السلام، فإذا غلامٌ من ناحيةٍ يُنادي: يا صاحب الخيار!

فقال عليه السلام لي - لمّا دنوتُ منه: ما أَجْودَ ما احْتَلْتَ! أَيُّ شَيْءٍ حاجَتُك؟

قلت: إنّي ابتُليت فطلّقتُ أهلي في دفعةٍ ثلاثاً، فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله عليه السلام.

فقال عليه السلام: ارْجِعْ إِلى أَهْلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ.

أقول: لما مُنع الصادق عليه السلام من القعود للناس شقّ ذلك على شيعته، وصعُب عليهم، حتّى ألقى الله عزّ وجلّ في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السلام، ليُتحفَه بشيءٍ من عنده، لا يكون لأحدٍ مثله، فبعث إليه بمِخْصَرَةٍ (المِخصرة: نحو العصا) كانت للنبيّ صلّى الله عليه وآله؛ طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تُشَقّ له أربعة أرباع، وقسّمها في أربعة مواضع، ثم قال له: «ما جزاؤك عندي إلا أن أُطلِقَ لك ونُفشي علمَك لشيعتك، ولا أتعرّض لكَ ولا لهم، فاقعد غير محتَشِمٍ وَأَفْتِ النّاسَ، ولا تكُن في بلدٍ أنا فيه».

ففَشى العلم عن الصّادق عليه السلام، واجتمع عنده الناس وتداكّوا عليه حتّى يأخذوا من علمه عليه السلام. وعن معاوية بن ميسرة بن شريح، قال: «شهدتُ أبا عبد الله عليه السلام في مسجد الخَيف وهو في حلقة فيها نحو من مائتي رجل، وفيهم عبد الله بن شُبرمة (فقيهٌ، كان قاضياً للمنصور في بعض نواحي الكوفة)، فقال: يا أبا عبد الله إنا نقضي بالعراق فنقضي ما نعلم من الكتاب والسُّنّة، وتَرِدُ علينا المسألة فنجتهدُ فيها بالرأي..... فأقبل أبو عبد الله عليه السلام، فقال: أَيُّ رَجُلٍ كانَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ؟ فَقَدْ كانَ عِنْدَكُمْ بِالعِراقِ وَلَكُمْ فيهِ خَبَرٌ.

قال: فأطراه ابن شُبرمة وقال فيه قولاً عظيماً.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فَإِنَّ عَلِيّاً أَبَى أَنْ يُدْخِلَ في دينِ اللهِ الرَّأْيَ، وَأَنْ يَقولَ في شَيْءٍ مِنْ دينِ اللهِ بِالرّأْيِ وَالمَقاييسِ».

 

* وروى الكليني عن المفضّل بن عمر، قال: وجّه أبو جعفر المنصور إلى الحسن بن زيد، وهو واليه على الحرمين، أنْ أحرِق على جعفر بن محمّد داره! فألقى النار في دار أبي عبد الله عليه السلام فأخذت النارُ في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله عليه السلام يتخطّى النار ويمشي فيها، ويقول: «أَنا ابْنُ أَعْراقِ الثَّرَى، أَنا ابْنُ إِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ». (أعراق الثّرى هي أصول الأرض، وهنا الأنبياء. ومن ألقاب إسماعيل عليه السلام: عِرقُ الثّرى)

* ورُوي أنه سُعي بأبي عبد الله الصادق عليه السلام عند المنصور، بأنه بعث مولاه المُعلّى بن خُنيس بجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد الله (من أولاد الإمام الحسن عليه السلام، وكان يعمل على تقويض سلطان بني العبّاس) فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر غيظاً، وكتب إلى عمّه داود بن علي، وهو إذ ذاك أمير المدينة، أن يُسيّر إليه جعفر بن محمّد عليهما السلام، ولا يُرخِص له في التلوّم والمقام.

فبعث إليه داود بكتاب المنصور، وقال له: اعمل في  المسير إلى أمير المؤمنين في غد، ولا تتأخّر!

قال صفوان الجمّال: وكنتُ يومئذٍ بالمدينة، فأنفذ إليّ أبو عبد الله عليه السلام فصرتُ إليه، فقال لي: «تَعَهَّدْ راحِلَتَنا فَإِنّا غادونَ في غَدٍ إِنْ شاءَ اللهُ إِلى العِراقِ»، ونهض من وقته وأنا معه إلى مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكان ذلك بين الأولى والعصر، فركع فيه ركعات، ثمّ رفع يدَيه ودعا بدعاء.

وفي (الكافي) عن صفوان الجمّال، قال: «حملتُ أبا عبد الله عليه السلام الحملة الثانية إلى الكوفة، وأبو جعفر المنصور بها، فلمّا أشرف عليه السلام على الهاشمية – منطقة في الكوفة - أخرج رِجله من غَرْزِ الرَّحَل، ثمّ نزل ودعا ببغلة شهباء، ولبس ثياباً بيضاً وكُمَّةً بيضاء (الكُمّة العمامة) فلما دخل عليه، قال له أبو جعفر: لقد تشبّهتَ بالأنبياء!

فقال أبو عبد الله عليه السلام: وَأَنّى تُبَعِّدُنِي مِنْ أبْناءِ الأَنْبِياءِ؟

قال: لقد هممتُ أن أبعث إلى المدينة من يَعْقِرُ نخلَها ويَسبي ذرّيتها.

قال: وَلِمَ ذاك؟

فقال: رُفع إليّ أن مولاك المعلّى بن خنيس يدعو إليك ويجمع لك الأموال.

فقال: وَاللهِ ما كانَ.

فقال: لستُ أرضى منك إلا بالطلاق والعِتاق والهَدي والمَشي.

فقال: أَبِالأَنْدادِ مِنْ دونِ اللهِ تَأْمُرُني أَنْ أَحْلِفَ، إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ. فقال: أَتَتَفَقُّه عَلَيَّ؟!

فقال: وَأَنّى تُبَعِّدُنِي مِنَ التَّفَقُّهِ وَأَنَا ابنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟

قال: فإنّي أجمعُ بينك وبينَ مَن سعى بك؟

قال: فَافْعَل.

قال: فجاء الرجل الذي سعى به، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا هَذا!

فقال: نعم! واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو عالمُ الغَيب والشهادة، الرحمنُ الرحيم، لقد فعلتَ.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا وَيْلَكَ! تُبَجِّلُ اللهَ تَعالى فَيَسْتَحْيي مِنْ تَعْذيبِكَ، وَلَكِنْ قُلْ: بَرِئْتُ مِنْ حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَأَلجَأْتُ إِلى حَوْلِي وَقُوَّتِي.

فحلفَ بها الرجلُ، فلم يستتمّها حتّى وقع ميتاً. فقال له أبو جعفر: لا أصدّقُ بعدَها عليك أبداً...».

أقول: قد ظهر من هذه الرواية ومن روايات أُخَرَ أنَّ مجيء الصادق عليه السلام، من المدينة إلى العراق كان أكثر من مرّة واحدة، ويظهر من روايات كثيرة أنَّ المنصور أحضره عليه السلام، مرّات عديدة ليقتله، فدعا اللهَ تعالى لكفاية شرّ المنصور، فكفاه الله تعالى شرّه.

* وكان من دعائه عليه السلام حين أمر المنصور بإحضاره، فلمّا بصُر به قال: «قتلني الله إن لم أقتلك، أتُلحِدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل؟!

قال الربيع حاجب المنصور: وكنت رأيت جعفر بن محمّد عليهما السلام حين دخل على المنصور يحرّك شفتَيه، فكلّما حرّكهما سكن غضبُ المنصور، حتّى أدناه منه وقد رضيَ عنه، فلمّا خرج عليه السلام اتّبعته، وقلت له: بأيّ شيءٍ كنت تحرّك شفتيك حتّى سكن غضبه؟

قال: بِدُعاءِ جَدّي الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِما السَّلامُ.

قلت: جُعلِتُ فداك وما هذا الدعاء؟

قال: (يا عُدَّتي عِنْدَ شِدَّتي، وَيا غَوْثي في كُرْبَتي، احْرُسْني بِعَيْنِكَ الّتي لا تَنامُ، وَاكْنُفْني بِرُكْنِكَ الّذي لا يُرامُ).

قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء، فما نزلت بي شدّة قطّ إلا دعوتُ به ففرّج عنّي».

شهادة الإمام الصادق عليه السلام

قُبض أبو عبد الله عليه السلام في شوّال من سنة ثمان وأربعين ومائة مسموماً، في عنب سَمّه المنصور، وله خمس وستّون سنة، وقد عيّن بعض المتتبّعين يوم وفاته عليه السلام في الخامس والعشرين منه، ودُفن في البقيع مع أبيه وجدّه، وعمّه الإمام الحسن المجتبى عليهم السلام.

وعن أبي بصير، قال: «دخلتُ على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد الله عليه السلام، فبكتْ وبكيتُ لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمّد، لو رأيتَ أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيتَ عَجَباً، فتح عينيه، ثمّ قال: اجْمَعوا لي كُلَّ مَنْ بَيْني وَبَيْنَهُ قَرابَة، قالت: فلم نَترُك أحداً إلا جمعناه، قالت: فنظرَ إليهم، ثمّ قال: إِنَّ شَفاعَتَنا لا تَنالُ مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاةِ».

 

 

.. وإنّ عندي لَمِثْلَ الذي جاءت به الملائكة

نُبذة يسيرة مما أُثِر عن الإمام الصادق عليه السلام

 

ــــــ العلامة المحقّق عليّ بن عيس الإربلي رحمه الله ــــــ

 

* كتاب (كشف الغُمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام) للعلامة المحقّق أبي الحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي - توفّي في 692 للهجرة، ودُفن بجانب الغربيّ من بغداد – جمع فيه مؤلّفه أحوال النبيّ صلّى الله عليه وآله، والزهراء والأئمّة الاثني عشر عليهم السلام، وتواريخهم ومناقبهم وفضائلهم ومعجزاتهم، والغالب عليه النقلُ من كُتب الجمهور، ليكون أدعى إلى القبول.

يستعرض هذا المقال المقتطف والمختصر عن (كشف الغُمّة) شواهد من كرامات الإمام الصادق عليه السلام ومعجزاته وغُرر أقواله ومواقفه مع الحكّام العباسيّين.

نُشير إلى أنّ (إربل) التي يُنسب إليها المؤلّف بلدة من أعمال الموصل، بينهما – كما في معجم الحموي – مسيرة يومين.

«شعائر»

 

 

الإمام جعفر الصادق، بن محمّد، بن عليّ، بن الحسين، بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

قال كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ – المتوفّى 693 للهجرة - في (مطالب السّؤول): «هو من عظماء أهل البيت وساداتهم عليهم السلام.... نقلَ عنه الحديث واستفاد منه العلمَ جماعةٌ من أعيان الأئمة وأعلامهم، مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابن عُيينة، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيوب السختياني وغيرهم، وعدّوا أخْذَهم منه منقبةً شرفوا بها وفضيلةً اكتسبوها... حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى، صارت الأحكام التي لا تُدرَك عِللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها، تضاف إليه وتروى عنه، وقد قيل إنّ كتاب الجَفْر الذي بالمغرب يتوارثه بنو عبد المؤمن، هو من كلامه عليه السلام، وإنّ في هذه المنقبة سنية، ودرجة في مقام الفضائل علية. وهذه نبذة يسيرة مما نقل عنه».

قلت (الإربلي): «كتاب الجَفْر مشهور وفيه أسرارهم وعلومهم، وقد ذكره مصرّحاً الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، حين عهد إليه المأمون...».

ما هي إليك، ولا إلى ابنك

قال الشيخ المفيد رحمه الله تعالى في (الإرشاد): «إنَّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا – أيّام بني أُميّة - بالأبواء وفيهم إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن عليّ، وعبد الله بن الحسن (المحض)، وابناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال صالح بن عليّ: قد علمتم أنّكم الذين يمدّ الناس إليهم أعينهم وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا لرجل منكم بيعة تُعطونه إياها من أنفسكم، وتَواثقوا على ذلك حتّى يفتح الله وهو خير الفاتحين.

ثمّ قال عبد الله بن الحسن: قد علمتم أنّ ابني هذا (محمّداً) هو المهديّ، فهلمّ فلنبايعه!

وقال أبو جعفر (المنصور) لأيّ شيء تخدعون أنفسكم؟ واللهِ لقد علمتم ما الناس إلى أحدٍ أطول أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى – يريد محمّد بن عبد الله.

 قالوا: قد والله صدقت، إن هذا الذي نعلم، فبايعوا محمّداً جميعاً ومسحوا على يده.

(ثمّ أوفدوا رسولاً إلى جعفر بن محمّد الصادق ليحضر عندهم. وقيل إن عبد الله بن الحسن قال لمَن حضر: لا تريدوا جعفراً فإنا نخاف أن يُفسد عليكم أمركم)...

وجاء جعفر بن محمّد (الصادق عليه السلام)، فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه، فتكلّم بمثل كلامه، فقال جعفر بن محمّد: لا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ هَذا الأَمْرَ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ، إِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّ ابْنَكَ هَذا هُوَ المَهْدِيُّ فَلَيْسَ بِهِ، وَلا هَذا أَوانُهُ، وَاِنْ كُنْتَ إِنَّما تُريدُ أَنْ تُخْرِجَهُ غَضَباً للهِ، تَعالى، وَلِيَأْمُرَ بِالمَعْروفِ وَيَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، فَإِنّا، وَاللهِ، لا نَدَعُكَ وَأَنْتَ شَيْخُنا وَنُبايِعُ ابْنَكَ في هَذا الأَمْرِ.

فغضب عبد الله وقال: لقد علمتَ خلافَ ما تقول، وواللهِ ما أطلعَك اللهُ على غَيبه، ولكنك يحملُك على هذا الحسد لابني.

فقال: وَاللهِ، ما ذَلِكَ يَحْمِلُنِي، وَلَكِنَّ هَذا وَإِخْوَتَهُ وأَبْناءَهُمْ دونَكُمْ، وضرب بيده على ظهر أبي العبّاس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن، وقال: إِيهاً، وَاللهِ، ما هِيَ إِلَيْكَ وَلا إِلى ابْنِكَ، وَلَكِنَّها لَهُمْ – أي لبني العباس - وَإِنَّ ابْنَيْكَ لَمَقْتولانِ.

ثم نهض وتوكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ، وقال: أَرَأَيْتَ صاحِبَ الرِّداءِ الأَصْفَرِ -يعني أبا جعفر المنصور- فقال له: نعم.

فقال: إنّا، وَاللهِ، نَجِدُهُ يَقْتُلُهُ.

فقال له عبد العزيز: أيقتلُ محمّداً؟

قال: نَعَمْ.

قال: فقلت في نفسي: حسدَه وربّ الكعبة... ثمّ والله ما خرجتُ من الدنيا حتّى رأيته قتلهما... فلما قال جعفر (الصادق عليه السلام) ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر (المنصور) فقالا: يا أبا عبد الله تقول هذا؟

قال: نَعَمْ، أَقولُهُ، وَاللهِ، وَأَعْلَمُهُ».

* وعن بجاد العابد قال: «كان جعفر بن محمّد عليهما السلام إذا رأى محمّد بن عبد الله بن الحسن تغرغرت عيناه، ثم يقول: بِنَفْسي هُوَ، إِنَّ النّاسَ لَيَقولونَ فيهِ، وَإِنَّهُ لَمَقْتولٌ لَيْسَ هُوَ في كِتابِ عَلِيٍّ مِنْ خُلَفاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ».

فصل: وهذا حديث مشهور... لا يختلف العلماء بالأخبار في صحّته، وهو ممّا يدلّ على إمامة أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام، وأنَّ المعجزات كانت تظهر على يده لإخباره بالغائبات والكائنات قبل كونها، كما كان يخبر الأنبياء عليهم السلام، فيكون ذلك من آياتهم وعلامات نبوتهم وصدقهم على ربهم عزّ وجلّ.

* ورُوي أن داود بن عليّ (عمّ المنصور وواليه على المدينة) قتل المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد عليهما السلام، وأخذ ماله. فدخل عليه جعفر الصادق عليه السلام، فقال له: «قَتَلْتَ مَوْلايَ وَأَخَذْتَ مالَهُ؟ أَما عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ يَنامُ عَلى الثُّكْلِ وَلا يَنامُ عَلى الحَرْبِ، أَما وَاللهِ، لَأَدْعُوَنَّ اللهَ عَلَيْكَ»!

فقال له داود بن علي: أتُهدّدنا بدعائك؟ كالمستهزئ بقوله.

فرجع أبو عبد الله عليه السلام إلى داره، فلم يزل ليله كلّه قائماً وقاعداً، حتّى إذا كان السحَر سُمع وهو يقول في مناجاته: يا ذا القُوَّةِ القَوِيَّةِ، وَيا ذا المَحالِ الشَّديدِ، وَيا ذا العِزَّةِ الّتي كُلُّ خَلْقِكَ لَها ذَليلٌ، اكْفِني هَذا الطَّاغِيَةَ وَانْتَقِمْ لي مِنْهُ»، فما كانت إلا ساعة حتّى ارتفعت الأصوات بالصياح، وقيل مات داود بن عليّ.

إحدى كراماته المتواترة

* عن اللّيث بن سعد، قال: حججتُ سنة ثلاث عشرة ومائة، فأتيت مكّة فلمّا صلّيتُ العصر رقيتُ أبا قبيس (جبلٌ قريبٌ من مكّة المكرّمة) وإذا أنا برجل جالس وهو يدعو، فقال: (يا رَبّ يا رَبّ) حتّى انقطع نفسه.

ثم قال: (رَبّ رَبّ) حتّى انقطع نفسه.

ثم قال: (يا اللهُ يا اللهُ) حتّى انقطع نفسه.

ثم قال: (يا حَيُّ يا حَيُّ) حتّى انقطع نفسه.

ثم قال: (يا رَحيمُ يا رَحيمُ) حتّى انقطع نفسه.

ثم قال: (يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ) حتّى انقطع نفسه، سبع مرّات.

ثم قال: اللَّهُمَّ إِنّي أَشْتَهي مِنْ هَذا العِنَبِ فَأَطْعِمْنيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنَّ بُرْدَيَّ قَدْ أَخلَقَا. (البُردة: نوع من الأكسية)

قال اللّيث: فوَاللهِ ما استتمّ كلامَه حتّى نظرتُ إلى سلّة مملوة عنباً، وليس على الأرض يومئذٍ عنب، وبُردَين جديدَين موضوعَين، فأراد أن يأكل فقلتُ له: أنا شريكُك.

فقال لي: وَلِمَ؟

فقلت: لأنك كنت تدعو وأنا أؤمّن.

فقال لي: تَقَدَّمْ فَكُلْ، وَلا تُخَبِّئْ شَيْئاً.

فتقدّمت فأكلتُ شيئاً لم آكُل مثله قطّ، وإذا عنبٌ لا عَجَمَ له، فأكلت حتّى شبعت والسلّة لم تنقص.

ثم قال لي: خُذْ أَحَدَ البُرْدَيْنِ إِلَيْكَ.

فقلت: أما البُردان فإني غنيٌّ عنهما!.... فاتّزرَ بالواحد وارتدى بالآخر... ونزل، فاتّبعته حتّى إذا كان بالمسعى لَقِيَهُ رجل... فلحقتُ الرجل فقلت: من هذا؟ قال: هذا جعفر بن محمّد.

قال الليث: فطلبتُه لأسمع منه فلم أجِده..».

قال أفقر عباد الله إلى رحمته، عليّ بن عيسى (المؤلّف): «حديث اللّيث مشهور وقد ذكره جماعة من الرواة ونقلَة الحديث... وقد أورد هذا الحديث جماعة من الأعيان، وذكره الشيخ الحافظ أبو الفرج بن الجوزيّ رحمه الله في كتابه (صفوة الصفوة)، وكلّهم يرويه عن الليث، وكان ثقةً معتبراً».

حديثه عليه السلام، قولُ الله عزّ وجلّ

* عن يونس بن يعقوب، قال: «كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجلٌ من أهل الشام، فقال له: إني رجلٌ صاحبُ كلام وفقه وفرائض، وقد جئتُ لمناظرة أصحابك.

فقال له أبو عبد الله: كَلامُكَ هَذا مِنْ كَلامِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَمْ مِنْ عِنْدِكَ؟

فقال: من كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله بعضُه، ومن عندي بعضُه!

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فَأَنْتَ، إذاً، شَريكُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟

قال: لا.

قال: فَسَمِعْتَ الوَحْيَ عَنِ اللهِ؟

قال: لا.

قال: فَتَجِبُ طاعَتُكَ كَما تَجِبُ طاعَةُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟

قال: لا.

فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إليّ وقال: يا يونُسَ بْنَ يَعْقوبَ، هَذا رَجُلٌ قَدْ خَصَمَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ...».

* وعن صالح بن الأسود، قال: «سمعتُ جعفر بن محمّد يقول: سَلوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدوني، فَإِنَّهُ لا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي بِمِثْلِ حَديثي».

* وكان عليه السلام يقول: «حَديثي حَديثُ أَبي، وَحَديثُ أَبي حَديثُ جَدِّي، وحَديثُ جَدِّي حَديثُ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ أَميرِ المُؤْمِنينَ، وحَديثُ عَلِيٍّ حَديثُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وحَديثُ رَسولِ اللهِ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».

* وروى معاوية بن وهب عن سعيد السمّان قال [من ضمن خبر طويل] قال ابو عبد الله: «..وَإِنَّ عِنْدي الاسْمَ الّذي كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ إِذا وَضَعَهُ بَيْنَ المُسْلِمينَ وَالمُشْرِكينَ لَمْ يَصِلْ مِنَ المُشْرِكينَ إِلى المُسْلِمينَ نُشّابَةٌ، وَإِنَّ عِنْدي لَمِثْلَ الّذي جاءَتْ بِهِ المَلائِكَةُ». (النشّابة: السهم. والذي جاءت به الملائكة، إشارة منه عليه السلام إلى ما في الآية 248 من سورة البقرة: ﴿.. إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ...﴾، وفي روايات أُخَر ما يؤيّد هذا المعنى)

* وروى الشيخ المفيد رحمه الله: «.. عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: لَمّا حَضَرَتْ أَبي الوَفاةُ، قالَ: يا جَعْفَرُ، أوصيكَ بِأَصْحابي خَيْراً، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِداكَ، وَاللهِ لَأَدَعَنَّهُمْ وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكونُ في المِصْرِ فَلا يَسْأَلُ أَحَداً...».

* وقال ابن أبي حازم: «كنت عند جعفر بن محمّد، إذ دخل آذِنه، فقال: سفيان الثوريّ بالباب، فقال: إِئْذَنْ لَهُ، فدخل، فقال له جعفر: يا سُفْيانُ، إِنَّكَ رَجُلٌ يَطْلُبُكَ السُّلْطانُ، وَأَنا أَتَّقي السُّلْطانَ، قُمْ فَاخْرُجْ غَيْرَ مَطْرودٍ.

فقال سفيان: حدّثني حتّى أسمع وأقوم، فقال جعفر: حَدَّثَني أَبي، عَنْ جَدِّي، أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قالَ: مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنِ اسْتَبْطَأَ الرِّزْقَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ، وَمَنْ حَزَنَهُ أَمْرٌ فَلْيَقُلْ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ.

فلمّا قام سفيان، قال جعفر: خُذْها يا سُفْيانُ ثَلاثاً، وَأَيّ ثَلاثٍ».

* وعنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى:﴿ اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، قال: «مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ».                    (التوبة:119)

* وعن جابر بن عون قال: قال رجل لجعفر بن محمّد: إنه وقع بيني بين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه، فيقال لي إنّ تركك له ذلّ، فقال له جعفر بن محمّد: إِنَّ الذَّليلَ هُوَ الظّالِمُ».

* وعن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: «قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قالَ في كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبينُ، كانَ لَهُ أَمانٌ مِنَ الفَقْرِ وَأَمْنٌ مِنْ وَحْشَةِ القَبْرِ وَاسْتَجْلَبَ الغِنَى وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ الجَنَّةِ».

 

المواجهة السياسية عند الإمام الصادق عليه السلام

إعلانُ الإمامة والدعوة إليها

ـــــــ الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه ـــــــ

* هذه المقالة التي اخترناها من أحد فصول كتاب (إنسان بعمر 250 سنة) للإمام السيّد علي الخامنئي دام ظلّه تكشف جانباً مهماً من حياة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام. عنينا به ذاك المتعلّق بدوره الريادي الكبير في الحياة السياسيّة والأمنيّة التي سادت في أواخر الدولة الأمويّة وبدايات دولة بني العبّاس.

هنا يضيء السيّد الخامنئي على تلك السيرة الغامضة من حياة الإمام الصادق عليه السلام؛ وهي على وجه التحديد استراتيجيّة المواجهة السرّيّة والعلنيّة في وجه السلطة المستبدّة، والآليات التي وضعها لأتباع أهل بيت النبوّة عليهم السلام ليواصلوا جهادهم على المستويات كافّة.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّنا اقتطفنا بعض الموارد المهمة من بحث السيّد القائد لأهمّيّتها العظمى في هذه الحقبة بالذات، والمقال بمجمله مختصر عن الفصل المشار إليه.

«شعائر»


عندما انتقل الإمام الباقر عليه السلام من هذه الدنيا، وعلى أثر النشاطات المكثّفة الّتي جرت طيلة مدّة إمامته وإمامة الإمام السجّاد عليه السلام، فإنّ الأوضاع والأحوال تغيّرت كثيراً لمصلحة آل البيت عليهم السلام.

كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام، هي أن يجمع - بعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام - الأمورَ، وينهض بثورة علنيّة، ويسقط حكومة بني أميّة - والّتي كانت في كلّ يوم تنتقل من حاكمٍ إلى آخر، ما يدلّ على منتهى ضعف هذا الجهاز - ويأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها أيضاً شبكات حزبية للإمام الصادق عليه السلام، أي شيعته؛ ويحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشام ويسقط حكومتها ويرفع بيده راية الخلافة، ويأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إليها، هذه كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام.

لقد كان الإمام الصادق صلوات الله عليه، مشغولاً بجهادٍ واسعٍ النطاق؛ الجهاد من أجل الإمساك بالحكومة والسلطة، من أجل إيجاد حكومة إسلامية وعلويّة. أي أنّ الإمام الصادق سلام الله عليه، كان يهيّئ الأرضية للقضاء على بني أميّة والمجيء بحكومة علويّة أي حكومة العدل الإسلامي. وإنّ هذا ما يتّضح من حياة الإمام الصادق عليه السلام لكلّ من يطالع ويدقّق.

لقد أوجد الإمام الصادق صلوات الله عليه، تشكيلات عظيمة من المؤمنين به، ومن أتباع تيّار الحكومة العلوية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، من أقصى خراسان وما وراء النهر إلى شمال أفريقيا.

فماذا تعني التشكيلات؟ أي أنّه عندما يريد الإمام الصادق عليه السلام أن ينقل أيّ شيءٍ فإنّ وكلاءه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلامي، سينقلون ذلك إلى النّاس لكي يعلموه. ويعني أيضاً أنّها ستجمع كلّ الحقوق الشرعية والميزانية المطلوبة لإدارة مواجهة سياسية عظيمة لآل عليّ عليهم السلام. ويعني ذلك أنّ وكلاءه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن سيرجع إليهم أتباع الإمام الصادق عليه السلام لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام. لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة مَن كان داخلاً فيها من الناس، كان يواجه جهاز بني أميّة.

وبالطبع، إنّ ما جرى على الإمام الصادق عليه السلام هو أمرٌ مهمٌّ جدّاً ومليءٌ بالعبر، فقد كان يواجه بني أميّة لمدّة عشر سنوات وبني العبّاس لمدّة طويلة أيضاً، وعندما كان انتصاره على بني أميّة حتميّاً، جاء بنو العبّاس كتيّارٍ انتهازيٍّ ونزلوا إلى الميدان، ومن بعدها صار الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة وبني العبّاس أيضاً.

وقد نُقل عن الطبريّ - المؤرّخ المعروف - أمورٌ تتعلّق بأنّ الإمام عليه السلام كان يحارب بني أميّة في بداية السنوات العشر لإمامته. وكانت مواجهة الإمام الصادق عليه السلام في هذه المرحلة علنيّة، لم يعد فيها أيّ إخفاء أو تقيّة أو كتمان.

كان الإمام عليه السلام أثناء ترويج هذا الأمر وتبليغه، يرى نفسه في مرحلةٍ من الجهاد، حيث ينبغي عليه أن يتبرّأ بشكل مباشر وصريح من حكّام زمانه، وأن يُعرّف الناس على نفسه كصاحب حقٍّ واقعيِّ للولاية والإمامة.

الوكلاء والمبلّغون

من يطالع حياة الأئمّة عليهم السلام غير المدوّنة، يتساءل في نفسه: ألم يكن للأئمّة من أهل البيت عليهم السلام في نهايات عصر بني أمّية من الدعاة الّذين يبلّغون بإمامتهم ويأخذون من الناس الطاعة والدعم لهم في أطراف الدولة الإسلامية وأكنافها؟

(إذا كان الجواب نفياً) فكيف يمكن تفسير هذه العلائم والروابط التنظيميّة الّتي تُشاهد بوضوح والّتي تظهر في العلاقات الماليّة والفكريّة، بين الأئمّة والشيعة؟

فما معنى حمل هذه الحقوق الشرعية والأموال من مختلف أطراف العالم إلى المدينة؟ وكلّ هذه الأسئلة حول القضايا الدينية؟ وهذه الدعوة الواسعة المنتشرة للتشيّع؟ وأيضاً هذا الشرف والمحبوبيّة الّتي لا نظير لها، لآل عليٍّ عليهم السلام في مناطق مهمّة من الدولة الإسلاميّة؟ وهذا الجمع الغفير من المحدّثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين الّذين اجتمعوا حول الإمام عليه السلام؟ فأيّة يدٍ مقتدرة أوجدت كلّ هؤلاء؟ فهل يمكن أن نعتبر هذا الأمر مصادفةً وأنّ الحدث التلقائي كان عاملاً أساسيّاً وراء كلّ هذه الظواهر المنسجمة والمترابطة؟

من الممكن أن يُسأل أنّه لو كان هناك مثل هذه الشبكة الإعلاميّة الوسيعة والفعّالة، فلماذا لا يوجد في التاريخ ذكرٌ لها، أو أن يُنقل بالصّراحة ما يتعلّق بوقائعها؟

والجواب: ... هو أنّه، أوّلاً، يجب البحث عن سبب عدم هذا الظهور في تمسّك أصحاب الإمام عليه السلام الشديد بأصل التقيّة المُعتبر والراقي، والّذي يمنع نفوذ أيّ غريبٍ إلى تشكيلات الإمام عليه السلام؛ ويؤدّي في النهاية إلى فشل جهاد الشيعة في هذه المرحلة وعدم وصولهم إلى السلطة، والّذي هو أيضاً بذاته معلولٌ لعوامل عدّة. لو لم يصل العبّاسيّون إلى السلطة، لبقيت مساعيهم ونشاطاتهم السرّية وذكرياتهم المرّة والحلوة من نشاطاتهم الإعلاميّة بلا شك في الصدور، ولما عرف أيّ أحدٍ شيئاً عنهم ولما سجّلها التاريخ.

لقد استطاع الإمام الصادق عليه السلام وبمساعدة آبائه الكبيرة - أي الإمام السجّاد والإمام الباقر عليهما السلام - إعداد عدّةٍ مؤمنةٍ مسلمة دينية أصيلة ثورية مُضحيّة من أجل المخاطرة في كلّ أنحاء العالم الإسلامي.

من المدهش أنّ أتباع الإمام الصادق عليه السلام كانوا منتشرين في كلّ مكان، لا تتصوّر أنّ ذلك كان في المدينة فقط، بل كانوا في الكوفة أكثر من المدينة، لا بل كان منهم في الشام أيضاً. فهؤلاء كانوا يمثّلون الشبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصادق عليه السلام.

كان هناك شبكة هي الّتي كانت تتحمّل مسؤولية الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضية الإمامة في الكثير من المناطق النائية لدولة المسلمين، وخصوصاً في نواحي العراق العربي وخراسان. ولكن هذا أحد وجوه القضية وجزء صغير جدّاً منها. إنّ موضوع التشكيلات السرّية في ساحة الحياة السياسية للإمام الصادق عليه السلام وللأئمّة الآخرين أيضاً، هو من أهم فصول هذه الحياة والسيرة الجيّاشة، وفي نفس الوقت من أكثرها غموضاً وإبهاماً.

الإمام الحسن عليه السلام يؤسّس لتقويض سلطان بني أمية

التشكيلات هي مجموعة من الناس، وبهدفٍ مشترك، يقومون بأعمال ومسؤوليات مختلفة بالارتباط بمركزٍ واحد وقلبٍ نابض وعقلٍ حاكم، ويشعرون فيما بينهم بنوع من الروابط والإحساسات والمشاعر القريبة والمتآلفة.

وهذا الجمع تمثّل في زمن عليّ عليه السلام - أي في المدّة الفاصلة بين السقيفة والخلافة، والّتي امتدّت لخمس وعشرين سنة - بخواصّ الصحابة الّذين كانوا، بالرغم من كلّ تظاهر جهاز الخلافة بالحقّانيّة والشعبيّة، كانوا يعتقدون أنّ الحكومة هي حقّ أفضل المسلمين وأكثرهم تضحيةً - أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام - ولم ينسوا النصّ الصريح للنبيّ بخلافة عليّ عليه السلام ، وقد أعلنوا بصراحة، منذ الأيّام الأولى بعد السقيفة مخالفتهم الذين حصلوا على الخلافة، وأيضاً وفاءهم للإمام عليه السلام.

وتؤيّد الشواهد التاريخيّة أنّ هذه الجماعة كانت تنشر الفكر الشيعيّ - أي الاعتقاد بضرورة اتّباع الإمام كقائدٍ فكريّ وسياسيّ أيضاً - بين الناس، ملتزمةً بأساليب المصلحة والحكمة، وكانوا يزدادون يوماً بعد يوم؛ وكان كلّ عملٍ لأجل تشكيل الحكومة العلويّة يُعدّ بمنزلة مقدّمة للواجب.

كما أنّ الإجراءات المهمّة جدّاً الّتي حصلت بعد حادثة صلح الإمام الحسن عليه السلام قد أدّت إلى انتشار الفكر الشيعي وتوجيه هذه المجموعة المترابطة والمتآلفة.

إنّ تجميع القوى الشيعيّة الأصيلة والموثوقة وحمايتهم من شرّ المؤامرات الغادرة للجهاز الأموي ضدّ الشيعة، ونشر الفكر الإسلاميّ الأصيل في دائرةٍ ضيّقةٍ ولكنّها عميقةٌ جدّاً، واستقطاب القوى المستعدّة وإضافتهم إلى مجموع الشيعة، وانتظار الفرصة المناسبة وفي النهاية الثورة والتحرّك في الوقت المناسب الّذي يدمّر النظام الجاهلي لبني أميّة، سيعيد النظام الإسلامي والعلويّ إلى موقعه؛ هكذا كانت استراتيجية الإمام الحسن، وآخر الأسباب الّتي جعلت قبوله للصلح غير قابلٍ للاجتناب.

ولعلّه لأجل هذه الجهة، وبعد حادثة الصلح، عندما جاءت جماعة من الشيعة بزعامة المسيّب بن نجبة وسليمان بن صُرد الخزاعي إلى المدينة - حيث كان الإمام عليه السلام قد رجع لتوّه من الكوفة وجعل المدينة المنوّرة مقرّاً فكريّاً وسياسيّاً لنفسه مجدّداً - واقترحوا عليه إعادة بناء القوى العسكريّة والسيطرة على الكوفة والهجوم على جيش الشام، فاختار الإمام عليه السلام هذين الرجلين من بين الجميع واختلى بهما، وبكلماتٍ لم يصلنا منها أيّ خبرٍ، لا من قريب ولا من بعيد، أقنعهما بعدم صوابيّة هذه الخطّة، بحيث أنّهما عندما رجعا إلى أتباعهم ورفقائهم أفهموهم بكلماتٍ قصيرة وبليغة انتفاء موضوع الثورة العسكرية وضرورة أن يرجعوا إلى الكوفة وينصرفوا إلى أعمالهم.

بالالتفات إلى هذه القرائن، يعتقد بعض كبار المؤرّخين أنّ اللبنة الأولى لبناء التشكيلات السياسية الشيعية قد حصلت في ذلك اليوم، وأُسّست في ذلك المجلس الّذي اجتمع فيه الإمام الحسن عليه السلام مع هاتين الشخصيّتين الشيعيّتين المعروفتين وتباحث معهما.

النّاظر في تاريخ الإسلام يسأل نفسه: هل أنّ رواج الفكر والتوجّهات الشيعيّة إلى هذا الحدّ ممكنٌ ومعقولٌ إلّا في ظلّ نشاطٍ محسوبٍ بدقّة لتشكيلاتٍ شيعيّة متّحدة منسجمة مترابطة ذات جهة واحدة، أي من جانب تلك التشكيلات التي استشرف الإمام الحسين ولادتها مباشرةً بعد صلح الإمام الحسن؟ لا شكّ بأنّ الجواب سلبيّ. فالإعلام المستمرّ والدقيق للجهاز الأموي المتسلّط الّذي كان يُدار بواسطة مئات القضاة والقرّاء والخطباء والوُلاة، ما كان ليُجاب عليه، وفي بعض الموارد ليُحبط إلا بوجود إعلامٍ دقيقٍ آخر، يُدار من جانب مجموعة مترابطة ذات جهة واحدة وبالطبع سرّيّة.

على مشارف هلاك معاوية، أضحت نشاطات المنظّمة هذه أكثر، وأضحت وتيرتها أسرع؛ إلى حدٍّ أنّ والي المدينة كتب رسالة إلى معاوية بعدما حصل على تقريرٍ حول نشاطات الإمام عليه السلام. فقد رُوي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة :«أما بعد، فإن عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ، وذكر أنه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليّ برأيك..».

بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام عليه السلام، أضحت الأنشطة المنظّمة للشيعة في العراق أكثر تنظيماً وتحرّكاً بدرجات. يقول الطبري المؤرّخ المعروف إنّ تلك الجماعة - أي الشيعة - كانوا دائماً مشغولين بجمع السلاح وإعداد العدّة للحرب ودعوة الناس في الخفاء - سواء كانوا شيعة أم غير شيعة - من أجل الثأر للإمام الحسين، وقد استجابت لهم جماعةٌ، واحدة تلو أخرى ، والتحقوا بهم، وكان الأمر على هذا المنوال حتّى مات يزيد بن معاوية.

وعلى أثر السعي الخفيّ والهادئ، بالظاهر، للإمام السجّاد عليه السلام استعاد هذا الجمع عناصره المستعدّة الكامنة وجذبها ووسّعها،  وكما قال الإمام الصادق عليه السلام: «فَإِنَّ النّاسَ لَحِقُوا وَكَثُروا». وفي (العصور اللاحقة) كان هذا الجمع دائماً هو الّذي يُخيف بتحرّكاته زعماء نظام الخلافة.

(من ناحية ثانية) لم يكن يُطلق اسم الشيعة... على الشخص الّذي يكتفي بمحبّة عترة النبيّ أو يعتقد فقط بحقّانيّتهم وصدق دعوتهم... بل بالإضافة إلى ذلك، كان التشيّع يحمل شرطاً أساسيّاً وحتميّاً وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالإمام والمشاركة في الأنشطة الّتي كان يبادر إليها الإمام ويقودها. هذا الارتباط هو ذاك الّذي يُسمّى في الثقافة الشيعيّة بـ«الولاية».

 

 

إنّما نَسخَطُ إذا عُصِيَ الله

مناظرة الإمام الصادق عليه السلام مع عمرو بن عبيد المعتزلي

ــــــ رواية الشيخ الكليني ــــــ

روى الشيخ الكلينيّ في «كتاب الجهاد» من (فروع الكافي) الرواية الكاملة لمناظرة الإمام الصادق عليه السلام، مع أحد أكبر مشايخ المعتزلة في زمانه، أبي عثمان، عمرو بن عُبيد بن باب (ت: 144 للهجرة) الذي كان مُفسّراً ومُتكلّماً، وكان يتزهّد.

ولهشام بن الحكم مناظرة لطيفة مع ابن عبيد هذا حول الحاجة إلى الإمام، وأشار السيّد الخوئي قدّس سرّه في (معجم رجال الحديث) إلى احتمال كونه موالياً، وإنْ كان تاريخ حاله يدلّ على أنّه من العامّة، واستدلّ على الأخير بهذه المناظرة الآتية.

صحّح هذه الرواية كلٌّ من الشيخ النجفي في (جواهر الكلام)، والسيّد الطباطبائي في (رياض المسائل)، وحسّنها العلّامة المجلسي في (مرآة العقول).

 

قال الشيخ الكليني قدّس سرّه:

«دخولُ عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد الله (الصّادق) عليه السلام:

...عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال: كنت قاعداً عند أبي عبد الله عليه السلام بمكّة، إذ دخل عليه أُناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة، وناسٌ من رؤسائهم، وذلك حِدثانُ قتل الوليد واختلاف أهل الشام بينهم، فتكلّموا وأكثَروا، وخطبوا فأطالوا.

فقال لهم أبو عبد الله عليه السلام: إنّكم قد أَكثَرتم عليّ، فأسنِدوا أمرَكم إلى رجلٍ منكم، ولْيتكلَّم بِحُجَجكُم ويُوجِز.

فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فتكلّم فأبلغ وأطال، فكان فيما قال، أن قال: قد قتَل أهلُ الشام خليفتَهم، وضرَب اللهُ عزّ وجلّ بعضَهم ببعضٍ، وشتَّت اللهُ أمرَهم، فنظَرنا فوجَدنا رجلاً له دِينٌ وعقلٌ ومروّةٌ، ومَوضعٌ ومعدنٌ للخلافة، وهو محمّدُ بنُ عبدِ الله بنِ الحسنِ، فأردنا أن نجتمعَ عليه فنبايعَه، ثمّ نظهَرَ معه، فمَن كان بايعَنا فهو منّا وكنّا منه، ومَن اعتزلَنا كفَفْنا عنه، ومَن نَصَب لنا جاهدناه ونَصبْنا له على بَغيه ورَدِّه إلى الحقِّ وأهلِه، وقد أحبَبْنا أن نعرِضَ ذلك عليك فتدخلَ معنا، فإنّه لا غِنى بنا عن مثلك لموضِعك وكثرة شيعتك.

فلمّا فرَغ، قال أبو عبد الله عليه السلام: أَكلُّكم على مثلِ ما قال عمرو؟

قالوا: نعم.

فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ قال:

إنّما نَسخَطُ إذا عُصِيَ الله، فأمّا إذا أُطيعَ رَضِينا....

( ثمّ ساق الكلام حتى بلغ إلى قول الإمام الصادق عليه السلام )

يا عمرو دَع ذا، أرأيتَ لو بايعتُ صاحبَك الذي تدعوني إلى بيعتِه، ثمّ اجتَمعَتْ لكم الأمّةُ فلم يَختلف عليكم رجُلانِ فيها، فأفضتُم إلى المُشركينَ الذين لا يُسلِمون ولا يؤدُّون الجزيةَ، أكانَ عندكم وعند صاحبِكم من العِلم ما تسيرونَ بسيرةِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المشركين في حروبه؟

قال: نعم.

قال: فتَصنعُ ماذا؟

قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإنْ أبَوا دعوناهم إلى الجزية.

قال: وإنْ كانوا مجوساً ليسوا بأهلِ الكتاب؟

قال: سواءٌ.

قال: وإن كانوا مُشركِي العرب وعَبَدة الأوثان؟

قال: سواءٌ.

قال: أخبِرني عن القرآن تقرؤه؟

قال: نعم.

قال: اقرأْ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ الله ورَسُولُه ولا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ﴾، فاستثناءُ الله عزّ وجلّ واشتراطُه مِن الذين أوتُوا الكتابَ، فَهُم والذينَ لم يُؤتوا الكتاب سواءٌ؟   (التوبة:29)

قال: نعم.

قال: عَمَّن أخذتَ ذا؟

قال: سمعتُ الناس يقولون.

قال: فدَعْ ذا، فإنْ هم أبَوا الجزيةَ فقاتَلتَهم فظَهرْتَ عليهم، كيف تَصنعُ بالغنيمةِ؟

قال: أُخرِجُ الخُمُسَ وأَقسِمُ أربعةَ أخماسٍ بين مَن قاتل عليه.

قال: أخبِرني عن الخُمس مَن تُعطيه؟

قال: حيثما سمَّى الله. فقَرأ: ﴿واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّه خُمُسَه ولِلرَّسُولِ ولِذِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ...﴾.  (الأنفال:41)

قال: الذي لِلرسولِ مَن تعُطيه؟ ومَن ذو القربى؟

قال: قد اختَلَف فيه الفقهاءُ، فقال بعضُهم: قرابةُ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأهلُ بيتِه، وقال بعضُهم: الخليفةُ، وقال بعضهم: قرابةُ الّذينَ قاتَلوا عليه من المسلمين.

قال: فأيَّ ذلك تقولُ أنت؟

قال: لا أدري.

قال: فأراكَ لا تدري، فدَعْ ذا.

ثم قال: أرأيتَ الأربعةَ أخماسٍ تَقسِمها بين جميع مَن قاتَل عليها؟

قال: نعم.

قال: فقد خالفتَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في سيرته، بَيني وبينك فقهاءُ أهلِ المدينةِ ومشيَختُهم، فاسألهُم فإنّهم لا يَختلِفون ولا يَتنازعُون في أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنّما صالَحَ الأعرابَ على أنْ يَدَعَهُم في ديارِهم ولا يُهاجروا، على إنْ دهَمَه مِن عدوِّه دَهْمٌ أن يَستَنفرَهُم فيُقاتِلَ بهم، وليس لهم في الغنيمةِ نصيبٌ، وأنت تقولُ بينَ جميعِهم فقَد خالفْتَ رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في كلِّ ما قلتَ في سيرتِه في المشركين، ومع هذا ما تَقولُ في الصَّدقة؟

فقرأ عليه الآية: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ..﴾. (التوبة:60)

قال: نعم، فكيف تَقسِمُها؟

قال: أَقسِمُها على ثمانيةِ أجزاءٍ، فأُعطي كلَّ جزءٍ من الثمانية جزءاً.

قال: وإنْ كان صنفٌ منهم عشرة آلافٍ، وصنفٌ منهم رجلاً واحداً، أو رجلَينِ أو ثلاثةً، جعلْتَ لِهذا الواحدِ مثلَ ما جَعلتَ للعشرةِ آلاف؟

قال: نعم.

قال: وتَجمعُ صدَقاتِ أهلِ الحَضَر وأهلِ البَوادي فتَجعلُهم فيها سواءً؟

قال: نعم.

قال: فقد خالفْتَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في كلِّ ما قُلتَ في سيرتِه، كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقسِم صدقةَ أهلِ البَوادي في أهل البَوادي، وصدقةَ أهلِ الحَضَر في أهلِ الحَضَر، ولا يَقسِمُه بينَهُم بالسويّةِ، وإنّما يَقسِمُه على قدْرِ ما يَحضُرُه منهم وما يَرى، وليسَ عليه في ذلكَ شيءٌ مُوَقَّتٌ مُوظَّفٌ، وإنّما يَصنعُ ذلك بِما يَرى على قَدْر مَن يَحضُرُه منهم، فإنْ كان في نفسِك ممَّا قلتُ شيءٌ فَالْقَ فُقَهاءَ أهلِ المدينةِ، فإنّهم لا يَختلفونَ في أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كَذا كان يَصنَع.

ثمّ أقبل على عمرو بن عبيد، فقال له: اتَّقِ الله! وأنتُم أيُّها الرّهْطُ فاتَّقوا اللهَ! فإنّ أبي حدَّثني وكان خيرَ أهلِ الأرضِ وأعلمَهم بكتابِ الله عزّ وجلّ وسُنّة نبيِّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: مَن ضَربَ الناسَ بِسَيفه، ودعاهُم إلى نفسِه، وفي المسلمينَ مَن هو أَعلمُ منه، فَهُو ضالٌّ مُتكلِّفٌ.

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

04/07/2016

دوريات

نفحات