تحقيق

تحقيق

29/12/2016

بين توحّش بني أميّة وانتهازيّة بني العبّاس


بين توحّش بني أميّة وانتهازيّة بني العبّاس

سقوط دولة.. وقيام أخرى

ـــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

في كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أنّ «قريشاً» - وفي مقدّمها بنو أميّة - اتّخذت من اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله «ذريعةً إلى الرّياسة، وسُلّماً إلى العزّ والإمرة».

وعلى هذا النَّسَق من التضليل والتدليس سار بنو العبّاس؛ حيث اتّخذوا من الدّعوة إلى «الرّضا من آل محمّد» سُلّماً إلى المُلك، فلمّا ثُنيت لهم الوسادة، افتتحوا عهدهم فتكاً وذبحاً وتشريداً بالعلويّين وشيعتهم، وقتلوا ستّةً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ومنعوا زيارة مشهد الإمام الحسين عليه السلام، وخرّبوا بناءه مرّاتٍ ومرّات، على الرغم من أنّ أسلافهم رفعوا شعار «يا لثارات الحسين»، بل رفعوا أيضاً شعار «يا لثارات الحسن»، ليتبيّن لاحقاً أنّ هذه الشعارات ونظائرها ليست إلا «براغماتيّة» أو انتهازيّة سياسيّة تعريضاً بمنافسيهم الأمويّين، واستمالةً لقلوب جمهور المسلمين التوّاق إلى التحرّر من ظلم الأمويّة، المتشوّق إلى التنعّم برغد العيش في ظلال عدالة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأبنائه المعصومين عليهم السلام.

يتناول هذا التحقيق، الذي أُعدّ استناداً إلى مصنّفات مؤرّخين كبار كالدّينوري، واليعقوبي، وابن الأثير، والطبري، وغيرهم، أبرز الجرائم التي ارتكبها الأمويّون خلال فترة حكمهم، والتي أفضت إلى زوال ملكهم وانتقاله إلى العبّاسيّين الذين استغلّوا نقمة المسلمين على آل أبي سفيان، فلمّا استتبّ لهم الأمر، بدر منهم في حقّ آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وآل الحسين عليه السلام ما قال فيه الشاعر:

تَاللهِ ما فَعَلَتْ أُميّةُ فيهمُ * مِعشارَ ما فَعَلَتْ بَنو العَبّاسِ.

حَكَم الأمويّون بين عامَي 41 و132 للهجرة، وبلغت مدّة حُكمهم  «ألفَ شهرٍ» كما ورد في القرآن الكريم، وهي تعادل 83 سنة و4 أشهر، وقد تخلّل حكمهم وقطعه حكمُ عبد الله بن الزبير حوالي تسع سنوات. وقد ادّعى الحكّام من بني أميّة خلافة النبيّ صلّى الله عليه وآله، فخالفوا سنّته وسيرته، وتسلّطوا على مقدّرات الدولة الإسلاميّة بقوّة السيف والقهر، وانتزعوا الخلافة من أصحابها الشرعيّين؛ أمير المؤمنين عليّ وأبنائه المعصومين عليهم السّلام.

 

 

وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله قد رأى في منامه كيف تقود قريش عبر بني أميّة الثورة المضادّة للوحي، فيتداول الأمويّون السلطة، وقد رآهم صلّى الله عليه وآله «يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ القِرَدَةِ»، فأنزل اللهُ تعالى على نبيّه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾. (الإسراء: 60)

وقد طال تحذيرُ رسول الله من فتنة بني أميّة بفرعَيهم آل أبي سفيان، وآل العاص، ومن بركات هذا التحذير أن الأمّة مجتمعةٌ على عدم شرعيّة حُكم معاوية وامتداداته، ولا يدافع عنهم إلا الخارجون عن الأمّة من الوهّابيّين وأذنابهم.

لقد كان بنو أميّة، إلى واقعة فتح مكّة، على رأس أعداء النبيّ صلّى الله عليه وآله وأعداء الإسلام الألدّاء، ثمّ توصّلوا إلى الحُكم عن طريق نهب بيت المال من جهة، وبذل الأموال الطائلة لاستمالة الناس إليهم من جهة أخرى، ولمّا اتّضح لعامّة المسلمين مدى مخالفة بني أميّة أحكامَ الإسلام، أوغر ذلك صدور المسلمين عليهم، فكان بنو أميّة كلّما زادوا في ظُلمهم واستبدادهم من أجل تحكيم دعائم حكمهم، اتّضح للناس أكثر فأكثر مدى حقّانيّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله.

وقد أدّت القسوة والهمجيّة البالغتين اللتين تعامل بنو أميّة بهما مع أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في واقعة كربلاء إلى إثارة فِطرة النزعة إلى العدل لدى المسلمين، فزاد أتباع أهل البيت عليهم السّلام بمرور الزمان.

 

 

وقد أفاد عبد الله بن الزبير من هذه الفرصة، فثار على يزيد بن معاوية (61 - 64 هجريّة)، وعلى مروان بن الحكم (65 - 66 هجريّة)، وعلى ابنه عبد الملك بن مروان (65 - 86 هجريّة) مدّة تسع سنوات، وسيطر على جزء كبير من البلاد الإسلاميّة إلى سنة 73 هجريّة، وكان يرسل ولاته إلى البلدان، ويلقّب نفسه «خليفة المسلمين»، وينصب أميراً للحجّ.

أبرز الثورات على الأمويّين

وكانت ثورة التوّابين سنة 64 هجريّة في الكوفة، ومحاربتهم حكّامَ بني أميّة الجائرين في (عين الوردة) على مقربة من دمشق، وعلى رأسهم عُبيد الله بن زياد، واستماتتهم في حربهم وجهادهم.. مؤشّراً آخَرَ على انتشار التّشيُّع لآل البيت عليهم السلام وقوّته، وعلى التفاف غالبيّة الناس حول العلويّين وآل النبيّ صلّى الله عليه وآله مقابل الحكّام الأمويّين الظالمين.

وبعد قمع ثورة التوّابين، ثار المختار بن أبي عُبيدة الثقفيّ سنة 65، تُعاضده الثلّة الباقية من التوّابين وأنصار العلويّين، والمَوالي خاصّة.. فسيطروا على الكوفة وعلى مناطق كبيرة أخرى من البلاد الإسلاميّة، وأرسل المختار رجلاً من قِبله أميراً للحاجّ في مكّة. وكان التفاف المسلمين وطائفة كبيرة من الموالي حول المختار في ثورته، مؤشّراً جديداً على عُمق الجنايات والمظالم التي ارتكبها الحكّام الأمويّون، وعلى النفور الشديد الذي عمّ طبقات المسلمين من الحكم الأمويّ.

ومع أنّ عبد الملك بن مروان (65 - 86 هجريّة)، وابنه الوليد بن عبد الملك (86 - 96 هجريّة) قد أضفيا على حكمهما قدراً من الثبات والاستقرار الظاهريْن جرّاء السياسة الدمويّة لواليهما على العراق الحجّاج بن يوسف الثقفيّ التي دامت عشرين سنة، لكنّ مظالم الحجّاج وجرائمه كانت متزامنة مع عدد كبير من الثورات والانتفاضات، ومنها ثورة عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث مدعوماً بعدد عظيم من عرب الجنوب الثائرين على الحكم الأمويّ.

 

 

ولمّا مات الحجّاج سنة 95، ومات الوليد بن عبد الملك سنة 96، خَلَفَه سُليمان بن عبد الملك (96 - 99 هجريّة)، ثمّ عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هجريّة) فخفّت وطأة ظلم الأمويّين، لكنّ هذه الفترة كانت قصيرة جدّاً، فقد انعدم من جديد الأسلوب الماكر الهادئ في الحُكم بوفاة عمر بن عبد العزيز، وتابع الأمويّون بعده أساليبهم التعسّفيّة الظالمة، وخاصّة بمجيء هشام بن عبد الملك (105 - 125 هجريّة) الذي اختار ولاةً عُرفوا بقسوتهم وفظاظتهم ووحشيّتهم، من أمثال عبد الله بن خالد القَسْري، ويوسف بن عمر (ابن اخت الحجّاج)، فطبَق الظلم والجور أرجاء البلاد الإسلاميّة.

ثورة زيد بن عليّ وابنه يحيى

ثمّ حدثت ثورة زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السّلام سنة 122 هجريّة، فقُمعت ثورته بوحشيّة وقُتل على يد يوسف بن عمر حاكم الكوفة، وأُرسل رأسُه إلى هشام بن عبد الملك، وصُلب جسدُه في كناسة الكوفة أربع سنوات، فأثار ذلك غضب المسلمين المحبّين لأهل البيت عليهم السّلام، وزاد في نقمتهم على الأمويّين.

وأعقب زيداً الشهيد ابنُه يحيى الذي ثار في إقليم خراسان مع طائفة من أتباعه، ثمّ قُضي على ثورته سنة 125 هجريّة وقُتل في منطقة الجَوْزَجان، وتفرّق أنصار أهل البيت عليهم السّلام مؤقّتاً. وتزامنت ثورة يحيى بن زيد مع إنزال جسد أبيه الشهيد من الخشبة التي صُلب عليها، وإحراق بدنه وإلقاء رماده في نهر الفرات.

ولمّا قُتل يحيى بن زيد، قُطع رأسه وأُرسل به إلى الوليد بن يزيد في الشام (125 - 126 هجريّة)، وصُلب جسده في الجوزجان.

بداية التحرّك العبّاسيّ

لم تنفع هذه الاجراءات القمعيّة الوحشيّة التي مارسها الأمويّون في إرساء دعائم حكمهم المتزلزل، بل أثارت حَنقَ المسلمين وغضبهم عليهم، وضاعفت في نفوذ العلويّين وأهل البيت عليهم السّلام وقدرتهم المعنويّة، وخاصّة في الكوفة وخراسان.

يقول اليعقوبيّ المؤرّخ العبّاسيّ في تاريخه حول آثار ثورة زيد في منطقة خراسان: « ولمّا قُتل زيد وكان من أمره ما كان، تحرّكت الشيعة بخراسان وظهر أمرهم، وكَثُر من يأتيهم ويميل معهم، وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أميّة وما نالوا من آل الرسول صلّى الله عليه وآله، حتّى لم يبقَ بلدٌ إلاّ فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة [من بني العبّاس]...».

وفي مطلع القرن الثاني الهجريّ أقدم محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس (عمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله) على التمهيد للقيام بثورة على الحكم الأمويّ، فأرسل دعاته إلى خراسان، وهي منطقة بعيدة عن «دمشق» مركز الحكم الأمويّ.

وكان هؤلاء الدعاة - الذين عُرفوا فيما بعد بدُعاة بني العبّاس - يتحدّثون عن مفاسد الأمويّين ومظالمهم ومعاملتهم السيّئة، وخاصّة قتلهم ريحانةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله الحسين بن عليّ عليه السّلام في كربلاء مع وُلده وأهل بيته وأنصاره، وسبيهم عيالاته، وقتلهم زيد بن عليّ وابنه يحيى، ويؤلّبون الناس في خراسان والكوفة - بعيداً عن أعين ولاة الأمويّين وعمّالهم - على الثورة في وجه الحكم الأموي.

وكان الدعاة العبّاسيّون لا يَدْعون الناس إلى رجلٍ بعينه يسمّونه لهم، بل كانوا يدعون الناس إلى رجل من آل محمّد صلّى الله عليه وآله، ويعلّلون عدم ذِكرهم لاسمه بالخوف على حياته والخشية من فشل ثورته.

ويظهر جليّاً أنّ بني العبّاس استغلّوا إلى درجة كبيرة مخالفة الشيعة للحكم الأمويّ، فكانوا يزعمون إنّهم إذا انتصروا في ثورتهم سيجتمعون على رجلٍ من وُلد رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وعمد أبو مسلم الخراسانيّ الذي قاد ثورة العبّاسيين في خراسان في أوائل القرن الثاني الهجريّ إلى أسلوب محدّد، فأعاد إلى أذهان المسلمين عداء أبي سفيان - رأس بني أميّة - للإسلام، ومحاربته النبيَّ صلّى الله عليه وآله، والأذى الذي ألحقه بالمسلمين في مكّة والمدينة.

وقد نجحت هذه السياسة بشكل عام في استقطاب الناس، لا سيّما أنّ أبا مسلم، وبعد تسلّطه على خراسان، حقّق للشيعة بعض مطالبهم، فقد بادر إلى اعتقال سلم بن أحوَز المازني قاتِلِ يحيى بن زيد - وكان رئيساً لشرطة نصر بن سيّار حاكم خراسان – واعتقل مَن اشترك معه في قتل يحيى، فقتلهم به، ثمّ أمر بإنزال جسد يحيى بن زيد الذي كان مصلوباً منذ زمن الوليد بن يزيد (125 - 126 هجريّة)، فصلّى عليه ودَفَنه وبالغ في تكريمه. وأقام أهل خراسان - وقد تخلّصوا من ظُلم الأمويّين - العزاءَ على يحيى سبعة أيّام، وظلّوا إلى سنة كاملة كلّما وُلد لهم ولد في خراسان سمّوه يحيى أو زيداً.

ولم يسبق للعبّاسيّين أن ثاروا على الأمويّين، ولم يسبق أن تحمّلوا منهم من المظالم كما تحمّل العلويّون، ليحصلوا - من خلال ذلك - على هذا التأييد في الكوفة وخراسان. بل لم يسبق للعبّاسيّين أن شاركوا في أيّ ثورة ضدّ الحكم الأمويّ، بل عاشوا في رفاه وطمأنينة ورخاء في ظِلّ الحكّام الأمويّين، بينما كان الطالبيّون يَصطلون بنار الأمويّين وجحيم ظُلمهم.

شعار «الرضا من آل محمّد»

أشرنا سابقاً إلى أنّ أبا مسلم الخراسانيّ وسائر الدعاة العبّاسيّين كانوا يأبون الافصاح عن اسم صاحب الدعوة، وكانوا يُعلّلون ذلك بالخوف على حياته إذا انكشف أمره لبني أميّة، وكانوا يؤجّلون الإعلان عن هويّة مَن يدعون الناس إليه إلى ما بعد انتصار دعوتهم.

وكان أبو سلَمة الخلّال - الذي عُرف بعد نجاح الدعوة العبّاسيّة بوزير آل محمّد - يدعو الناس في الكوفة، زمن بني أميّة، إلى الثورة على الأمويّين، ويدعوهم إلى (الرضا من آل محمّد عليهم السّلام). وقد بدأ أبو سلمة دعوته إلى العلويّين، لأنّ أهل الكوفة لم يكونوا يهتمّون بالعبّاسيّين، ولأنّهم كانوا يعتبرون الخلافة والإمامة والزعامة حقّاً طبيعيّاً للعلويّين....

ويؤكّد المؤرّخون أنّ اختيار شعار (الرضا من آل محمّد) من قِبل أبي مسلم الخراسانيّ كان خطوة ماكرة منه؛ حيث هناك نماذج تاريخيّة كثيرة تدلّل على أنّ دعاة بني العبّاس قد توسلّوا بهذا الشعار، وتشير إلى نفور الناس من الأمويّين الظالمين وتعاطفهم مع أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.

من جملتها: أنّ نصر بن سيّار لمّا فرّ إلى قُومس وجُرجان، والتحق به نُباتة بن حنظلة حاكم جرجان مع قوّات قَدِمت من الشام، كان لهؤلاء التفوّق الكبير على القائد الذي أرسله أبو مسلم الخراساني، وهو «قحطبة بن شبيب»، فخطب قحطبة في أهل خراسان يحرّضهم ويستحثّهم لمقارعة الجيش الأمويّ، وكان من جملة كلامه: «يا أهل خراسان، أتدرون إلى مَن تسيرون؟ ومَن تقاتلون؟ إنّما تقاتلون بقيّة قومٍ حرقوا بيت الله تعالى... وأخافوا أهل البرّ والتقوى من عِترة رسول الله، فسلّطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم.. لأنّكم طلبتموهم بالثأر».

ومن الجدير بالتأمّل أنّ محمّد بن خالد، شيخ القبائل العربيّة الجنوبيّة، قام بالهجوم على قصر الإمارة في الكوفة ليلة العاشر من المحرّم، فاحتلّ القصر وهرب الأمويّون منه، وذلك قبل أن تصل طلائع جيش الحسن بن قحطبة، وهو القائد الذي أرسله أبو مسلم الخراسانيّ إلى الكوفة. وكان في اختيار زمن الهجوم في ليلة العاشر من المحرّم صبغة علويّة تذكّر الناس بجنايات الأمويّين، وتُعيد إلى أذهانهم ثورة الإمام الحسين عليه السّلام وباقي أهل البيت عليهم السّلام في وجه الحكم الأمويّ الجائر.

بعد موت محمّد بن عليّ، صاحب الدّعوة الأولى، انتقل الأمر إلى ابنه ابراهيم الملقّب بـ«الإمام»، لكنّ مروان بن محمّد – آخر حاكم أمويّ - تمكّن من قتله غيلةً، فانتقل أمر الدعوة إلى أخيه عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وقد بُويع هذا الأخير بالخلافة من قِبل قادة جيش أبي مسلم، فارتقى المنبر في مسجد الكوفة وبدأ خطبته بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وآله، ثمّ تطرّق إلى هتك بني أميّة للحُرمات، وتخريبهم الكعبة، وذَكَر سائر قبائح أفعالهم وسيرتهم، ثمّ أشار إلى قرابته من النبيّ صلّى الله عليه وآله، وزعم أنّه من ذوي القُربى المنصوص عليهم في القرآن الكريم!

ولمّا انتصر عبد الله العبّاسيّ على مروان بن محمّد آخر ملوك الأمويّين، أرسل برأسه إلى خراسان ليُطاف به في مُدنها، من أجل إدخال السرور على أهلها الذين كانوا يمقتون بني أميّة، وليقدّم نفسه على أنّه المنتقم لدماء العلويّين، وقد بالغ عبد الله في سفك دماء مناوئيه، حتّى لُقّب بـ«السفّاح».

وقد ذكر المؤرّخون أنّ السفّاح أعطى الأمان لسليمان بن هشام بن عبد الملك وولدَيه، ثمّ أمر غلامه (سديفاً) فقرأ أشعاراً ذكر فيها شهادة الإمام الحسين عليه السّلام، وزيد بن عليّ، وحمزة بن عبد المطّلب، «فـغلى الدم في عروقه وأمر بقتل سُليمان وولدَيه».

ونقل المؤرّخ المسعوديّ أنّ السفّاح قتل من بني أميّة طائفة، ثمّ قال: «ما أُبالي متى طرقني الموت؛ قد قتلتُ بالحسين وبني أبيه من بني أميّة مائتين، وأحرقتُ شِلْوَ هشام بابن عمّي زيد بن عليّ، وقتلتُ مروان بأخي إبراهيم».

وذكر اليعقوبيّ أنّ عبد الله بن عليّ (وهو عمّ السفّاح) جمع إليه بني أُميّة بعد أن وَلِي فلسطين، ثمّ أمرهم أن يَغْدُوا عليه لأخذ الجوائز والعطايا، ثمّ جلس من غدٍ وأذن لهم، فدخل عليه ثمانون رجلاً من بني أميّة، وقد أقام على رأس كلّ رجل منهم رجلَين بالعُمُد، وأطرق مَليّاً، ثمّ قام (الشاعر) العَبدي فأنشد قصيدته التي يقول فيها:

أمّا الدُّعاةُ إلى الجِنانِ فَهاشِمٌ            وَبَنـو أُمَيَّةَ مِنْ كِـلابِ النّـارِ

ثمّ أقبل عليهم عبد الله بن عليّ فذكر لهم قَتْلَ ابن أخيه إبراهيم، ثمّ صفق بيده فضرب القومُ رؤوسَهم بالعمد حتّى أتوا عليهم.

وبالتأمّل في أدبيات العبّاسيّين إبّان دعوتهم يُلاحظ أنّهم تطرّقوا إلى ذِكر الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السّلام، والشهداء العلويّين مثل زيد وابنه يحيى كمقدّمة للحديث عن صاحب دعوتهم؛ محمّد بن عليّ، ولاحقاً ابنه إبراهيم، في محاولة منهم لكسب تأييد وتعاطف الرأي العام، وتأييد العلويّين والشيعة بصورة خاصّة.

لكنّ المسلمين رأوا بعد حين أنّ صاحب الدعوة شخصيّة عبّاسيّة، وليس علويّة، وأنّه كان يعيش في الشام دونما مضايقة من بني أميّة، وأنّه استغلّ بخُبث ودهاء الموقعَ الذي كان يتمتّع به العلويّون وأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله الذين تعرّضوا لظلم الأمويّين وجورهم، أو استشهدوا في ساحات القتال مع الأمويّين، أو قضوا مسمومين على أيديهم، أو سُجنوا ونُفوا في بلاد الغُربة، ثمّ ماتوا غرباء بعيدين عن ديارهم وأهليهم، وشاهدوا أنّ هؤلاء العبّاسيين قد توصلّوا بهذه الوسيلة إلى الوصول إلى دفّة الحكم.

ولمّا شاهد الناس - تدريجاً - أنّ أساليب العبّاسيين لا تختلف عن أساليب أسلافهم الأمويّين، ثاروا في وجههم وأيدّوا العلويّين، وبدأت هذه الثورات من زمن المنصور العبّاسيّ (137 - 159 هجريّة) وهو المتسلّط العبّاسيّ الثاني، وكان قد خلف أخاه عبد الله السفّاح (132 - 137 هجريّة).

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

29/12/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات