صاحب الأمر

صاحب الأمر

01/08/2016

إعدادٌ إلهيّ لشخصيّة القائد

 

الإمامة المبكِرة للمهديّ المنتظَر

إعدادٌ إلهيّ لشخصيّة القائد

____ الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه ____

«كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنّه لم يعاصر أباه الإمام العسكريّ إلاّ خمس سنوات تقريباً، وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصيّة القائد، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟».

سؤال طرحه السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه، وأجاب عليه في كتابه (بحث حول المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، مستنداً إلى القرائن والأدلّة، والتي تخلُص إلى أنّ الإمامة المبكِرة ظاهرة واقعيّة في حياة أهل البيت عليهم السلام، ولها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء.

 

إنّ المهديّ عليه السلام، خلَفَ أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكريّ وروحيّ في وقت مبكِر جدّاً من حياته الشريفة.

والإمامة المبكِرة ظاهرة سبقهُ إليها عددٌ من آبائه عليهم السلام، فالإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام، تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره، والإمام عليّ بن محمّد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره، والإمام أبو محمّد الحسن العسكريّ والد القائد المنتظر تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره.

ويلاحَظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكِرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ والإمام الجواد عليهما السّلام، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهديّ عليه السلام، تشكّل مدلولاً حسيّاً عمليّاً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نُطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أُمّة. ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية:

أ) لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الإبن، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العبّاسيّين، وإنّما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبيّة الواسعة عن طريق التغلغل الروحي، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام، وقيادته على أُسس روحيّة وفكريّة.

 ب) إنّ هذه القواعد الشعبيّة بُنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكّل تيّاراً فكريّاً واسعاً في العالم الإسلامي، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلاميّة والبشريّة المعروفة وقتئذٍ، حتى قال الحسن بن عليّ الوَشّاء: «إنّي دخلتُ مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ، كلّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمّد».

ج) إنّ الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيّة في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة، شروط شديدة؛ لأنها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان أعلم علماء عصره. 

 د) إنّ المدرسة وقواعدها الشعبيّة كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة؛ لأنّها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائيّاً، ولو من الناحية الفكريّة على الأقل، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ، وباستمرارٍ تقريباً، بحملات من التصفية والتعذيب، فقُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزُّلفى عنده.

 هـ) إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها، ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كلّ واحد من الأئمّة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المُكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة عندما يؤمّون الديار المُقدّسة من كلّ مكان لأداء فريضة الحجّ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمرّاً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلاميّ بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و) إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة عليهم السلام، كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحيّة والإماميّة بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدّراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيّات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّة للأئمّة أنفسهم على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

الخلافة الجائرة أدركت حقيقة الإمام

إذا أخذنا هذه النقاط الستّ بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخيّة لا تقبل الشكّ، أمكن أن نخرج بنتيجة، وهي: أنّ ظاهرة الإمامة المبكِرة كانت ظاهرة واقعيّة ولم تكن وهماً من الأوهام؛ لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيُعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفكريّاً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع، لا بدّ أن يكون على قدر واضح وملحوظ، بل وكبير، من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبيّة بإمامته، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيّتهم. فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصّب منها عَلَماً للإسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبيّة، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكِرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيّ الإمام؟

وهب أنّ الناس لم يتحرّكوا لاستطلاع المواقف، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً، بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة، على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقّاً، ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبيّة لإمامة أهل البيت لم يُتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحيّة والفكريّة.

فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتيادي مهما كان ذكيّاً وفَطِناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميّون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.

 إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، هو أنّها أدركت أنّ الإمامة المبكِرة ظاهرة حقيقيّة وليست شيئاً مصطنعاً.

 والحقيقة أنّها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكِرة، أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

وهذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكِرة ظاهرة واقعيّة في حياة أهل البيت وليست مجرّد افتراض، كما أنّ هذه الظاهرة الواقعيّة لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة. ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكِرة في التراث الربّاني لأهل البيت عليهم السلام، يحيى عليه السلام، إذ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ مريم:12.

 ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكِرة ظاهرة واقعيّة ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت عليهم السلام، لم يعد هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهديّ عليه السلام، وخلافته لأبيه وهو صغير.


 

اخبار مرتبطة

  شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

شعائر العدد الثامن و السبعون -شهر ذو القعدة 1437-أيلول

نفحات