الملف

الملف

منذ 0 ساعة

«قريش» في مواجهة النبيّ صلّى الله عليه وآله


«قريش» في مواجهة النبيّ صلّى الله عليه وآله

 

اقرأ في الملف


 

استهلال

 

بنو هاشم يذودون عن النبوّة

المحامي أحمد حسين يعقوب

إرهاصات الحرب على آل النبيّ صلّى الله عليه وآله

 

الشائعات السّبع التي أطلقتها قريش

 

 

 

 

بنو هاشم يذودون عن النبوّة

لو قتلتموه، ما أبقيْتُ منكم أحداً حتّى نتفانى

§  المحامي أحمد حسين يعقوب

* تكشف هذه المقالة حقيقة دور الهاشميّين عامّة، لا سيّما المولى أبي طالب وأبناؤه عليهم السلام،

 في الدّفاع عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله في أشدّ المراحل صعوبةً التي قاساها كلّ من أسلم في بيئة معاندة وقويّة على المستوى السياسيّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في مكّة. وكيف استطاع هؤلاء الصمود أمام عتاة بني أميّة ومن دار في فلكهم من المشركين الذين أسلموا بحدّ السّيف أو طمعاً بالمناصب بعدما أحسّوا بقوّة الدين الجديد...

نشير إلى أن هذا النصّ مختصر ما ورد في أحد فصول كتاب (المواجهة مع رسول الله وآله عليهم الصلاة والسلام – القصّة الكاملة) للباحث في التاريخ الإسلامي المحامي أحمد حسين يعقوب. ومن هذا الكتاب أيضاً تمّ اختيار النصّين الآتيين في هذا الملف مع ذكر المصادر كما أوردها المؤلّف؛ يتناول الأول منهما رفض قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في البيت الهاشميّ، ويتطرّق الثاني إلى حرب الشائعات التي واجه بها الطلقاء والمنافقون رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد فتح مكّة.

«شعائر»

 

 

بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرّيّة، تلقّى النبيّ صلّى الله عليه وآله، أمراً إلهيّاً بإعلان دعوته رسميّاً، فبدأ بالهاشميّين أوّلاً، فجمعهم في بيته وأطلعهم على النبأ العظيم، وعيّن في هذا الاجتماع - بأمرٍ من ربّه - عليّاً بن أبي طالب عليه السلام خليفةً له من بعده، وانفضّ الاجتماع عن إعلان عميد الهاشميّين، أبي طالب بن عبد المطلّب قرار البيت الهاشميّ بحماية النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعدم تسليمه للمشركين.

وتمثّلت الخطوة الثانية بصعود النبيّ صلّى الله عليه وآله، على الصفا ومناداته بطون قريش الذين كانوا يجتمعون دائماً حول الكعبة، وإعلامه إيّاهم بنبأ النبوّة.

وبهذا أُحيطت بطون قريش وأهل مكّة عامّة بخبر النبوّة والولاية في وقتٍ واحد، وإن كان النبأ العظيم (نبأ النبوّة) قد طغى على نبأ الولاية.

قريش ترفض النبوّة

ما أن أعلن النبيّ صلّى الله عليه وآله نبوّته رسميّاً، واختياره خليفَتَه، حتّى وقفت قريش وقفة رجل واحد بقيادة البيت الأمويّ، وأعلنت رفضها المطلق للنبوّة والكتاب والخلافة، وصرّحت بأنّها ستجنّد كلّ طاقاتها المادّيّة والمعنويّة لِصدّ أهل مكّة خاصّة، والعرب عامّة، عن اتّباع محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، والدخول في دينه؛ وانقسم المجتمع المكيّ إلى قسمَين:

الأوّل: وهو الأكثر عدداً ومدداً ظاهريّاً، ويتألّف من ثلاثة وعشرين بطناً من بطون قريش، ومَن والاهم من الموالي والأحابيش.

الثاني: وهو الأقلّ عدداً، ويتألّف من رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومن بطنه الهاشميّ وبني المطلّب، ومَن والاهما من الموالي والأحابيش، مضافاً إليهم الذين اعتنقوا الدين الإسلاميّ.

شنّ القسم الأوّل حملةً نفسيّةً وإعلاميةً مركّزة ومنظّمة على محمّدٍ صلّى الله عليه وآله والبطن الهاشميّ، وعلى الذين آمنوا بالدين الجديد، من أجل عزلهم والتضييق عليهم وحملهم على ترك هذا الدين، وأشاعوا الدعايات الكاذبة من أجل تشويه صورة النبيّ صلّى الله عليه وآله، في أذهان الناس، وادّعوا أنّه - حاشاه - مجنون أو شاعر أو كاذب أو كاهن، وأنّ القرآن الذي جاء به: ﴿..إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾. (الأنعام:25)

أمّا النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقد مضى يبلّغ رسالة ربّه بإصرارٍ لا يعرف التراجع أو المساومة، وقال لعمّه الذي راجعته بطون قريش ورجته أن يتدخّل لدى النبيّ صلّى الله عليه وآله، لكي يتوقّف عن دعوته لقاء عروض مغرية: «يا عَمّ، واللهِ، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَميني وَالقَمَرَ في يَساري عَلى أَنْ أَتْرُكَ هَذا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فيهِ، ما تَرَكْتُهُ».

كان موقف عمادة البطن الهاشميّ - المتمثّل آنذاك بأبي طالب - مُرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بموقف النبيّ صلّى الله عليه وآله، فها هو أبو طالب يقول باسم الهاشميّين مخاطباً النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يا ابن أخي، إذا أردتَ أن تدعو إلى ربِّك فأعلمنا، حتّى نخرج معك بالسلاح». (تاريخ اليعقوبي 27/2)

وقال له في موقفٍ آخر: «اذهب يا ابن أخي فقُل ما أحببتَ، فوالله لا أسلّمك لشيءٍ أبداً». (الكامل لابن الأثير 64/2)

وعندما شاعَ يوماً أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله، قد قُتل، وضع أبو طالب خطّة لقتل كلّ سادات قريش دفعةً واحدة، فلمّا حضر محمّدٌ صلّى الله عليه وآله، والفتية الهاشميّون على وشك تنفيذ خطّة أبي طالب، أعلن أبو طالب تفاصيل خطّته، وكشف الفتية الهاشميّون عن سلاحهم، فأدركت مشيخة بطون قريش الجدّ الهاشميّ، وأنّ أيّ اعتداء على رسول الله صلّى الله عليه وآله، من قبل البطون هو بمنزلة إعلان حرب لن تضع أوزارها حتى يفنى الهاشميّون والبطون معاً.

قرّرت البطون استعمال كلّ الوسائل لعزل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله عن الهاشميّين، فإن هم أصرّوا على عدم التخلّي عنه، فلا بدّ من عزل الهاشميّين أنفسهم عن بطون قريش كافّة، وفرض محاصرتهم ومقاطعتهم، فإنْ لمْ تُجدِ هذه الوسائل، تعيَّن على البطون أن تختار رجالاً منها يشتركون جميعاً في قتل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فيضيع دمه بين القبائل، ولا يقوى الهاشميّون على المطالبة بدمه، وإن لم تنجح محاولة القتل، وجب ملاحقة محمّد صلّى الله عليه وآله أينما حلّ، ومحاربته حتى يتمّ القضاء التامّ عليه وعلى دعوته.

 

المواجهة بين جبهة الإيمان وجبهة الشرك

أصبحت المواجهة بين النبيّ صلّى الله عليه وآله والهاشميّين من جهة، وبين بقيّة بطون قريش قدراً محتوماً، اتّخذت في المرحلة الأولى طابع الحرب الباردة، والمواجهة النفسيّة والإعلاميّة، ذلك أنّ البطون أدركت أنّ عمليّة قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله، ستكون باهظة التكاليف، وقد لا تنتهي إلّا بدمار الطرفين، وهذا ما صرّح به أبو طالب، حامي النبيّ صلّى الله عليه وآله، إذ قال لقريش: «والله لو قتلتموه، ما أبقيْتُ منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وأنتم». (الطبقات الكبرى لابن سعد 186/1)

كان النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، هو القائد العام لجبهة الإيمان، وقد استعان بصفوةٍ من أتباعه ليكونوا أركاناً لقيادته، وهم:

أوّلاً: خليفته والإمام من بعده عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذي عيّنه النبيّ صلّى الله عليه وآله، بأمرٍ من الله خليفةً له، وأعلن ذلك مع إعلانه للنبوّة، وطلب من الهاشميّين وبني المطّلب - وهم العمود الفقريّ لجبهة الإيمان - أن يسمعوا لعليٍّ عليه السلام ويطيعوه، وكان من بين الحضور والده أبو طالب....

ثانياً: أبو طالب، وهو والد الإمام عليّ عليه السلام، وعمّ الرسول الشقيق لوالده، كفل النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد وفاة جدّه، وضمّه إلى أولاده، وربّاه في كنفه حتّى تزوّج.

وأبو طالب هو الذي شجّع الهاشميّين وبني عبد المطّلب على حضور أوّل اجتماع سياسيّ في دار النبيّ، وتصدّى لخصومه في ذلك الاجتماع ولجَمهم، وأرسى قواعد تأييدهم النبيّ وحمايته صلّى الله عليه وآله، وأعلن أمام بطون قريش أنّها إذا قتلت محمّداً صلّى الله عليه وآله، فإنّ الهاشميّين سيقاتلون البطون حتى الفناء التامّ، وشجّع بنيه على التضحية بأرواحهم فداء لمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وكان يقوم بنقل النبيّ من فراشٍ إلى آخر ليليّاً عدّة مرّات في أثناء الحصار، خوفاً على حياته، وكان الناطق الرسميّ باسم النبيّ صلّى الله عليه وآله، عندما أكلت دابّة الأرض صحيفة المقاطعة، وقاد عمليّة الرجوع من الشِّعب إلى مكّة، بعد انتهاء حصار المشركين للمسلمين في شعب أبي طالب.

ومن هنا نفهم معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «ما نالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ حَتّى مات أَبو طالِبٍ» (تاريخ ابن الأثير 2/21)، وتسميته العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة «عام الحزن» (تاريخ اليعقوبي 2/35)، وقوله صلّى الله عليه وآله عن وفاتهما: «اجْتَمَعَتْ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ في هَذِهِ الأَيّامِ مُصيبَتانِ، لا أَدْري بِأَيِّهما أَنا أَشَدُّ جَزَعاً» (تاريخ اليعقوبي 35/2).

وممّا يثير الدهشة، أنّ السلطة الأمويّة التي قبضت على مقاليد الأمور بالقوّة في فترة لاحقة، وسيطرت على وسائل الإعلام، قلبت الحقائق رأساً على عقب، وحوّلت أبا طالب عليه السلام إلى رجلٍ مشرك، وأنّه في ضحضاحٍ من النار! على حدّ تعبير المغيرة بن شعبة، المشهور بعداوته لبني هاشم، ونسيت أو تناست قول النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهو يقف على جنازة أبي طالب: «يا عَمّ، رَبَّيْتَ صَغيراً، وَكَفَلْتَ يَتيماً، وَنَصَرْتَ كَبيراً، فَجزاكَ اللهُ عَنّي خَيْراً». (تاريخ اليعقوبي 35/2)

ثالثاً: جعفر بن أبي طالب، شقيق الإمام عليّ عليه السلام....

رابعاً: حمزة بن عبد المطلّب، عمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله.... كان من القلّة التي ثبتت إلى جانب الرسول صلّى الله عليه وآله، في معركة أُحد بعد أن فرّ الجميع، وبينما كان يُقاتل، غدر به عبدٌ حبشيّ من عبيد أبي سفيان، وكان مقتله نتيجة مؤامرة أمويّة رتّب فصولها أبو سفيان وزوجته هند (أم معاوية) التي بلغ حقدها على حمزة أن مثّلت بجثّته، فبقرت بطنه، وقطعت أنفه وأذنيه، ولاكت كبده تشفّياً وانتقاماً.

خامساً: عبيد الله بن الحارث، ابن عمّ النبيّ ومن سادات بني عبد المطّلب...

ويلاحظ أنّ أركان قيادة جبهة الإيمان في مرحلة الدعوة كلّهم هاشميّون، ومردّ ذلك إلى أنّ الهاشميّين هم الذين تحمّلوا عبء الدعوة وحماية النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، وهم الذين تآمرت عليهم البطون وحاصرتهم في شِعب أبي طالب، واشترك في الحصار كافّة بطون قريش الثلاثة والعشرين. وأمّا الذين أسلموا خلال مرحلة الدعوة من غير بني هاشم، فهم على نوعين:

الأوّل: من كان ينتمي بالدم إلى أحد البطون القرشيّة، فكان داخلاً تحت حماية بطنه، فقد يتعرّض للّوم والتقريع، لكن لا يقوى أحد على التعرّض له بالإيذاء أو القتل.

الثاني: العبيد والأحابيش ومن كان منتمياً إلى بطون قريش بالموالاة، وهؤلاء كانوا موضع النقمة ومحطّ الابتلاء، لأنّهم بلا حماية عشائرية، ومنهم:

1) بلال بن رباح الحبشيّ، كان مملوكاً لأميّة بن خلف الجمحيّ، الذي كان يعذّبه عذاباً أليماً، ويضع الصخرة العظيمة على صدره في الرمضاء، ومع ذلك لم يتحوّل عن إيمانه.

2) ياسر وزوجته سميّة وابنهما عمّار، حلفاء بني مخزوم، عذّبهما أبو جهل، ولم يتورّع عن طعن سميّة في قلبها، فاستشهد ياسر وزوجته تحت التعذيب، وبقي عمّار على قيد الحياة.

أركان جبهة الشرك

في المقابل، كان القائد العام لجبهة الشرك طيلة مرحلتَي الدعوة والدولة، هو صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، المكنّى بأبي سفيان.

كان تاجراً كثير الأسفار، وقد سمع أنّ نبيّاً سيُبعث من قريش، فظنّ أنه سيكون ذلك النبيّ، إذ ليس في قريش - في تصوّره - مَن هو أجدر بالنبوّة منه، فهو قائدها في غزواتها، وهو تاجر ثريّ، ومن حوله بنو أميّة الأكثر مالاً ونفيراً.

وفوجئ أبو سفيان بإعلان النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله عن نبوّته، فجنّ جنونه، واعتبر قضيّة النبوّة مؤامرة هاشميّة على الأمويّين عامّة، وعليه خاصّة.

كان أبو سفيان وراء وحدة بطون قريش الثلاثة والعشرين ضدّ محمّد صلّى الله عليه وآله والبطن الهاشميّ، إذ ليس من المعقول أن تتّحد البطون في غياب قائد غزواتها ومن دون علمه.

وكان رئيس وفد قريش الذي توجّه إلى أبي طالب، وطالَبَه إمّا بكفِّ ابن أخيه محمّد صلّى الله عليه وآله عن دعوته، أو أن يخلّي بين محمّد صلّى الله عليه وآله وبين البطون.

وهو مهندس عمليّة حصار الهاشميّين في شِعب أبي طالب مدّة ثلاث سنين، حتى اضطرّوا إلى أكل ورق الشجر من الجوع، واضطرّ أطفالهم أن يمصّوا الرمال من العطش.

وكان وراء استقبال أهل الطائف لرسول الله، ذلك الاستقبال السيّء الذي أثّر بنفسه الشريفة تأثيراً عميقاً فهتف منادياً ربّه: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكو ضَعْفَ قُوَّتي، وَقِلَّةَ حيلَتي، وَهَواني عَلى النّاسِ».

وكان أحد الذين خطّطوا لإرسال وفدٍ إلى النجاشيّ، مزوّداً بالهدايا، لردّ المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، حتّى يتمكّن أئمّة الكفر في مكّة من فتنتهم عن دينهم.

وكان هو وزوجته وابناه معاوية ويزيد، وراء معركة أُحد، إذ حرّضوا المشركين على خوضها، وأنفق أبو سفيان على هذه المعركة أربعين أوقيّة من الذهب.

وكان وراء أكبر تجمّع شهدته الجزيرة العربيّة آنذاك، إذ جمع الأحزاب وغزا بها المسلمين في المدينة  المنوّرة، وتحالف مع اليهود طمعاً باستئصال محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على حدّ زعمه.

وظل يحارب النبيّ صلّى الله عليه وآله بكلّ وسائل الحرب، حتى أظهر اللهُ دينَه، وأحاط جند الله بعاصمة الشرك، فاضطرّ لإظهار الإسلام، ليحقن بذلك دمه.

وتعاملاً مع التركيبة النفسيّة لأبي سفيان، ونزعاً لفتيل المعاندة بالإعلان الضمنيّ عن استسلام أبي سفيان، أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله منادياً ينادي «مَن دخلَ دارَ أبي سُفيانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بابَهُ فَهُوَ آمِنٌ».

ومن العبارات التي صدرت عن أبي سفيان، وكشفت عن دخيلة نفسه، وبقائه على الكفر، قوله لعثمان عندما آلت إليه الخلافة: «صارت إليك بعد تَيمٍ وعديّ، فأدِرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أميّة، فإنّما هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار».

ودخل يوماً على عثمان بعدما ذهب بصره، فقال: «أههنا أحد؟

فقالوا: لا.

فقال: اللّهمّ اجعل الأمر أمرَ جاهليّة، والمُلك مُلك غاصبيّة، واجعل أوتاد الأرض لبني أميّة». (تاريخ ابن عساكر 407/6)

وأمّا أركان قيادة جبهة الشرك، فهم مجموعة من الشخصيّات المشركة ذات القدم الراسخة بمعاداة النبيّ ومحاربته طيلة ثمانية عشر عاماً، ومن أبرزهم:

أوّلًا: معاوية ويزيد وعتبة وحنظلة، أبناء أبي سفيان، وهم الحلقة الأولى من أركان الشرك، قاوموا الإسلام بضراوة، ولم يلقوا سلاحهم إلّا بعد أن استسلم قائدهم أبو سفيان، فأظهروا الشهادتيْن، وحقنوا بذلك دماءهم.

ثانياً: عتبة وشيبة ابنا ربيعة (ربيعة جدّ معاوية لأمّه)، والوليد بن عتبة وهو ابن خال معاوية، والعاص بن سعيد، وعقبة بن معيط، وقد قُتلوا جميعاً في معركة بدر.

ثالثاً: الحكَم بن العاص وابناه مروان والحارث.

أمّا الحكَم فقد كان من أشدّ الكفار عداوةً وحرباً للرسول صلّى الله عليه وآله، في مرحلتي الدعوة والدولة، ثمّ صار طليقاً من الطلقاء بعد فتح مكّة، ولكن لم يتوقّف عن عداوته وكيده، فنفاه النبيّ صلّى الله عليه وآله....

وأمّا ابنه مروان، فهو من أعمدة الشرك.... وصار المُلك له ولأولاده من بعده، فأصبحوا خلفاء المسلمين! مع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، قد لعنَهم وحرّم عليهم أن يسكنوا المدينة معه.

رابعاً: الوليد بن عقبة... كان والده من أشدّ أعداء النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد قُتل في بدر صبراً، واستمر الوليد في خطّ معاداة الإسلام ومحاربته، حتى اضطرّ إلى التظاهر بالإسلام بعد فتح مكّة، فأصبح من الطلقاء، وصار لاحقاً والياً على الكوفة! وكان مشهوراً بالزنا وشرب الخمر. صلّى الصبح أربعاً بدلاً من اثنتين، وكان يقول وهو ساجد: «اشرب واسقني» (الأعلام للزركلي 122/8)، وكان له تأثير فعّال في إقامة الملك الأمويّ وتثبيته.

خامساً: عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ.... وهو كغيره من بني أميّة من الطلقاء أيضاً، كتب للنبيّ صلّى الله عليه وآله، وعرف النبيّ أنّ الرجل خائن فطرده، فارتدّ عن الإسلام وأخذ يشيع في مكّة أنّه كان يتلاعب بالقرآن، فأباح الرسول دمه، ولكنّ بعضهم أستأمن له من النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ وفي فترة لاحقة أصبح والياً على مصر بعد أن عُزل عنها عمرو بن العاص.

سادساً: عبد الله بن عامر بن كريز الأمويّ... وهو من الطلقاء المشهورين بعداوتهم للنبيّ صلّى الله عليه وآله، وَلي البصرة، وجُعل أميرًا على فتوحات الشرق! ساهم في زعزعة أركان الإسلام، وتثبيت دعائم الحكم الأمويّ.

سابعاً: أبو جهل (عمرو بن هشام المخزوميّ)، كان منافساً لأبي سفيان على قيادة جبهة الشرك، وقد قُتل في معركة بدر.

ثامناً: الوليد بن المغيرة وابنه خالد، كان الوليد أحد المستهزئين، وقاوم هو وابنه الإسلام في مرحلتَي الدعوة والدولة...

تاسعاً: العاص بن وائل، كان شانئاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، ويقول: «إنّ محمّداً أبتر لا ابنَ له»، فنزل فيه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ الكوثر:3.

 

 

 

 

إرهاصات الحرب على آل النبيّ صلّى الله عليه وآله

قريش ترفض اجتماع النبوّة والإمامة في بيتٍ واحد!

 

* لم يستطع زعماء قريش، بُعيد انتشار الإسلام، التّخلّي عن نفوذهم السياسيّ لصالح المسلمين حتّى ولو كان الأمر إلهيّاً، فالعقليّة القبليّة والحميّة الجاهليّة أدارتا عملية اتخاذ القرارات، فقد صعب عليهم أن يجمع الهاشميّون «المُلك»! والنبوّة معاً، لذلك تحالفت بطون قريش لعصيان أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وللحيلولة دون أن تكون الإمامة أو خلافة رسول الله في الهاشميّين أو الطالبيّين خاصّة، وجمعوا أنفسهم في إطار واحد، وتكاتفوا لمحاربة الإمامة كي لا يتكرّر – بزعمهم - فشلهم وانهزامهم عندما حاربوا النبوّة!

«شعائر»

 

بعد فتح مكّة وتصفية جيوب الشرك، أدركت بطون قريش - المهاجرون منهم والطّلقاء - أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد بدأ بترتيب أوضاع عصر ما بعد النبوّة، وأنّ أوان رحيله صلّى الله عليه وآله قد دنا، وأدرك المنافقون أيضاً ما أدركته البطون، وأيقن الجميع بأنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله يخطّط ليكون الإمام من بعده ابنُ عمّه وزوج ابنته ووالد سبطَيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأيقنوا بأنّه إذا نجح في مسعاه، فلن تخرج الإمامة من الهاشميّين إلى يوم الدين، وبذلك سيجمع الهاشميّون النبوّة والخلافة معاً، فإذا فعلوا ذلك سيتبجّحون على قومهم «بَجَحاً بَجَحاً» على حدّ تعبير بعض المهاجرين من قريش. (الكامل لابن الأثير 63/3)

لذلك لملمتْ بطون قريش نفسها لمواجهة إرادة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وحدث تقارب جدّي بين الذين أسلموا من البطون قبل فتح مكّة، وبين الطلقاء الذين أظهروا الإسلام رهبةً بعد الفتح، فصار «الصحابيّ الأمويّ»، وهو من المهاجرين، حليفاً حقيقيّاً لأبي سفيان ومعاوية ويزيد والحَكم بن العاص، وهم من الطلقاء، أي أنّ الذين أسلموا من بطون قريش قبل الفتح شكّلوا جبهة واحدة مع الذين أسلموا بعد الفتح، وصار للجميع موقف موحّد من كلّ الأحداث.

كانت البطون تحكم بلدة مكّة وفقاً للصيغة السياسيّة الجاهليّة، فجاء النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله لينشئ دولة عظيمة تحكم العرب، ولم تكن هناك مصلحة لبطون قريش في أن تعترض على نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله، مضافاً إلى عدم جدوى هذا الاعتراض، ولأجل ذلك وجدت أنّ من الأفضل لها أن تعترف بحقّ الهاشميّين الشرعيّ بالنبوّة، وفي مقابل هذا الاعتراف يجب أن يعترف الهاشميّون بحقّ البطون بالمُلك؛ تتداوله في ما بينها خالصاً دون الهاشميّين، وهذا هو وجه الصواب على حدّ تعبير المُنظِّر الجديد لبطون قريش، حيث يقول: «فاختارتْ قريش لأنفُسِها فأصابت». (الكامل لابن الأثير 63/3)

ولكن النبيّ محمّداً صلّى الله عليه وآله لم يكن راضياً بهذا الاختيار، وكان يخطّط - بأمر الله ووحيه - لإقامة إمامة يديرها اثنا عشر إماماً من أهل بيته، يحكمون بالتتابع.

فقرّرت بطون قريش في المقابل، أن تُقيم تحالفاً حقيقيّاً بينها وبين الجميع بمَن فيهم المنافقون، حتّى إذا انتقل النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى جوار ربّه، حاصروا عليّاً عليه السلام والهاشميّين، وهكذا اتّحدت البطون بعد الفتح ضد عليّ عليه السلام وبني هاشم لإجهاض الإمامة، كما اتّحدت ضدّ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وبني هاشم لإجهاض النبوّة.

وكما مدّت قيادات البطون أيديها إلى المنافقين تحقيقاً لأهدافها، فقد تحالفت أيضاً مع طلّاب المصالح من الأنصار، وممّا يلقي ضوءاً على ذلك قول بعضهم يوم السقيفة: «ما هو إلّا أن رأيتُ (أسلم) فأيقنتُ بالنصر». (تاريخ الطبري 459/2)

فمَن الذي أخبره بأنّ قبيلة أسلم ستحضر؟ وكيف عرف أنّ هذه القبيلة ستقف معه وتؤيّد نظامه الجديد؟

الجواب المنطقيّ الوحيد هو أنّ قبيلة أسلم كانت طرفاً في ذلك التحالف المشؤوم لاغتصاب الخلافة، وجاءت على موعدٍ لتأييد النظام الجديد، فقد ضاقت بهم السِّكَك على حدّ تعبيره.

وكان من أركان هذا الحلف نفرٌ ممّن أسلم قبل الفتح وانقلب على عقبه بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويلي هؤلاء النفر من حيث الخطورة على الإسلام كلٌّ من: أبو عبيدة، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف، وكان الزبير خارج هذه الدائرة، لأنّ هواه مع بني هاشم، ثمّ غيّره ابنه عبد الله، وقد عُرفوا بالنفر الذين مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو راضٍ عنهم!

وقد ساعد هؤلاء القادةَ من بطون قريش، أبو سفيان، ومعاوية، ويزيد، وعبد الله بن أبي سرح، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، والحكم بن العاص، وكلّهم موتور وحاقد على عليّ عليه السلام وأهل بيت النبوّة، فما من أحدٍ منهم إلّا وقتل عليٌّ عليه السلام أباه أو أخاه أو ابن عمّه.

وكذلك ساعدهم نفرٌ من الأنصار.

ويمكن القول: إنّ الهدف الأساسيّ من هذا التحالف هو تثبيت مبدأ (النبوّة لبني هاشم، والخلافة لبطون قريش) والحيلولة بين الإمام عليّ عليه السلام بالذات وبين حقّه بالإمامة، لأنّ عليّاً عليه السلام قتل سادات قريش، ولا تقبل به البطون إماماً حتى إذا اختاره الله تعالى، وأيضاً الحيلولة بين أيّ هاشميّ وبين الإمارة، لأنّ أيّ هاشميّ إذا تسلّم الإمارة سيدعو لخلافة أهل بيت النبوّة وإمامتهم، على هذا أجمعت قيادة بطون قريش ومَن تحالف معها.

وقد ساد هذا التحالف روح الفريق والالتزام بالهدف، والمهمّ عنده الحيلولة دون أن يجمع الهاشميّون «المُلك» والنبوّة معاً.

ولم يكن بوسع هذا التحالف مواجهة الرسول صلّى الله عليه وآله عن طريق الحرب، ولم يكن بإمكانه مواجهته عن طريق الحجّة والمنطق، لأنّ قيام هذا التحالف عملٌ منافٍ للمنطق، ولم يكن بوسعه مواجهته عن طريق الشرع، لأنّ التحالف ما قام إلّا لهدم الجانب السياسيّ من الشرع.

إنّه تحالفٌ نشأ في الظلام، ولكن ليس بإمكان قادته أن يقفوا مكتوفي الأيدي، وهم يرون محمّداً صلّى الله عليه وآله يوطّد الأمر من بعده لعليٍّ عليه السلام، ويُبرز الموقع المتميّز لأهل بيته من بعده، لقد أدرك قادة التحالف خطورة البيان النبويّ، وتأكيد رسول الله الدائم على أنّه لا ينطق عن الهوى، وأنّه يتّبع ما يوحى إليه، فرأى قادة التحالف أنّهم إذا استطاعوا التشكيك بقول الرسول وبشخصيّته، فإنّهم سيتمكّنون بذلك من إبطال مفعول البيان النبويّ المنحصر في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومن هنا خطّطوا لبث سلسلة من الشائعات تتظافر على التشكيك في قول الرسول وشخصه، وتؤكّد أنّ من المستحيل أن يكون جميع كلام محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم من عند الله، بقصد زعزعة ثقة الناس ببيان الرسول المتعلّق بالقضايا السياسيّة، ومنها قضيّة ولاية أمور المسلمين بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، لتتوفّر بذلك مبرّرات الانقضاض على الحكم، وتنصيب خليفة من بطون قريش يجمع بيده السلطة والمال وتأييد التحالف، ويواجهون عليّاً عليه السلام وأهل بيت النبوّة بأمرٍ واقع، ثمّ تقوم السلطة الجديدة بتحويل تلك الشائعات إلى قناعات يتناقلها العامّة من الناس بالوراثة، لتصبح جزءاً من الدين!

 

 

من أسرار

الصلاة على محمّد وآل محمّد

للصلاة على النبيّ وآله صِيَغٌ كثيرة جداً، وتُعتبر هذه الصيغة من أبرزها. رواها الشيخ الصدوق في (ثواب الأعمال) عن الإمام الكاظم عليه السلام، وقد جاء في الرواية:

«من صلّى على النّبيّ بهذه الصّلاة هُدِمَتْ ذُنُوبُهُ، وَمُحِيَتْ خطاياهُ، ودامَ سُرورُهُ، واستُجيبَ دُعاؤهُ، وأُعْطِيَ أَمَلَهُ، وبُسِطَ لهُ في رزقِه،ِ وأُعينَ على عَدُوِّهِ، وهُيِّئَ لهُ سَبَبُ أنواعِ الخَيْرِ، ويُجْعَلُ مِن رُفَقَاءِ نَبِيِّهِ في الجِنانِ الأعلى.

يقولهنّ ثلاث مرّاتٍ غدوة، وثلاث مرات عشيّة:

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الأوَّلينَ، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الآخِرِينَ، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في الملأِ الأعلَى، وصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ في النَّبِيِّينَ والمُرسَلينَ.

اللَّهُمَّ أعْطِ محَمَّداً صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وَسَلّمَ الوَسِيلَةَ، والشَّرَفَ، والفَضيلَةَ، والدَّرجَةَ الكَبيرةَ.

اللَّهُمَّ إنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ علَيْهِ وآلِهِ السَّلامُ وَلَمْ أرَهُ، فَلا تَحْرِمْني يَوْمَ القِيامَةِ رؤْيَتَهُ، وارْزُقْني صُحْبَتَهُ، وتَوَفَّني على مِلَّتِهِ، واسْقِني مِن حَوْضِهِ مَشْرَباً رَوِيّاً لا أظْمَأُ بَعْدَهُ أبداً، إنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ.

اللَّهُمَّ كمَا آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وَسَلّمَ وَلَمْ أرَهُ، فَعَرِّفْني في الجِنانِ وَجهَهُ.

اللَّهُمَّ بَلِّغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ عَنِّي تحيّةً كثيرةً وسَلاماً».

 

 

التشكيك في كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله

الشائعات السبع التي أطلقتها قريش

* التّدليس والتّزييف والافتراء من سِمات «النّكراء» أو العقل الشيطاني؛ وبهذه الوسائل ونظائرها سعى «حِلفُ قريش» إلى العمل على هدم مرتكزات مصداقية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، عبر التشكيك بأقواله وأفعاله تحت مسمّياتٍ جائرة.

تتضمّن هذه المقالة إشارة إلى سبع شائعات أطلقتها قريش – بجناحَيها الطّليق والمنافق – محورها أن النبيّ صلّى الله عليه وآله بشرٌ كسائر الخلق، يُصيبه ما يُصيبهم من الغفلة والنسيان والغضب والتقوّل على الله!

وقد أُتخمت مصنّفات الحديث بهذه الأباطيل التي يتنزّه عنها المسلم العاديّ، واستُعملت في الأزمنة اللاحقة لردّ أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله في استخلاف أمير المؤمنين وبنيه عليهم السلام على المسلمين من بعده.

«شعائر»

 

 

الشائعة الأولى: رسول الله يتكلّم في الرِّضى والغضب

لقد أشاعت قيادة التحالف القرشيّ بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بشرٌ يتكلّم في الغضب والرضى، ولا ينبغي أن يُحمل كلامه على محمل الجدّ، وبالتالي لا ينبغي تنفيذ كلّ ما يقوله الرسول، فضلاً عن عبثيّة كتابة أقواله صلّى الله عليه وآله.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: «كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله أريد حِفظه، فنهتني قريش، وقالوا تكتب كلّ شيء سمعتَه من رسول الله، ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى؟! فأمسكتُ عن الكتابة، فذكرتُ ذلك لرسول الله، فأومأ بإصبعه إلى فمه، وقال: اكْتُبْ، فَوَالذي نَفْسي بِيَدِهِ ما خَرَجَ مِنْهُ إِلّا الحَقُّ». (انظر: مستدرك الحاكم 104/1)

من الذي يجرؤ على هذا النهي؟ وما هي مصلحته بعدم كتابه أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ وكيف يقوم بهذا العمل الخطير أثناء حياه الرسول سرّاً ومن دون علمه صلّى الله عليه وآله؟

في المصادر التاريخية أن بعضهم خاطب الناس عقب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: «إنّكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمًن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله..». (تذكره الحفاظ للذهبي 2-1/1)

وفيها أيضاً أن الإقامة الجبرية فُرضت على نفرٍ من المحدّثين عن رسول الله، بل حُبس بعضهم – وهم من الصحابة – تحت عنوان أنهم أكثروا الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله. (انظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 500/40؛ تذكره الحفاظ للذهبي 3-2/1)

وفي فترةٍ لاحقة صدر مرسومٌ بعدم جواز رواية أيّ حديث لم يُسمع به في عهدَي أبي بكر وعمر.

تلك هي قريش التي نهت عبد الله بن عمرو بن العاص عن كتابة أحاديث رسول الله، بحجّة أنّ الرسول بشر يتكلّم في الغضب والرضى.

والغاية الحقيقيّة من النهي كانت ترمي إلى إبطال مفاعيل الأحاديث النبويّة المتعلّقة بمؤسّسة الإمامة من بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبالدور المميّز لأهل بيت النبوّة بعد وفاته!!

معاوية يبيّن الغاية من الشائعة: معاوية بن أبي سفيان كان أحد قادة التحالف، وقد أصدر مرسوماً ملكيّاً بعد عام الجماعة، وأرسل نسخاً من هذا المرسوم إلى كلّ عماله، حيث أمر فيه بالحرف: «أنْ برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته»، روى ذلك المدائنيّ في كتابه (الأحداث)، كما في (شرح النهج) لعلّامة المعتزلة، فمعاوية أبرز بيت القصيد والغاية من منع كتابة أحاديث رسول الله، حتى لا ينتشر فضل أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام وأهل بيته بين المسلمين، وحتى لا يعرف المسلمون حقّهم الثابت شرعاً بقيادة هذه الأمّة!


الشائعة الثانية: رسول الله يغضب لغير الله!

قلنا إنّ قيادة التحالف قد صمّمت نهائيّاً على إقصاء أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام عن حقّه في القيادة والإمامة من بعد النبيّ، وعلى إلغاء الدور المميّز لأهل بيت النبوّة، وتجريدهم من كافّة حقوقهم السياسيّة، وأنّها عزمت على التّصدّي لعمليّة التبليغ المركّزة التي كان يقودها رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل وفاته لتثبيت الشرعيّة.

وتحقيقاً لهذه الأهداف، أطلقت قيادة التحالف إشاعتها الأولى التي مفادها أنّ رسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى، ولا ينبغي أن يُحمل كلامه على محمل الجدّ، ولا ينبغي أن يُكتب كلام الرسول، وقد أثبتنا ذلك.

ولتدعيم هذه الإشاعة أطلقت قيادة التحالف شائعتها الثانية: روى البخاري في (صحيحه)، كتاب الدعوات، باب قول النبيّ: من آذيته، ومسلم في (صحيحه)، كتاب البرّ والصلة، باب من لعنه النبيّ، ما يلي وبالحرف: «إنّ رسول الله كان يغضب، فيلعن، ويسبّ، ويؤذي من لا يستحقّها، ودعا الله أن تكون لمن بدرت منه زكاةً وطهوراً»!

وهكذا صوّروا رسول الله صاحب الخُلق العظيم، الذي وصفه الله تعالى بآيةٍ محكمة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4، بصورة الرجل الذي يفقد السيطرة على أعصابه، فيتصرّف مثل تلك التصرّفات التي ألصقوها ظلماً به صلّى الله عليه وآله. لأنّ الشخص العادي الذي لا تتوفّر فيه مؤهّلات النبوّة، يترفّع عن سبّ ولعن وإيذاء الناس بدون سبب، فكيف بسيّد الخلق وأعظمهم؟!

ما هو القصد من هذه الإشاعة؟

القصد منها دعم الإشاعة الأولى، والتشكيك بشخصيّة الرسول وبصحّة حكمه على الرجال، والنيل من عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته، وإبراز مظلوميّة أعداء الله، ورفع خامل ذكرهم، إذ من الثابت أنّ رسول الله قد لعن أعداء الله، وبالذات الكثير من قادة هذا التحالف، كما يروي البخاريّ، والسيوطيّ، والترمذيّ، والنسائيّ، وأحمد، وابن جرير، والبيهقيّ، ونصر بن مزاحم، والحلبيّ.

ولعن أيضاً الذين يتخلّفون عن جيش أسامة. ومن جملة الذين لعنهم رسول الله؛ أبو سفيان، ومعاوية، ويزيد، والحكم بن العاص، و... إلخ.

بموجب هذه الشائعة، فإنّ الذين لعنهم رسول الله صاروا مطهَّرين أو زاكين، وهكذا فاقوا منزلة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً!!

وإذا كان لقول الرسول في عليٍّ عليه السلام وأهل بيته قيمة، فلماذا لا يكون لقوله هذا في قادة التحالف قيمة، وهذا يعزّز الشائعة الأولى التي أطلقها قادة التحالف بضرورة عدم حمل كلام الرسول على محمل الجدّ، وبالتالي عدم جدوى كتابته!!

ومن جهة أخرى، فلن يعترض معترض على مروان بن الحكم أو على معاوية بن أبي سفيان، إذا آلت إليهم الخلافة يوماً ما!

فإذا قال لمعاوية قائل: لقد لعنك رسول الله، فكيف تتأمّر على أمّة النبيّ الذي لعنَك؟

عندئذٍ يجيبه معاوية بلسان فصيح: فضّ الله فاك، لقد دعا لي رسول الله أن تكون لعنتُه لي زكاةً وطهوراً، ودعوات الأنبياء مُستجابة، لذلك فإنّي زاكٍ بالنصّ ومطهَّر بالنصّ. وشر البليّة ما يُضحك!!


الشائعة الثالثة: يُخيّل إليه!

ولدعم الشائعتين السابقتيْن، وإمعاناً بالتشكيك بقول الرسول وشخصه، أطلقت قيادة التحالف شائعتها الثالثة.

النصّ الحرفيّ لهذه الشائعة: روى البخاريّ في كتاب (بدء الخلق)، باب: صفة إبليس وجنوده، وفي كتاب (الطبّ)، باب: هل يستخرج السحر، وكتاب (الأدب)، باب: إنّ الله يأمر بالعدل، وكتاب (الدعوات)، باب تكريم الدعاء، وروى مسلم في (صحيحه)، باب: السحر، ما يلي وبالحرف: «إنّ بعض اليهود سحروا رسول الله، حتّى ليخيل إليه أنّه يفعل الشيء وما فعله».

وهذا قمّة الشكيك في كلّ ما يصدر عن رسول الله، وما يعني التحالف بالدرجة الأولى، ما صدر ويصدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله بالأمور المتعلّقة برئاسة الدولة، وبالمكانة الخاصّة التي علموا أنّ رسول الله قد خصّ بها أهل بيته الكرام.


الشائعة الرابعة: ينسى القرآن!

ولدعم الشائعات الثلاثة، وللتشكيك في ذاكرة الرسول حتّى بالأمور المتعلّقة بالقرآن الكريم، فقد أطلق قادة التحالف إشاعتهم الرابعة: روى البخاريّ في باب قوله تعالى: ﴿..وَصَلِّ عَلَيْهِمْ..﴾ (التوبة:103)، وكتاب الشهادات، باب: شهادة الأعمى ونكاحه، وروى مسلم في كتاب (فضائل القرآن)، باب: الأمر بتعهّد القرآن، ما يلي وبالحرف: «إنّ النبيّ سمع رجلاً يقرأ في المسجد، فقال الرسول: رحمه الله أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا»!

فأنت ترى أنّه لولا هذا القارئ، لما تذكّر النبيّ بزعمهم الآية التي أسقطها من سورة كذا! وهذا تشكيك بقوّة ذاكرة الرسول حتى بالأمور المتعلّقة بالقرآن الكريم، فكيف بالأمور السياسيّة!


الشائعة الخامسة: يشتدّ به الوجع فيَهجُر!

ثمّ بلغت حملة قادة التحالف على رسول الله صلّى الله عليه وآله المدى، عندما قال صلّى الله عليه وآله وهو على فراش المرض: «قرّبوا أكْتُب لَكُمْ كِتاباً لَنْ تَضُلّوا بَعْدَهُ أَبَداً»، فقالوا له وجهاً لوجه وفي بيته: «رسول الله يهجر، إنّ رسول الله قد هجر، ما شأنه أهجر؟».

والذي قال هذا الكلام لرسول الله هو قائد هذا التحالف، كما ذكر ذلك أبو حامد الغزاليّ في كتابه (سرّ العالمين وكشف ما في الدارين)، وكما ذكر ذلك السبط الجوزي في كتابه (تذكره الخواصّ).

وبعد ذلك تجرّأ حزبه، وقالوا: إنّ رسول الله يهجر، وإنّ رسول الله قد هجر، وما شأنه (أي الرسول) أهَجَر؟!

وقد روى البخاريّ هذه الواقعة الأليمة بستّ صيغ، ورواها مسلم في (صحيحه)، وأحمد في (مسنده)، والنووي في (شرح صحيح مسلم)، وابن أبي الحديد في (شرح النهج)، ولا يقوى أحد في الدنيا على إنكار هذه الواقعة، أو الاعتذار عنها.

وقد استغرب الحاضرون من غير «حزب التحالف» وصعقوا من هول ما سمعوا، فقالوا عفويّاً: «قرّبوا يكتب لكم رسول الله»، وكان الحاضرون من حزب التحالف يشكّلون الأكثريّة لأنّهم أعدّوا للأمر عدّته، فصاح قائدهم وأعوانه: «حسبنا كتاب الله، إنّ الرسول يهجر»، واختلف الفريقان وتنازعوا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله للجميع: «قوموا عَنّي، ولا يَنْبَغي عِنْدي التَّنازُعُ، وَما أَنا فيهِ خَيْرٌ مِمّا تَدْعوني إِلَيْهِ»، ولقد أصاب ابنُ عبّاس عندما سمّى ذلك اليوم بيوم الرزيّة!

الشائعة السادسة: القرآن يُغني عن السُّنّة

جميع الإشاعات السابقة غير منطقيّة، وأكثرها بعداً عن المنطق هذه الشائعة، فالقرآن يحتاج إلى بيان، ومهمّة النبيّ أن يبيّن للناس ما نزِّل إليهم من ربّهم، وأن يوضح المقاصد الإلهيّة العامّة والخاصّة، من كلّ نص، توضيحاً قائماً على الجزم واليقين.

ومن هنا كان بيان النبيّ - أي نبيّ - جزءاً لا يتجزّأ من المنظومة الإلهيّة التي أوحاها الله لذلك النبيّ. على اعتبار أنّه الأعلم والأفهم لرسالته، وأنّ بيانه للقواعد الإلهيّة هو بالضبط عينُ المقصود الإلهيّ، فالكتاب لا يغني عن الرسول فكلاهما متمّم للآخر، وطاعة النبيّ هي طاعة الله، ومعصية النبيّ هي معصية الله.

ومن جهة ثانية هذا تفريق بين الله ورسوله، وبين الرسول ومعجزته؟! فبأيّ منطق نجعل الدِّين كتابَ الله المنزل فقط ونتجاهل كلّ ما صدر عن نبيّ الله المرسَل؟!

ولقد تجاوز قادة التحالف حدود العقل والمنطق، عندما أطلقوا إشاعتهم السادسة، فقالوا للرسول نفسه: «حسبنا كتاب الله»!، أي عندنا القرآن ولا حاجة لنا بكتابك أو وصيتك، لأنّ القرآن وحده يكفينا. وقد أطلقت هذه الفِرية مع الإشاعة الخامسة (إنّ رسول الله قد هجر)!


الشائعة السابعة: النبيّ يجتهد ويقول برأيه

قصد قادة التحالف من إطلاق هذه الشائعة أن يلقوا في أذهان المسلمين أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله ليس أكثر من مجتهد يقول برأيه في الأمور العامّة، وأنّ رأي الرسول ليس مُلزماً، ومن حقّ أي مجتهد آخر أن يتبنّى اجتهاده الذي يخالف اجتهاد الرسول، ولا حرج على هذا المجتهد الآخر، فهو مأجور بمخالفته لرسول الله صلّى الله عليه وآله، سواء أخطأ أم أصاب. وهذه الشائعة ثمرة طبيعيّة للإشاعات السابقة، ونتيجه ملطّفة لها.

وكمثال على ذلك ما يُروى من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله في تقسيم المال بين الناس بالسويّة؛ لا فضل في ذلك لمُهاجرٍ على أنصاريّ، ولا لعربيّ على عجميّ، ولا لصريح على مولى، لأنّ حاجات أبناء البشر الأساسيّة متشابهة، وتلك أمور تدرك بالعقل وبالفطرة السليمة، فجميع أبناء البشر يأكلون ويشربون وينامون ويتزاوجون.

ثم إنّ الرسول لا ينطق عن الهوى، فهو يتبّع ما يوحى إليه من ربّه، فأمر بهذه الخطورة يتلقّى فيه التوجيه الإلهيّ، وطوال عهده الشريف وهو يقسم بين المسلمين بالسويّة لا يفضّل أحداً على أحدٍ، حتى أصبح عمل الرسول هذا سنّة فعليّة، وجزءاً من المنظومة الإلهيّة، على اعتبار أنّها تشريع من أهمّ التشريعات الماليّة في الإسلام.

وطوال عهد أبي بكر وهو ملتزم بهذه السنّة النبوية الفعليّة. ولكن في الفترة اللاحقة ارتأى نفرٌ من التحالف أنه لا يعقل أن تكون قريش كالأنصار! ولا يعقل أن يكون العرب كالعجم، وأن يكون الصريح كالمولى!

ومن هنا فقد تمّ تفضيل المهاجرين كلّهم على الأنصار كلهّم، وتفضيل العرب على العجم، وتفضيل الصريح على المولى، وأُعطيت زوجات الرسول عطاءً خاصّاً يفوق التصوّر والتصديق، وزائداً عن حاجة كلّ واحدة منهنّ، حتى أنّهم لم يساووا بالعطاء بين زوجات الرسول نفسه! فميّزوا بينهنّ، وأُعطيت بعضهنّ أكثر من بعض.

وكانت نتيجة ذلك أن غُرِست في المجتمع المسلم بذور الطبقيّة، ونشأ الغنى الفاحش والفقر المُدقع جنباً إلى جنب، فطلحة والزبير وعثمان وابن عوف يملكون الملايين، وعمّار وبلال وعامّة الناس يكابدون الفقر! واشتعل الصراع القبليّ بين ربيعة ومضر، وبين الأوس والخزرج، وبين العرب والعجم، وبين الصريح والمولى، وظلّت نيرانه تلك تكبر وتكبر، حتّى التهمت المجتمع الإسلاميّ وأفقدته صوابه.

وبعد تسع سنين من تطبيق هذا التفضيل غير المبرّر ديناً ومنطقاً، خلصوا إلى أنه تجب المساواة في العطاء بين الناس.

بمعنى أنّهم اجتهدوا قبالة أمر النبيّ، فألغوا التسوية بالعطاء ابتداءً، مع علمهم أنها سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وكمثالٍ آخر: حرّم الشارع الحكيم على آل النبيّ صلّى الله عليه وآله الصدقة، وجعل لهم حقّاً في الخُمس بوصفهم ذوي قربى النبيّ ﴿..وَلِذِي القُرْبَى..﴾ الأنفال:41، وبيّن الرسول الآية فجعل خُمس الخمس لذوي القربى وهم بنو هاشم؛ الذّكر منهم والأنثى. بالإضافة إلى يتيم الهاشميّين ومسكينهم وابن سبيلهم؛ والحكمة من هذا التشريع كانت إبراز التمييز لذوي القربى، وسدّ حاجاتهم بإيجاد سبيل لحياة كريمة لهم، ولأنّ الصدقة محرّمة عليهم.

وبالرغم من وضوح الآية، ومن تواتر بيان النبيّ لهذه الآية، إلّا أنّهم أبوا أن يعطوا بني هاشم كلّ سهمهم، بحجّة «أنّ قريش كلّها ذو قربى». (الأحوال لأبي عسير ص 233)

قال ابن عبّاس: «سهم ذوي القربى لقربى رسول الله، قسّمه لهم رسول الله، وقد كان... عرض علينا من ذلك عرضاً فرأيناه دون حقّنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله». (مسند أحمد 1/244، 320، وسنن أبي داود 2/51، وسنن النسائي 1772، وسنن البيهقي 6/344 و345)

وباختصار شديد، تركوا نصّ الآية المحكمة، وبيان النبيّ لهذه الآية المتمثّل بسنّته الشريفة طوال عهده، واتّبعوا آراءهم.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 0 ساعة

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات