كتاب شعائر 2

كتاب شعائر 2

03/07/2011

المناجاة الشعبانيّة علوم الأدب مع الله


المناجاة الشعبانيّة
علوم الأدب مع الله



الشيخ حسين كوراني

شعبان 1432 هـ – تموز 2011م




بسم الله الرّحمن الرحيم




نحن نفتخر  بأنّ لدينا: مناجاة الأئمّة الشعبانيّة.
الإمام الخميني في وصيِّته





 
تقديم



من الظواهر الخمينيّة، التي وُفِّق لها العبد الصالح والفقيه النَّوعي، العابد العارف الإمام روح الله الموسوي الخميني قدّس سرّه، نشر ثقافة الإهتمام بالمناجاة الشعبانيّة.
هذه المناجاة، هي دعاء مرويٌّ عن أمير المؤمنين عليه السلام، وكان جميع الأئمّة من أبنائه عليهم السلام، يقرأونه.
يأتي في كلام الإمام الخميني عن هذه المناجاة، أنّها الدعاء الوحيد الذي حَظِيَ بقراءة جميع الأئمّة له.
وفي نفس السِّياق بالعناية بالمناجاة الشعبانيّة، تقع عناية الإمام الخامنئي دام ظلّه، بها، وسنجد أنّ سماحته ينقل عن الإمام الخميني توصيتَه إيّاه بهذه المناجاة.
بين يدي القارىء الكريم، تعريف بالمناجاة الشعبانيّة من حيث الرواية وكلمات العلماء فيها، ووقفة ضافية مع نصوص الإمام الخميني قدّس سرّه، في الحثّ على قراءتها، وكذلك في تسليط الضوء على بعض دقائقها. يُختتم هذا الباب بنصٍّ لسماحة الإمام الخامنئي عن هذا الدعاء- المناجاة.
يتّضح في هذا الباب كيف أنّ الإمام الخميني كان يستحضر المناجاة الشعبانيّة دائماً طيلةَ عمره الشريف، في كُتبه وخُطَبه. وما خَفِي من كثرة دعائه بفقراتها، لا بدّ أنّه أعظم، وبه أُتيح للإمام  أن يُطلق ظاهرة الإهتمام بـ «دعاء جميع الأئمّة عليهم السلام».
وفي الباب الأخير من هذه الأوراق، وقفة تأمّل مع  مُفتَتح المناجاة الشعبانيّة.
ألتمس -في الختام- من المؤمنين الدعاء لي بالتوفيق للعمل بما ورد في هذا النص، وأنْ يجعلنا جميعاً من أهل ثقافة رجب وشعبان وشهر رمضان، إنّه وليُّ الإحسان والنِّعم.
حسين محمد كَـوْراني
بيروت- 7 رجب 1432 هجريّة

 


 
تعريف بالمناجاة الشعبانيّة


روايتُها، وكلمات العلماء

من الأعمال العامّة لشهر شعبان «المناجاة الشعبانيّة»، وهي دعاءٌ يُدعى به في كلّ يومٍ من هذا الشهر المبارك، بل مطلقاً على مدار السَّنة.

أورد العلماء هذه المناجاة، بإسم «الدعاء في شعبان» أو بإسم «مناجاة مولانا أمير المؤمنين» ولم تكن معروفة بإسم «المناجاة الشعبانيّة»، وممّن أطلقَ عليها هذه التسمية، أو ما يَقرب منها، هو آية الله المقدّس الشيخ ملكي تبريزي، صاحب كتاب (المراقبات) كما يأتي.
قال السيّد إبن طاوس عليه الرحمة في (الإقبال):
«فصلٌ في ما نذكره من الدعاء في شعبان، مروي عن إبن خَالويه». ثمّ نقل عن «إبن خالَوَيْه» قوله:
«إنّها مناجاة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام والأئمّة من وُلده عليهم السلام، كانوا يدعون بها في شهر شعبان».
وأورد المناجاة العلّامة المجلسي نقلاً عن الكتاب (العتيق الغروي) الذي يرمز له بـ (ق)، فقال: «مناجاة مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وهي مناجاة الأئمّة من وُلدِه عليهم السلام، كانوا يدعون بها في شهر شعبان، رواية ابن خالويه رحمه الله».


روايةُ ابن خَالَوَيْه

تلتقي كلمات العلماء عند «إبن خالويه» باعتباره الرَّاوي الذي عُرفت هذه المناجاة، بروايته لها، فكلُّ مَن أَوردها، قد رواها عنه، وأَسندها إليه.
                         فمن هو إبن خالَوَيْه؟
ذكر السيّد إبن طاوس، يسيراً من ترجمته، فقال: «هو الحسين بن محمّد بن خالويه»، ثمّ نقل عن النجاشي في مدحه: «أنّه كان عارفاً بمذهبنا مع علمه بعلوم العربيّة واللّغة والشعر وسَكَن بحلب».
كما نقل السيّد مدحَ أحد العلماء «إبن النجار» لإبن خالويه وأورد قوله فيه: «كان إماماً أوحدَ أفراد الدهر في كلّ قسمٍ من أقسام العلم والأدب، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وسَكَن بحلب وكان آل حمدان يكرمونه».
قال السيّد الخوئي رحمه الله تعالى:
«الحسين بن خالويه: الحسين بن أحمد بن خالويه. قال النجاشي: الحسين بن خالويه، أبو عبد الله النحوي: سَكَن حلب ومات بها، وكان عارفاً بمذهبنا مع علمه بعلوم العربيّة واللّغة والشعر. وله كُتب منها: كتاب الآل ومعناه (كتاب الأوّل ومقتضاه)، ذكر إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، حدّثنا بذلك: القاضي أبو الحسين النّصيبي، قال: قرأته عليه بحلب، وكتاب مُستحسن القراءات والشواذ، كتابٌ حََسَنٌ في اللّغة، كتاب اشتقاق الشهور والأيّام. وعَدّه العلَّامة في الخلاصة في القسم الأول من الباب 2 من فصل الحاء. ولعلّه مبني على أصالة العدالة. وذكره السيّد إبن طاوس في الإقبال في الباب التاسع في (فصل، في ما نذكره من الدعاء في شعبان مروي عن ابن خالويه) فقال: مَدَحَه محمّد بن النجار في التذييل، وقال: كان إماميّاً أوحد أفراد الدهر في كلّ قسمٍ من أقسام العلم والأدب، وكان إليه الرحلة من الآفاق، وسَكَن بحلب وكان آل حمدان يكرمونه (إنتهى). وعن اليافعي في تاريخه: أنّه الحسين بن أحمد بن خالويه، وكذلك عن إبن خلّكان. والموجود في ما عندنا من نسخة الإقبال، الحسين بن محمّد بن خالويه، والله العالم، وعن اليافعي: أنّه توفي سنة 317، وعن إبن خلّكان: أنّه مات سنة 370».
**
وبالرجوع إلى كُتب التراجم وغيرها، يتّضح أنّ هناك شخصين يُعرف كلٌّ منهما بإبن خالويه: أحدهما الحسن بن محمّد (أو أحمد) بن خالويه وهو شيخ بعض مشايخ النجاشي.
والثاني: إبن خالويه أبو الحسن الفارسي، عليّ بن محمّد بن يوسف بن مهجور(أو مهاجر) شيخ مشايخ النجاشي.
والذي نَسب السيّد إليه رواية المناجاة الشعبانيّة هو الأوّل، والأشهر، وهو من كبار الأئمّة في النحو واللّغة عموماً، وله كُتب مرجعيّة عديدة، وقد مكَّنه موقعه العلمي من أن يَفرض حضوره باحترام في أكثر مصادر اللّغة، والتفسير، وبعض أُمّهات مصادر السيرة من خلال كتابه (الآل) الذي ذكر العلّامة الحلّي في وصفه أنّه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد اعتمده الأربلي في (كشف الغمّة) بشكل رئيس، كما يَذكر بعض الفقهاء ومنهم العلّامة الحلِّي تصريحه بأنّ الجهر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) مذهبُ أهل البيت، وعليه إجماع الإماميّة، وقد جرت مناظرات بينه وبين عدد من المشاهير ومنهم «المتنبّي» الشاعر في مجلس سيف الدولة بِحَلب حيث استقرّ «ابن خالويه» يكرمه بنو حمدان وينهلون من علمه، إلى أن تُوفِّي فيها عام 370 للهجرة، وله شرحٌ على قصيدة أبي فراس في أهل البيت عليهم السلام.
ويَستظهرُ بعض المتأخِّرين أنَّ الذي يروي المناجاة الشعبانيّة هو الثاني ولعلّ مستند هذا الإستظهار هو أنَّ للثاني كتباً في عمل رجب وشعبان وشهر رمضان، إلَّا أنّ ذلك لا يُشكِّل ما يُرْكَن إليه.
وسواءً أكان الراوي للمناجاة الشعبانيّة الأوّل من المشتهرَين بإبن خالويه، أم الثاني، فكلاهما في غاية الوثاقة، إذ أنَّ من القواعد المعروفة في توثيق مثلهما، أنّه «من مشايخ النجاشي» وهو عنوان منطبقٌ عليهما، بالإضافة إلى ما نُقل حول كلٍّ منهما.
وقد احتلَّت هذه المناجاة وما تزال مكانتها السامية الخاصّة بها بين العلماء، نظراً إلى عظيم أهميّة مضامينها، ونظراً إلى مكانة إبن خالويه الذي تقدَّم تصريحه بأنَّ الأئمّة جميعاً عليهم السلام كانوا يقرأونها.
 
الملكي التبريزي، والمناجاة الشعبانية

علومُ الأدب مع الله، ولقاءِ الله


الفقيه العارف، آية الله الملكي التبريزي (ت 1343 هجريّة) صاحب مدرسة في الأخلاق العمليّة، والعبادة المتفقِّهة، ومؤلِّف الكُتب المنهجيّة التربويّة: (المراقبات) و(أسرار الصلاة) و(لقاء الله).
تلميذ العارف الكبير الشيخ حسين قُلي (عبد الحسين) الهمداني
والمرحوم الملكي التبريزي، من أبرز أساتذة الإمام الخميني في الأخلاق والتزكية.
يقع ضريحه قرب حرم «المعصومة» عليها السلام، في قم، وقد زاره، وقرأ لروحه الفاتحة، وليُّ أمر المسلمين السيّد الإمام الخامنئي دام ظلّه، في زيارته قم عام 1432 للهجرة.


 في  معرض حديثه عن شهر شعبان، تحدَّث العارف الجليل آية الله الملكي التبريزي رضوان الله تعالى عليه عن هذه المناجاة، فقال:
«ومناجاته الشعبانيّة معروفة، وهي مناجاة عزيزة على أهلها، يُحبُّونها ويَستأنسون بشعبان من أجلها، بل ينتظرون مجيء شعبان ويشتاقون إليه من أجلها. وفي هذه المناجاة علوم جمَّة في كيفيّة تعامل العبد مع الله جلَّ جلالُه، وبيان وجوه الأدب التي ينبغي أن نلتزمها ونتأدَّب بها عندما نسأل الله تعالى حوائجنا، وندعوه سبحانه ونستغفره، وإستدلالات لطيفة تليق بمقام العبوديّة لإحكام مقام الرجاء المناسب لحال المناجاة، ودلالات صريحة واضحة في معنى لقاء الله تعالى والقُرب منه والنَّظر إليه جلَّ جلالُه، ترفع شُبُهات السالكين وشكوك المنكِرين.
".." وهذه المناجاة من مهمَّات أعمال هذا الشهر، بل للسالك أن لا يترك قراءة بعض فقراتها على مدار السَّنة، ويُكثر المناجاة بها في قنوته وسائر حالاته السنيّة.".." إنّ هذه المناجاة مناجاة جليلة ونعمة عظيمة من بركات آل محمّد عليهم السلام، يعرف قدْرَ عظمتها مَن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد».
يضيف: «وَلَعَمْري إنّ الأغلب لا يعرفون شأن نعمة هذه المناجاة، وأنّ من شأنها علوماً عزيزة ومعارف جليلة، لا يطَّلع عليها وعلى أبعادها إلّا أهل ذلك من أولياء الله الذين نالوا بها من طريق الكشف والشهود ما نالوا، ثمّ إنّ الوصول إلى حقائق هذه المناجاة عن طريق المكاشفة إنّما هو من أَجَلّ نِعَم الآخرة، ولا يُقاس الوصول إلى حقائق هذه المقامات بشيء من نعيم الدُّنيا، وإليه أشار الصادق عليه السلام بقوله: لو علم الناس ما في فضل معرفة الله ما مَدُّوا أعينهم إلى ما مُتِّع به الأعداء من زَهْرَة الحياة الدُّنيا، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم ممّا يَطَؤونه بِأَرْجُلِهم، وتنعّموا بمعرفة الله وتلذَّذوا بها تلذُّذ من لم يَزَلْ في روضات الجنان مع أولياء الله..».
ويهدف القسم الأخير من كلامه واستشهاده رضوان الله تعالى عليه بهذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، إلى توجيهنا نحو اللّذة الروحيّة السامية التي تَنتج عن العبادة بمختلف مظاهرها من مناجاة وصلاة وصيام، وأنّ الإنسان إذا عرف حقيقة اللّذة الروحيّة فإنّه يراها أفضل بكثير من كلّ لذائذ الدُّنيا.
ومن الواضح أنَّه قد ذكر ذلك في سياق التأكيد على فرادة العلاقة بين المناجاة الشعبانيّة والكشف والشهود، واللّذة الروحية الناتجة عنهما ببركة هذه المناجاة.


المحدِّث القُمِّي، والمناجاة الشعبانيّة

أَكثر الّذين قرأوا المناجاة الشعبانيّة في القرن الأخير، عرفوها من خلال عناية المُحدِّث القُمِّي بها، حيث أوردها في كتابه الأكثر تداولاً من كلِّ كُتب الدعاء والأوراد والأذكار والزيارات، كثرةً تبلغ الحَصْر في غالب أوساط الدّاعين، أو تُلامسه في أوساط أُخَر.
من حقِّ المناجاة الشعبانيّة علينا، ومن حقِّ المُحدِّث القُمِّي قدِّس سرُّه، ولأسبابٍ متعدِّدة، أن نقف عند المناجاة وعنايته
بها.

يُعرَف المُحدِّث القُمّي (ت 1359 هجرية) بكتابه الذي اشتهر به، وهو كتاب (مفاتيح الجنان)، ويُعرف في نطاقٍ أقلَّ من ذلك باسمه: الشيخ عباس القُمِّي.
ويُعرف بالخصوص، بين العلماء والمتتبِّعين من خلال أسفاره الأبرز: (سفينة البحار) و(الكُنى والألقاب) و(الفوائد الرضويَّة) و(منتهى الآمال).
والمُحدِّث القُمِّي، من شيوخ الإمام الخميني قدِّس سرُّهما، في رواية الحديث الشريف.
أمضى المُحدِّث القُمِّي في تأليف (سفينة البحار) عشرين عاماً، فجاء معجماً موسوعيّاً ولائيّاً، لا غنى للباحث عنه.
وجاءت كلُّ كُتبه، دائرة معارفٍ مُكتملة، في السيرة والولاية، والتزكية، والبرامج العمليّة العباديّة.
لدى التأمُّل في عصر المُحدِّث الجليل الشيخ عباس القُمِّي، وفي نتاجه العلمي والعملي، وفرادة التوفيق الذي حالف كُتبَه، وبخاصّة (مفاتيح الجنان)، نجد أنَّ هذا العالِم، العارف، العامل يَتَّخذ موقعه المتميِّز في منظومة العلماء الذين شكَّلوا السدّ المنيع أمام سَيْل الغزو الثقافي العرِم، وما تلاه من غزوٍ عسكري واحتلالٍ للعالَم الإسلامي.
كان قدِّس سرُّه من الطليعة المتنافسة في خير الجهاد والدِّفاع عن العقيدة والأمّة والإنسان، في مداراتٍ رُوَّادها شموسٌ محمّديّة من كبار مراجع الأمّة، وأقمارٌ كالمُحدِّث القُمِّي، والسيّد شرف الدين، والسيّد الأمين، والشيخ محمّد عبده، شيخ الجامع الأزهر.
ولَئِن خَفِي على بعض الإسلاميّين، نور هذه المنظومة مكتملاً، أو بعضُ مَوْجه والسَّنا، فلأنّ حبّ «الحداثة» –عندما تُفهم كالفَرْوِ مقلوباً- يعمي ويُصِمّ.
لمثل هؤلاء، كان دفاعُ الإمام الخميني عن صاحب (مفاتيح الجنان)، المُحدِّث القُِّمي متدفِّقاً بالْتِياع.
قال الإمام الخميني:
«كتاب (مفاتيح الجنان) ليس كتاباً لجناب الشيخ عباس القُمِّي، الشيخ عباس القُمِّي جمَعَه، جمع فيه الأدعية.
هذا الشخص الذي أحرق كتاب (مفاتيح الجنان)، أو أنَّه أعلن يوماً لإحراق مثل (كتاب مفاتيح الجنان)، لم يكن يعلم ماذا في كتاب (مفاتيح الجنان). لعلَّه لم يقرأ ولو مرّة واحدة المناجاة الشعبانيّة. تفكيره كان تفكيراً من هذا النوع.
هذه الأدعية الواردة للشهور وللأيام خصوصاً في شهر رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك:
- تُقوِّي الإنسان روحيّاً،
- وتَفتح له الطريق،
- وتَنشر من الضياء ما يُخرجه من هذه الظُّلمات،
- وتُدخله في النُّور،
كلّ ذلك بما هو أشبه بالمعجزة.
إعتنوا بهذه الأدعية ولا تَنطلي عليكم حيلة بعض الكتّاب مثل "كِسْرَوِي" الذين كانوا يُضعِّفون هذه الأدعية.
هذا تضعيفٌ للإسلام.
هؤلاء لا يفهمون. مساكين لا يعرفون ماذا يُوجد في هذا الكتاب؛ (مفاتيح الجنان).
إنّها مسائل القرآن بلسان آخر، الذي هو لغة لسان الأئمّة».

يُشير الإمام إلى تيَّار الحداثة المغلوطة، والعقلانيّة المزعومة.
والحديث شجون، والمرض عُضال.

**


 أوْرد المُحدِّث القُمِّي رحمه الله هذه المناجاة في كتابه الخالد (مفاتيح الجنان)، دون أن يسمّيها «المناجاة الشعبانيّة»، فهي تسمية -كما تقدَّم- يبدو أنَّ أوّل مَن استعملها أو ما يَقرب منها هو الشيخ الملكي التبريزي، وقد أدرجها المُحدِّث القُمِّي ضمن أعمال شهر شعبان العامّة، فقال قبل إيرادها: الثَّامن: «أن يقرأ هذه المناجاة التي رواها إبن خالَوَيْه، وقال إنّها مناجاةُ أمير المؤمنين والأئمّة من وُلده عليهم السلام».
وقال المُحدِّث بعد أن أورد المناجاة: «وهذه مناجاةٌ جليلة القدْر منسوبة إلى أئمّتنا عليهم السلام، مُشتملة على مضامين عالية، ويَحسن أن يُدعى بها عند حضور القلب متى ما كان».
 

المناجاة الشعبانيّة
فرادة اهتمام خمينيّة


أبرز انطباع يَخرج به المتابِع لنصِّ الإمام هو تفاعله النوعي مع المناجاة الشعبانيّة. بل إنّنا إذا أردنا البحث عن مُكَوِّنات اللَّهيب الباطني عند الإمام، لوجدنا أنَّ المناجاة الشعبانيّة في الطليعة.
يُكثِر الإمام الإستشهاد بالمناجاة في خُطَبِه وكُتُبه.
وَرَدَ ذكرُها باسمها «شعبانيّة» في عشر خُطَب، وهو يَذكرها في كلّ خطبة عدّة مرات.
كما وَرَد ذكرُها في الكثير من سائر الخُطَب، والكُتب، وكان قدّس سرّه دائم الإستشهاد ببعض فقراتها، حتّى لتجد أنّك أمام فرادة اهتمام خمينيّة، بالمناجاة الشعبانيّة.
ولا تَسهل الإحاطة بنصوص الإمام الخميني حول مقامات المناجاة التي كان جميع الأئمّة عليهم السلام، يقرأونها. إلَّا أنّ هذه جولة مُتأنِّية في هذا المجال، تَقتصِر على الخُطَب كما وردت في (صحيفهء نور)، دون الكُتب التي هي أَيْسَر تناولاً.

* دليلٌ على إمامة الأئمّة

*بتاريخ 21/4/1359 هجري شمسي [1980م]، قال الإمام:
«لو لم يَكن في الأدعية إلَّا المناجاة الشعبانيّة، لكفى ذلك دليلاً على أنَّ أئمّتنا هم أئمّةٌ بِحَقّ، لأنَّهم أنشأوا هذا الدعاء وَوَاظَبوا عليه».

* كلّ مسائل العُرفاء، في عدّة كلمات منها

وفي التاريخ نفسه قال الإمام:
«الأمر الذي يُخفِّف الإنسان ويُخرجه من مصدر الظُّلُمات هو الأدعية،
هناك اعوجاجات في فَهم الإنسان تزداداً كثيراً، هؤلاء لا يَفهمون حقيقة الدُّعاء، يَتخيَّلون إمكانيّة الإكتفاء بالقرآن عن الدعاء،
هؤلاء لم يَفهموا الدُّعاء أصلاً ما هو؟
 لم يُحاولوا أن يطَّلعوا على مضامين الأدعية وماذا هي؟
 ماذا تقول للناس. ماذا تريد أن تصنع؟
جميع المسائل التي أوردها العرفاء في كُتُبهم المبسوطة أو روَوْها موجودةٌ في عدَّة كلمات من المناجاة الشعبانيّة.
بل إنَّ عرفاء الإسلام استفادوا من هذه الأدعية التي وَردت في الإسلام.
عرفان الإسلام يَختلف عن عرفان الهند وأماكن أخرى.
هذه الأدعية بحسب تعبير بعض مشايخنا الذي كان يقول:
القرآن هو القرآن النَّازل، وهذه الأدعية هي القرآن الصَّاعد.
المعنويّات في هذه الأدعية تريد أن تصنع من الإنسان آدميّاً.
تريد أن تأخذ بيد الأفراد الذين إذا رَكبوا رؤوسهم فهم أشدّ افتراساً من جميع الحيوانات المُفترسة،
تريد الأدعية باللِّسان الخاصّ للدُّعاء أن تَأخذ بأيديهم وتَرفعهم إلى الأعلى.
ذلك الأعلى الذي لا نستطيع أنا وأنت أن نفهمه، مَن هُمْ أهلُه يفهمونه،
فجأة يرى الإنسان "كِسْرَوِي" وإحراق الكتب.
(مفاتيح الجنان) كان من جملة الكُتب التي أحرقها.
أَحرق كُتباً عرفانيّة،
طبعاً كان كِسْرَوِي كاتباً ماهراً.
 إلَّا أنّه في النهاية أُصيب بالجنون.
أو دماغاً كَكثيرِ من تلك الأدمغة الشرقيّة التي إذا تعلَّم صاحبها شيئاً (أربع كلمات) يتعاظم ادِّعاؤه. كان "كِسْرَوِي" في آخر أيّامه يدِّعي النُّبوّة.
لم يكن يستطيع أن يَرتقي إلى الأعلى، فأَنزل القرآن الصاعد إلى أسفل».

* عُمدة الإعداد لضيافة الله تعالى

بتاريخ 31/4/59 = [1980م] يتحدَّث الإمام عن ضيافة الله تعالى فيقول:
«عندما تُريد أن تَذهب إلى ضيافة فإنّك تُهيِّء نفسك، غالباً بِشكلٍ آخر من حيث الثِّياب وغير ذلك، بحيث يَختلف وَضْعك عمَّا كان عليه في البيت.
شهر شعبان فرصة لهذه التَّهيِئة والإستعداد للضيافة، بحيث يَختلف وَضْعك عمَّا كُنتَ عليه.
شهر شعبان هو لتهيئة الفرد والأمّة لضيافة الله تعالى. والعُمدة في هذه التَّهيِئة هي المناجاة الشعبانيّة.
أنا لم أرَ في الأدعية دعاءً وَرَد حوله أنَّ جميع الأئمّة كانوا يقرؤونه إلَّا هذا الدعاء.
المناجاة الشعبانيّة هي لإعدادك وإعداد الجميع وتهيئتهم لضيافة الله».
إلى أن يقول:
 «المناجاة الشعبانيّة [مناجاة] قلّ نظيرها».

* لا يستطيع الفلاسفة إدراك كُنْهِها

في خطبة أخرى بمناسبة النصف من شعبان بتاريخ 7/3/62 هجري شمسي [1983م]  يقول الإمام:
«المناجاة الشعبانيّة من أعظم المناجَيات، ومن أعظم المعارف الإلهيّة، ومن أهمّ الأمور التي يستطيع مَن هُم أهلُها أن يَستفيدوا منها في حدود إدراكهم».
إلى أن يقول:
«في المناجاة الشعبانيّة مسائل عرفانيّة يُمكن أن يُدركها الفلاسفة إلى حدودٍ ما، أي أن يَفهموا عناوينها، لكن حيث أنَّه لم يَتحقَّق لهم الذَّوْق العرفاني، فإنَّهم لن يستطيعوا أن يعيشوها».

* برنامجٌ عملي:

بتاريخ 30/12/66 هجري شمسي [1987م]، يقول الإمام:
«مَن يُتابع هذه المناجاة الشعبانيّة ويفكِّر فيها، يَصِل إلى مكانٍ ما.
المناجاة الشعبانيّة هي من النوع الذي إذا صَرَف همَّته إليها وفكَّر فيها، فإنَّها تُوصله إلى مكان ما».

* كان الجيش الإسلامي يُجاهد لبناء المساجد

في خطابٍ له في القوَّات البحريّة، بتاريخ 15/4/59 هجري شمسي [1980م]، يقول رحمه الله:
«لم يَكُن الجيش الإسلامي يبحث عن غنيمة، كان يريد أن يفتح القلوب.
أيّ بقعة وصلها الجيش الإسلامي، قبل كلّ شيء أقام فيها مَسجداً.
عندما وَصلوا إلى القاهرة حدَّدوا مكان المَسجد.
كان الجيش الإسلامي يُجاهد لبناء المساجد والمحاريب. ولذلك بُعِثَ الأنبياء، لِيُوصلوا الإنسان إلى الكمال المُطلَق، ويخلِّصوه من الحَيرة والضَّلالة.
[بُعِثَ الأنبياء] لإخراج الإنسان من ظُلمة الطبيعة إلى النُّور. بل من حُجُب النُّور والظُّلمة إلى ما وراء ذلك.
في المناجاة الشعبانيّة تقرأون:
إلهي هَبْ لي كمال الإنقطاع إليك، وأَنِر أبصار قلوبنا بِضياء نَظَرها إليك، حتّى تَخرق أَبصارُ القلوب حُجُب النُّور.
إهْدِنا إلى حيث تَشقّ رُؤى قلوبنا، عيونُ قلوبنا، حُجُبَ النُّور فَتَصِل إليك.
جاء الإسلام لِيُنجي الإنسان من ضلالته هذه، من هذه الحُجُب التي تَحجُبه، الحُجُب التي هي أخطر من كلِّ حجاب. حُجُب الغُرور، حُجُب تضخيم الأنا وتكبيرها.
بمجرَّد أن يحصل الإنسان على شيء، يَتولَّد فيه غُرور فَيَرى نفسه كبيراً.
جاء الإسلام لِيُحطِّم هذا الغُرور. ما دام الإنسان يرى نفسه فلا يمكنه أن يصل إلى ذلك الطريق الذي هو طريق الهداية. يجب أن يدوس على هذا. أوّل أمر هو هذا، أن يَدوس على شهواته، على أهوائه النفسانيّة».

***


* ما هي حقيقة معنى «ناجيتَه» بالفتح لا «ناجيتُه» بالضّم؟!

في خطبة، بمناسبة النصف من شعبان بتاريخ 7/3/62 [1983م]، يقول الإمام:
«إلهي واجعلني مِمَّن ناديتَه فأجابك وناجيتَه فَصَعِق لجلالك، فناجيتَه سرّاً وعمل لك جهراً..».
فيتكلّم عن بعض المفاهيم العصيَّة على الفَهم وهي السَّهل المُمتنِع فيقول:
«لا العارف ولا الفيلسوف ولا العالم يستطيع أن يذوق حقيقة مسألة "فَصَعِق لِجلالِك" المُستَمَدَّة من القرآن في قوله تعالى:
﴿فَلَمّا تَجَلَّّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً﴾.
يَتَصوَّر الإنسان أنَّ المُراد أنَّ موسى أُغمي عليه.. صَعِقَ يعني أُغمي عليه!
أمَّا حقيقة هذا الصَّعْق، ما هو صَعق حضرة موسى، فإنَّها مسألة لا يُمكن أن يَفهمها غير موسى عليه السلام.
[وكذلك] ﴿دَنَا فَتَدَلّى﴾.. إنّها مسألة لا يفهمها إلَّا الذي دَنا. هو الذي يستطيع أن يُدرك ذلك ويتذوَّقه، ليَذُوب فيه.
أو هذه الجملات في هذه المناجاة العظيمة، وبعض الجملات الأخرى.
إنَّها مسائل بِحَسَب الظاهر سهلة، وبِحَسَب الواقع مُمتَنعة.
يحتاج الأمر إلى رياضات كثيرة ليستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة معنى «ناجيتَه» بالفتح لا «ناجيتُه» بالضمّ.
حقّاً.. ما معنى ذلك؟ ما معنى أنَّ الله تعالى يُناجي الإنسان؟
كَم هي عظيمة هذه المناجاة؟
ماذا أراد الأئمّة عليهم السلام؟
لم أرَ أنَّ الأئمّة عليهم السلام، جميع الأئمّة.. كانوا يقرأون دعاءً واحداً إلَّا هذه المناجاة.
هذا دليل على عَظَمة هذه المناجاة، بحيث أنَّ الأئمّة كلّهم يقرأونها.
ما هي حقيقة الأمر؟
أيُّ مسائل كانت بينهم وبين الله تعالى..؟
هَبْ لي كمال الإنقطاع إليك.
ما هو كمال الإنقطاع؟
وبِيَدك لا بِيَد غيرك زيادتي ونقصي ونفعي وضرَّي.
حسناً.. بحسب الظاهر يقول الإنسان: الأمر كلّه لله.
أمّا أن نُدرِك بالوجدان أنَّه لا يصل إلينا أيّ ضرر إلَّا بيده. ولا تَصلنا أيُّ منفعة إلَّا به. هو الضارُّ والنافع.
هذه أمور تَقصُر أيدينا عنها.
أُدعوا الله تبارك وتعالى أن يوفِّقنا في هذا الشهر الشريف [شعبان] وفي شهر رمضان الشريف ليَحِلَّ في قلوبنا نصيب، أو جلوة صغيرة في قلوبنا وأفئدتنا. وعلى الأقلّ لنؤمن بأنَّ قضيّة الصَّعق «قضيّة» [شديدة الأهميّة]. ونؤمن [بأصل] مناجاة الله تعالى للإنسان، ونتساءل ما هي حقيقتها؟ ونؤمن بالمناجاة فلا نُنْكِرها. ولا نقول هذه لغة الدراويش.
جميع هذه المسائل موجودة في القرآن لكن بِنَحْوٍ لطيف. وهي [موجودة] في كُتب أدعيتنا المباركة التي رُوِيت عن أئمّة الهدى عليهم السلام أيضاً بِنَحْوٍ لطيف. ولكن ليس بمستوى لطافة القرآن.
وكلُّ الذين استعملوا هذه المُصطلحات في ما بعد، سواءً فهموها أم لم يفهموها، أخذوها من القرآن والحديث.
ويُمكن أن لا يُصحِّحوا السَّنَد.
طبعاً قلائل هم الذين يمكنهم أن يَصِلوا إلى حقيقته. فضلاً عن الوصول إلى تَذَوُّق الرُّوح لها.
تَذَوُّق الرُّوح هذا، مسألة فوق هذه المسائل».

**


* كمال الإنقطاع، بعد الصَّعق، واندكاك جبل الوجود
«إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأَنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرِها إليك، حتّى تَخرق أبصارُ القلوب حُجُبَ النُّور فَتَصِل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلَّقة بِعِزِّ قدسك.
إلهي واجعلني مِمَّن ناديتَه فأجابك، ولاحظْتَه فَصَعِق لِجلالك، فناجيْتَه سرّاً وعَمِل لك جهراً
».
يقول الإمام:
«كمال الإنقطاع هذا خروجٌ من منزل النَّفْس والنفسانيّات وكلِّ شيء، وكلِّ شخص، والإلتحاق به عزَّ وجلَّ. والإنقطاع عن الغير. وهو هِبَة إلهيّة للأولياء الخلّص بعد الصَّعق الحاصل من الجلال التابع لِلَّحْظ: «ولاحظْتَه».
وأبصار القلوب ما لم تَستَنِر بضياء نظرها، فلن تَخرق حُجُب النُّور. وما دامت هذه الحُجُب باقية، فلا سبيل إلى معدن العَظَمة، ولن يُمكن للأرواح أن تتعلَّق بِعِزِّ القُدس، ولن تَحصل مرتبة التدلِّي: ﴿ثمّ دنا فتدلّى﴾ أو أدنى منها، الفناء المُطلَق والوصول المُطلَق.
نجوى السِّرّ من الحقِّ مع عبده الخاصّ لا تَتَحقَّق إلَّا بعد الصَّعق واندِكاك جبل الوجود. رَزَقنا اللهُ وإيّاك».

**

المناجاة الشعبانيّة
في نصِّ الإمام الخامنئي

 مناجاةٌ لا نَظير لها

إنَّ المناجاة الشعبانيّة المأثورة - والتي رُوِي أنَّ أهل البيت عليهم السلام كانوا يداومون عليها- هي أحد الأدعية التي لا يُمكن إيجاد نَظير لمعانيها العرفانيّة، ولسانها البليغ، ولمضامينها العالية جداً، المليئة بالمعارف الرَّفيعة، على الألْسنة الجارية وفي المحاورات العاديّة، بل ليس مُمكناً أصلاً أن تُنشأ بِمِثل تلك الألْسنة.
إنَّ هذه المناجاة، هي النَّموذَج الكامِل مِن تضرُّع أكثر عباد الله الصالحين قُرْباً واصْطِفاءً، بين يدَي معبوده ومَحبوبه، الذّات الرّبوبيّة المقدَّسة. إنّها مِن جهة درسٌ من المعارف، وهي أيضاً أُسوةٌ في كيفيَّة إظهار الحاجة وطلب الإنسان المؤمِن من الله.
    إنّ أدعِية شهر رجَبَ المبارَك، وأدعِية شهر شعبان المبارك -على الخصوص- هي مُقدِّمة لِتهيِئَة الإنسان وإعداده -وبما يَتناسب مع ما في قلبه- لِيذهب إلى ضيافة الله.
    إنّ المناجاة الشعبانيّة هي من أَرقى المناجَيات، وأَسمى المعارِف الإلهيّة، ومِن أَعظم الأُمور التي يَستطيع -مَن كان مِن أهلها- الإستفادة منها، وحَسَب إدْراكه.
    إنّ الأدعية التي وَرَد الحثُّ عليها في شهر رمضان المبارك وشهر شعبان، هي دليلنا نحو الهدف.
* أعزّائي! إنّ شهر رمضان على الأبواب، وبعد أيّام قَلائِل سَيَجلس المؤمنون -مَن لهم الجدارة لذلك- على مائدة الضيافة الإلهيّة. والصِّيامُ بِحَدِّ ذاته، والتوجُّه إلى الله تعالى، والأَذكار والأَدعِية التي غالباً ما تَسْتَهْوي الأفئدة وتَجْتذبها في هذا الشهر، جزءٌ من الضِّيافة الإلهيّة، فاغْتَنِموا هذه المائدة بأقصى مداها وأَعِدُّوا أنفسكم، فَشَهرا رجب وشعبان شهرا تأهُّب قلب الإنسان لِدخول شهر رمضان، ولم يبقَ من شهر شعبان إلَّا أيّام معدودات، فيا أعزّائي! ويا أبنائي!
أيّها الشباب الأعزّاء!
إغْتَنِموا هذه الأيّام القلائل، سَلُوا الله تعالى، ويَمِّمُوا قلوبَكم النقيّة نحوه وكلِّموه.
وليس مِن لُغة خاصّة للحديث مع الله جلَّ وعلا، غير أنّ أئمَّتنا المعصومين -الذين ارتَقُوا مراتِب القُرْبِ إلى الله واحدةً تلو الأُخرى- قد كلّموا الله بِألْسِنَة مُتميّزة وعلَّمونا سبيل التكلُّم مع الله سبحانه، فهذه المناجاة الشعبانيّة والأدعية الواردة في شهرَيْ رجب وشعبان بمضامينها الراقية، وهذه المعارف الرقيقة والنورانيّة والتعابير الرائعة الإعجازيّة، هذه كلّها وسيلة لنا لِغَرض الدعاء.
25 شعبان 1422هـ ـ كاشان   


حُجُب النُّور، والظَّلام


سألتُ إمامنا العظيم [الخميني] ذات مرّة: أيَّاً من الأدعية تُرجِّح؟ فذكر منها اثنين: أحدهما المناجاة الشعبانيّة، والآخر دعاء كميل. فهذان الدعاءان يحتويان على مضامين راقية.


* إنَّنا نَتعرّض للصَّدَأ والتَّلَف، فقُلوبنا وأرواحنا يَعتريها الصَّدَأ بِشكلٍ مُستمِرٍّ أثناء مواجهتنا لوقائع الحياة اليوميّة، ولا بدَّ مِن وَضْع هذا الصَّدَأ في الحُسبان وتلافيه بالطُّرُق الصحيحة، وإلَّا لَتَعرّض الإنسان لِلفَناء، فلربَّما يكون الإنسان قويّاً شديداً من الناحية الماديّة والظاهريّة، لكنَّه سَيَفْنى معنويّاً إن لم يَضع التعويض عن هذا التَّلف في الحُسبان.
**

هذه الأدعية ليس من شأنها القراءة فقط، أي ليس أن يَملأ الإنسان الأجواء بصوته ويتفوّه بهذه الكلمات فقط. هذه حالة قشريّة ليس لها شأْنٌ يُذكر؛ بل لا بُدّ أن تَتَناغم هذه المفاهيم مع الفؤاد ويَدخُل القلبُ رحابَها.
إنّ الغاية من هذه المفاهيم الراقية والمضامين البهيَّة بألفاظها الرائعة، هي أن تَستقرَّ في فؤاد الإنسان.
«إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك. وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك».
أي أللَّهمَّ اجعلني دائم الإتصال والإرتباط بك، وأَدخِلني في حريم عزّك وشأنك، وأَنِر بصيرة فؤادي بحيث تَقوى على النَّظر إليك
«حتّى تَخرق أبصارُ القلوب حُجُبَ النُّور»
فيَقدر بَصَري على اختراق الحُجُب النوارنيّة كافَّة ويَجتازها، حتّى يَصل إليك، لِيَراك ويَدعوك.
إنّ بعض الحُجُب حُجُبٌ ظُلمانيّة. الحُجُب التي نَتكبَّل بها نحن ونَقَع في أَسْرها ونَتشبّث بها -حِجاب الشُّهرة، حِجاب البطن، حِجاب الحَسَد، وحِجاب التمنّيات- إنَّما هي حُجُبٌ ظُلمانيّة وحيوانيّة، بَيْدَ أنّ ثمَّة حُجُباً أُخرى تَعترض الذين يَتخلّصون من هذه الحُجُب وهي الحُجُب النُّورانيّة، فانظروا كم هو سامٍ وراقٍ العُبور من هذه الحُجُب بالنسبة للإنسان. إنَّ أيّ شعب يأنس هذه المفاهيم، ويُورِدُ فؤادَه هذه الرِّحاب، ويُركِّزُ مسيرته وِفْق هذا الميزان، سَيَمضي قُدُماً وتَتصاغَر أمام عينيه الجبال.
وخلال برهة تاريخيّة، تبلوَرتْ لدى شبعنا مثل هذه الحالة فولّدت الثورة الإسلاميّة، فلا تَتصوّروا أنّ هذه الثورة كانت مُتوقّعة، كلَّا، فهي لم تَكن كذلك، وكانت على قَدَرٍ من العَظَمة، فلم يَكن مُتصوَّراً أن يستطيع شعب، وبأيدٍ عزلاء، القضاء على نظام متعفّن فاسد، -لكنّه مدعوم بشكل كامل من قِبَل القِوى الدوليّة الظالمة، ويُمارس الحُكم بأقصى الأساليب الإستبداديّة، وليس بمقدور أحد أن يَنبس بِبنْت شفة- ويُبدِّله بما يعتقد ويؤمن به، أي الإسلام، فلم يكن لِيَخطر بِبَال أكثر النَّاس –تفاؤلاً- إمكانيّة مثل هذا الأمر، بَيْدَ أنّ شعبنا أَنجَز هذه المهمّة.
لقد شَحَنَت المبادئ المعنويّة والأخلاقيّة والقِيَم الكُبرى هذا الشعب بقوّة، فلم يَستطِع معها أيُّ ضغط أو إملاء، أو تهديد أو حادث مُدبَّر، أن يُثنيه في منتصف الطريق ويوقفه؛ لذلك فقد سار الشعب حتّى النهاية.  
 

الدُّعاء، والحقائق العِلميَّة الخاصَّة

* يوجد في الأدعية المُوثَّقة الكثير من المعارِف التي لا يُمكن أن يَجدها الإنسان في مكان آخر، إلَّا في هذه الأدعية.
ومن جُملة هذه الأدعية، أدعية الصحيفة السجاديّة، وإنّ هناك بعض الحقائق العلميّة التي لا يُمكن أن نَعثر عليها أبداً إلَّا في الصحيفة السجاديّة أو في الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
وإنَّ هذه الحقائق العلميّة قد بانَت من خلال الدُّعاء، وكَوْن هذه الحقائق بانَت من خلال الدُّعاء لا يعني أنّ الأئمّة عليهم السلام أرادوا إخفاء هذه الحقائق، بلْ إنَّ طبيعة هذه الحقائق هي طبيعة لا يُمكن بيانها إلا بهذه اللُّغة، ولا يُمكن بيانها بلغة أخرى.
إنّ بعض المفاهيم يَتعذَّر بيانُها إلَّا من خلال لُغة الدُّعاء والتَّضرُّع والتَّحدُّث والنَّجوَى مع الباري عزَّ وجلَّ؛ ولهذا فإنَّنا لا نَجِد مثل هذه المعارف والمفاهيم في الروايات أو حتّى في نَهج البلاغة إلَّا قليلاً؛ أمّا في دعاء كُمَيْل، وفي المناجاة الشعبانيّة، وفي دعاء عَرَفة للإمام الحُسين عليه السلام، ودعاء الإمام السجَّاد، ودعاء أبي حمزة الثَّمالي، فإنّه يوجد الكثير من هذه المعارف.
لا تَغفَلوا عن الدُّعاء وتَوَجَّهوا إليه، فإنَّ مسؤوليَّتكم كبيرة؛ ولديكم أعداء ومخالفون كثيرون؛ وهذا هو شأن الحكومة الإسلاميّة في كلِّ زمان.
إنّ حكوماتنا الّتي شُكِّلت في بداية الثورة وبالخصوص الفَتيّة منها -مع أنَّها كانت تحمل الشعارات الصريحة والواضحة المُرتبطة بمبادئ الثورة أكثر ممَّا هي عليه اليوم- كان لها مُعارِضون كثيرون في الخارج وفي الداخل، يُثيرون الأجواء، ويُروِّجون الإشاعات، ويُنمِّقون السلبيّات، ويُلفِّقون الأكاذيب، وأحياناً يَقومون بالإخلال بالأمن في ساحة العمل، وفي الأعمال الميدانيّة.
وإنّ مواجهة هذه الأفاعيل يحتاج إلى مِقدار مِن العَزم والتَّصميم القاطِع، والجِديَّة في العمل، وعدم التقاعُس، والتَّمسُّك بمتابعة العمل، وكذلك يَحتاج إلى شيء من التوسُّل والتوجُّه والتضرُّع وطَلَب المَعُونة من الباري تعالى، وإذا ما طَلَبنا المعونة من الله وتَوَكَّلنا عليه، سَيَبْعث في أنفسنا رُوح التحمُّل.
إنَّ من النِّعَم الكبيرة التي يَهَبها الله تعالى هي أن لا يَعتَري الإنسان التعب، ولا تَنْتابه حالات المَلَل.
في بعض الأحيان يكون للإنسان القابليّة على تَحَمُّل التَّعب الجسدي، فلا تَتعب أعضاؤه؛ إلَّا أنَّه يُمكن أن يَطرَأ عليه التَّعب الرُّوحي في حَرَكته.
إنّ هذا التَّعب الرُّوحي يَمنع الإنسان من الوُصول إلى أهدافه. وللحيلولة دون وقوع التَّعب الرُّوحي -الذي يكون أَخطر من التَّعب الجِسمي أحياناً- لا بُدَّ من الإستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والإعتماد على المَعُونة الإلهيّة.
إعلموا بأنَّنا لن نكون أعزَّ على الله من الّذين سَبقونا والذين يَأتون مِن بعدنا، ما لم  تكن أعمالنا صالحة وأَكثر تقوى منهم؛ ولو أنَّنا التزَمْنا بالتَّقوى أَكثر، وراقَبْنا أنفسنا أكثر، وقُمنا بأعمالنا ووظائفنا بصورةٍ أفضل، واحتَرَمنا القانون، وبَذَلْنا ما في وسْعِنا من أجل تحقيق أهدافنا، سوف نكون أكثر عزّاً عند الله تعالى. أمّا مع عدم القيام بهذا، فهَيهَات أنْ نحصل على ذلك.
لا بُدَّ أن يكون سَعْيُنا مُنصبّاً على هذا الأمر. إحذروا من أن نَقَع في الفخِّ الذي وَقَع فيه غيرُنا.
 وأيّ شخص يَقَع في هذا الفخّ، سوف يُبتَلى بما ابتُلي به الآخرون، وسوف تكون عاقِبته كما كانت عواقبهم؛ ولهذا فسوف لا يكون هناك فَرْقاً بيننا وبينهم.         
5 شهر رمضان المبارك 1426 هـ ـ طهران




 

أوَّل الأمر، أن نُصلح أنفسنا


* .. جاء في إحدى الروايات: «إدفعوا أبواب البلايا بالإستغفار»، وجاء في قوله تعالى: ﴿...يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا...﴾، وشروط تَحَقُّق ذلك إنّما يكون بالإستغفار والتوبة، وطلبِ العَفْو من الله تعالى.
وجاء في رواية أخرى: «خير الدعاء الإستغفار»، وجاء في المناجاة الشعبانيّة: «إلهي ما أَظنّك تردّني في حاجة قد أفنيْتُ عمري في طلبها منك»، فما هي هذه الحاجة التي أَفنيتُ عمري في طلبها منك؟ إنّها طَلَب المغفرة والعَفْو الإلهي.
العَفْو الإلهي معناه: إصلاح ما ارتَكَبْناه من أخطاء، وجبران الآلام التي سَبَّبْناها لِأنفسنا وللآخرين.
فلو أنّ الإنسان صمّم على إصلاح الأخطاء والمفاسد، فإنّ طريق الله سيكون مُمهّداً أمامه، وعاقِبتُه ستكون عاقِبة حَسَنة.
إنّ الإشكال في عمل الإنسان هو الغَفْلة عن الذّنوب، وعن وُجوب الإصلاح والقيام بإصلاح النَّفس، إلَّا أنَّه لو زالت هذه الغفلة وتَحقَّقَتْ الإرادة والتصميم، فسوف تَنْصلح جميع أمور الإنسان.
علينا في أوّل الأمر أن نُصلح أنفسنا -وهي المرحلة الأولى التي تُعتَبر من أكبر الوظائف- وهذا هو الأساس؛ أي أنّ جميع الأعمال لا بُدَّ أن تكون مُقدِّمة لإصلاح النَّفس، وكَسْب رضى الله عنّا، قال تعالى: ﴿..عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ..﴾ المائدة:105. لا بُدَّ أن تكون أعمالنا وجميع مساعينا من أجل نَيْل رضى الله تعالى، والوُصول إلى الكمال الذي هو الهدف الأساسي من وجودنا، هذا من جهة.
أمّا بالنسبة إلى مسألة الإستغفار والإصلاح الإجتماعي -الذي يُعتبَر من أكثر مصاديق الإستغفار تأثيراً على حياة الإنسان، بل هو المفهوم والمحتوى والمضمون الواقعي للإستغفار- فيجب علينا أن نَقوم بإصلاح مسيرتنا وهدفِنا الإجتماعي على قدر ما نَستطيع، وعلينا أن لا نَعتبر هذا الأمر أمراً صعباً، فمن خلال الإرادة يمكن أن تُذلَّّل الصُّعوبات.
لقد كنّا نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي في هذه اللّيالي: «وأنّ الرَّاحل إليك قريب المسافة». إنّ أهم الأمور هو الإرادة، والإقدام، وشَحْذ الهِمَم. «وأنّك لا تَحتَجِب عن خَلقِك إلَّا أن تَحجبهم الأعمالُ دونك».
إنّ الطريق إلى الله قريب المسافة، وإذا ما وُفِّقنا، فإنّ توفيقنا هو دلالةٌ على رحمة الله تعالى. إذا استَطعتُم أن تستغفروا من أعماق قلوبكم وتُصلحوا أعمالكم، فسوف يَشملكم الباري برعايته، ويقرّبكم ويحبِّبُكم إليه.
إنّ الله تعالى يَنْسب التَّوْبة في القرآن الكريم إلى ذاته المقدَّسة في كثير من الآيات المباركة، كما في قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ..﴾ التوبة:118.
فما هو معنى التوبة؟ التوبة تعني: الإلتفات والإنابة، وبِسببها يَرعاكم الله تعالى بعطفه، من أجل أن تَميل قلوبكم إليه.
إذا لم يحصل التَّعلُّّق من قِبَل المعشوق    فمهما سَعَى العاشق، فلا يَصِل إلى غايته   [مضمون بيت شعر بالفارسيّة]
وجاء في دعاء أبي حمزة الثمالي أيضاً: «مَعْرِفَتِي يَا مَوْلاىَ دَلِيلِي عَلَيْكَ، وحُبِّي لَكَ شَفِيِعِي إِلَيْكَ، وَأَنا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي بِدَلالَتِكَ وَساكِنٌ مِنْ شَفِيعِي إِلى شَفاعَتِكَ».
إذا رَأيْتم أيادي الشباب وهي تُرفع إلى السماء في شهر رمضان المبارك داخل المساجد، وصوت «ألْعَفْو» يدوّي من الحاضرين، إعلموا أنّ الله تعالى يَرعى هذا الشَّعب، ويَعطف عليه، لأنّه يُريد أن يُرسل رحمته ولطفه. «أللّهُمَّ إنّي أسألُك مُوجِباتِ رحمتك»، يريد الله تعالى أن يشمل برحمته ولُطفه هذا الشعب.
26 شهر رمضان المبارك 1426هـ ـ طهران.


 

الأدعية بحرُ المعارِف الإسلاميّة


* الأدعية المأثورة عن الأئمّة هي بحرٌ من المعارف الإسلاميّة، فلا شيءَ يَحوي من المعارف أكثر ممّا في الأدعية، وهذه نتيجة استنتاجي الإجمالي من الأدعية، طبعاً مَن رَغِب في الوصول إلى النتيجة القطعيّة فعليه أن يتتبّع كلّ رواية على حِدة، ولكنّي أَحتمِل أنّه لو جُمِعَت كلُّ الروايات حول المعارف، فإنّها لا تكون بمقدار المعارف الواردة في الأدعية.


المعارف الإسلاميّة في أدعية الصحيفة السجاديّة، ودعاء أبي حمزة الثمالي، والمناجَيات المتعدِّدة المأثورة عن الأئمّة، والمناجاة الشعبانيّة، ودعاء كميل كثيرة جدّاً، وخصوصاً في الصحيفة السجاديّة، فإنّ كلّ دعاء فيها هو كتابٌ للمعارف الإلهيّة في الموضوعات المختلفة.
فَهْمُ الأدعية يجعل الإنسان على معرفة بالإسلام، وبالمعارف الإسلاميّة، ويُبعده عن الخُرافات.
لأنّ أهل الخُرافة -غالباً- هم أُناسٌ بعيدون عن الأدعية والمعارف الحقيقيّة، فالتأمُّل والتدبُّر في الأدعية يُرشدنا إلى ما يجب الإعتقاد والإيمان به، وما يَجب ردُّه.
1 شهر رمضان المبارك 1414 ﻫ ـ طهران

**

دعاء كميل والمناجاة الشعبانيَّة

* هناك قصصٌ متنوِّعة عن عبادة أمير المؤمنين، مثل قصة نَوْفِ البَِكَالي، وهذه الصحيفة العلويّة التي جمعها أكابر العلماء تُظْهرالأدعية المأثورة عن أمير المؤمنين، وأحدها هو دعاء كميل، الذي تقرأونه ليالي الجمعة.
في أحد الايام سألتُ إمامنا الراحل: أيّ دعاء من الأدعية الموجودة أحبّ إليك؟ تَأمَّلَ قليلاً، وقال: أحبُّها إليَّ دعاءان، هما دعاء كميل، والمناجاة الشعبانيّة.
ويحتمل أنّ المناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين، لأنّ هناك رواية تشير إلى أنّ جميع الأئمّة قرأوا هذه المناجاة.
وهذا ما جعلني أَحتمِل بقوّة أنّها لأمير المؤمنين، لأنّ كلماتها ومضامينها تشبه كلمات ومضامين دعاء كميل.
 

تأمُّلاتٌ في مُفتَتح المناجاة الشعبانيّة

هذه وقفات تأمُّل، على أعتاب مُفتَتَح أعظم مناجَيات الأئمّة عليهم السلام. خصوصاً كنوز «إذا دعوتُك» و«أقبلْ عليَّ» و«ملحمة» «تراني»!!
             وكلُّ الصَّيد في جوف الفَرا
تشمَلُ الوقفات: خارطة السَّفر بهذه المناجاة. مُفْتَتَح  المناجاة الشعبانية. دعاءً مرويّاً عن الإمام السجَّاد عليه السلام، يشرح مُفْتَتَح الشعبانيّة. محاولةُ استظلالٍ بهذا المفتتح. وللشَّرح أهلُه.

تتلخَّص خارطة السَّفر إلى الله بالمناجاة الشعبانيّة في اليقظة من سُبات العقل، والنَّوم المُقيم، لِيَكتشف العقل بُعده الذي هو الضلال القريب أو البعيد. فَيَلجأ إلى التَّوبة، فالأَوْبة. يدعو، فيَتنبَّه إلى الفَرْق بين حقيقة الدُّعاء والجَوْهر. ما كلُّ مَن دَعا دَعا. فيُنادي مُلتَمِساً القَبول، فالإقبال، متدرِّجاً في واقعيَّة مراتبه: محاورة. محاضرة. مسارّة. مناجاة، وهي -المناجاة- ثرى «ناجيتُه» وما فوق ثريّا: «ناجَيْتَه».
وما بين الثُّريّا والثَّرى يَطلب المسافر التَّحليق من مَدار اللَّحْظ، إلى مجرَّة «عِزِّ نورك الأبهج» .. «حَتَّى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصِيرَ أرْواحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ»، مدخلاً -بدوره- إلى نور العزِّ الأبهج لتكتمل دورة العارف.
لا تَكتمِل هذه الدورة بكلِّ مداراتها الأعظم إلَّا بمدارج ما بين شكل الدعاء «إذا دعوتُك» وبين بَرد القلب بقبول الهارب ثمّ الإقبال عليه، ليرتسم أُفُقُ «ناجيتُك»، تمهيداً للإيقاظ بمحبَّته وتطهير القلب من الغفلة عنه سبحانه، فيكتمل التَّنَصُّل، ويُؤذَن بالطَّلَب الأكبر:
«يا قَريباً لا يَبْعُدُ عَنِ المُغْتَرِّ بِهِ، وَيا جَواداً لا يَبْخَلُ عَمَّنْ رَجَا ثَواَبَهُ، إلَهي هَبْ لِي قَلْباً يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ، وَلِسَاناً يُرفَعُ إلَيْكَ صِدْقُهُ، وَنَظَراً يُقَرِّبُهُ مِنْكَ حَقُّهُ».
القلب –غدا- غَيْر القلب، واللِّسان والنَّظَر من معدن هذا القلب الجديد.
أَصبحَ بالإمكان، ومن المنطقي، طَلَب «الوَلَه بالذِّكر» ليرفع منسوب الذِّكر بإعجاز، فيلحق الدَّاعي بـ «المَثْوَى الصَّالحِِ مِنْ مَرْضَاتِك» مدخلاً إلى «كَمَالِ الإنقطاعِ إليك».
من محطّة «كمال الإنقطاع» يَستأنِف المسافِر وثباتِه إلى الفردَوْس الأعلى بسفينة أهل كمال الإنقطاع، أهل البيت، وربِّ البيت. سفينة الحبّ وهو وِسامُ التأهيل للإنقطاع التامّ، فإذا اللّغة غير كلِّ اللّغات: «أبصار القلوب» و«النَّظر إليك» و«خَرْق حُجُب النُّور»، و«معدن العَظَمة، واللَّحْظ» و«الصَّعْق» وصولاً إلى فرادة إعجاز «فناجيتَه سرّاً»!!
العارِفُ مُسافِرٌ يُغِذُّ السَّير بين محطَّتَين: الإنحراف عن الحقّ، والإنحراف عمّا سوى الحقّ: «وعن سواكَ مُنحرِفاً، فأكونَ لك عارفاً».
لا سَفَر، ولا وُصولَ، ولا معرفة، إلَّا بِحِفظ حدود الله تعالى. الأحكامِ الشرعيّة. في كلّ جزئيٍّ وكُلِّي.
**
سيتّضحُ أنّ مفتتحَ المناجاة الشعبانيّة، يصلُ الختامَ بالمطلع. لأمرٍ ما أرسلَ سيّد السَّاجدين شرحَه العامَ إلى الأجيال.
**
المُفْتَتَحُ:

أللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، واسْمَعْ دُعائِي إذا دَعَوْتُكَ واسْمَعْ نِدائِي إذا نادَيْتُكَ، وأَقْبِلْ عَليَّ إذا ناجَيْتُكَ، فَقَدْ هَرَبْتُ إلَيْكَ، ووَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ مُسْتَكيناً لَكَ مُتَضَرِّعاً إلَيْكَ، راجِياً لِمَا لَدَيْكَ، (تراني) وتَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وتَخْبُرُ حَاجَتِي وَتَعْرِفُ ضَميرِي، وَلا يَخْفَى عَلَيْكَ أمْرُ مُنْقَلَبِي ومَثْوايَ، وَمَا أُرِيدُ أنْ أُبْدِئَ بِهِ مِنْ مَنْطِقي، وَأتَفَوَّهَ بِهِ مِنْ طَلِبَتِي، وأَرْجُوهُ لِعَاقِبَتي (لعافيتي)، وَقَدْ جَرَتْ مَقَادِيرُكَ عَلَيَّ يا سَيِّدِي فِي مَا يَكُونُ مِنِّي إلى آخِرِ عُمْرِي، مِنْ سَريرَتِي وَعَلانِيَتِي، وَبِيَدِكَ لا بِيَدِ غَيْرِكَ زِيَادَتِي وَنَقْصِي، وَنَفْعِي وَضرِّي.

**

أورد في (البحار) نقلاً عن (مصباح المُتهجّد) و(جمال الأسبوع) و(البلد الأمين)، وأورد السيّد الأبطحي في (الصحيفة)، تحت رقم (249) دعاءً للإمام السجّاد عليه السلام في عمل يوم الجمعة بعد صلاة العصر أوَّلُه: أللهمَّ إنَّك أَنْهَجْتَ سُبُلَ الدَّلالةِ عليكَ بأعلام الهِداية. وردتْ فيه عدَّة أسطر تصلح أن تكون تفسيراً للفقرات التي تُفتتَحُ بها المناجاة الشَّعبانية.. وضابطاً لبعض مفرداتها، هذه الأسطر هي قوله عليه السلام:
«أللّهمّ فارْحَمْ نِدائي إذا ناديتُك، وأقبِلْ عليَّ إذا ناجيتُك، فإنّي أعترفُ لك بذنوبي وأَذْكُرُ لك حاجتي، وأشكو إليك مَسكنتي وفاقتي، وقسوةَ قلبي، ومَيْلَ نفْسي، فإنَّك قلت: فما استكانوا لربِّهم وما يتضرَّعون. وها أنا ذا يا إلهي قد استجرتُ بك، وقعدتُ بين يديك مُستكيناً متضرِّعاً إليك، راجياً لما عندك، تراني وتعلمُ ما في نفسي وتسمعُ كلامي، وتعرفُ حاجتي، ومَسكنتي، وحالي، ومُنقلبي ومثواي، وما أريد أن أبتديء به من منطقي، والذي أرجو منك في عاقبة أمري، وأنت مُحصٍ لما أريد التفوُّهَ به من مقالي.. جَرَتْ مقاديرُك عليّ يا سيِّدي وما يكون منّي في سريرتي وعلانيتي، وأنت متمِّمٌ ما أخذتَ عليه ميثاقي، وبِيَدك لا بِيَد غيرك زيادتي ونقصاني، وأحقُّ ما أقدِّم إليك قبل الذِّكر لحاجتي، والتفوّه بِطَلِبتي شهادتي بوحدانيّتك، وإقراري بربوبيّتك التي ضلَّت عنها الآراءُ وتاهت فيها العقول..»  (بحار الأنوار: 87/ 79) ** 



 
محاولة التعرُّف، والاستظلال


*أللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ

قال في (رياض السالكين): «معنى الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله تعظيمُه في الدُّنيا بإعلاء كلمته وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بمضاعفة مَثوبته والزِّيادة في رَفْع درجته. قيل: وغاية الدُّعاء بذلك عائدة إلى المُصلِّي لأنَّ الله تعالى قد أعطاه من إعلاء الكلمة، وعلوِّ الدرجة، ورَفْع المنزِلة، ما لا يؤثِّر فيه صلاةُ مُصَلٍّ ولا دُعاءُ داعٍ. وقيل: بل غايته طلب زيادة كماله عليه السلام وقُرْبه من الله تعالى، إذ مراتب إستحقاق نِعَم الله عزَّ وجلَّ غير متناهية».

- حُكم الصلاة عليه صلّى الله عله وآله
أضاف: «الصلاة عليه في غير الصلاة وعند عدم ذكره مستحبَّة عند جميع أهل الإسلام. ولا يُعرَف مَن قال بوجوبها غير الكرخي، فإنَّه أوجبها في العُمر مرّةً كما في الشَّهادتَين.
وأمّا في الصلاة فأَجمع علماؤنا رضي الله عنهم على وجوبها في التَّشهُّدَيْن معاً. وقال الشافعي: هي مُستحبّة في الأوّل، واجبة في الثاني. وقال أبو حنيفة ومالك: مُستحبَّة فيهما معاً».
وأمّا عند ذِكره صلّى الله عليه وآله فظاهر كثير من الأخبار، كقوله صلّى الله عليه وآله: «مَن ذُكِرتُ عنده ولم يُصلِّ عليَّ دخل النار، ومَن ذُكِرتُ عنده فَنَسِيَ الصلاة عليَّ خُطيء به طريق الجنَّة». وقوله: «مَن ذُكِرتُ عنده ولم يُصلِّ عليَّ فأَبعدَهُ الله»، أنَّها تَجِب كلَّما ذُكر وكلَّما سُمِع ذِكرُه، لأنَّ الوعيد إمارة الوجوب. وهو مختار إبن بابويه والمقداد من أصحابنا، والطحاوي من العامّة..
قال الزمخشري: وهو الذي يَقتضيه الإحتياط، ومنهم مَن أَوجبَها في العُمر مرّة. وقال المحقِّق الأردبيلي: ولا شكّ أنّ احتياط الزمخشري أحوط. وإن صلّى ثمّ ذُكِر، وَجَب أيضاً.
إلى أن يقول في (رياض السالكين): والأَولى الوُجوب عند كلِّ ذِكْر، للأخبار الكثيرة الصريحة بالأمر بها كُلّما ذُكِر صلّى الله عليه وآله.
ثمّ نقل عن العلماء قولهم: والسِّرُّ في قبول الدُّعاء إذا اقترن بالصلاة أمران:
الأوّل: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وآلَه عليهم السلام وَسائط بين الله سبحانه وبين عباده في قضاء حوائجهم ونَجاح مطالبهم، وهُم أبواب معرفته عزَّ وجلَّ، فلا بُدَّ من التَّوسُّل بِذِكرهم في عَرض الدُّعاء عليه.
الثاني: إذا ضَمّ العَبْد الصلاة مع دعائه، وعَرَض المجموع على الله تعالى، والصلاة غير مَحجوبة فالدُّعاء غير مَحجوب، لأنّه تعالى أَكرم مِن أنْ يَقبل الصلاة ويَردُّ الدُّعاء، ولا يُمكن أن يَردَّ الجميع، لِكرامته صلّى الله عليه وآله، فلم يبقَ إلَّا قبول الكُلّ وهو المطلوب.
ثمّ أورد روايات منها:
 عنه صلّى الله عليه وآله: «مَن صلّى على محمّدٍ وآل محمّدٍ عشراً صلّى الله عليه وملائكته ألفاً، أمَا تَسمع قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿هو الذي يصلّي عليكم وملائكتُه ليُخرجكم من الظلمات إلى النُّور وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً﴾ الأحزاب:43».

***


*واسمَع دُعائي

يا سَميعَ الدُّعاء، يا مَن يَملك السَّمع والأبصار، يا مَن أَحصى كلَّ شيءٍ عِلماً: إسمع دعائي!
ليس سَمْع الخالِق وسَمْع المخلوق سواء.
قال في (المفردات): «وإذا وصفتَ الله تعالى بالسَّمْع فالمراد به عِلمُه بالمَسموعات..».
وقال: «السَّمْع، يعبَّر به تارةً عن الفهم. وتارة عن الطَّاعة».
والمُراد بالطاعة إجابة للطَّلَب، فالطاعة هي الإجابة إلَّا أنَّها من الدَّاني للعالي طاعة. ومن العالي للدَّاني رضىً، وقَبول.
ونُدرك بالوجدان أنَّ مَن يَتَحدَّث مع شخصٍ قد عتِب عليه، أو غضب، لأخطاء صَدَرَت منه، وهو يُحاول فَتْح صفحة جديدة معه، فإنَّما يعني بذلك:
1- أن يتجاوز ما صدر منه فلا يجعله سبباً لِطَرده، فيَسمح له بالمُثول بين يديه وعَرْض وجهة نظره، وإنْ كان بها عالِماً.
2- أن لا يُعرِض بوجهه عنه، إنْ كان في مجلسه، ويعامله كما لو أنّه يَستمع إليه ويُصغي.
3- أن يَستجيب له، ويَرضى عنه، ولا يُؤاخذه بِما صَدر منه.
«واسمع دعائي» تعني –إذاً– إرْضَ عنِي، واقبَلني.

***


* إذا دعوتُك

قال السيّد الطباطبائي في معرض تفسير الآية ﴿والله يدعو إلى دار السلام﴾ يونس:25:
«الدعاء والدعوة، عَطْفُ نظرِ المَدعوّ إلى ما يُدعى إليه، وجلبُ توجُّهِه، وهو أعمُّ من النِّداء، فإنَّ النِّداء يختصّ بباب اللّفظ والصوت، والدُّعاء يكون باللّفظ والإشارة وغيرهما، والنِّداء إنَّما يكون بالجَهْر ولا يُقيّد به الدعاء». (الميزان 10/38).
ليس كلُّ دعاءٍ نداءً، النِّداء لَفْظ، وقد يَتَحَّقق الدُّعاء ولا نداء، كما هو الحال في الإشارة مثلاً.
هذا عن الدُّعاء الشَّكل، والقالب، والظَّاهِر. حقيقة الدُّعاء واللبُّ، حديثٌ مُغايِر.  قد تَكتمِل كلّ شروط الظاهر ولا محتوىً، وحقيقة.
لَئِن لم يَكُنْ هذا جليّاً في «إذا دعوتُك» فهو في الظُّهور الغاية في الآية: ﴿إذا دعانِ﴾!!
قد تقول للرسول: إذا سألك عنّي فلان، وأنت تعرف أنه لن يسأل.
وقد تقول له ذلك وأنتَ تَحتمِل أنّّه سَيَسأل، أو تَجزم.
وأنتَ في جميع الأحوال تُريد استصلاحه.
من أيِّ الحالات هي: ﴿وإذا سألَكَ عبادي عنّي، فإنّي قريب..﴾ البقرة:186.
لِنَعرف من أيِّ الحالات هي: ﴿..إذا دعانِ..﴾؟!
ومِن أيِّها: «إذا دَعَوْتُك»؟؟؟
قال المرسِل للرَّسول: ﴿وإذا سألك عبادي عني، فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان..﴾ البقرة:186.
وقال أمير المؤمنين وردَّد سائر الأئمّة مِن بَنِيه: «إذا دعَوْتُك». والقرآنُ اللِّسانُ، واللُّغة، والمنطق.
﴿..إذا دعانِ..﴾ تَنْضَحُ بالصَّفْح الجميل، وعِتاب الحبيب، والدَّعوة إلى الضيافة. إنَّها في ثنايا آيات الصَّوْم.
«إذا دعوتُك» تشير إليها، بل منها تَصدر. تَتمازج فيها أمواج ثلاثيّة التواضع: إخراج النفس من حدِّ التقصير، فضلاً عن استكثار العمل، ثمّ عن الإدلال به. هي من وادي: فكَم أتوب وكَم أعود. وما أنا يا ربِّ وما خَطَري. عَظُم يا سيِّدي أَمَلي، وسَاءَ عملي. متنجِّزٌ لِمَا وَعدْتَ.
ليس الغالب عليها الشَّرط. وهل يَشترط العبد على سيِّده؟ إنَّما هو الإصحار بالإقامة على الهَجر: وما أنا وما دعائي، وهل يَتَحقَّق منِّي الدعاء. إذا وفَّقتَني وتَحَقَّق، فاسمَع يا ربِّ دعائي. رضاك. رضاك.
وفي الإنتقال من الدُّعاء إلى النِّداء توكيد هذه الدلالة. في الدُّعاء دعوى القُرْب التي عالَجَها الإقرار بالبُعْد. وفي النِّداء صرخة هذا الإقرار.

* واسْمَعْ نِدائِي

ليس الإستماع لِلقَريب والبعيد سواء. في الثاني عناية من السامع تُعادل -عادة- بُعدَ من يَطلب الإصغاء إليه.
في طلب استماع الدُّعاء قربٌ، سرعان ما يتنبَّه الداعي، إلى أنَّه ادّعاء. فينتقل إلى النِّداء، ولسان الحال:
والراحل نَحوك يا ربِّ قريبٌ منك، لأنَّك لا تَحتجِب عن خلقِك إلَّا أن تَحْجبهم الأعمال السَّيئة دونك، وإنِّي لِنفسي لَظَلوم، وبِعذري لَجَهُول، إلَّا أن تَرحَمني وتَعود بِحِلمك عليَّ، وتَدْرَأ عقابك، وتَلحظني بالعين التي هَدَيْتَني بها من حيرة الشك، ورَفَعْتَني بها من هُوَّة الجهل، ونَعَشْتَني بها من فِتنة الضَّلالة.

*إذا ناديتُك

النداء في اللُّغة: رَفْع الصَّوت وظهوره، ويَشهد العرف بأنَّ رَفْع الصَّوت طبيعي في موردَين:
الأوّل: البُعد المادِّي بين المُنادي ومَن يناديه (المُنادَى).
والثاني: البُعد المعنوي ومن أقسامه ما يَنتج عن خطرٍ داهِم، فيجعل الشخص يُنادي حتّى مَن هو قريب منه. إلَّا أنَّه في الحقيقة بعيدٌ بُعداً معنوياً، وهو الأهمّ، والأشدّ.
في ضوء ذلك، يُسَوِّغ النِّداءَ لله تعالى من الدّاعي -رغم أنّه سبحانه أقرب من حبل الوريد- الخطرُ الدَّاهم الذي يَجِد المُنادي نفسه في قلب أَتُونه المُضطَرم، حين يَستيقظ من الغفلة المُطبقة عن هذا القُرب، فيُحاول الكلام معه سبحانه، فإذا به لا يَستشعِر خفقة القلب بِمُحاورة، فيُدرِك أنَّه مُفْرطٌ في البُعْد عَمَّن هو أقرب من كلِّ قريب.
يتلمَّس القلبُ أنَّه خالي الوفاض، فلا النِّداء في الحقيقة نداء، ولا المُنادي أهلٌ للجواب. يُلِحُّ ويَجأر، ويَستغيث ويَتأوَّه، ويَنتحِب ويَنشِج: «.. وإنْ أَوْحَشَ ما بيني وبينك فرْطُ العصيان، فقد آنسني بُشْرى الغُفران والرِّضوان».
«..أللّهُمَّ لا تُخْلِنِي من يدك، ولا تتركْني لُقَىً (أي: شيئاً ملقَىً)  لعدوِّك، ولا تُوحشني من لطائفك الخفيَّة، وكِفايتِك الجميلة، وإن شرَدْتُ عليك فارْدُدْنِي إليك، فإنَّك تَرُدُّ الشارد، وتُصلح الفاسد، وأنت على كلّ شيءٍ قدير».

**

*وأَقْبِل عليَّ

الإقبال في اللُّغة: التَّوجُّه، وهو نقيض الإدْبار.
والإقبالُ مِن كُلٍّ بِحَسَبِه.
هو من الفقير طَلَب. ومن الغنيّ عطاء. ومن اللّئيم مُخاصمة وانتِقام. ومن الكريم تفقُّد وإكرام.
إقبال العبد: تَنَبُّهٌ، وجُهوزيّةٌ، وإتقان. وإقبال المولى: إختصاص، وتكليف، وتلطُّف.
والإختصاص حبٌّ وثقة. والتكليف حبٌّ وتشريف. والتَّلَطُّفُ حبٌّ وتخفيف.
والتشريف على قدر الثِّقة. وعلى قدرها -أيضاً- يكون التَّلطُّف والتَّخفيف.
والتَّلطُّف ظاهرٌ وباطِن. يَتوافقان ويَتخالفان. و«ما رأيتُ إلَّا جميلاً»
نهاية التَّلطُّف ذُروة الإختصاص ﴿يختصُّ برحمته من يشاء﴾، ﴿عند ربِّهم يُرزقون﴾.

- في المناجاة الشعبانيّة:
«إلهي هَبْ لي قلباً يُدنيه منك شوقُه، ولساناً يُرفَعُ إليك صدقُه، ونظراً يُقَرِّبُه منك حقُّه. إلهي إنَّ مَنْ تَعَرَّف بك غيرُ مجهول، ومن لاذَ بك غيرُ مخذول، ومن أَقْبَلْتَ عليه غير مَمْلُول. إلهي إنَّ مَن انْتَهَجَ بك لَمُسْتَنِير، وإنَّ مَن اعتَصَمَ بك لََُمستجير، وقد لُذْتُ بك يا سيِّدي فلا تخيِّب ظَنِّي من رحمتك، ولا تَحْجُبْنِي عن رأفتك».
- وفي الدُّعاء:
«أللَّهمَّ فامْسَحْ ما بي بِيَمينك الشَّافية، وانظُر إليَّ بِعينك الرّاحمة، وأَقْبِلْ عليّ بوجهك ذي الجلال والإكرام، فإنَّك إذا أَقبلتَ به على أسيرٍ فَكَكْتَه، وعلى ضالٍّ هديْتَه، وعلى حائرٍ آويْتَه، وعلى ضعيفٍ قَوَّيْتَه، وعلى فقير أَغنَيْتَه».

***


*إذا ناجَيْتُك

النَّجْوَةُ والنَّجاة: المكان المرتفِع. وناجيْتُه أيْ سارَرْتُه. وأصله «النجوى»: أن تخلو به في نَجْوَةٍ من الأرض. وقيل: أصله من النَّجاة وهو أن تُعاوِنه على ما فيه خلاصه. أو أن تَنجو بِسِرِّك من أن يُطَّلَعَ عليه. وانتجَيْتُ فلاناً إستخلَصْتُه لِسِرِّي. (مفردات الراغب/ بتصرف)
بالقُرب إذاً تتقوَّم المناجاة. كما يتقوّم النِّداء بالبُعد.
هنا تتّضح المقابلة بين ناديتُك وناجيتُك.
والمقوّم الآخر للمناجاة هو السِّرّ، الذي يُحاذر المرء أن يُطَّلع عليه.
كلُّ سرٍّ بِحَسَب صاحبه. السِّرُّ من العَبد لِلمَولى، بلاغ  أو طَلَب. ألبلاغ، إنجاز مهمَّة. والطَّلب شفاعة العَبْد لنفسه، أو لغيره.
والسِّرُّ من المَوْلى قبولٌ وإقبالٌ ونجوى. 

***


- في سيرة المَوْلى أمير المؤمنين عليه السلام:
فكان ممّا به الله ناجى، أن قال: إلهي، أُفكِّر في عَفْوِك فَتَهُونُ عليَّ خطيئتي ثمَّ أَذكُر العظيم من أخْذِك، فَتَعْظُمُ عليّ بليَّتي، آهٍ إنْ أنا قرأتُ في الصُّحف سيِّئةً أنا ناسيها، وأنت مُحصيها، فتقول خُذوه. فَيا لَه مِنْ مأخوذٍ لا تُنجيه عشيرتُه، ولا تَنفَعُهُ قبيلتُه.
والمناجاة الشعبانيّة أفضل نموذج، لِمَا تكونه المناجاة.

***


*فقد هربْتُ إليْك

الهروب طلبٌ، وخوفٌ، وعجزٌ، مع أمَل بالنَّجاة.
ومَن إليه المَهْرَب -في الأصل- غير مَن كان الهَرَب منه.
وقد يتَّحِدان فيكون الهروب إلى مَن كان السببَ فيه. ذلك، عندما ينحصر الأمل بالنَّجاة بِمَن كان منه المَهْرَب. وهو في الحقيقة استسلام، والإستسلام توبةٌ، واستغاثةٌ، وطَلَب الصَّفْح. وهو معنى الهروب إلى الله تعالى.
الإستسلام، وَضْعُ حدٍّ للأنا، وتعويل ٌعلى شمائل المُستسلَم له.
- في الدعاء: هربتُ منك. وفيه: هربتُ من ذنوبي، والمعنى في الحالين: من فرط ذنوبي، هربْتُ منك إليك.

***

- في (مصباح المتهجِّد):
يا أجودَ مَسؤول، هربْتُ إليك بنفسي-يا ملجأ الهاربين- بأثقال الذُّنوب أَحملُها على ظهري، ولا أَجِدُ لي إليكَ شافِعاً، سوى معرفتي أنَّك أَقرب من لَجَأ إليه المضطّرون، وأمَّل لديه الرَّاغبون.

***


- عن الإمام الصادق عليه السلام:
«إذا قُمتَ إلى الصلاة مُستقبِل القبلة، فَكَبِّر وقُلْ: أللَّهمَّ إنِّي عبدك وابن عبدَيْك، هاربٌ منك إليك، أَتيتُكَ وافداً إليك، تائباً من ذنوبي إليك، زائراً لك، وحقُّ الزائر على المَزُور التُّحْفَة، فاجعل تُحفتي مِنْك، وتُحفتَك لي رِضاك والجنَّة».

***

- إيَّاكُم والكذب
قد يَقرأ هذه الفقرة «فقد هربْتُ إليك» مَن لا يَعيش مَعناها، فليَحذَر أن يَكذب بادِّعاء الخَوْف والهَرَب، وليس كذلك.
كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «إيَّاكم والكذب، فإنَّ كلَّ راجٍ طالب، وكلَّ خائفٍ هارب».
 قال في (البحار): أراد عليه السلام: لا تَكذبوا في ادِّعائكم الرجاء والخوف من الله تعالى.
علامة الصِّدق في ادِّعاء الهَرَب، هو الخَوْف: كلّ خائفٍ هارب. شرط أن يكون هذا الخوف حقيقة وليس مجرَّد شكل. نقداً لا دَيْناً، كما يَصفه أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه عن الخوف الكاذب: «إنْ هو خافَ عبداً من عبيده، أعطاهُ من خَوْفه ما لا يُعطي ربَّه، فَجَعَل خَوْفَهُ من العِباد نَقْداً، وخَوْفَهُ من خالِقِه ضماراً، ووَعْداً».
والضّمار: الوعد الذي لا تثق به.
ينبغي تكرار الفقرة بلسان صاحبها، مع التفكير بالمعنى لتحصل من ذلك حالة، فتُقرأ بقصد معناها.


*****

*ووَقفْتُ بين يديك
ليس كلُّ هاربٍ إلى شخص يَصِل، فقد يُؤخذ في الطريق.
أمّا الهارب إلى الله تعالى، فإنَّه يَصِل.
بل كلُّ هارب إليه يلتجيء، فهو مَلاذ الهاربين، وربُّ المستضعفين. لا ملاذ سواه.. ولا مَنجى غيره، ولا مُغيث إلَّا هو.
- في الدعاء:
«يا مَن كلُّ هاربٍ إليه يلتجيء، لا إله إلَّا أنت حِصْنُ كلِّ هارب، وعزُّ كلِّ مظلوم».
«مَوْضع كلِّ شكوى، وحاضر كلِّ مَلأ، ومُنتهى كلِّ حاجة، وفرَحُ كلِّ حزين، وغِنى كلِّ مسكين، وحِصْنُ كلِّ هارب، وأمانُ كلِّ خائف. حِرْزُ الضعفاء، كنزُ الفقراء، مُفرِّج الغمَّاء، مُعين الصالحين ذلك الله ربّنا لا إله إلَّا هو».

**


- عندما يصلُ الهارب

يتوقّف النَجاح في الوقوف بين يَدَيْ مَن إليه المهرب -عادةً– على أمور:
1- حُسْن عرض المشكلة (الإقناع بالمساعدة).
2- حُسْن التذلُّل والإستكانة (إستثارة الحميّة).
3-  حُسْن المدح والإطراء (إستثارة النَّخوة).
أمّا في الوقوف بين يدي الله تعالى، فإنّ النجاحَ  رهْنُ الصّدق. والصّدقُ في الهروب يعني عدم التمثيل. وهو حالتان: سوء ظنٍّ بالنفس الأمّارة، يُنتِج إقراراً بالمعصية، والإعتماد على حُسْن الظنِّ به عزَّ وجلَّ. ويتلازم مع الإعتراف بالتذلُّل والعجز.
وفي هذا المقطع من دعاء السَّحَر دلالة بليغة على ذلك:

وفي هذا المقطع من دعاء السَّحَر دلالة بليغة على ذلك:
«وَأَنا يا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ، هارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ، مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً، وَما أَنا يا رَبِّ وَما خَطَرِي، هَبْنِي بَفَضْلِكَ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ، أَيْ رَبِّ جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ».

***


*مُستكيناً لك

الإستكانة هي الخضوع، والتذلُّل.
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «رَفْعُ اليدين من الإستكانة، قلت: وما الإستكانة؟ قال: أمَا تقرأ هذه الآية: ﴿فما استكانوا لربِّهم وما يتضرَّعون﴾ المؤمنون:76».
عن الإمام الرضا عليه السلام: «واستَعْبَدَ خلقَه عند الدعاء والطَّلب والتضرُّع، بِبَسْطِ الأيدي ورفعِها إلى السَّماء، لِحال الإستكانة، وعلامة العبوديّة، والتذلّل له».
الإستكانة لله تعالى –إذاً- هي الخضوع له عزَّ وجلَّ، ومن مصاديقها الخضوع في رفع الأيْدي في الدُّعاء، والتَّكبير في الصَّلاة.
- الإستكانة حركة قلب
لا أثر لفعل الجوارح ما لم يكن صادراً عن فعل القلب معبّراً عنه.
في الدُّعاء: «أللَّهمَّ وقد قَصَدتُ إليك برغبتي، وقَرَعَتْ بابَ فضلِك يَدُ مسألَتي، وناجاك بخشوع الإستكانة قلبي، ووَجَدتُكَ خير شفيعٍ لي إليك».
*«وأَعلمُ أنّك لا تَحتجِبُ عن خلقك إلَّا أن تَحجُبَهم الأعمال دونك، وأَعلم أنَّ أفضل زاد الراحل إليك عَزْم الإرادة وخضوع الإستكانة، وقد ناجاكَ بِعزْمِ الإرادة وخضوع الإستكانة قلبي».
- بين استكانتين
مَن طالت استِكانتُه في الدنيا، نَجا في الآخرة من الإستكانة الفاضحة.
ومَن تَطاول هنا، ذُلَّ هناك، واستَكان.
في (النَّهج):
«حتّى إذا تصرَّمَتْ الأمور، وانقَضَت الدُّهور، وأزِف النُّشور، أَخرَجَهم من ضَرائح القُبور، وأوْكار الطُّيور، وأَوْجِرة السِّباع، ومطارِح المَهالك، سِراعاً إلى أمره، مُهْطِعِين إلى مَعاده، رَعِيلاً صُموتاً، قياماً صُفوفاً، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الدَّاعي، عليهم لبوس الإستكانة، وضرَع الإستسلام والذِّلة، قد ضلَّت الحِيَل، وانقطَع الأمل، وهَوَت الأفئدة كاظِمة، وخَشَعَت الأصوات مُهَيْمِنَة، وألْجَمَ العرَق، وعظم الشَّفق، وأرعدت الأسماع لزَبْرَة الدَّاعي إلى فصْل الخطاب، ومقايضة الجزاء، ونِكال العقاب، ونَوال الثواب».
والنتيجة العمليّة: أهميّة الإستكانة في الوقوف بين يديه عزَّ وجلَّ، وتلمّس حالات القلب عند التلفُّظ بألفاظ الإستسلام مخافة ادِّعاء الكذب.

***


* مُتَضَرِّعاً إلَيْكَ، راجِياً لِمَا لَدَيْكَ

التضرُّع، شدَّة الإستكانة، فهو إمعانٌ في التذلُّل، لا يزيد عليه إلَّا خَوْف استحكام اليأس، الذي يُحمل على صرخة الرّجاء.
قيل في اللُّغة إنَّ الرجاء بمعنى الخوف. وعليه فهذه الفقرة تراتُبيّة: هاربٌ، استكان، فتَضرَّع، فاستَبَدَّ به الخوف، فتحقّق فيه، ومنه الرّجاء. للرَّاجي وجهان هما لحقيقة واحدة: خوفٌ مفْرٍط، يَنْبَجِس منه الرّجاء.
تُعرف شدَّة هذا الخوف، بالتأمُّل في «الضراعة» المأخوذ في معناها «أكل الضَّريع». وهو في الدنيا «نبتٌ بالحجاز مشوم له شوكٌ كبار، يقال له الشّبرق، تأكله الإبل يضرُّها ولا يَنفعها. قيل: وإنَّما سُمِّي ضريعاً لأنَّه يشتبه عليها أمره فتظنَّه كغيره من النَّبت، والأصل في المُضارعة المُشابهة. وفي الآخرة، كما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: الضّريع شيءٌ يكون في النّار يشبه الشَّوك أَمَرُّ من الصّبر، وأَنْتَن من الجيفة، وأشدُ حرَّاً من النَّار».
يجدر هنا -وعلى مدار العمر- تذكير النفس بما تقدّم إثر الحديث عن الهرب. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إيَّاكم والكذب، فإنَّ كلّ راجٍ طالب، وكلُّ خائفٍ هارب».
لا تكتمل دورة الهرب إليه، والوقوف بين يديه سبحانه، والإستكانة والتضرُّع وصدق الرّجاء، إلَّا بالحَذَر من الكذب، وترجمته العمليّة، إتقان محاسبة النفس كالشَّريك، والتثبُّت من تنقُّلها في أطياف هذه الموادّ الدراسيّة من علم النفس، علم الأدب مع الله تعالى.

***


*تَراني

كلمة بالِغة الدَّلالة وحسب؟ أم أنَّها من كلمة التّوحيد الجوهر، وملحمة النّشآت الثلاث؟
القرآن كلمة الله، والنبيُّ الأعظم وأهل بيته، كلمات الله، ومَنْ لَزم عهد الله واقتدى بالشاهد على النبيِّين، وعمل صالحاً، فَسَيَرى الله عمله، وتكون دائرة سعيه في الدنيا، في مصبِّ مرآة «تراني».
 وإن أَساء التزام العهد، ولم يُحسن الإقتداء، فسيرى الله عمله، ولن يَخرق الأرض، ولن يَبلغ الجبال طولاً. يراوح تقلّباته في دائرة سَنَا مرآة «تراني».

«تراني». مناجاة. ملحمة! فرقانٌ، يَفيض خَزِينه الوجداني فَتَسيل أوْدِيةٌ بِقَدَرها.  كلٌّ يُدرك من هذا الفَيٍض على شاكلته.
*مَن غَلَب عليه الحُبُّ استبدّ به الوَجْد، فَتَرنَّم جَذلان فرِحاً تراني..
*ومَن غَلَب عليه الرَّجاء، لَمَعَت في عينيه بارِقة الأمل، فَتَرنَّم بِلُغة الطالب على أبواب مَظَنّة حصول الطَّلَب.. تراني.
*ومَن غَلَب عليه الخوف أَلَحَّت «تراني» على أحشائه بالزَّفَرات، ندامةً وأسىً وحسرات، فإذا كلُّ حَرفٍ منها طَلَبُ البائس لِلعَفو الذي لا يستحقّ، واسترحام الواثق بأنَّ جزاءه القتل، المُتوقِّع مع ذلك للكرامة والمعجزة.

***

ومَن تَلاطم فيه الحُبُّ والخَوف والرَّجاء، فحدِّث عنه إنِ استَطعتَ، وصِف حالته إنْ تَمكَّنْتَ، فهي الحال التي يجب أن نكون عليها. يا وليّ الإحسان
«تراني».. صِدْقُ التوبة، وخلاصة التّديُّن، حصيلة التّقوى، وثمرة اليقين. «وكلّ الصَّيْد في جَوْفِ الفَرا».
- كيف تَراني... كيف؟
*كيف تراني.. في القرآن الكريم
﴿وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلَّا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربِّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلَّا في كتاب مبين﴾. يونس:61.

***


﴿..وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير﴾ الحديد:4.

***


﴿..والله بصير بما تعملون﴾ الحجرات:18. ﴿..والله بصير بالعباد﴾ آل عمران:20.
﴿ما خلْقكم ولا بعثكم إلَّا كنفس واحدة إن الله سميع بصير﴾ لقمان:28.
﴿..إعملوا ما شئتم إنَّه بما تعملون بصير﴾ فصلت:40  
﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير﴾ المجادلة:1.  
﴿وتوكَّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين﴾ الشعراء:217-219.

***


 * كيف تراني... في الروايات
عن إسحاق بن عمَّار قال: «لمّا كَثُر مالي أَجلستُ على بابي بوّاباً يَرُدُّ عنّي فقراء الشيعة، فخرجتُ إلى مّكة في تلك السنة فسلَّمْتُ على أبي عبد الله عليه السلام فردّ عليّ بِوَجه قاطبٍ مزور (غير مسرور)، فقلت: جُعلت فداك، والله إنِّي لَأعلمُ أنَّهم على دِين الله ولكن خَشيتُ الشُّهرة على نفسي. فقال:
يا إسحاق، أما عَلمتَ أنَّ المؤمنَين إذا التقيا فتصافحا أنزل الله بين إبهاميهما مائة رحمة، تسعةً وتسعين لأشدِّهما حبّاً، فإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا لبثا لا يريدان بذلك إلَّا وجه الله تعالى قيل لهما غُفِر لكما، فإذا جلسا يتساءلان قالت الحفََظة بعضها لبعض: إعتزلوا بنا عنهما فإنَّ لهما سرّاً وقد سَتَره الله عليهما. قال: قلت: جُعلت فداك فلا تسمع الحَفَظة قولهما ولا تكتبه، وقد قال تعالى ﴿ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد﴾ ق:18.
قال: فنكَّس رأسه طويلاً ثمَّ رفعه وقد فاضت دموعُه على لحيته، وقال: إنْ كانت الحَفَظة لا تسمعه ولا تكتبه فقد سَمِعَه عالِمُ السرِّ وأخفى.
يا إسحاق خَفِ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ كنتَ لا تراه فإنَّه يَراك، فإن شَكَكْتَ أنَّه يَراكَ فقد كَفَرْتَ، وإنْ أَيْقنتَ أنَّه يَراك ثمّ بارزْتَه بالمعصية فقد جعلتَه أَهونَ النَّاظرين إليك».  

***


* عن الإمام الكاظم عليه السلام:
«يا بنيّ، إيَّاك أن يَراك الله تعالى في معصية نَهاك عنها، وإيَّاك أنْ يَفقدَك الله تعالى في طاعةٍ أَمرَك بها، وعليك بالجِدِّ، ولا تُخرِجَنَّ نفسك من حَدِّ التقصير في عبادة الله تعالى وطاعته، فإنَّ الله تعالى لا يُعبَد حقَّ عبادته..». 
***
*عن الإمام الحسين عليه السلام:
جاءه رجل وقال: أنا رجلٌ عاصٍ ولا أصبر عن المعصية فعِظني بموعظة، فقال عليه السلام:
«إفعلْ خمسة أشياء وأذْنِب ما شِئتَ، فأوّلُ ذلك لا تأكلْ رزقَ الله وأَذنِب ما شِئتَ، والثاني أُخرج من ولاية الله وأَذنِب ما شِئت، والثالث أُطلب موضِعاً لا يَراك الله وأَذنِب ما شِئتَ، والرابع إذا جاءك ملك الموت ليَقبض روحك فادفعه عن نفسك وأَذنِب ما شئت، والخامس إذا أَدخلك مالِكُ في النَّار فلا تَدخل في النَّار وأَذنِب ما شِئت».  
***
*عن الإمام الصادق عليه السلام:
وقد سأله أحد الزنادقة، ما عِلَّة الملائكة المُوكَّلين بعباده يكتبون عليهم والله عالم السرِّ وما هو أخفى، فقال عليه السلام: «إستعبَدَهم بذلك وجعلهم شهوداً على خلقه لِيَكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبةً، وعن معصيته أشدّ انقباضاً، وكَم مِن عبدٍ يَهمّ بمعصية فَذَكَر مكانهما فارْعَوَى وكفَّ، فيقول ربِّي يَراني وحَفَظَتي بذلك تَشهد. وإنَّ الله برأفته ولُطفه أيضاً وكّلهم بعباده يَذبّون عنهم مَرَدة الشياطين وهَوامّ الأرض وآفاتٍ كثيرة من حيث لا يَرون بإذن الله، إلى أن يجيء أمر الله عزَّ وجلَّ».  
***
*عن أمير المؤمنين عليه السلام: «.. لن يُكمِل العبد حقيقة الإيمان حتّى يُؤثر دِينَه على شهوته، ولن يَهلك حتّى يُؤثِر شهوتَه على دِينِه، ومَن تَيَقَّن أنَّ الله سبحانه يَراه، وهو يعمل بمعاصيه فقد جعلَهُ أَهْوَن الناظرين..». 
***
*كيف تراني... في الدُّعاء:
عن أمير المؤمنين عليه السلام في الإستغفار الطويل بعد ركعتَي الفجر:
«أللَّهمَّ وأَستغفرُكَ لِكُلِّ ذنبٍ خَلَوْتُ به في ليل أو نهار، وأَرخيتَ عليّ فيه الأستار حيث لا يراني إلَّا أنتَ يا جبَّار ".." فصلِّ على محمَّدٍ وآله واغْفِره لي يا خير الغافرين».  
***
في دعاء طويل للحوائج والشَّدائد، سريع الإجابة عن أمير المؤمنين عليه السلام، ورد قوله:
«سيِّدي أنا مِن حبِّك جائع لا أشبع، أنا مِن حبِّك ظمآنُ لا أروى، واشَوقاه إلى مَن يراني ولا أراه..».
***
عن الإمام الرضا عليه السلام في دعاء طويل:
«يا عالِمَ خَطَرات قلوب العالَمين، ويا شاهِدَ لَحَظات أبصار الناظرين..». 
***
- أُعفُ عن توبيخي بكرم وجهك
في دعاء السَّحَر:
«ربِّ جَلِّلني بِسِترك، واعفُ عن توبيخي بِكَرم وجهك، فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرُك ما فَعلتُه، ولو خفْتُ تعجيلَ العقوبة لاجتَنَبْتُه، لا لأنَّك أَهْوَنُ الناظرينَ إليَّ، وأَخَفُّ المُطّلعين عليَّ، بل لأنَّك يا ربِّ خَيْرُ السّاتِرين، وأَحلمُ الأَحْلَمِيْنَ، وأَكرمُ الأكرمين، ستَّار العيوب، تَستر الذَّنب بِكَرمك..».
**


*وتَخْبُرُ حاجتي

ورد لفظ «خبير» منكراً ومعرّفاً وبالضمِّ والنصب خمساً وأربعين مرة في القرآن الكريم من ذلك:
*﴿وتوكَّل على الحيِّ الذي لا يموت وسبِّح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً﴾. الفرقان:58.
قال في (المفردات): «الخُبرة المعرفة ببواطن الأمور».
وفي (التحقيق في كلمات القرآن)، حول معنى أنَّ الله خبير بما يصنعون وشبهه، قال: «فهو تعالى عالم بحقائق أفعالهم وأعمالهم وصفاتهم وبواطن ما في أنفسهم في الدُّنيا والآخرة ، لا يَخفى عليه شيءٌ من مَكنُونات قلوبهم ودَقائق أعمالهم».
وحول الحاجة قال:
«فالحاجة هي المنبعثة من رؤية النَّقص في أمرٍ مادّي أو نظر أو صفة».
معنى «وتَخْبُر حاجتي»: وأنت يا إلهي خبيرٌ بنقصي الذي أَطلب رفعَه.
***

*في صحيفة «الإنتقال» التاسعةِ من صُحُف إدريس عليه السلام:
«إلهي أنت تَعرف حاجتي وتَعلم فاقَتي، وأنتَ عالِم الغيوبِ وكاشف الكُروب، تَعلم الكائنات قبل وقوعها، وتُحيط بالأشياء قبل وقوعها، وأنت غنيٌّ عن العالمين وهم فقراء إليك..».

***

تَجدر الوَقفة هنا عند الفرق بين طَلَب الحاجة من المخلوقين، وبين طلبها من الخالق عزَّ وجلَّ.
طَلَب الحاجة من المخلوق: إستثارة كَوامِن الخير فيه، والطَّلَب من الله تعالى إستثارة كَوامِن الخير فينا.
طَلَب الحاجة من المخلوق، إقناعٌ، وبيان اضطرار، واستِدْرار عَطْف.
والله تعالى بكلِّ شيءٍ عليم. عالِم بالحاجات. يَعلم من حاجاتنا ما لا نَعلم، وهو أرحم الراحمين، لا تَنفد خزائنه. فلماذا الدُّعاء بِطَلَب الحاجة؟
الطَّلَب من الله تعالى، حفْرٌ في النَّفس لتحقيق صِدْق السؤال، والتنبُّهِ إلى أنَّ المانع من استجابة الدُّعاء يَرجع إلينا، بما كَسَبَت قلوبنا والجوارح.
قضاء حوائجنا –عادةً- بأيدينا. وابتلاءاتُنا منَّا. ﴿إنَّ الله لا يُغيِّر ما بِقَوْمٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم﴾ الرعد:11.
نحن وقضاء الحوائج، كما قال الشاعر:
كَالعِيس في البيداء يَقتلها الظَّما    والماء فوق ظهورها محمولُ.
*عن أمير المؤمنين عليه السلام:
«لا تستبطىء إجابةَ دعائك وقد سَدَدْتَ طريقَه بالذنوب».
*عن الصادق عليه السلام:
«جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: إنِّي دَعَوْتُ الله فلم أرَ الإجابة، فقال: لقد وَصَفْتَ الله بغير صفاته، وإنَّ الدُّعاء أربعُ خصال: إخلاصُ السَّريرة، وإحضارُ النيَّة، ومعرفةُ الوسيلة، والإنصافُ في المسألة. فهل دَعَوْتَ وأنت عارفٌ بهذه الأربعة؟ قال: لا. قال: فاعرِفْهُنَّ».
*عن الإمام الباقر عليه السلام:
«إنَّ العبد يَسأل الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيُذنب العبدُ ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالى للملَك: لا تقضِ حاجته، واحرِمه إيّاها، فإنّه تعرَّض لِسَخَطي واستوجبَ الحرمان».
*عن أحد الصادقَيْن عليهما السلام:
«إنّ الله تبارك وتعالى يقول: إنَّ من عبادي مَن يسألني الشيء من طاعتي لأحبَّه، فأصرف عنه ذلك لكي لا يُعجبه عملُه».
*عن الإمام السجاد عليه السلام:
«المؤمن مِن دعائه على ثلاث؛ إمّا يُدَّخر له، وإمّا أن يُعجَّل له، وإمَّا أن يُدفع عنه بلاءٌ يريد أن يُصيبه».
*عن الأمير عليه السلام:
«لا يُقنِّطْك أن أَبطأَتْ عليك الإجابة، فإنَّ العطيَّة على قدر المسألة، وربَّما أُخِّرت عنك الإجابة ليكون أَطولَ للمسألة، وأَجزلَ للعطيّة. ربّما سألتَ الشيء فلم تُؤتَه، وأُوتيتَ خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صِرتَ إلى ما هو خيرٌ لك، فلَرُبَّ أمرٍ قد طَلَبْتَه وفيه هلاكُ دينك ودنياك لو أُوتيتَه».

***


- الطَّلِبات الكبار، وكثرة السجود
عن ربيعة بن كعب: «قال لي ذات مرة رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا ربيعة، خَدَمْتَني سبعَ سنين، أفلا تَسألني حاجة؟ فقلتُ: يا رسول الله أمهلني حتّى أُفكّر. فلمّا أصبحتُ دخلتُ عليه. قال لي: يا ربيعة، هاتِ حاجتَك. فقلت: تَسأل الله أن يُدخلني معك الجنَّة، فقال لي: مَن علَّمك هذا؟ فقلت: يا رسول الله ما علّمني أحد، ولكنَّي فكَّرتُ في نفسي وقلتُ إنْ سألتُه مالاً كان إلى نَفاد، وإن سألتُه عمراً طويلاً وأولاداً، كان عاقبتهم الموت. فنكّس رأسه ساعةً، ثمّ قال: أفعلُ ذلك، فَأَعِنّي بكثرة السُّجود».
***


*وتعرف ضميري

* في (المفردات) الضمير: «ما ينطوي عليه القلب، ويَدِقّ [يصْعُبُ، ويخفى] على الوقوف عليه.
وقد تُسمّى القوّة الحافظة لذلك ضميراً». (بتصرّف).
يَتَّضح أنّ «ضمير»، فَعِيل، بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وعليه فيكون معنى الضمير الشيء المُضمَر. ثمّ أُطلق على المكان الذي يُضمَر فيه وهو «النوايا، والسَّرائر، والصُّدور» وشِغاف القلوب.
ليست كلُّ نيّة، مُضمرة، فالضمير أخصّ من النيَّة. وليس كلّ ما في الصدور، ضميراً، بل الضمير هو النوايا التي قرَّر صاحبها إضمارها، وأَخفاها في صدره، فالضمير هو«ما تُخفي الصُّدور».
*في (نهج البلاغة) نجد قول الأمير عليه السلام:
«..إلَه الخلق ورازقه، والشمس والقمر دائبان في مرضاته، يُبليان كلَّ جديد، ويُقرِّبان كلَّ بعيد، قَسَّم أرزاقهم، وأحصى آثارَهم وأعمالَهم، وعدَّدَ أنفاسَهم وخائنةَ أعينِهم وما تُخفي الصدور من الضمير، ومستقرَّهم ومستودعَهم من الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات..».
والضمير أخصّ من «حديث النفس». قد يحدَّث المرء نفسه بما لا ينوي إضماره، بل يمهِّد لإظهاره، إلَّا أنّهما قد يتَّحدان، فيُحدِّث نفسه بما ينوي إبقاءه طيّ الكتمان، فيكون مضمراً يحاذر إظهاره، وقد يبالغ في كتمانه فينقله من مرحلة الضَّمير السِّر، إلى «السَّريرة».
الضمير –إذاً- كلُّ ما تَقَرَّر إضمارُه وكتمانُه، وهو قسمان: سرٌّ، وسرُّ السِّرّ، وعلى طبيعتهما تُبنى النوايا والعقائد، والأخلاق والأفعال. ثقافة كلٍّ، ثقافة ضميره وطبيعتها. إنْ خيراً فَخَير.
«وتعرف ضميري» تجاوُزٌ لكلّ عُقَد «التبرير» والتّمويه، والتوجيه، والمُمَاراة. براءةٌ من الأفعال والأخلاق والعقائد والنوايا التي بُنِيَت على هذا «الضَّمير»!
«وتعرف ضميري» إعلان انهيار خطِّ الدفاع الأخير للنَّفس الأمّارة، لتبدأ رحلة بناء النَّفس المُطمئنّة على قاعدة الأُنس بالله، بدلاً من التخبُّط في أوحال الطِّين، والأنا وسوء الضمير.
«وتعرف ضميري» بمعنى: سرِّي لك مكشوف
في الدُّعاء «.. أللَّهمّ أنت آنسُ الآنِسين لِأَوِدَّائك، وأَحْضَرُهم لكفاية المتوكِّلين عليك. تشاهدهم في ضميرهم، وتطَّلع على سرائرهم، وتُحيط بمبالغ بصائرهم. وسِرِّي اللَّهمَّ إليك مكشوف. وأنا إليك ملهوف. إذا أَوحشَتني الغُربةُ آنَسَنِي ذِكرُك. وإذا صُبَّتْ عليَّ الهموم لجأْتُ إلى الإستجارة بك. عِلماً بانَّ أزمَّة الأمور بيدك، ومصدرُها قضاؤك، خاضعاً لِحُكمك..».

***


*غَيْبُ الضمير:

للضمير غَيْبٌ وشهادة. ظاهر وباطن.
كلُّ من المرتبتَيْن، ظاهر الضمير وغيبه، قد تَشِي به فَلَتات اللِّسان، أو صفحات الوجه.
في نهج البلاغة: «ما أضمر أحد شيئاً، إلَّا ظهر في فَلَتاتِ لسانه، وصفحات وجهه».
الإمام الصادق عليه السلام: «اللِّسان تَرجُمان الضمير، وصاحب خبر القلب».
وَرَد مُصطلَح «غَيْب الضمير» في (نهج البلاغة).. يقول عليه السلام في خطبة طويلة:
«إنَّ مَن شبَّه ربّنا الجليل ".." لم يعقد غَيْب ضميرِه على معرفته، ولم يشاهد قلبُه اليقينَ بأنَّه لا ندَّ له».
*قال في البحار( بتصرُّف):
«العقدُ الشدّ، و"غيب": هو كلّ ما غاب. والضمير إسمٌ من أضمرتُ في نفسي شيئاً، وإضافة الغَيْب إلى الضمير من إضافة الصِّفة إلى الموصوف».
والمُراد بِغَيْب الضمير حقيقة عقيدته وباطنُها، لا ما يُظهرُه منها لغيره، أو يَظهرُ له بحسب تَوَهُّمه.
«وتعرف ضميري» إقلاعٌ من جريمة الإبتسامة الصّفراء، التي ترادفت مُكَثَّفةً من كلِّ «ذكيٍّ ساكنِ الطَّرْف» لَطالما تَصابى وتَغابى، فظنّ أنّ بِوُسعه أن يُناور، بل ظنَّ ساحة المناورة، والمداهنة، والخداع، والمَكْر، ساحة السِّرِّ المَصون، فعكف على عبادة «الأنا» لتستحيل نواتها إلى شجرة خبيثة، ها هو يَلمس بِحَبَّة القلب أنَّها ﴿ما لها من قرار﴾.
«غيبُ الضمير» المظلمُ –هذا- والظّالم، هو «الشِّرك العظيم». بديهيٌّ إذاً، أن تَلتقي عنده وتَصبّ في علاجه واستئصاله كلُّ العناوين الكبرى في كتاب الله، وحديث المعصوم: وحُصِِّل ما في الصُّدور. ما تُخفي الصُّدور. يَثْنُونَ (يَطْوُون) صُدُورَهُمْ. ما تُكِنُّ صُدورهم. عليمٌ بذات الصُّدور. سرَّهم ونجواهم. علاَّم الغيوب. السَّرائر. خافية. خائنة الأعْيُن. وما يَعْزُبُ عن ربِّك من مثقال ذرَّة، في الأرض ولا في السَّماء. «تعْلَم ما في نفسي». «يُدرٍك الأبصار» (أبصار القلوب) «مكنونات الضمير». «جوائلُ فكري، وجوائسُ صدري»، وغير ذلك كثير جدّاً.

 ***

* مكنوناتُ الضَّمير

يطول الحديث عن كلٍّ من العناوين الكبرى المتقدِّمة، واستعراض بعض تطبيقاته والشواهد. أكتفي بوقفة عند «مكنونات الضَّمير» لِأَصِلَ بعد إلى «علاَّم الغُيوب».
تعبيرٌ آخر عن «غيب الضمير» – سبَقَتِ الإشارة- مكنونات الضمير، أو الضمائر. يلتقي مع ﴿ما تُخفي الصّدور﴾ و﴿يُدرِك الأبصار﴾.
جاء في خطبة النبيّ الأعظم ، في يوم «غدير خم» برواية (الإحتجاج)، قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«قُدُّوسٌ سُبُّوح، ربُّ الملائكة والرُّوح. متفضِّلٌ على جميع مَن برأَه. متطوِّلٌ على جميع من أنشأه. يَلْحَظُ كلَّ عينٍ، والعيونُ لا تراه. كريمٌ حليم، ذو أناة. قد وسِع كلَّ شيء رحمتُه، ومَنَّ عليهم بنعمته. لا يَعجل بانتقامه، ولا يُبادر إليهم بما استحقّوا من عذابه. قد فَهِم السَّرائر، وعَلِمَ الضّمائر، ولم تَخْفَ عليه المَكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيَّات. له الإحاطة بكلِّ شيء، والغَلَبَةُ على كلِّ شيء، والقوَّة في كلِّ شيء، والقدرة على كلِّ شيء، وليس مثلُه شيء، وهو مُنشيء الشيء حينَ لا شيء. دائمٌ قائمٌ بالقسط. لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. جَلَّ عن أن تُدركُه الأبصار، وهو يُدرِك الأبصار، وهو اللَّطيف الخبير».

**


* بين النيّة وتوهُّمِها

غيبُ الضمير هو النية الحقيقيّة، التي قد لا يتنبّه الشخص إلى أنّها المحرّك الرئيس لأفعاله، فيبني على ما يتوهَّم أنه نيّتُه، ثم يكتشف أنّه وهمُ نيّة.
يخفى على المرء ضميرُه الحقيقي الذي هو غيبُ ضميره ويُخدع بظاهره، فيظنّه الضميرالحقيقي والنيّة الحقيقيّة.
مثال ذلك في الأخلاق: إذا لم يدقِّق في أمر الرياء في نفسه، فظن أنَّ ما يأتي به إنّما هو بإضمار الإخلاص. في حين أنََّ غيبَ ضميره الرياء.
مثال ذلك في الأفعال: إذا نوى الإستيقاظ لصلاة الصبح فلم يستيقظ. ونوى الإستيقاظ لموعدٍ تعلّق به قلبُه من سفر أو لقاء حبيب وشِبهه، فاستيقظ فإنّ نيّتَه الأولى وهْمُ نيّة، أما الثانية فهي نيّة حقيقيّة. الثانية هي غيبُ الضمير. والأولى ضميرٌ مّا. مجرَّد ضمير.
إلى هذا يشير قول المجلسي رحمه الله:«"أو يظهر له بحسب توهُّمه».
أخطر حالات الإنفصام بين النيّة الحقيقيّة التي هي غيبُ الضمير، والنيّةُ السَّطحُ المتوهَّمة، ما يكون في مجال الإعتقاد، كأنْ يعبدَ أحدُنا هواه، وهو يظنّ أنّه يعبد الله تعالى.
﴿أرأيت من اتَّخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلاً﴾ الفرقان:43.

* معرفةُ المعصوم بالضَّمير
الأئمّة الإثنا عشر، أوصياء رسول الله، وهو صلّى الله عليه وآله، سيِّد الأنبياء والأئمّة وإمامُهم، وبديهي أن يشمل إظْهارهم على الغيب، دوائر «الضمير» وما تُخفي الصُّدور.
* عقد في (البحار) باباً في «أنّه لا يُحجَبُ عنهم شيءٌ من أحوال شيعتهم، وأنهم يعلمون بما في الضمائر»، ورد فيه عن الإمام الصادق عليه السلام:
* «إنَّ اللهَ أَحْكَمُ وأكرم، وأجلُّ وأعظمُ وأعدَل، من أن يحتجَّ بحُجَّة ثم يُغَيِّب عنه شيئاً من أمورهم».
* قال لأبي بكر الحضرمي: «يا أبا بكر، ما يخفى عليَّ شيءٌ من بلادكم».
* «فإذا خرج إلى الأرض [حين مولده] أُوتي الحِكمة، وزُيِّن بالعِلم والوَقار، وأُلبِس الهيبة، وجُعل له مصباحٌ من نور، يَعرف به الضَّمير، ويرى به أعمال العباد». 
فإذا كان المعصوم عالماً بما أتاه الله تعالى بالضمائر، فكيف هو علمُه عزَّ وجلَّ بضمائرنا.
يَجمل التَّنبُّه إلى أنّ عِلم المؤمن الوليّ بحديث النّفْس، والمكنونات، فرعُ علم المعصوم، وهما معاً في سياق: «وإنَّه لَيَتَقَرَّب إليَّ بالنوافل، حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصر به، ولسانَه الذي ينطقُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، إنْ دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيتُه».
* علَّام الغيوب
أبرز العناوين الكبرى، التي تلامس «غيبَ الضَّمير»، وتستهدفه «علَّام الغيوب».  هذه محاولة استظلالٍ به، بعد الجولة مع معنى الضّمير، ونوعِ معرفة المعصوم به، عسى أن يُدرك القلب مقاماً أو طَيفاً من نوع معرفته سبحانه بـ «غيبِ الضمير»، و﴿ما تُكِنُّ صدورُهم﴾.
وحيث تعسُر الإحاطة بالشواهد، بل تتعذّر وتطول، يُكتفى بنماذج من الكتاب والسُّنة.
قال تعالى:
﴿ألم يعلموا أن الله يعلم سرَّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب﴾ التوبة: 78
﴿أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون﴾  الزخرف: 80
﴿يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور﴾ غافر: 19
﴿..واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم﴾ البقرة: 235
﴿أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا﴾  النساء: 63
*وحول معنى «العليم» من أسماء الله الحسنى ورد في (البحار):
«العليم: معناه أنّه عليمٌ بنفسه، عالمٌ بالّسرائر، مُطَّلعٌِ على الضمائر، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرّة، عَلِمَ الأشياء قبل حدوثها وبعدما أحدَثها، سرَّها وعلانيتَها، ظاهرَها وباطنَها..».
- في الدُّعاء
*«يا سارَّ الفقراء، يا كاشفَ الضُّرِّ، يا جابرَ الكسير، يا عالم السَّرائر والضّمائر، صلِّ على محمّد وآل محمّد، وارحم هَرَبي إليك من فقري، أسألُك باسمك الحالِّ في غِناك الذي لا يفتقرُ ذاكرُه أبداً».
*«فأنتَ شاهدُ كلِّ نجوى، وعالِمُ كلِّ فَحْوَى. لا تخفَى عليكَ مِن أعمالِهم خافية، ولا يذهبُ عنكَ من أعمالِهم خائنة، وأنت علّامُ الغيوب. عالِمٌ ما في الضمائر والقلوب».  
*«أللّهمّ أنت العالِمُ بجَوائل فكري، وجوائسِ صدري [ما يجول فيه فكري، ويجوسُه، ويطأه قَدَمُ صدري، وهو الفكر] وما يترجَّح في الإقدام عليه والإحجام عنه مكنونُ ضميري وسِرِّي، وأنا فيه بين حالَيْن، خيرٍ أرجوه وشرٍّ أتّقيه، وسهوٍ يُحيط بي ودِين أَحُوطه ".." أللّهمّ فَأَرْشِدني فيه إلى مرضاتِك وطاعتِك، وأَسْعِدني فيه بتوفيقِك وعِصمتِك».  
*«وأَسألُك اللّهمّ باسمك الذي تعلمُ به حاجتي، وما في نفسي وضميري، لأنَّك أنت تعلمُ ضمائرَ القلوب. يا علّامَ الغيوب. يا غفّار الذُّنوب..»  
*وفي دعاء الأمان، وهو غير الدُّعاء المشهور:
«فالوَيْلُ لي منك ثمّ الوَيْل، أُكثِرُ ذكرَك في الضَّراء، وأَغفلُ عنه في السَّرّاء، وأَخِفُّ في معصيتِك، وأثَّاقل عن طاعتك ".." إلهي فهذا ثنائي على نفسي، وعِلمُك بما حفظتَُ، ونسيتُ، -وما اسْتَكَنَّ في ضميري، مما قَدُم به عَهْدي وحَدَث، من كبائر الذُّنوب، وعظائمِ الفواحش التي جَنَيْتُها- أكثرُ ممّا نطق به لساني».

**


في هَدْي ما تقدَّم، تتجلَّى ضرورة التأمّل في صحّة الضمير، والإستعاذة من فساده.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «عند تصحيح الضمائر تُغفر الكبائر».
*وفي دعاء الحُجُب: «أسألك ".." أن تصلِّي على محمّدٍ وآل محمّد، وأن تَصْرِف عنِّي جميعَ الآفاتِ والعاهات، والأعراضِ والأمراض، والخطايا والذُّنوب، والشكَّ والشِّرك، والكفر والشِقاق، والغضبَ والجهل، والمّْقتَ والضلالة، والعُسْرَ والضِّيق وفسادَ الضمير، وحلولَ النَّقِمَة، وشَماتَةَ الأعداء، وغَلَبَةَ الرِّجال، إنَّك سميع الدُّعاء. لطيف لِما تشاء».


*ولا يَخفَى عليك أمرُ مُنقلَبي.. ومَثواي

المُنقلب، والمَثوى، مصطلحان قرآنيّان.
قال تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم منقلبكم ومثواكم﴾ محمد:19.
بملاحظة كثرة استعمال هذين المصطلَحيْن في الآيات والروايات على نطاقٍ واسعٍ جداً، يتّضح أنّ على المعنيِّ بتزكية نفسه أن يُطيل التَّعرُّف على كلٍّ منهما .

- «المُنقلب»، في اللّغة
 * في (التحقيق في كلمات القرآن الكريم):
«الأصل الواحد في المادة قَلَبَ هو التحوُّل المطلق في مادِّيٍّ أو معنويّ، زمانيٍّ أو مكانيّ، أو في حالة، أو صفة، أو موضوع».
وحول «مُنقلِبون» قال: «إطلاق هذه الكلمة في موردٍ يتحقّق فيه السير ملازماً للإنقلاب، بخلاف الرجوع - إنّا إليه راجعون- فإنّ النظر فيه إلى مجرّد السير إليه».
يريد أنّ «قلَب» ومشتقّاته تتضمّن معنى التحوّل والإنقلاب، كما يتضمّن معنى السَّيْر، أما الرّجوع فهو خاصٌّ بالسَّير.
*ولا يختصُّ مصطلح المُنقلب بالإنتقال من الدنيا إلى الآخرة (انْقلبْتُمْ على أعقابكم/ إذا انْقَلَبْتُم إليهم) إلّا أنّه نظراً لأهميّة الإنتقال إلى الآخرة، وكَثْرَة استعماله فيه، أصبح لفظُ المُنقلبِ حقيقة شرعيّة فيه، بحيث إنّ هذا المعنى هو المتبادَر لدى الإطلاق، وبهذا المعنى كثُر استعماله، بل اقتصر عليه في الأدعية كما سيأتي.
* قال المحقّق السبزواري (صاحب المنظومة) في شرح دعاء الصباح:
«مُنقلبي: مَرْجِعي ومآلي كما قال تعالى: ﴿وإنّا إلى ربّنا مُنقلِبون﴾ مساوقاً لقوله: ﴿ألا إلى الله تصيرُ الأمور﴾. والمثوى: المنزل، من ثوى المكان وبه، يثوي ثواءً وثُوياً بالضم، وأثوى أطالَ الإقامة به، أو نزل كما في القاموس، وذلك المنزل هو مقعدُ صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر. وطول الإقامة به معلوم عند أولي الألباب لأنّكم خُلقتم للبقاء لا للفناء، وذلك المثوى هو المنزل الأصلي، وهذه المعابر والمقابر منازل الغربة والأمكنة العارضة».
ثم ذكر وجهاً آخر وهو: «أن يراد بالمُنقلب والمَثوى أعمّ ممّا في العقبى فيكون المُنقلب أيضاً إسمَ المحل، وقد تقرّر أنّ اسم المحلّ من الثلاثي المزيد، على وزن اسم المفعول أو كلاهما مصدر ميمي، أي أنت مطلوبي وغاية مُناي في كلّ حركتي وسكوني، أو محلّ حركتي وسكوني لم أجعلها إلا وسيلةَ وصالك، ولم أتقرّب بها إلا لنيل شهود جمالك.. وبالجملة فأنت قصدُ ضميري».   (أضواء على دعاء الصباح، ط بيروت 90/91).

- في القرآن الكريم
قال تعالى: ﴿يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تُقلبون﴾ العنكبوت:21.
﴿..وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون﴾ الشعراء:227.
﴿ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً * وما أظنّ الساعة قائمة ولئن رُددت إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً﴾ الكهف: 35-36
﴿لأقَطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصَلبنكم أجمعين * قالوا إنا إلى ربنا منقلبون﴾ الأعراف:124-125.
﴿قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون﴾ الشعراء: 50.
- في الدعاء
تكثر فقرات الدعاء التي وردت فيها اشتقاقات مادّة «قَلَبَ»، منها:
* «مُنْقَلَبِي»:
«وأصلح لي آخرتي التي إليها مُنقلَبي». «واجعلْ مُنقلَبي إلى خيرٍ دائمٍ ونعيمٍ لا يزول». «إليك مرجعي ومُنقلبي».
*«مُنْقَلَباً»:
«ألَّلهمّ إنّي أسألك عيشةً نَقِيَّةً، ومَيْتَةً سَوِيَّةً، ومُنقلباً كريماً غيرَ مُخْزٍ ولا فاضِح».
*«واقلِبني إلى رضوانك»:
«واقلِبني إلى رضوانِك والجنّة، ولا تجعلني حَطَباً للنّار برحمتك يا أرحم الراحمين».

***


- «المَثْوَى» في اللُّغة
قال في (المفردات): «الثّواء، الإقامة مع الإستقرار».
وفي (التحقيق في كلمات القرآن): «ولا يخفى أنّ الثّوي كما يدلّ عليه حروف الثاء والياء هو النزول والإلتصاق إلى الأرض كما في الثَّرى ".." والثّواء هو النّزول والسّقوط، والإدامة في النُّزول».
المثوى عادةً هو المقرّ النهائي، الذي لا يُبارحه الثاوي، ولا ينقلب عنه. فهو يحمل معنى طولِ الإقامة ودوامها، إلا أنّه قد يُستعمل في مُطلق الإقامة. ومنه قوله تعالى: ﴿..وما كنت ثاوياً في أهل مدين..﴾ القصص:45.


- في القرآن الكريم
ورد لفظ «مثوى» في القرآن الكريم عشر مرّات، استُعملت جميعاً في الحديث عن أهل جهنَّم. منها:
قال تعالى: ﴿..ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين﴾ آل عمران:151.
﴿فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين﴾ النحل:29.
﴿..والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم﴾ محمد:12.
وورد لفظ «مثوىً» مضافاً إلى الضمائر أربع مرّات، إحداها في أهل جهنّم. ﴿..قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله..﴾ الأنعام:128.
واثنتان حول النبي يوسف: ﴿أَكْرِمِي مَثواه﴾، ﴿أَكْرَمَ مَثواي﴾. والرابعة للمؤمنين قال تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم منقلبكم ومثواكم﴾ محمد:19.
نتائج:
بالتأمّل في كلمات اللّغويين، حول مادة «ثوى» وفي مواردها في القرآن الكريم يتّضح:
1-  أنّ المثوى في الأصل هو أيُّ مقرٍّ نهائيّ، إلا أنه -كالمُنقلب- أصبحَ حقيقةً شرعيّةً في المقرّ النهائي في الآخرة. فالحديث عن المُنقلب والمَثوى متقابلين يُراد به عادةً الإنتقال إلى الآخرة ومكان الإقامة فيها.
2- أنّ «المثوى» يتضمّن معنى «الإلقاء بمَن ثَوى في هذا المثوى» المقرَّ النهائي، ولأنَّ «طول الإقامة» يتلازم عادةً مع الإنكسار، فهو حبسٌ وحدٌّ من حريّة الثاوي.
3- عدم استعمال «مثوى» في القرآن الكريم في الحديث عن الجنّة، إلا أنّه مستعمل في «الجنّة» في الدّعاء. أمّا في القرآن فهو هو مقتصرٌ -أو يكاد- على الدُّنيا، والنَّار كما عرفت. والسبب أنَّ أهل النَّار مسجونون فيها، وحالُهم حالُ صفةِ الإنحطاط.
4- أنّ استعمال الداعي لمُصطَلَح «المَثوى» يُعبّر عن تواضعه واستشعار الخوف، ولذلك فهو يطلبُ إكرامَ المثوى.
- في الدُّعاء
*«فَيَا مَن تَعَزَّزَ بالبقاء، وقهَرَ عبادَه بالموت والفناء، أَكْرِمْ مَثواي، فإنّك خيرُ منتجع لكشفِ الضُرِّ، يا مَن هو مأمولٌ في كلِّ عُسْر، ومُرتَجَى لِكُلِّ يُسر، أنزلتُ اليومَ حاجتي، وإليكَ أبتهلُ فلا تردَّني خائباً».  
*«أللّهمَّ وفِّقني لكلِّ شيءٍ يُرضيك عنّي، ويُقرِّبُني إليك، وارفعْ درجتي وعظِّم شأني، وأَحْسِن مَثواي، وثبِّتني بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة».
*«يا ربِّ استَجِبْ لي دُعائي، ولا تُشمِتْ بي أعدائي، ولا تَجْعَلِ النّارَ مأواي، واجعلِ الجنّةَ منزلي وقراري وسَكَني ومَثواي، يا سيِّدي ورجائي وثِقتي ومولاي».  
*في دعاء الصباح: «فاصفَحِ اللَّهمّ عمَّا كنتُ أجرمتُه من زَلَلِي وخَطَئِي، وَأَقِلْنِي من صَرْعَةِ ردائي، فإنّك سيِّدي ومولاي ومُعتمدي ورجائي، وأنتَ غايةُ مطلوبي ومُناي في مُنقلبي ومَثواي».

***

*وما أريدُ أن أُبديء به من منطقي.*وأتفوَّهَ به من طَلِبتي.*وأرجوه لعاقبتي (لعافيتي).
في المقام ثلاثة أسئلة:
1- هل ثمّة فرق بين أُبدِيء وأبدأ؟
2-  ما المُراد بالعاقبة؟
3- وجه العلاقة بين: «تعرف ضميري» وبين «أرجوه لعاقبتي»؟
حول السؤال الأوّل: الفرق بين البَدء والإبداء، أن البَدْأَ أعمُّ من الإعلان والإخفاء، والإبداء يُلحَظ فيه  الإظهار والإعلان، فهو بَدءٌ مُعلَن، يؤيده قوله تعالى: ﴿إنه هو يُبديء ويعيد﴾ البروج :13، أظهر الإنسان من عدم، ويُعيد خلقَه وإظهارَه بعد فنائه.
ويؤيِّده في ما نحن فيه: عطفُ «وأتفَوَّه به من طلِبتي» على «أُبْدِيء».
*السؤال الثاني: ما المراد بالعاقبة؟
قال السيد الطباطبائي عليه الرحمة: «العاقبة ما يعقب الشيء، كالبادئة لما يبدأ الشيء».
*وفي (المفردات): «والعُقب والعُقبى، يختصَّان بالثواب نحو: ﴿..خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقباً﴾ الكهف:44. وقال تعالى: ﴿..أولئك لهم عُقبى الدار﴾ الرعد:22.
والعاقبة، إطلاقها يختصّ بالثواب، نحو: ﴿والعاقبةُ للمُتَّقين﴾، وبالإضافة قد تُستعمل في العقوبة نحو: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا..﴾ الروم:10.
وقوله تعالى: ﴿فكان عاقبتهما أنهما في النار..﴾ الحشر:17، يصح أن يكون استعارةً من ضدِّه كقوله: ﴿..فبشِّرهم بعذاب أليم﴾ آل عمران:21».
أضاف: «والعقوبة والمُعاقبة والعِقاب يختصُّ بالعذاب﴾.

- في القرآن الكريم
ورد قوله تعالى: ﴿والعاقبةُ للمُتَّقين﴾ مرّتين.
وقوله تعالى: ﴿والعاقبةُ للتّقوى﴾ مرّتين.
وَوَرَدَ لفظُ عاقبة سبعاً وعشرين مرّة، وأكثرها وردت في أهل سوء العاقبة.
بل لم يرد خلاف ذلك إلا موردان: ﴿ولله عاقبةُ الأمور﴾، ﴿وإلى الله عاقبةُ الأمور﴾.
من ذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿..فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين﴾ آل عمران:137. 
﴿..فانظر كيف كان عاقبة المجرمين﴾ الأعراف:84.
يتّضح أنّ ما ذكره السيد الطباطبائي عليه الرحمة أدقّ، فلم يلحظ في معنى العاقبة حُسنَها.
وكما يكثر تداول مصطلح «حسن العاقبة» فكذلك مصطلح «سوء العاقبة».
- في الروايات
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
*«خيرُ الأمور خيرُها عاقبة».
*«لا يزال المؤمن خائفاً من سُوء العاقبة، لا يتيّقنُ الوصولَ إلى رضوان الله حتّى يكونَ وقتُ نزعِ روحِه وظهورِ ملكِ الموت له..». (البحار: 6/176)
- السؤال الثالث: وجهُ العلاقة بين: «تعرف ضميري» وبين «وتَخْبُرُ حاجتي» سببٌ و نَسَب.  سبب العلّة والمعلول. وَنَسَبُ الوالد وما وَلَد. الضّمير البذْرة، والحاجةُ الغَرْسَة فالشّجرة.
فسادُ الضّمير، يأسٌ من بلوغ الحاجة، لِعَدَم تحقُّق صِدقِ الطّلب، أو لِفَرط الحُجُب المانعة.
لا يتلازم صلاحُ الضّمير مع معرفة الدّاعي حاجتَه، فقد يدعو المرء بقطعِ وَتِينِه، وقد يكون من دعائه: ﴿ربِّ السِّجنُ أحبُّ إليّ﴾  كما في رواية.
معرفة الحاجة رهنُ الخِبرة بها، والخبرةُ رهنُ صلاح الطّوِيَّة و نقاءِ الضّمير. لا حاجتي عرفتُ، ولا ضميري أصلحتُ. هربتُ إليك من ضميري، أحملُ ما أحسبُه حاجتي. أنت تعرفُ ضميري، وتخبُرُ حاجتي. صحِّحْ بلُطفك نِيّتي، ووفِّر عليَّ يقيني، بصلاح  ضميري.

***


*وقد جَرَتْ مقاديرُك عليَّ يا سيِّدي
- المقادير في اللُّغة
*في (المُعجم الوجيز): «مقدارُ الشيء: مثلُه في العدد أو الكيل، أو الوزن أو المساحة. وما يقضي به الله على عباده، والجمع مقادير».
*في (المفردات): «والقدر، والتقدير تبيين كميّة الشيء ".."  فتقديرُ الله الأشياءَ على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة، والثاني بأنْ يجعلها على مقدارٍ مخصوصٍ حسبما اقتضت الحكمة».
*في (التحقيق في كلمات القرآن): «القضاء بمعنى الإتمام والحكم القاطع، فالحكم من جانب الله تعالى إذا تمّ وانقضى فيُطلق عليه القضاء ".." وأمّا القدَر والتقدير فيُلاحظ فيه مرتبة بعد مرتبة القضاء، وهي عبارةٌ عن تعلُّق الحكم وتحقُّقِه في الخارج بخصوصيّات خارجيّة.
فالنَّظر في القضاء إلى جهة الحكم القاطع من حيث هو، وفي التقدير إلى جهة تحقُّقه بخصوصيّات معيّنة».
وحول قوله تعالى: ﴿..قد جعل الله لكل شيء قدْراً﴾ الطلاق:3، قال: «قد جعل الله لكلّ شيءٍ تقديراً مضبوطاً معيّناً من جميع الجهات».

***


- في القرآن الكريم
قال تعالى: ﴿ألله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تَغيض الأرحام وما تزداد وكلُّ شيء عنده بمقدار﴾  الرعد:8.
*جاء في (تفسير الميزان): «المقدار هو الحدُّ الذي يُحَدُّ به الشيء، ويتعيَّن ويمتاز به عن غيره، إذ لا ينفكُّ الشيء الموجود عن تعيُّنٍ في نفسه وامتيازٍ من غيره، ولولا ذلك لم يكن موجوداً البتّة. وهذا المعنى، أعني كونَ كلِّ شيءٍ مصاحباً لمقدار، وقريباً لحدٍّ لا يتعدَّاه حقيقة قرآنيّة تَكرَّر ذِكرها في كلامه تعالى كقوله: ﴿..قد جعل الله لكل شيء قدراً﴾ الطلاق:3، وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر:21، وغير ذلك من الآيات». (الميزان: 11/306).
***
- في الدُّعاء:
*«أسألُك اللُّطفَ بما جَرَتْ به المقادير».   
*عند الإستيقاظ لصلاة اللّيل، بعد الآيات من آل عمران: «يا نورَ النّور، يا مُدَبِّرَ الأمور، يا مَن يَلي التَّدبير ويُمضي المَقادير، أمضِ مَقاديري في يومي هذا إلى السَّلامة والعافية».
*في دعاء الوتر ليلة الجمعة: «ترى مكاني ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري يا ذا الجلال والإكرام، وأسألك بأنّك تَلي التدبير، وتمضي المقادير».
*في دعاء آخر: «وَاجْعَلني في ودائعِك وأمانِك وحرزِك، وحراستِك وصِيانتِك، وخير ما جَرَتْ به المقاديرُ من عندك».
وفي دعاء يوم الأحد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أللّهمّ إنّي أسألك باسمك الذي تمضي به المقادير، وبعزّتك التي تتمّ بها التدابير، أن تُصلِّيَ على محمّدٍ وآل محمّد، وأن ترزقني رزقاً واسعاً حلالاً طيّباً من فضلك، وأنْ لا تحول بيني وبين ما يقرّبني منك يا حنّان».
*وفي عوذة ليوم الثلاثاء: «علوتَ كلَّ شيءٍ من خلقك، وكلُّ شيء أسفل منك، وتقضي فيهم بحكمك وتُجري المقاديرَ فيهم بمشيتك، ما قدَّمتَ منها لم يسبقك، وما أخَّرت منها لم يُعجزْك، وما أّمضيتَ منها أمضيتَه بحُكمك وعلمك، سبحانَك وبحمدك تباركتَ ربَّنا وجلَّ ثناؤك».   
***
*والسؤال: إذا كانت المقادير قد جَرَتْ فهل يُمكن تغييرها؟
*ونجد الجواب في ما قاله العلّامة المجلسي، حول قوله تعالى: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ الرعد:39.
 قال المجلسي: «واعلم أنّ هذا الباب فيه مجالٌ عظيم، فإنّ قال قائل: ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة، قد جفَّ بها القلم، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المَحْوُ والإثبات؟
قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً، ممّا قد جفَّ به القلم، فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوُه».

- في الروايات
*عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «ما من اثنين ولا خميس إلّا تُرفع فيه الأعمالُ إلا عملُ المقادير».  
قال المجلسي رحمه الله: «كأنَّ المُراد بعمل المقادير الأعمال التي لا اختيار للعبد فيها، فإنّها ليست محلّاًً للتكليف».  
*عن الإمام الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله..﴾ الرعد:11، يقول: «بأمر الله من أن يقع في رَكِّيٍّ [بئر] أو يقعَ عليه حائط، أو يُصيبه شيء، حتّى إذا جاء القَدَر خلَّوْا بينَه وبينَه، يرفعونه إلى المقادير، وهما مَلَكان يحفظانه بالليل، ومَلَكان يحفظانه بالنَّهار يتعاقبان».  
*وفي (البحار): «اختُلف في المُعقِّبات على أقوال ".." الثاني: أنّهم ملائكةٌ يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير، (فلا) يحولون بينَه وبين المقادير. وقيل هم عشرة أملاك على كلّ آدميٍّ يحفظونه من بين يديه ومن خلفه».
*عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّك إنْ صبرتَ جَرَتْ عليك المقاديرُ وأنتَ مأجور، وإنّك إنْ جزعت جَرَتْ عليك المقاديرُ وأنت مَأْزُور».  
*عن الإمام الهادي عليه السلام: «المقادير تُريك ما لم يخطر ببالك».
*عن الإمام العسكري عليه السلام: «المقاديرُ الغالبة لا تُدفَع بالمُغالبة».
فيكون معنى «وقد جَرَتْ مقاديرُك عليَّ يا سيِّدي»: وقد قّدرْت في سابق علمك يا إلهي، كلَّ ما أستحقُّه وفق موازين العدل والإختيار، ومقاديرُك جاريةٌ فيَّ.
ويأتي أنّ تتمّة هذا اللَّجأ هو: ولا يُمكن التغيير في مقاديرك يا سيّدي إلا بإذنك، وبِيَدِك لا بِيَدِ غيرك، فهل تقبلني ليكون القبولُ سبباً للتغيير في ما جَرَتْ به المقادير.    

***
*في ما يكون منِّي إلى آخر عُمري          
*العمر
الأشهَر في لفظ «العُمُر» أن يكون بضمِّ العيْن والميم.
قال تعالى:
*﴿..وما يعمَّر من معمّر ولا ينقص من عُمُره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير﴾ فاطر:11.
*﴿..فتطاول عليهم العُمُر..﴾ القصص: 45.
*﴿..حتى طال عليهم العُمُر..﴾ الأنبياء: 44.
*﴿..ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَد إلى أرذل العُمُر..﴾ الحج:5.
*﴿والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يُرَد إلى أرذل العُمُر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً إن الله عليم قدير﴾ النحل:70.
قال في (المفردات): «والعَمْر والعُمُر إسم لِمُدَّة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء، فإذا قيل طال عمره، فمعناه عمارة بدنه بروحه. وإذا قيل بقاؤه فليس يقتضي ذلك، فإنَّ البقاء ضدَّ الفناء».
إلى أن قال: «والعَمْر والعُمُر واحد، لكن خُصَّ القسَم بالعَمْر دون العُمُر نحو ﴿لعَمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون﴾ الحجر:72».
***


*من سريرتي، وعَلانيتي
المعنى: جَرَتْ مقاديرك عليّ يا سيِّدي في ما يكون مِنّي، من سرِّ السِّرّ، والعَلانية. ولسان الحال يُردِّد مع سيِّد السَّاجدين عليه السلام: «أللَّهمَّ إنِّي أَعوذ بك أن تَحْسُنَ في لَوَاِمِح العيون عَلانيَتي، وتَقْبُحَ عندك سريرتي، أللَّهمَّ كما أسأتُ وأحسنتَ إليّ، فإذا عدْتُ فَعُدْ عليَّ».
في (المعجم الوجيز): «السَّريرة ما يُكِنُّه المرء في نفسه، وبه عُرف السِّرّ فتأمَّل».
- وفي (المفردات): «السِّرّ هو الحديث المكتم في النفس ".." والسُّرور ما يَنكَتِم من الفرح ".." والسَّرير الذي يُجلس عليه من السرور».
- وفي (القاموس): «السريرة: ما يُكتَم».  
- وفي (شرح النهج): «السرائر جمع سريرة وهو ما يُكتم من السِّرّ».  
- وفي (التحقيق في كلمات القرآن) أورد كلاماً طويلاً، خلاصة ما يرتبط منه بالسريرة أمران: أنَّ «مفهوم السَّريرة يناسب مفهوم السَّرّاء». وأنَّ «مفهوم السَّريرة هو الحالة الباطنيّة القلبيّة الخالصة، باعتبار أنَّ كلَّ صِفةٍ (من الصفات) المَكنونة المُسْتَسَرَّة في القلب يُطلق عليها سريرة، وجمعها سرائر».
*وحول الآية ﴿يوم تُبلى السَّرائر﴾  قال السيِّد الطباطبائي عليه الرحمة:
«السَّريرة ما أسرّه الإنسان وأخفاه في نفسه، والبلاء الإختبار والتعرُّف والتصفُّح. فالمعنى يوم يُختَبر ما أخفاه الإنسان وأسرّه من العقائد وآثار الأعمال، خيرِها وشرِّها، فيميّز خيرها من شرِّها، ويُجزى الإنسان به. فالآية في معنى ﴿..إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله..﴾ البقرة:284».
***
- في الرِّوايات
*بين السَّرائر والضَّمائر
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «عند تصحيح الضمائر يبدو غِلُّ السَّرائر».
*بين السَّريرة والبصيرة
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «صلاحُ السَّرائر، برهان صحَّة البصائر».
*عن عُمَيْر بن يزيد، قال: إنِّي عند أبي عبد الله عليه السلام إذ تلا هذه الآية ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ القيامة:14، ثمّ قال: «يا أبا حفص، ما يصنعُ الإنسان أن يتقرَّب إلى الله جلَّ وعزَّ بخلاف ما يعلمُ الله جلَّ وعزَّ، إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يقول: مَن أَسرّ سريرة ردَّاه الله رِداءها، إن خيراً فَخَير، وإن شرّاً فَشَرّ».
أي: يُسِرُّ الرِّياء مثلاً، ويُمَوِّه على نفسه بالإخلاص، فيُرَدِّيه الله تعالى بما أسَرّ.
*بين السريرة والأمن النفسي، والشجاعة
أمير المؤمنين عليه السلام: «مَن حَسُنت سريرته لم يَخَف أحداً».
*قليلُها كثير
عن أبي عبد الله عليه السلام: «مَن أراد الله عزَّ وجلَّ بالقليل من عمله أظهره الله له أكثر ممّا أراد، ومَن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسَهَرٍ من ليله، أَبَى الله عزَّ وجلَّ إلَّا أن يُقلِّله في عين مَن سمعه».
*بين السَّريرة والعلانية:
عن الإمام الصادق عليه السلام: «ما ينفعُ العبدَ يُظْهِر حسناً ويُسِرُّ سيِّئاً، أَلَيْسَ إذا رجع إلى نفسه عَلِم أنَّه ليس كذلك، والله تعالى يقول ﴿بل الإنسانُ على نفسِه بَصيرة﴾، إنَّ السريرة إذا صَلُحَت قَوِيَت العلانية».

***


*وبيدك لا بِيَدِ غيرك، زيادتي ونقصي، ونفعي وضَرِّي
- في اللُّغة
هل الضُّر بالضّمِّ أم بالفتح، أم أنَّ كلاً منهما صحيحٌ في مورده؟ الصواب هو الأخير كما سيتَّضح.
في (الفُروق اللُّغويَّة):  «الفرق بين الضَّر والضُّر: أنَّ الضَّرّ خلاف النَّفع ويكون حسناً وقبيحاً، فالقبيح الظُّلم وما بسبيله، والحَسَن شُرْبُ الدَّواء المُرّ رجاء العافية. والضُّر بالضَّمّ الهزال وسوء الحال ..".
وفي (التحقيق): أَوْرَد عن المصباح «... قال الأزهري: كلّ ما كان من سوء حالٍ وفقر وشدَّة في بدن فهو ضُرّ، بالضَّمّ. وما كان ضدّ النَّفع فهو بفتحها».
***
- في القرآن الكريم
 ﴿قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم﴾ المائدة:76. ﴿..فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ الفتح:11.
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء:83.
**
خِتام المُفتَتَح: إعلان التوحيد العملي. البراءة من حَوْل النّفس وسائر الأغيار وقوّتهم، واللَّجَأ إلى مَن بِيَده الحَوْل والقوَّة، بِلِسان مَنْ أَحَبَّ الإقتداء بسيِّد النبيّين وآل بيته المعصومين، فردّدَت شِغافُ الفؤاد من زَبور آل محمَّد هذا القرآن الصاعد:
«أللَّهُمَّ إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْـكَ، وَصَـرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَـاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَـا إلهِيْ مِنْ أُناسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الإرْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ وَأَرْشَدَهُ إلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ بِاِخْتِبَارِهِ، فَأَنْتَ يَا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤُولٍ مَوْضِعُ مَسْأَلَتِي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إلَيْهِ وَلِيُّ حَاجَتِي. أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي، لاَ يَشْرَكُكَ أَحَدٌ فِي رَجَائِي، وَلاَ يَتَّفِقُ أَحَدٌ مَعَكَ فِي دُعَائِي، وَلاَ يَنْظِمُهُ وَإيَّاكَ نِدَائِي، لَكَ يَا إلهِي وَحْدَانِيَّةُ الْعَدَدِ، وَمَلَكَةُ الْقُدْرَةِ الصَّمَدِ، وَفَضِيلَةُ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَدَرَجَةُ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَمَنْ سِوَاكَ مَرْحُومٌ فِي عُمْرِهِ، مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِهِ، مَقْهُورٌ عَلَى شَأنِهِ، مُخْتَلِفُ الْحَالاَتِ، مُتَنَقِّلٌ فِي الصِّفَاتِ. فَتَعَالَيْتَ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأضْـدَادِ، وَتَكَبَّـرْتَ عَنِ الأمْثَـالِ وَالأنْدَادِ، فَسُبْحَانَكَ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ».




المناجاة الشعبانيّة

 أللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، واسْمَعْ دُعائِي إذا دَعَوْتُكَ واسْمَعْ نِدائِي إذا نادَيْتُكَ، وأَقْبِلْ عَليَّ إذا ناجَيْتُكَ، فَقَدْ هَرَبْتُ إلَيْكَ، ووَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ مُسْتَكيناً لَكَ مُتَضَرِّعاً إلَيْكَ، راجِياً لِمَا لَدَيْكَ، (تراني) وتَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وتَخْبُرُ حَاجَتِي وَتَعْرِفُ ضَميرِي، وَلا يَخْفَى عَلَيْكَ أمْرُ مُنْقَلَبِي ومَثْوايَ، وَمَا أُرِيدُ أنْ أُبْدِئَ بِهِ مِنْ مَنْطِقي، وَأتَفَوَّهَ بِهِ مِنْ طَلِبَتِي، وأَرْجُوهُ لِعَاقِبَتي (لعافيتي)، وَقَدْ جَرَتْ مَقَادِيرُكَ عَلَيَّ يا سَيِّدِي فِي مَا يَكُونُ مِنِّي إلى آخِرِ عُمْرِي، مِنْ سَريرَتِي وَعَلانِيَتِي، وَبِيَدِكَ لا بِيَدِ غَيْرِكَ زِيَادَتِي وَنَقْصِي، وَنَفْعِي وَضرِّي.
إلَهي إنْ حَرَمْتَنِي فَمَنْ ذا الَّذي يَرْزُقُني، وإنْ خَذَلْتَنِي فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُنِي، إلَهي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَضَبِكَ وَحُلُولِ سَخَطِكَ، إلَهي إنْ كُنْتُ غَيْرَ مُسْتَأْهِلٍ لِرَحْمَتِكَ فَأنْتَ أهْلٌ أنْ تَجُودَ عَلَيَّ بِفَضْلِ سَعَتِكَ، إلَهي كَأنِّي بِنَفْسِي وَاقِفَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَقَدْ أظَلَّها حُسْنُ تَوَكُّلِي عَلَيْكَ، فَقُلْتَ ما أنْتَ أهْلُهُ، وَتَغَمَّدْتَنِي بِعَفْوِكَ، إلَهي َإنْ عَفَوْتَ فَمَنْ أوْلَى مِنْكَ بِذَلِكَ، وَإنْ كانَ قَدْ دَنَا أَجَلِي وَلَمْ يُدْنِنِي مِنْكَ عَمَلِي فَقَدْ جَعَلْتُ الإقْرارَ بِالذَّنْبِ إلَيْكَ وَسِيلَتِي.
إلَهي قَدْ جُرْتُ عَلى نَفْسِي في النَّظَرِ لَها، فَلَها الوَيْلُ إنْ لَمْ تَغْفِرْ لَهَا، إلَهي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أيَّامَ حَيَاتِي، فَلا تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي، إلَهي كَيْفَ آيَسُ مِنْ حُسْنِ نَظَرِكَ لي بَعْدَ مَمَاتِي، وأنْتَ لَمْ تُولِني إلَّا الجَمِيلَ فِي حَياتِي، إلَهي تَوَلَّ مِنْ أمْري مَا أنْتَ أهْلُهُ، وَعُدْ عليَّ بِفَضْلِكَ عَلى مُذْنِبٍ قَدْ غَمَرَهُ جَهْلُهُ، إلَهي قَدْ سَتَرْتَ عَليَّ ذُنُوباً في الدُّنْيا وأنَا أحْوَجُ إلى سَتْرِها عَليَّ مِنْكَ فِي الأُخْرى، إلَهي قَدْ أحْسَنْتَ إليَّ إذْ لَمْ تُظْهِرْها لأحَدٍ مِنْ عِبادِكَ الصَّالِحِينَ، فَلا تَفْضَحْنِي يَوْمَ القِيَامَةِ عَلى رُؤوسِ الأشْهادِ.
إلَهي جُودُكَ بَسَطَ أمَلِي، وَعَفْوُكَ أفْضَلُ مِنْ عَمَلِي، إلَهِي فَسُرَّنِي بِلِقَائِكَ يَوْمَ تَقْضِي فِيهِ بَيْنَ عِبَادِكَ، إلَهي اعْتِذارِي إلَيْكَ اعْتِذارُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ قَبُولِ عُذْرِهِ، فَاقْبَلْ عُذْرِي يا أكْرَمَ مَنِ اعْتَذَرَ إلَيْهِ المُسيئونَ، إلَهي لا تَرُدَّ حَاجَتِي، وَلا تُخَيِّبْ طَمَعِي، وَلا تَقْطَعْ مِنْكَ رَجَائِي وَأمَلي، إلَهي لَوْ أَرَدْتَ هَوانِي لَمْ تَهْدِني، وَلَوْ أَرَدْتَ فَضِيحَتِي لَمْ تُعَافِنِي، إلَهي مَا أظُنُّكَ تَرُدُّني فِي حَاجَةٍ قَدْ أفْنَيْتُ عُمْرِي فِي طَلَبِها مِنْكَ، إلَهي فَلَكَ الحَمْدُ أبَداً أبَداً دَائِماً سَرْمَداً يَزِيدُ وَلا يَبِيدُ كَمَا تُحِبُّ وتَرْضَى. إلَهِي إنْ أخَذْتَنِي بِجُرْمِي أخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَإنْ أخَذْتَنِي بِذُنُوبِي أخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وإنْ أدْخَلْتَنِيَ النَّارَ أعْلَمْتُ أهْلَهَا أنِّي أُحِبُّكَ.
إلَهي إنْ كَانَ صَغُرَ فِي جَنْبِ طَاعَتِكَ عَمَلِي، فَقَدْ كَبُرَ فِي جَنْبِ رَجَائِكَ أمَلِي، إلَهي كَيْفَ أنْقَلْبُ مِنْ عِنْدِكَ بِالخَيْبَةِ مَحْرُوماً، وَقَدْ كَانَ حُسْنُ ظَنِّي بِجُودِكَ أنْ تَقْلِبَنِي بِالنَّجَاةِ مَرْحُوماً، إلَهي وَقَدْ أَفْنَيْتُ عُمْرِي فِي شِرَّةِ السَّهْوِ عَنْكَ، وَأَبْلَيْتُ شَبَابِي فِي سَكْرَةِ التَّبَاعُدِ مِنْكَ، إلَهي فَلَمْ أسْتَيْقِظْ أيَّامَ اغْتِرارِي بِكَ ورُكوني إلَى سَبِيلِ سَخَطِكَ، إلَهي وَأنَا عَبْدُكَ وابْنُ عَبْدِكَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَوَسِّلٌ بِكَرَمِكَ إلَيْكَ.
إلَهي أنا عَبْدٌ أَتَنَصَّلُ إلَيْكَ مِمَّا كُنْتُ أُواجِهُكَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ اسْتِحْيائِي مِنْ نَظَرِكَ، وَأَطْلُبُ العَفْوَ مِنْكَ إذِ العَفْوُ نَعْتٌ لِكَرَمِكَ، إلَهي لَمْ يَكُنْ لِي حَوْلٌ فَأَنْتَقِلَ بِهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ إلَّا فِي وَقْتٍ أيْقَظْتَنِي لِمَحَبَّتِكَ، فَكَمَا أَرَدْتَ أنْ أَكُونَ كُنْتُ، فَشَكَرْتُكَ بِإدْخَالِي فِي كَرَمِكَ، وَلِتَطْهِيرِ قَلْبِي مِنْ أوْسَاخِ الغَفْلَةِ عَنْكَ. إلَهي انْظُرْ إليَّ نَظَرَ مَنْ نَادَيْتَهُ فَأجَابَكَ، وَاسْتَعْمَلْتَهُ بِمَعُونَتِكَ فَأطَاعَكَ، يا قَريباً لا يَبْعُدُ عَنِ المُغْتَرِّ بِهِ، وَيا جَواداً لا يَبْخَلُ عَمَّنْ رَجَا ثَواَبَهُ، إلَهي هَبْ لِي قَلْباً يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ، وَلِسَاناً يُرفَعُ إلَيْكَ صِدْقُهُ، وَنَظَراً يُقَرِّبُهُ مِنْكَ حَقُّهُ.
إلَهي إنَّ مَنْ تَعَرَّفَ بِكَ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَمَنْ لاذَ بِكَ غَيْرُ مَخْذُولٍ، وَمَنْ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُولٍ. إلَهي إنَّ مَنِ انْتَهَجَ بِكَ لَمُسْتَنِيرٌ، وَإنَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِكَ لَمُسْتَجِيرٌ، وَقَدْ لُذْتُ بِكَ يَا سَيِّدِي فَلا تُخَيِّبْ ظَنِّي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَلا تَحْجُبْنِي عَنْ رَأفَتِكَ.
إلَهي أقِمْنِي فِي أهْلِ وِلايَتِكَ مُقَامَ مَنْ رَجَا الزِّيَادَةَ مِنْ مَحَبَّتِكَ، إلَهي وَألْهِمْنِي وَلَهاً بِذِكْرِكَ إلَى  ذِكْرِكَ، وَهِمَّتي في رَوْحِ نَجَاحِ أسْمائِكَ وَمَحَلِّ قُدْسِكَ.
إلهي بِكَ عَلَيْكَ إلَّا ألْحَقْتَنِي بِمَحَلِّ أهْلِ طَاعَتِكَ، والمَثْوَى الصَّالِحِ مِنْ مَرْضَاتِكَ، فَإنِّي لا أقْدِرُ لِنَفْسِي دَفْعاً وَلا أمْلِكُ لَها نَفْعاً.
إلَهي أنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ المُذْنِبُ، ومَمْلُوكُكَ المُنِيبُ (المَعيب) فَلا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ صَرَفْتَ عَنْهُ وَجْهَكَ، وَحَجَبَهُ سَهْوُهُ عَنْ عَفْوِكَ.
إلَهي هَبْ لِي كَمَالَ الإنْقِطَاعِ إلَيْكَ وأنِرْ أبْصارَ قُلوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِها إلَيْكَ، حَتَّى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصِيرَ أرْواحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إلَهي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فَأَجَابَكَ، وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ، فَنَاجَيْتَهُ سِرّاً، وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً، إلَهي لَمْ أَُُسَلِّطْ عَلى حُسْنِ ظَنِّي قُنُوطَ الأيَاسِ، ولا انْقَطَعَ رَجَائِي مَنْ جَميلِ كَرَمِكَ. إلَهي إنْ كانَتْ الخَطايَا قَدْ أسْقَطَتْنِي لَدَيْكَ، فَاصْفَحْ عَنِّي بِحُسْنِ تَوَكُّلِي عَلَيْكَ. إلَهي إنْ حَطَّتْني الذُّنُوبُ مِنْ مَكَارِمِ لُطْفِكَ، فَقَدْ نَبَّهَنِي اليَقينُ إلى كَرَمِ عَطْفِكَ، إلَهي إنْ أنَامَتْنِي الغَفْلَةُ عنِ الإسْتِعْدادِ لِلِقَائِكَ، فَقَدْ نَبَّهَتْنِي المَعْرِفَةُ بِكَرَمِ آلائِكَ. إلهي إنْ دَعَانِي إلَى النَّارِ عَظيمُ عِقَابِكَ فَقَدْ َدعَانِي إلى الجَنَّةِ جَزِيلُ ثَوَابِكَ.
إلَهي فَلَكَ أسْأَلُ وإلَيْكَ أبْتَهِلُ وَأرْغَب، وَأسْألُكَ أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وَأنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ يُدِيمُ ذِكْرَكَ، وَلا يَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلا يَغْفَلُ عَنْ شُكْرِكَ، وَلا يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِكَ، إلَهي وَألحِقْني بِنُورِ عِزِّكَ الأَبْهَجِ، فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً، وَعَنْ سِواكَ مُنْحَرِفاً، وَمِنْكَ خَائِفاً مُتَرَقِّباً، يَا ذا الجَلالِ والإكْرامِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً.




أهم أعمال شهر شعبان
و
العَشر الأواخر، ختام دورة الإستعداد للضيافة


أهمّ أعمال شهر شعبان
في ضوء النصوص المختلفة، يتّضح أنّ المُراد بالإضافة إلى الصلاة والصوم وإحياء ليلة النّصف، ومناسبات شعبان، الإهتمام بما يلي:

1 - التوبة الصّادقة إلى الله تعالى.
2 – الإكثار من الإستغفار طيلة الشهر: «أستغفرُ اللهَ وأسألُه التوبة» أو بعض الصيغ الأخرى الواردة.
3 – الذِّكر بشكل عام، وأهمُّه: «لا إله إلّا الله»، وكذلك: «أللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد».
4 – الصدقة، فصدقة شعبان تختلف عن غيرها كما في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام.
5 – إزالة الأحقاد من القلوب وهذا ما يتّضح من قول الأمير عليه السلام: «إصلاحُ ذاتِ البَين»، وحديث الإمام الرضا عليه السلام عن آخر شعبان.
وهذا يعني مسامحة الناس والتسامح منهم، وإرضاءهم، وصِلةَ الأرحام والجيران، والإصلاح بين المتنازعين، ومن الطبيعي جدّاً أن يكون اهتمامنا كبيراً بإزالة الغِلِّ والحقد من النفوس، قبل أن يأتي شهر رمضان، لِنُصبح بحلوله أهلاً لضيافة الرحمن جلَّت عظمتُه.
6- المواظبة على قراءة «المناجاة الشعبانية»؛ دعاء أمير المؤمنين الذي كان جميع الأئمّة عليهم السلام يقرأونه. ينبغي التّنبُّه إلى أنّ هذه المناجاة لا تنحصر قراءتها بشهر شعبان، بل تُقرأ على مدار السَّنة، وقد كان الإمام الخميني قدّس سرّه ملتزماً بذلك.
 
العشر الأواخر، ختام دورة الإستعداد للضيافة
مَن لم يُوفَّق  لخيرات شعبان المباركة، فلا أقلَّ من اغتنام فرصةِ العَشر الأواخر التي يُمكن فيها تدارك ما فات.
عن أبي الصَّلت من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام: قال: «دخلت على الرضا عليه السلام في آخر جمعة من شعبان فقال: يا أبا الصَّلت، إنّ شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعةٍ فيه، فتدارَك في ما بَقِيَ منه تقصيرَك فيما مضى منه:
1- وعليك بالإقبال على ما يعنيك.
2 - وَأَكْثِر من الدعاء والإستغفار.
3 - وتلاوةِ القرآن.
4 - وتُبْ إلى الله من ذنوبك لِيُقبِلَ شهرُ الله إليك وأنت مُخلِصٌ لله عزَّ وجلَّ.
5 - ولا تدعنَّ أمانةً في عُنُقك إلا أدَّيْتَها.
6 - ولا في قلبِك حقداً على مؤمنٍ إلّا نزعتَه.
7 - ولا ذنباً أنت مُرتكبُه إلّا أَقْلَعتَ عنه.
8 - واتَّقِ الله.
9 - وتوكّل عليه في سرِّ أمرِك وعلانيته، ومن يتوكَّل على الله فهو حسبُه، إنّ الله بالغُ أمرِه، قد جَعَلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً.
10 - وَأَكْثِر من أن تقول في ما بَقِيَ من هذا الشهر: "أللّهمّ إنْ لم تكن غفرتَ لنا في ما مضى من شعبان، فاغفرْ لنا في ما بقيَ منه"، فإنّ الله تبارك وتعالى يعتقُ في هذا الشهر رقاباً من النار لِحُرمة شهرِ رمضان
».

اخبار مرتبطة

نفحات