العلامة الطباطبائي قدس سره

يوفّق العلّامة السيّد محمّد حسين الطّباطبائي صاحب (تفسير الميزان) بين مسألتَي إنزال القرآن الكريم في شهر رمضان وفي ليلة القدر دُفعةً واحدة، وتنزيله نجوماً أي متفرِّقاً على مدار سنيّ الدعوة الثلاث والعشرين، بأنّ ما نزل أوّلاً على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله هو ليس تلك الألفاظ التي جاءت لِتُعبّر عن الموقف من وقائع وأحداث شهدتْها الرّسالة، وأنّ ما نزل على قلبه الشريف بدايةً هو حقيقة القرآن المُبين الذي هو في أمّ الكتاب. وفي ما يلي بيانُه رضوان الله عليه –مختصراً وبتصرّفٍ يسير- لهذه الحقيقة:

قال تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...﴾ البقرة:185. تدلّ الآية على نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، أمّا قوله تعالى: ﴿وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾ الإسراء:106، فيدلُّ على نزوله تدريجاً في مجموع مدّة الدعوة، وهي ثلاث وعشرون سنة تقريباً، ولعلّه يتبادر إلى الذِّهن وجود تنافٍ بين الآيتين المباركتين.

* وربّما أجيب عن هذا الإشكال بأنّ القرآن نزلَ دفعةً واحدةً إلى سماء الدّنيا في شهر رمضان، ثمّ نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله  نجوماً وعلى مُكْثٍ في مدّة ثلاث وعشرين سنة. وهذا جوابٌ مأخوذ من الرّوايات.

* وقد يُجاب عن إشكال التعارض بين آيتَي البقرة والإسراء أيضاً بأنّ المُراد من نزول القرآن في شهر رمضان أنّ أوّلَ ما نزلَ منه نزلَ فيه.

لكنّ الذي يُعطيه التدبّر في آيات الكتاب العزيز أمرٌ آخر، فإنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلةٍ منه، إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدّفعة دون التنزيل، كَقَوله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن..﴾، وقوله تعالى: ﴿حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة..﴾ الدخان:1-3، وقوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ القدر:1، واعتبارُ الدَّفْعة:
- إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النّازل منه.
- وإمّا لِكَون الكتاب ذي حقيقةٍ أخرى وراءَ ما نفهمه بالفهم العادي، وهي [الحقيقة المتجاوزة لما نفهمه] المصحِّحُ لكونه واحداً غيرَ تدريجي، ونازلاً بالإنزال دون التنزيل، لأنّ الفهم العاديّ يُفترَضُ فيه التفرُّق والتفصيل والإنبساط والتدريج.
وهذا الاحتمال الثاني، هو اللّائح من الآيات الكريمة كَقَولِه تعالى: ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ هود:1، فإنّ هذا الإحكام مقابلُ التفصيل، والتفصيل هو جعلُه فصلاً فصلاً وقطعةً قطعة، فالإحكام كونُه بحيث لا يتفصّل فيه جزءٌ من جزء، ولا يتميّز بعضٌ من بعض لِرُجوعِه إلى معنىً واحدٍ لا أجزاءَ ولا فصولَ فيه، والآيةُ ناطقةٌ بأنّ هذا التفصيل المشاهَد في القرآن، إنّما طرأَ عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل.
وهذا الذي ذكرْنا هو الموجب لأن يُحمَل قوله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..﴾، وقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة..﴾، وقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المُبين إلى قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدّعوة النبويّة. وبالجملة، فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً من الإعتراف بدلالتها على كوْن هذا القرآن المُنزَّلِ على النبيّ تدريجاً متّكئاً على حقيقةٍ متعاليةٍ عن أن تدركَها أبصارُ العقول العامّة، أو تناولها أيدي الأفكار المتلوِّثة بألواث الهَوَسَات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبيّ إنزالاً، فعلّمه اللهُ بذلك حقيقةَ ما عناه بكتابه.