حوارات

حوارات

منذ يوم

لا أكتب إلّا بما أعتقد به وبما يُرضي الله


لا أكتب إلّا بما أعتقد به وبما يُرضي الله

المرجع الديني الشيخ مكارم الشيرازي يروي تجربته في عالم التأليف

ـــــــــــــــــــــــــــ إعداد: مسعود مكارم ـــــــــــــــــــــــــــ

المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشیرازي، مؤلّف (التفسير الأمثل في كتاب الله المنزل)، والعشرات غيره من المؤلّفات القيّمة، لم يكن يمتلك - كما يصرّح هو - موهبة الكتابة في بدايات حياته؛ إلّا أنّه استطاع أن يكتسبها من خلال المثابرة والالتزام بتقنيات وأساليب محدّدة.

هذه التجربة الغنية، نطّلع عليها عبر هذه المحاورة الافتراضية المقتبسة من كتاب (سرّ الموفّقية)، الذي أعدّه مسعود مكارم، ويتناول ذكریات من حیاة سماحته، ومنها تجربته في عالم التأليف والكتابة.

 

* لو تفضّلتم سماحتكم بمستهلّ تمهيدي عن تجربتكم في عالم الكتابة، كيف بدأتم، وما الأسلوب الذي اعتمدتموه في التأليف؟

كنتُ أتحرّك في حیاتي وفقاً للنَّظْم، لا في مجال الدرس والبحث والتحقیق فحسب، بل حتى في مجال الأكل والنوم والاستیقاظ وسائر الأمور الأخرى، وقد أدّى هذا النظم إلى أن أستفید من أوقاتي بأفضل ما یكون، ولو لم یكن هناك نظم ونظام في حياتي لم أكن موفّقاً لإنجاز أعمال مهمّة، ومن غیر الممكن أن أُنتج هذه التألیفات من دون برنامج مُنَظّم.

لم یكن لديّ موهبة الكتابة في مرحلة الابتدائیة والثانویة، فعندما كنت أكتب موضوعاً إنشائیاً في المدرسة لم یكن إنشائي أفضل من الآخرین، لعدم وجود الأرضیة المناسبة لتفتّح هذه القابلیة والملَكة، ولكنّ تجربتي الشخصیة تحكي عن أنّ الإنسان إذا أراد تقویة وتفعیل هذه الملَكة في نفسه، یجب علیه مطالعة آثار الكتّاب والأدباء المرموقين.

 وهنا تجربة أخرى أیضاً، وهي أن یشتغل الطالب في هذا المجال تحت نظر مرشد وأستاذ، فإنّ ذلك من شأنه الإسراع في عملیة ترشید المواهب الفنیة لدى الطالب، ولكنني مع الأسف كنتُ أفتقد الأستاذ في الكتابة، واقتصرت على الطریق الأول وهو قراءة الكتب الجیدة للآخرین، وهذا أیضاً من قبیل الاستفادة من الأستاذ.

 

 

* ما التوجيه الذي تقدمونه للطلبة لكي يُحرزوا ملَكة الكتابة والتأليف؟

إذا أردنا إحراز الموفّقیة والنجاح في عالم التألیف والكتابة یجب علینا تعیین المخاطَب الأصلي لهذا الكتاب أو لهذه المقالات، فمن هو المخاطَب في هذا الكتاب؟ وكأنّ المخاطَب أو المخاطَبین عندما نكتب لهم كتاباً، نراهم ونكتب لهم ومن أجلهم، فلو أننا أهملنا المخاطَبِین حین الكتابة، أو استبدلناهم عمْداً بغیرهم، فإنّ تأثیر ذلك سیكون سلبیاً على محتوى الكتاب وأسلوب الكتابة.

وتُفيد تجربتي في هذا المجال، أيضاً، أنّنا إذا أردنا أن نحصل على النجاح والموفقیة في الكتابة فلا بدّ من الاهتمام والالتفات العمیق والدقیق إلى مشاكل الناس، ومسائلهم الفكریة، وآلامهم النفسیة، فإذا  تحرّكنا في هذا المسیر، وكانت كتاباتنا تعكس مشاكل المجتمع وآلام الناس فیه، وتتضمّن بیان الحلول التي تلامس هذه الأزمات، وحلّ العُقد الفكریة للأفراد، فسوف یُكتب لنا النجاح والتوفيق.

ومن القواعد المنهجية الأساسية في الكتابة البحثية وسواها، هي أنّني لم أكتب شیئاً لا أعتقد به، أو أواجه فيه تعقیدات فكریة غیر محلولة، فالإنسان إذا اعتقد بشيءٍ فإنّه یدافع عنه بكلّ وجوده، والمسألة التي یجد لها الحلّ المقبول فإنّه سیتحرّك لبیانها وبیان حلّها ببساطة، وتكون كتابته لها من موقع الإخلاص والعمق الفكري. وعلى هذا الأساس، فإنّني أوصي الإخوة أنّهم ما داموا یواجهون مسألة غیر محلولة لدیهم، وما لم یعتقدوا بقضیة ما، فلا ینبغي أن یتحرّكوا على مستوى كتابتها وتدوینها.

تجنُّب التعقيد والإطالة

* كيف ترون سماحتكم إلى ما يؤخَذ على النصوص المعقّدة، والتي تبدو في كثيرٍ من الأحيان عسيرة الفهم على القارئ؟

ممّا یُبتلى به الكتّاب أحیاناً أنهم یتورّطون في مشكلة تطویل المقدّمات، وبالتالي یقع القارئ في دوامة ومتاهة في بحثه عن أصل المسألة. لذا، یجب حذف المقدّمات الزائدة والتفریعات الإضافیة وغیر الضروریة، والاكتفاء في البدایة بكلمة (بسم الله الرحمن الرحیم) مع  مقدّمة قصیرة تتعلّق بالدوافع لكتابة هذا الكتاب، ثمّ الدخول إلى أصل المطلب والموضوع مباشرة.

ربّما تكون هناك مقدّمات لازمة في بعض الموارد، ولكنّ الاهتمام بالمقدّمات والفروع یبعث على الملل والتعب في نفس القارئ والكاتب معاً.

یجب أن نسعى للتحدّث مع الناس والمخاطبین بلغتهم ولسانهم، ونتجنّب التفریعات المصطنعة والملاحظات المغلقة والجُمل المبهمة وغیر المفهومة، ما یؤدّي إلى خروج المكتوب عن البساطة والسلاسة، وبالتالي سيتعرّض المكتوب والكاتب إلى ضرر شدید.

يرى البعض بأنّنا إذا كتبنا بأسلوب سهل فسوف یتصوّر الناس أنّ مستوى الكتاب أو الموضوع متدنٍّ، فالأفضل كتابة الموضوع بأسلوب مغلق وعبارات معقّدة لیتصوّر القارئ أنّ مستوى الموضوع عالٍ من الناحیة العلمیة، وهذا خطأ فادح وكبیر.

أذكر جيّداً أنّ شخصاً أوصى أحدَ الإخوة بأن یسعى لكي یكون ثُلث كلامه في المحاضرة غیر مفهوم، لیُقال: إنّ الشخص الفلاني یتحدّث بلغة علمیة عمیقة!

كذلك الحال في عالم الكتابة والتألیف، فالبعض یرون هذه الرؤیة أیضاً. لكنني أعتقد أنه یجب علینا تحطیم هذا الصنم، فهذا الأسلوب یعتبَر نوعاً من عدم الإخلاص في المنهج، أو هو نوع من التضحیة بالهدف من أجل بعض الملاحظات الشخصیة والاعتبارات النفسانیة.

ولا شكّ في أنّ سهولة الكتابة وسلاسة المنطق سوف تؤدّي إلى أن یقول البعض: «إنّ درس الأستاذ الفلاني بسیط وغیر عمیق»، أو «إنّ كتابه لیس بالمستوى المطلوب»، ولكنّ التجربة أثبتت لي أنّ الناس المخلصین یستقبلون مثل هذا الأسلوب والمنهج في الكتابة والبیان استقبالاً جیداً.

* هل هذا يعني برأي سماحتكم أنّ الأسلوب المكثّف والعميق هو من الأساليب المذمومة في عالم الكتابة؟

أرى أن التعقید في الأسلوب نوع من الشِّرك وعدم الإخلاص في النیّة، بحیث إنّنا نضحّي بمصلحة الناس في سبیل عناوین موهومة، فلیس عیباً أن یكتب الشخص بأسلوب سهل أو یتحدّث في الدرس بأسلوب مفهوم، بل هذا الأمر بحدّ ذاته یعتبر فناً كبیراً، ولو أنني كنت أملك ما یكفي من الوقت فإنني سأقوم بإعادة كتابة الكتب الدراسیة والعلمیة المعقّدة، مثل (كفایة الأصول) بأسلوب عربيّ سهل، من دون تغییر في المضمون والمحتوى، لأُثبت أنّ أعقد المتون وأصعب البحوث العلمیة یمكن بیانها بأسلوب سهل یفهمه الطلّاب بیُسر.

التجربة أثبتت لي أنّ التوفيق والنجاح یترتّبان على هذا المنهج، وكذلك یترتّب علیه الإخلاص والثواب الإلهي. ولهذا السبب أوصي إخواني الأعزاء ألا یتورّطوا في هذه المسألة بالوسواس والنوازع النفسانیة، فلو تمكّنوا من الكتابة أو التحدّث في المحاضرة بأسلوب سهل ومیسور، فعلیهم أن یعتبروا ذلك من المواهب الإلهیة والنعم الربانية.

الاعتصام بالله تعالى من سَبْقِ القلم

* ماذا عن البعد الإيماني والأخلاقي في الممارسة الكتابية؟

أعتقد بأنّ الكاتب مهما كان مقتدراً وعالماً وماهراً في فنّ الكتابة، فلا بدّ أن یعیش حالة التوكّل على الله تعالى وتفویض الأمر إلیه، لأنّه قد یصدر عنه بعض أشكال الخطأ غیر القابل للجبران، وأنا بدوري أتحدّث عن هذه النعمة الإلهیّة الكبیرة، من موقع قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ الضحى:11.

ربّما یَحدُث أن أكتب موضوعاً أو أبیِّن ملاحظة بشكلٍ خاطئ، وقد یكون ذلك الخطأ كبیراً، وأحیاناً یصل الكتاب إلى المطبعة، ولكن تحدث بعض الأمور بحیث ننتبّه إلى ذلك الخطأ ونعید الكتاب من المطبعة لإصلاحه.

وأساساً فإنّ تألیف أكثر من 140 كتاباً لا یمكن أن یسلم من أخطاء كبیرة واشتباهات مهمّة من دون معونة إلهیّة وإمداد غیبيّ.

ما لم یكن الشخص كاتباً فإنّه ربّما لا یقتنع بهذا الكلام تماماً. نعوذ بالله تعالى من الوقوع في هذه الأخطاء والمنزلقات: «إلهي لا تَكِلنِي إلى نَفسِي طَرْفةَ عَین أبداً».

* أرجو أن يتكرّم مولانا بالحديث عن عملكم التفسيري للقرآن الكريم، ما الذي واجهتموه أثناء إنجاز هذا العمل الكبير؟

كنتُ أكتب (التفسیر الأمثل) لیلَ نهار، ولم یكن لديّ وقت إضافي، وفي أیّام الإبعاد والنفي كنتُ أيضاً أعمل في تأليفه، وكان یشترك معي عشرة من الأصدقاء، بحیث كان یأتي إلى المنفى شخصان منهم على التوالي، وبالطبع كان مجیئهم إلى ذلك المكان ینطوي على مخاطرة ومشاكل سیاسیة وغیر سیاسیة، ولكن في النهایة كانوا یأتون إليَّ في ذلك المكان، وهكذا استمرّ العمل.

وأحیاناً كنتُ أشتغل بتألیف كتاب وأنا مسافر بالقطار أو في الطائرة، ولكن الكتابة في السیارة كانت صعبة، فكنت أشتغل بالتفكیر وتدوين بعض الملاحظات والنقاط، والكثیر من الموضوعات والأشعار كتبتها في أسفاري، وباعتقادي أنّ جمیع المؤلّفین الكبار هم من الأشخاص الفاعلین والنشیطین.

ثمّ إنني أسعى، مهما أمكن، أن أُقلّل الاستفادة من بیت المال، ولهذا السبب فإنني اعتمدتُ سابقاً في تأمین مواردي المالیة على التبلیغ في أیّام شهر محرّم وصفر وشهر رمضان المبارك، والبعض منها أستلمه كحقوق، ولكن بعد أن راجت مؤلفاتي فإنّي أستلم (حقّ التألیف) من الناشرین لتأمین نفقات حیاتي ومعیشتي، وأخیراً لم أكن أقبض حقوقاً شهریة من المراجع، وحتى في هذه المرحلة، وهي مرحلة المرجعیة، أعتمد في تأمین نفقات معیشتي على حقّ التألیف من كُتبي ومؤلفاتي.

* في نهاية هذا الحوار، ما الذي توصون به العاملين في مجال الكتابة؟

وصیّتي للكتّاب الأعزاء السعي في العمل الجماعي مهما أمكن، وأن یقدّموا العمل الجماعي على العمل الفردي، وبالأخص في مجال تألیف وتصنیف الكتب المهمّة.

وأُوصي باحترام آراء الغیر، وتحمّل الرأي الآخر، وأن یعیش الشخص حالة سعة الصدر والإغماض (التغاضي)، فلو تلاقحت هذه الأفكار واقترن بعضها مع بعض، فإنّ ذلك یعني نجاح العمل، ولكن إذا كنتُ أفكّر من موقع الجزم والإطلاق بصحّة أفكاري فقط، وبطلان الرأي المخالف، ولم أحترم آراء الآخرین وأفكارهم، ولم أتحمّل نظرة المخالف، ولم أملك حالة الإغماض، فإنّ هذا من شأنه عرقلة المسیرة قطعاً.

وأضیف هنا أنّ للآخرین نقاطاً إیجابیة ونقاطاً سلبیة دائماً، ولا یوجد شخص یعیش النقاء من أي نقطة سلبیة سوى المعصومین علیهم السلام، فكلّ إنسان لدیه نقطة أو نقاط قوّة، ویجب علینا دائماً التعامل مع الآخرین من موقع حصیلة النقاط وجمع المعدّل لمعرفة حساب صفات الأشخاص، فإذا كان المعدّل جیداً لزم علینا تحمّل الجهات السلبیة ونقاط الضعف من ذلك الشخص.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ يوم

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات