الملف

الملف

27/03/2017

المبعث النبويّ الشريف


المبعث النبويّ الشريف

«فأنارَ اللهُ بأبي.. محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ظُلَمَها»

 

اقرأ في الملف

استهلال                                                                ..إلا وأنا مُسمِعُكُموه

البعثة النبويّة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام                            إعداد: أسرة التحرير

البعثة النبويّة في خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام                     العلامة الشيخ مصباح اليزدي

أشرف الأوقات من الأزل إلى الأبد                                        الإمام الخميني قدّس سرّه

أساسيات في فهم معاني البعثة                                          الإمام الخامنئي دام ظلّه

بشائر الأنبياء بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله                                  السيد سامي البدري

 

استهلال

..إلّا وأنا مُسمِعُكُموه

من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم:

أَرْسَلَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ،  واعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وانْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ.

 والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ "..."  فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْه طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وشِعَارُهَا الْخَوْفُ، ودِثَارُهَا السَّيْفُ.

فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ!

واذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ، وعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ.

ولَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ ولَا بِهِمُ الْعُهُودُ، ولَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمُ الأَحْقَابُ والْقُرُونُ، ومَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ.

واللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً، إِلَّا وهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوه "..."

فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيه أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ».

(نهج البلاغة، شرح محمد عبده: خ 89)

 

نذيراً للعالَمين ومُهيمناً على المرسَلين

البعثة النبويّة في كلام أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السّلام

§        إعداد: أسرة التحرير

* في هذه النصوص المنتخبة من خُطب أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، في (نهج البلاغة)، يُشير صلوات الله عليه إلى وجوه الفساد التي كان يعاني منها العالم، ولا سيّما المجتمع الجاهليّ، عشيّة بعثة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهي وجوه الفساد الكبرى في كلّ عصر وفي كلّ أمّة، فإصلاحها هو وظيفة النبوّة في حركتها الصاعدة منذ بدأت في مستهلّ التاريخ البشري، إلى أن خُتمت بالنبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله.

كما يبيّن الإمام عليه السلام، في المنتخب من كلامه هنا، محتوى الوحي السماوي، والغاية من البعثة النبويّة الشريفة، وأيضاً السمات والخصائص الربّانية في شخصية النبيّ صلّى الله عليه وآله.

نشير إلى أنّنا أرفقنا عدداً من الفقرات بتوضيحات موجزة، حيث يلزم، اخترناها من ثلاثة شروحات على (نهج البلاغة)، لكلّ من ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 هـ)، وابن ميثم البحراني (ت: 679 هـ)، و(منهاج البراعة) للسيد حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت: 1324 هـ)، ومن (شرح الأسماء الحسنى) للملا هادي السبزواري (ت: 1289 هـ).

«شعائر»

 

من أعظم المنن الإلهية على البشرية جمعاء بعثةُ النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، التي غيّرت وجه الكون، وفتحت للعالم طريق السعادة المنشودة. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ (آل عمران:164).

ما يلي، مجموعة من العناوين التي ترتبط بالبعثة النبويّة الشريفة، كما أوضحها أمير المؤمنين عليه السلام، في خُطبه وكلماته.

وصف المجتمع الجاهلي

(مصادر هذه الفقرة على التوالي، من الخُطب: 2، 26، 33، 89، 95، 133، 189، 233)

v    «..أَرْسَلَهُ ..والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ، واخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتَشَتَّتَ الأَمْرُ، وضَاقَ الْمَخْرَجُ، وعَمِيَ الْمَصْدَرُ، فَالْهُدَى خَامِلٌ، والْعَمَى شَامِلٌ. عُصِيَ الرَّحْمَنُ، ونُصِرَ الشَّيْطَانُ، وخُذِلَ الإِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، ودَرَسَتْ سُبُلُهُ، وعَفَتْ شُرُكُهُ..». (النّجر: الأصل، والشُّرُك، بضمّتين، الطُّرُق)

***

v    «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلّم... وأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، عَلَى شَرِّ دِينٍ، وفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ. الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ».

الخوئي: «ألّف إبراهيم بن مسعود الثقفي كتاباً سمّاه (الغارات)، جمع فيه غارات العرب وحروبهم، وإن شئتَ أُرشدك إلى اثنين من تلك الحروب والغارات فإنّهما أنموذجٌ منها.

أحدهما: ما كان بين الأَوْس والخَزْرَج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألّف الله بين قلوبهم بالإسلام.

وثانيهما: حرب البسوس بين (تَغْلِب) و(بكر بن وائل) أربعين سنة، حتّى صار من أمثال العرب السّائرة: أشأم من البسوس».

***

v    «إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلّمَ، ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً..».

***

v    «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، واعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وانْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ... وشِعَارُهَا الْخَوْفُ، ودِثَارُهَا السَّيْفُ».

***

v    «بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ وبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ..».

ابن أبي الحديد: «حاطِبونَ في فِتنة: جمع حاطب، وهو الذي يجمع الحطب، ويقال لمَن يجمع بين الصواب والخطأ، أو يتكلم بالغثّ والسمين: حاطبُ ليل، لأنّه لا يُبصر ما يجمع في حبله... واستَخفّتهم الجاهليّةُ: جعلتهم ذوي خفّة وطَيش وخرق. والزلازِل: الشدائد».

***

v    «..أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وتَنَازُعٍ مِنَ الأَلْسُنِ..».

البحراني: «بيان لبعض أمارات النبوّة، فإنّ منها:

الزمان المتطاول الّذي تندرس فيه الشريعة السابقة والقوانين التي بها نظام العالم، ويحتاج الخلق إلى قوانين مجدّدة لنظام أحوالهم. وحينئذٍ تجب بعثة رسول. وكانت الفترة بين عيسى ومحمّد عليهما السّلام ستّمائة وعشرين سنة.

ومنها: تنازع الألسن واختلاف الخلق في الآراء والمذاهب، وقلّة الاتّفاق على قانون شرعيّ جامع لهم».

***

v    «ثُمَّ إِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الانْقِطَاعُ، وأَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الِاطِّلَاعُ، وأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وأَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، واقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وتَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وعَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا، وتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا...». (السّاق: هنا بمعنى الشدّة)

***

v    «..ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، ويَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ. قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ». (الحَين: الهلاك)

سَمْتُ النبيّ المرسَل وهَديُه صلّى الله عليه وآله

(مصادر هذه الفقرة على التوالي، من الخُطب: 93، 104، 105، 108، 177، 185)

v    «مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، ومَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، ومَمَاهِدِ السَّلَامَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الأَبْرَارِ، وثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ..».

***

v    «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ .... فقاتلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ ويُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، يَحْسِرُ الْحَسِيرُ، ويَقِفُ الكَسِيرُ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ، إِلَّا هَالِكاً لَا خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ...».

البحراني: «الحَسِير: الَّذي أعيا في طريقه.

وقوله: ويُبادِرُ بهِمُ السّاعةَ أنْ تَنزِلَ بهم. أي يسارع إلى هَدْيِهم وتسليكهم لسبيل الله، كيلا تنزل بهم الساعة على عمًى منهم عن صراط الله، فيقعوا في مهاوي الهلاك.

وقوله: يَحسِر الحَسِير ويَقِفُ الكَسير. إلى قوله: لا خَيرَ فيه. إشارة إلى وصفه عليه السّلام بالشفقة على الخلق في حال أسفارهم معه في الغزوات، ونحوها: أي أنّه كان يسير في آخرهم، ويتفقّد المنقطع منهم عن عياء وانكسارِ مركوب، فلا يزال يلطف به حتّى يبلّغه أصحابه... قال بعض السالكين: كنّى بالحَسير والكَسير عمّن عجز ووقف قدمُ عقلِه في الطريق إلى الله، لِضعفٍ في عين بصيرته واعوجاجٍ في آلة إدراكه، وبقيامه عليه حتّى يلحقه إلى غايته... حتّى يوصله إلى ما يمكن من العقيدة المرْضيّة والأعمال الزكيّة، التي هي الغاية من طريق الشريعة المطلوب سلوكها. وقوله: إلَّا هالِكاً لا خَيرَ فيه. أراد به مَن كان مأيوساً من رُشده لعلمه بأنّ تقويمه غير ممكن؛ كأبي لهب وأبي جهل ونحوهما».

***

v    «..خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً، وأَنْجَبَهَا كَهْلاً، وأَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً، وأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً».

الخوئي: «الكَهل، بفتح الأوّل، مَن جاوز الثلاثين، وقيل من بلغ الأربعين. والدِّيمَة المطر الدّايم في سكون».

***

v    «اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِيَاءِ، ومِشْكَاةِ الضِّيَاءِ، وذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ، وسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ، ومَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، ويَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ... طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وآذَانٍ صُمٍّ، وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ».

ابن أبي الحديد: «إنّما قال: دَوّارٌ بِطِبّه، لأنّ الطبيب الدوّار أكثر تجربة، أو يكون عنى به أنّه يدور على مَن يعالجه، لأنّ الصالحين يدورون على مرضى القلوب، فيعالجونهم... ثم ذكر أنّه إنّما يعالج بذلك مَن يحتاج إليه، وهم أُولو القلوب العُمي، والآذان الصمّ، والألسنة البُكم، أي الخُرس. وهذا تقسيمٌ صحيحٌ حاصِر، لأنّ الضلال ومخالفة الحقّ يكون بثلاثة أمور؛ إمّا بجهل القلب، وبعدم سماع المواعظ والحُجج، أو بالإمساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر، فهذه أصول الضلال، وأمّا أفعال المعاصي ففروعٌ عليها».

***

v    «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ، والْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ، والْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ، والْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ، والْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى، والْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى».

ابن أبي الحديد: «المُعتام: المختار. والعِيمة بالكسر خيارُ المال، إعتام الرجل إذا أخذ العِيمة.

والعَقائل: جمع عقيلة، وهي كريمةُ كلّ شيء من الناس وغير ذلك.

والغِربيب: الأسود الشديد السواد. ويُجلى به غِربِيب العمى: تُكشف به ظُلَم الضلال، وتستنير بهدايته».

***

v    «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّفِيُّ، وأَمِينُهُ الرَّضِيُّ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسلَّمَ..».

مضامين الوحي

(مصادر هذه الفقرة على التوالي، من الخُطب: 2، 95، 147، 158، 169، 195)

v    «..أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ، والْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، والْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، والنُّورِ السَّاطِعِ، والضِّيَاءِ اللَّامِعِ، والأَمْرِ الصَّادِعِ..».

السبزواري: «والعَلَمِ المَأثور: معجزات النبيّ صلّى الله عليه وآله، والمتكلّمون يسمّون المعجزات أعلاماً، والعلَم ما يُهتدى به. والصّادِع: الظاهر الجليّ. قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ..﴾..». (الحجر:94)

***

v    «..فَبَالَغَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلّمَ فِي النَّصِيحَةِ، ومَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، ودَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ، والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».

***

v    «فَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلّمَ، بِالْحَقِّ..».

***

v    «أَرْسَلَهُ.. فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ».

البحراني: «والذي صدّقه بين يديه هو التوراة والإنجيل، كما قال تعالى: ﴿..مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ..﴾، ولكلّ أمرٍ منتظَر أو قريب يقال: إنّه جارٍ بين اليدين». (المائدة:48)

***

v    «إِنَّ الله بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وأَمْرٍ قَائِمٍ..». (المراد بالقائم هنا: المستقيم).

***

v    «.. أَرْسَلَهُ.. فَصَدَعَ بِالْحَقِّ ونَصَحَ لِلْخَلْقِ، وهَدَى إِلَى الرُّشْدِ، وأَمَرَ بِالْقَصْدِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّم».

الخوئي: «وأَمَر بِالقَصْد، أي بالعدل في الأمور المصون عن الإفراط والتفريط، ويحتمل أن يكون المراد به (قصدُ السبيل) الموصل إلى الحقّ؛ أي الصّراط المستقيم».

 

الغاية من بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله

 (مصادر هذه الفقرة على التوالي، من الخُطب: 2، 26، 33، 83، 96، 105، 106، 116، 147، 185، 198، والكتاب رقم 62):

v    «..أرسله.. إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، واحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ، وتَحْذِيراً بِالآيَاتِ، وتَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ..».

البحراني: «قوله: إزاحةً للشّبهات إلى قوله وتخويفاً بالمَثُلات: إشارة إلى الوجوه القريبة لمقاصد البعثة، وذكر عليه السّلام منها ثلاثة مقاصد:

أوّلها: إزاحة الشبهات وهو أهمّها، فإنّ حذف شواغل الدنيا وشبهات الباطل عن قلوب الخلق أهمّ مقاصد الشارع.

الثاني: سبب تلك الإزاحة، وهو الاحتجاج على الخلق بالحُجج الواضحة لهم والخطابات الواصلة إلى أقصى أذهانهم، كما قال تعالى: ﴿..وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..﴾. (النحل:125)

الثالث: التحذير بالآيات النازعة بالعصاة، والتخويف بالعقوبات الواقعة بأهل الجنايات، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لأُولِي النُّهى﴾، وهذا الإنذار مؤيّد للحجج والخطابات الشرعيّة في حقّ مَن لم يُرزق صفاء ذهنٍ يؤثّر فيه مجرّدُ الخطابات، فيحتاج إلى التحذير والإنذار». (طه:128)

***

v    «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلّم نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ..».

***

v    «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلّمَ، ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، واطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ».

البحراني: «المراد بالقَناة: القوّة والغلبة والدولة الَّتي حصلت لهم مجازاً، وهو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب؛ فإنّ الرمح أو الظهر سببٌ للقوّة والشدّة، ومعنى إسناد الاستقامة إليها انتظامُ قهرهم ودولتهم.

وقوله: واطمَأنّت صَفاتُهم. استعارة للفظ (الصّفاة) لحالهم التي كانوا عليها، ووجه المشابهة أنّهم كانوا قبل الإسلام في مواطنهم وعلى أحوالهم متزلزلين، لا يقرّ بعضهم بعضاً في موطنٍ ولا على حال، بل كانوا أبداً في الغارة والنهب والجلاء. فكانوا كالواقف على حجرٍ أملس متزلزل مضطرب. فاطمأنّت أحوالهم وسكنوا في مواطنهم. كلّ ذلك بسبب مقدَم النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم».

***

v    «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صَلّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلّمَ عَبْدُهُ ورسوله، أرسله لإِنْفَاذِ أَمْرِهِ، وإِنْهَاءِ عُذْرِهِ، وتَقْدِيمِ نُذُرِهِ».

البحراني: «وإنفاذِ أمرِه: إجراؤه لأحكامه على قلوب الخلق ليقرّوا بالعبودّية له. وإنهاءِ عُذرِه في أقواله وأفعاله. وتَقديمِ نُذُره؛ وهو التخويفات الواردة على ألسنة الرّسُل عليهم السّلام إلى الخلق قبل لقائه، الجاذبة لهم إلى لزوم طاعته. وظاهرٌ كونُ الثلاثة أعراضاً للبعثة».

***

v    «..دَفَنَ الله بِهِ الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ».

***

v    «حَتَّى بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ شَهِيداً، وبَشِيراً، ونَذِيراً..».

***

v    «حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِسٍ، وأَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وبَعِيثُكَ نِعْمَةً، ورَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً».

الخوئي: «وأَنارَ علَماً لِحابِس: أصل إنارة العلَم للحابِس أن يوقَد عليه النار ويُستنار ليهتدي به الضّال الحابس؛ أي الذي حبس ناقته ووقف لا يدري كيف يهتدي المنهج، واستعارتُه هنا لإظهاره، صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنوار الهداية ليهتدي بها مَن حبستْه ظلمة الحيرة والشبهة عن سلوك سبيل الحقّ».

***

v    «أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ وشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ، فَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ ولَا مُقَصِّرٍ، وجَاهَدَ فِي الله أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ ولَا مُعَذِّرٍ».

***

v    «فَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسلّم.. لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، ومِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ».

***

v    «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّفِيُّ، وأَمِينُهُ الرَّضِيُّ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ، أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ».

الخوئي: «أَرسلَهُ بِوُجوبِ الحُجَج: أي أرسله مصاحَباً بالحجج الواجب قبولها على الخلق، لكفايتها في مقام الحجيّة من المعجزات الظاهرات والآيات البيّنات. أو المراد أنّه لمّا كان الإعذار والإنذار واجباً عليه تعالى، بمقتضى اللطف، أرسله لذلك ليهلك مَن هلك عن بيّنة ويحيى مَن حَيّ عن بيّنة، ولئلّا يكون للناس على الله حجّةٌ بعد الرّسل».

***

v    «..جَعَلَهُ الله بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ، وكَرَامَةً لأُمَّتِهِ، ورَبِيعاً لأَهْلِ زَمَانِهِ، ورِفْعَةً لأَعْوَانِهِ، وشَرَفاً لأَنْصَارِهِ».

***

v    «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسلّم، نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ..». (المهيمن: الشاهد)

 

 

حتّى تفرّى الليل عن صُبحه

البعثة النبويّة في خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام

§        شرح: العلّامة الشيخ مصباح اليزدي

* تتضمّن هذه المقالة مقتطفات من خطبة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في المسجد النبويّ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهي برواية العلامة المجلسي في (البحار) عن (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي.

المقتطفات المشار إليها ترتبط بما ذكرتْه، عليها السلام، عن الحضيض الذي تقلّب فيه العرب قبل بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكيف أنقذهم الله تبارك وتعالى ببركة رسول الله، حتّى أسفر الصبح ونطقوا بكلمة الإخلاص.

تبقى الإشارة إلى أنّنا اعتمدنا شرح العلّامة المجلسي قدّس سرّه لعددٍ من المفردات، وأرفقنا الفقرات بتوضيحات للعلّامة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي حفظه المولى، انتخبناها، بتصرّف، من سلسلة محاضراته في شرح «الخطبة الفاطمية»، كان ألقاها بين عامي 2010 و2011م في مكتب وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظلّه.

«شعائر»

 

يَعدّ العلامة السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه، خطبة الصدّيقة الكبرى عليها السلام، في المسجد النبويّ من «الحُجج البالغة»، ويؤكّد أنّ أهل البيت عليهم السلام، كانوا يُلزمون أبناءهم بحفظها كما يلزمونهم بحفظ القرآن الكريم.

وقد تضمّنت هذه الخطبة الشريفة جملةً من المفاهيم والعناوين المفصلية، منها «بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله»، حيث تقول الصدّيقة الزهراء عليها السلام، في مستهلّها:

«وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وسَمَّاهُ قبلَ أَنِ اجْتَبَلَهُ، واصْطَفاهُ قَبلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الخَلائِقُ بِالغَيْبِ مَكنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ، وبِنِهايَةِ العَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَآيِلِ الأُمُورِ، وإِحَاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ المَقْدُورِ، ابْتَعَثَهُ‏ الله‏ إِتْمَاماً لِأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ رَحْمَتِهِ، فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً للهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ الله بِأَبِي مُحَمَّدٍ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الْأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ».

وفي مقطع آخر من خطبتها تقول صلوات الله عليها:

«فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلًا عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ‏ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، وَيَنْكُتُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ، وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ.

وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ‏ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ».

***

العلامة المجلسي: «الجَبْل: الخَلق، يقال: جَبَلهم الله أي خلقهم، وجَبَله على الشيء أي طَبَعه عليه، ولعلّ المعنى أنّه تعالى سمّاه لأنبيائه قبل أن يخلقه.

* البُهَم: جمع بُهمة بالضمّ، وهي مشكلات الأمور.

* الصّدْع: الإظهار، تقول: صَدَعتُ الشيء، أي أظهرته، وصَدَعتُ بالحقّ إذا تكلمتُ به جهاراً. * المَدْرَجة: المذهب والمسلك.

* الثَّبَج بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه. والكَظَم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان صلّى الله عليه وآله، لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم، ولا يداريهم في الدعوة.

* المراد بالحِكْمة: البراهين القاطعة، وهي للخواصّ، وبالمَوعظة الحَسَنة: الخطابات المقنعة والعِبر النافعة، وهي للعوامّ.

* النَّكْت: إلقاءُ الرجل على رأسه، والهام جمع الهامة، بالتخفيف فيهما، وهي الرأس، والمراد قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم. وقيل: أُريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها.

* الوَشِيظ: السفَلَة من الناس.

* كلِمة الإِخلاص: كلمة التوحيد. وفيه تعريضٌ بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم.

* البِيض الخِمَاص: (المراد به هنا الكُمّل من الناس، بِيضِ الوجوه من الصلاح، وخِماص البطون من الصوم والتعفّف عن أموال الناس).

* مُذْقَة الشّارب: شرْبَتُه. والنُّهْزَة بالضمّ: الفرصة، أي محلّ نهزته. أي كنتم قليلين أذلّاء، يتخطّفكم الناس بسهولة.

* القَبْسة: شعلة من نار يقتبس من معظمها. والإضافة إلى العجلان لبيان القلّة والحقارة.

* وطيّ القدَم: مَثل مشهور في المغلوبية والمذلّة.

* الطَّرْق بالفتح: ماء السماء (تبتذله) الإبل.

* الوَرَق بالتحريك: ورق الشجر. والمقصود وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم، ولفقرهم وقلّة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي.

* الخاسِئ: المبعَد المطرود.

* التّخَطُّف: استلاب الشيء وأخْذه بسرعة، اقتُبس من قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26). وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين عليه السلام، إنّ الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، والمراد بالنّاس: سائر العرب أو الأعمّ.

* اللَّتَيّا: بفتح اللّام وتشديد الياء: تصغير الّتي، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.

* مُني بِكذا -على صيغة المجهول - أي ابتُلي. وبُهَم الرجال: الشجعان منهم. وذُؤْبان العَرَب: لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم. والمَرَدة: العتاة المتكبرون المجاوزون للحدّ».

***

اليزدي: «كان هدف الزهراء سلام الله عليها من إلقائها هذه الخطبة، إنقاذ الناس من تبعات الخطيئة التي اقترفوها بمتابعتهم للمنافقين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ومن هذا المنطلق انْبَرَت عليها السلام، بادئ ذي بدء، تعرّف المستمعين بمقام الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله، وتذكّرهم بالجهود المضنية التي تجشّمها في سبيل هداية الناس، لا سيّما أهل الجزيرة العربيّة، الذين استنقذهم النبيّ من حضيض الذلّة إلى ذُرى المجد والعزّة.

ثمّ تستعرض الصديقة الزهراء سلام الله عليها، مفرداتٍ من جهاد النبيّ صلّى الله عليه وآله، في سبيل استنقاذ الناس، وفق أسلوبٍ مقتبسٍ من القرآن الكريم:

قال الله تعالى في الآيتين 24 و25 من سورة (الأنفال): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينْ‏َ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

فبعد أن تطرح الآية موضوعَ طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله، وأنّ طاعته مدعاة لحياة الإنسان، يتحوّل الكلام إلى لهجة التهديد، بما معناه: إذا خالفتم النبيّ فستتورّطون بفتنة عظيمة.

ويقول عزّ وجلّ، في الآية 26 من السورة ذاتها: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي أنّكم كنتم كالحمائم التي تخاف أن تتخطّفها الصقور، إلى أن آواكم الله ونصركم ورزقكم من الطيّبات، كلّ ذلك حتّى تشكروا نِعمه عليكم. والباري تبارك وتعالى يريدنا أن نشكر كي نبلغ الكمال، فنحظى بأهليّة نيل المزيد من الرحمات.

وكأنّ كلمات الزهراء سلام الله عليها، جاءت تفسيراً لهذه الآيات، فهي تقول: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، يبذل قصارى جهده في هداية الناس. فلم يقتصر عمله على الدعوة، بل إنّه لم يألُ جهداً إلّا وبذله، ولم يترك معونة إلّا وأسداها، حتّى فتح مكّة وحطّم الأصنام: «حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ»؛ وتفرّق جمع الكفّار والمشركين وتشتّتوا ولاذوا بالفرار والهزيمة، بعد أن كانوا قد ائتلفوا على شنّ الحروب على الإسلام.

* قولها عليها السلام: «حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ»؛ هنا تستعير الصدّيقة الزهراء عبارة هي غاية في الجمال والبلاغة؛ إذ تشبّه الليل بستارٍ أسود قاتم قد تمزّق وتفرّى، فبان بياض الصبح من بين مِزَقِه. فلقد كانت الأيّام الاولى للبعثة النبويّة شديدة المحنة والقتامة على المسلمين الذين قاسوا فيها أشدّ أنواع العذاب والمعاناة، حتّى لطُف الله بهم فمزّق ستار الليل المظلم عن صبح أملٍ أبلج.

* قولها عليها السلام: «وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ»؛ إذ لم يكن الحقّ حتّى ذلك الحين واضحاً، بل إنّ جهاد الرسول صلّى الله عليه وآله وجهوده المضنية هي التي هيّأت الأرضيّة لظهور الحقّ واضحاً وتجلّي كُنهه للناس.

* قولها عليها السلام: «وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ»؛ فقد كانت الشياطين الإنس والجنّ تثير الضجيج والصّخَب كي لا يصل صوت الحقّ إلى الأسماع. وهذه التعابير تُعدّ غاية في الجمال.

* قولها عليها السلام: «وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ»؛ فقد أُقصيت عوامل النفاق بعد أن نفذت إلى صفوف المسلمين. «وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ»؛ وهنا تشبّه مولاتنا الزهراء عليها السلام، الكفر والعناد بما يطرأ على الأمر من عُقَد تعيق تقدّمه وانسيابه. فكأنّ مهمّة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، التبليغيّة واجهتها عُقَد عصيّة على الحلّ، واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى انحلّت تلك العُقَد بالتدريج.

* قولها عليها السلام: «وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ»؛ فعندما خرستْ الشياطين وسكت الناطقون باسمهم، نطق المنادي بنداء الإسلام، وبلغتْ دعوةُ النبيّ أسماعكم فآمنتم.

ثمّ تعود سلام الله عليه إلى استعمال التعابير الأدبيّة الرائعة من جديد فتقول مخاطبة الحاضرين، لقد كنتم:

- «مُذْقَةَ الشَّارِبِ»؛ أي جرعة الماء التي يتسنّى لأيّ أحد شربها وابتلاعها.

- «وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ»؛ مطمع كلّ طامع.

- «وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ»؛ وهي الشعلة التي يختطفها المستعجل من دون أن تحترق يده أو تنطفئ النار. فقد كنتم إلى هذه الدرجة من الضعف وعلى وشك الأفول، ومع ذلك فقد استمرّت حياتكم حتّى آلت بكم الأمور إلى ما أنتم عليه اليوم.

أمّا من الناحية الاجتماعيّة فكنتم «أَذِلَّةً خَاسِئِينَ»؛ تشكون الذلّ والهوان فلا يكترث بكم أحد. «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»؛ وهي سلام الله عليها هنا تشير ثانيةً إلى الآية 26 من سورة (الأنفال).

فالصدّيقة الزهراء عليها السلام تذكّر الناس بهذه الأمور من أجل أن توقظ ضمائرهم، وإلّا فإنّ قضية فدك لم تكن سوى ذريعة لهداية الناس».

 

 

أشرف الأوقات من الأزل إلى الأبد

يوم المبعث النبويّ الشريف

§        الإمام الخميني قدّس سرّه

* ما يلي مختارات من كلمات وأقوال الإمام الخميني قدّس سرّه، ألقاها في مناسبات عدّة، وتطرّق فيها إلى معاني البعثة النبوية وأهدافها والبركات الناجمة عنها، نوردها بتصرّفٍ يسير، نقلاً عن الموقع الإلكتروني لـ«دار الولاية للثقافة والإعلام».

«شعائر»

 

لا تمتاز الأزمنة بذاتها عن بعضها البعض، فالزمن موجودٌ سارٍ متحرّك ومتعيّن، ولا يوجد أيّ فرق بين فترة زمنية وأخرى. إنّ شرافة الزمن أو نحوسته تعود للأحداث الواقعة فيه. وإذا كان الأمر كذلك، وهو أنّ شرافة الزمن تكون بسبب الحادثة التي تقع فيه، فيجب عليّ أن أقول بأنّه لا يوجد يوم طوال الدهر - من الأزل إلى الأبد – أشرف من يوم مبعث الرسول صلّى الله عليه وآله، لأنّه لم تقع حادثة أعظم من هذه الحادثة.

لقد شهدت الدنيا حوادث عظيمة؛ مثل بعثة الأنبياء العظام، وأُولي العزم، وكثير من الأحداث الأخرى. لكن لا يوجد حدث أعظم من بعثة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، ولا يمكن تصوّر وقوعه أيضاً، لعدم وجود مَن هو أعظم من الرسول الأكرم في الوجود، ما عدا الذات الإلهية المقدسة، ولا يوجد حدثٌ أعظم من بعثته.

إنّها بعثة خاتَم الرسُل وأعظم شخصية في عالم الإمكان، ونزول أعظم القوانين الإلهية، وهذه الواقعة حدثت في مثل هذا اليوم، فعظّمت من شأنه وشرّفته، ولا يوجد مثل هذا اليوم من الأزل وإلى الأبد، لذا فإننّي أبارك هذا اليوم لجميع المسلمين والمستضعفين.

هدف البعثة تزكية النفوس

أوّل آية نزلت على الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله هي قوله تعالى في سورة (العلق): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..﴾، وورد في نفس هذه السورة، قوله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾.

ثمّة وضع نفسي محدّد يُهيمن على أيّ إنسان؛ وهو أنّه يطغى بمجرّد أن يستغني. فالاستغناء المالي الذي يحصل للإنسان يجرّه إلى الطغيان بنفس مقدار الاستغناء، ويطغى الإنسان عندما يستغني علمياً، ويطغى عندما يحصل على مقام، وبمقدار ذلك المقام.

وإذا لم يعمل الإنسان على تزكية نفسه، فإنّ الأمور الدنيوية التي يحصل عليها ستجرّه إلى الطغيان الذي يزداد بازديادها. ثمّ إنّ وبالَ هذا المال والجاه والمنصب من الأمور التي تجلب للإنسان الآلام هنا، وبمقدار أكثر هناك في الآخرة.

وللتخلّص من هذه الحالة، لا بدّ من تعليم الكتاب والحكمة، وتعلّم الكتاب والحكمة، والتزكية.

هدف البعثة هو إنقاذنا من هذا الطغيان ولكي نزكّي أنفسنا، ونصفّي نفوسنا، وننقذها من هذه الظلمات. وغاية البعثة تزكية الناس حتى يتعلّموا - بواسطة التزكية - الحكمة والقرآن والكتاب، فلو تزكّوا لَما حصل الطغيان.

البعثة وإيجاد تحوّل علمي - عرفاني في العالم

إنّ البعثة وماهيّتها وبركاتها ليست من المواضيع التي يمكن أن نذكرها بألسنتنا القاصرة، فأبعادها واسعة، وجهاتها المادية والمعنوية كثيرة.

لقد أحدثت البعثة تحوّلاً علمياً - عرفانياً في العالم، بحيث إنّ الفلسفات اليونانية تبدّلت إلى عرفان عيني وشهود حقيقي لأصحاب الشهود...

بعد أن تمّ الاتصال بين صاحب المقام النبويّ المقدّس الوليّ الأعظم، وبين مبدأ الفيض بالمقدار الذي يُمكن فيه الاتصال، نزل عليه القرآن نزولاً وتنزيلاً، وتجلّى في قلبه، وجرى على لسانه بعد النزول بالمراتب السبع. والكتاب الذي بين أيدينا الآن هو النزول السابع للقرآن، وهذا من بركات البعثة، وهذا النزول السابع للقرآن أحدث تغييراً كبيراً في العرفان الإسلامي، وفي العرفان العالمي، بحيث إنّ أهل المعرفة يعلمون نبذةً منه، وإنّ جميع أبعاده ما تزال مجهولة للإنسان، وقد تبقى مجهولة.

ثمّة آيات في القرآن الكريم - والتي هي من بركات البعثة - يعتقد الإنسان بأنّها بيّنة مفهومة، لكنّ أسرارها لم تُكشف لحدّ الآن؛ كقوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.. وَهُوَ مَعَكُمْ..﴾ (الحديد:3-4). و﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾ (النور:35)، فهذه آيات لا يتمكّن المفسّر من فهمها، ولا الفيلسوف ولا العارف. ومن يدّعي أنّه فهم معناها فقد غرق في الجهل...

هذه المعرفة الحاصلة، لأهل المعرفة، هي من بركات البعثة. وهي بسبب نزول كتاب الله على قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله...

لو لم يكن القرآن موجوداً، لأُغلق باب معرفة الله إلى أبد الآبدين... وثمّة لطائف أخرى في القرآن، وهذه كلّها من بركات البعثة التي لم تتجلَّ في الماديات بالمقدار الذي تجلّت في المعنويات...

البعثة ورفع الظلم

جاءت بعثة رسول الله صلّى الله عليه وآله لتوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته. وتهدف البعثة أيضاً إلى إنقاذ أخلاق الناس، ونفوسهم، وأرواحهم، وأجسامهم من الظلمات، ليحلّ محلّها النور، ولتزيح ظلمة الجهل وتأتي مكانها بنور العمل، وأن تزيل ظلام الظلم، وتحقّق مكانه العدل، ليشعّ نوره...

ختم النبوّة

كان للأنبياء السابقين أيضاً كشفٌ وبَسْط، ولكن ليس على صورة الإطلاق، بل في الجملة، وإنْ كانوا مختلفين في هذا المعنى، فمثلاً كان لأولي العزم كشفٌ للحقائق وبسطٌ أكثر، وإنّ النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله - والذي كان عنده كشف تامّ وبسط تامّ - أصبح خاتَماً للأنبياء، يعني أنّه قد انكشفت الحقيقة للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، بذلك المقدار الذي يُمكن لها أن تنكشف، وقد بُسطت له الحقائق بذلك المقدار الذي يُمكن لها ذلك، لذا فلا يمكن أن يكون هناك كشف وبسط أتمّ من هذا لتظهر نبوّة أخرى.

 

 

إحياءٌ لدفائن العقول

أساسيات في فهم معاني البعثة النبوية

§        الإمام الخامنئي دام ظلّه

 

* مقتطفات هامّة جدّاً، نوردها مختصرة عن الخطاب القيّم الذي ألقاه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظلّه الشريف، في لقائه مسؤولي النظام، وسفراء البلدان الإسلامية، وحشداً من عوائل الشهداء بمناسبة ذكرى المبعث النبويّ الشريف (27 رجب 1437 هجريّة)، الموافق للسادس من أيار 2016م.

«شعائر»

 

 

* يومُ المبعث هو يوم الرجوع إلى الفطرة الإلهية التي أُودعت في سريرة البشر. وقد فَطَر الله تعالى الناس على مناصرة الحق والعدل والجهاد في سبيل المظلومين.. هذه هي الفطرة الإنسانية.

لأمير المؤمنين عليه السلام عبارة وردت في (نهج البلاغة) الشريف حول الغاية من بعثة الأنبياء، ولا بدّ من التدبّر في هذه العبارة كثيراً، وهي قوله عليه السلام: «لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ».

- «لِیَستَأدُوهُم میثاقَ فِطرَتِه»: أي أنّ الأنبياء يحثّون الناس على العمل بميثاق الفطرة المودَع في باطنهم، والإقرار به.. فإنّ الله سبحانه وتعالى يريد من البشر أن يكونوا أحراراً، وأن يستقيموا وفق العدل والصلاح، وأن لا يعبدوا غيره.

- «وَیُذَکِّروهُم مَنسِيَّ نِعمَتِه»: ذلك أنّنا نغفل عن نعمة الوجود، ونعمة الصحة، ونعمة العقل، ونعمة الأخلاق الحسنة التي أودعها الله في سرائرنا، ومهمّة الأنبياء هي تذكير الناس بها.

- «وَیَحتَجّوا عَلَیهِم بِالتَّبلیغ»: أي أنّهم يتمّون الحجّة على الناس، ويوصلون إلى مسامعهم كلمة الحق، ويكشفون لهم الحقائق؛ ذلك أنّ التبيين والبيان هو الواجب الأهم الملقى على عاتق الأنبياء، فأعداء الأنبياء يستغلّون حالات الجهل وكتمان الحقائق، ويتستّرون خلف ستار النفاق، والأنبياء يشقّون هذا الستار.

- «وَیُثیرُوا لَهُم دَفائِنَ العُقول»: جاء الأنبياء ليحثّوا الناس على التعقّل، والتفكّر، والتدبّر.

- «وَیُرُوهُم آیاتِ الـمَقدِرَة»: أي أنّ الأنبياء يهدون عقول البشر إلى التوحيد وإلى آيات الله، ويضعون أمام أنظارهم آيات قدرته تعالى. فإنّ العقل يعجز – من دون هداية الأنبياء – عن إدراك الحقيقة كما هي.. وقوّة العقل والتفكّر لا تتّسم بالأهمية إلّا إذا اقترنت بهداية الله ومَدده سبحانه.. هذه هي البعثة.

 

 

قد يخدم العلم «الجاهلية»!

* لا تقتصر الجاهلية على حقبة زمنية محددة. الجاهلية - كما البعثة في مقابلها - مستمرة وسارية في الزمن.

الجاهلية التي تقابل بعثة الأنبياء لا تعني فقدان العلم، و«الجهل» هنا لا يقابل «العلم»، بل قد يصبّ العلم في خدمة الجاهلية، كما هو الحال في عالَمنا المعاصر، حيث تَقدّم العلم البشري ولكنّه مسخَّرٌ لخدمة نفس تلك الجاهلية التي بُعث الأنبياء من أجل القضاء عليها.

هذه الجاهلية تقابل «العقل» الذي تمّت هدايته بواسطة الأنبياء؛ فإذا ساد العقل المستظلّ بظلّ هداية الأنبياء حياةَ البشر، ستكون حياتهم محفوفةً بالسعادة. وأمّا إذا كانت الشهوة والغضب والأنانيات هي الحاكمة، فسوف تحترق البشرية في جحيمٍ ملتهبٍ من التعاسة والشقاء؛ الأمر الذي شاهدناه على مدى التاريخ، ونشاهده اليوم أيضاً.

 

 

ندعو لجميع البشر بالخير

* نحن نطلب الخير لجميع البشر، حتى لأولئك الرؤساء الفاسدين المفسِدين في الأنظمة الطاغوتية. نطلب أن يهديهم الله سبحانه وتعالى وأن يُحيّدهم عن طريق الباطل، أو أن يُميتهم لكي لا يتوغّلوا  في الفساد، ولا يُوجبوا غضب الله أكثر ممّا يفعلون الآن. وهذا في الحقيقة دعاءٌ بالخير، فإنّ الإسلام والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، يريدان الخير للبشرية جمعاء.

 

من نسله اثنا عشر رئيساً

بشائر الأنبياء بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله

§        السيد سامي البدري*

قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران:81.

وقال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام، في تفسيرها: «لَمْ يَبعَثِ اللهُ تعالى نبيّاً، آدَمَ فَمَن بَعدَهُ، إلَّا أُخِذَ عليهِ العَهد في مُحَمَّدٍ صلّى الله عليهِ وآلِه وسَلَّم، لَئِنْ بُعِثَ وهو حَيٌّ ليؤمِنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأَمَرَهُ أنْ يَأخُذَ العَهْدَ على قَومِه».

وقال تعالى: ﴿..يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ..﴾ الأعراف:157.

وفي التوراة المتداولة نصوص عديدة تبشّر بالنبيّ المكّيّ الإسماعيليّ وأوصيائه الاثني عشر عليهم السلام. منها ما ذكره ثقة الإسلام الطبرسي في (إعلام الورى)، وهو الفقرة العشرون، من الإصحاح السابع عشر من سِفر التكوين، وترجمته في النسخ المطبوعة المتداولة هي: «أمّا إسماعيل فقد سمعتُ قولك فيه، ها أنا ذا أُباركه وأُنمّيه وأُكثِّره جدّاً جدّاً، ويَلِدُ اثنَي عشر رئيساً وأجعله أمَّةً عظيمة».

وقد أجمع علماء المسلمين وعلماء اليهود الذين أسلموا على أنّ هذا النصّ يبشّر بمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وأنّ عبارة «جدّاً جدّاً» وهي ترجمة لعبارة «بمآد مِآد» العبرية الواردة في النصّ العبريّ، كانت بالأصل تشير إلى اسم «محمّد» صلّى الله عليه وآله، ثم حُرّفت إلى كلمة متكافئة من ناحية القيمة العددية مع اسم «محمّد» وهي «بمآد مِآد»، إذ كلاهما يساوي (92). والهدف من ذلك هو حصر المعرفة بالبشارة بكَهنة اليهود.

وإذا ثبت ذلك -  وهو ثابت - كان «الاثنا عشر» بعدها ممّا يرتبط بـ«محمد» وليس بـ«إسماعيل»، وهو ما كان يفهمه علماء اليهود الذين أسلموا، حيث كانوا يختارون التشيُّع على غيره من المذاهب، باعتباره مذهباً يقوم على الإيمان باثني عشر وصيّاً للنبيّ صلّى الله عليه وآله.

وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الشعراء:197. وقال أيضاً: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ البقرة:89.

وجاء في رواية ابن أبي نملة، قال: «كانت يهود بني قرَيظة يدرُسون ذِكرَ رسولِ الله في كُتبهم، ويعلِّمون الوِلدان بصفته واسمه ومهاجره المدينة، فلمّا ظَهَرَ حسَدوا وأنكروا». هكذا في (دلائل النبوّة) للبيهقي، وفي غيره.

وقال ابن إسحاق، كما في (السِّيرة) لابن هشام: «..وضَع عيسى ابن مريم في ما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، ممّا أثبته يُحَنَّس – يريد يوحنّا صاحب الإنجيل - الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام، في رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، أنّه قال: (..ولكن لا بدّ من أن تتمّ الكلمة التي في النّاموس.. فلو قد جاء "المنحمنا" هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ وروح القُدس، هذا الذي من عند الربّ خرج، فهو شهيدٌ عليَّ وأنتم و"روح القدس" أيضاً..).

قال ابن إسحاق: «المنحمنا بالسريانية: محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، وهو بالرومية: البرقليطس».

(منحمنا: اسم مضاف إلى ضمير الجمع المتكلّم، وتعني حرفياً «مُسَلِّينا» أو «مُعَزِّينا»، وأصلها عبريّ من الفعل: نحم)      

أقول: الذي ذكره ابن إسحاق هو رواية شفوية بالمعنى للفقرات (15-21) من الفصل الرابع عشر، والفقرتين (26-27) من الفصل الخامس عشر، والفقرة (13) من الفصل السادس عشر من إنجيل يوحنّا، وفيما يلي نصوصها:

قال: «إنْ كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّيَاً آخر ليمكث معكم إلى الأبد.. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبّني..». (15ـ21: 14)

وقال: «ومتى جاء المُعَزِّي.. فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء». (26ـ27: 15)

وقال: «ومتى جاء روح الحقّ فهو يُرشدكم إلى جميع الحقّ لأنّه لا يتكلّم من نفسه، بل كلّ ما يسمع يتكلّم به ويخبركم بأمور آتية». (13: 16)

ولفظة «المُعَزِّي» جعلوها ترجمة للّفظة الإغريقية «البرقليطس»، التي قال عنها ابن إسحاق: إنّها باللغة الرّومية، والإغريقية هي اللغة الأقدم للإنجيل.

والنصارى اليوم يقولون إنّ في اللغة الإغريقية لفظتين:

الأولى: (باراكليتوس) (Parakletos) وتعني المعزّي، المسلّي.

الثانية: (بيريكليتوس) (Perekletos) وتعني حرفياً ما تعنيه لفظة أحمد العربية.

ثمّ يقولون: إنّ الذي ورد في النسخة الإغريقية للإنجيل هو اللفظة الأولى وليست الثانية، وبالتالي فلا دلالة لها على ما ذكره القرآن الكريم من أنّ عيسى عليه السلام كان قد بشّر بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، كما في الآية الكريمة ﴿..وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..﴾ الصف:6.

ونحن نجيبهم بأمرين:

الأول: أنّ الذي يُنعم النظر في النصوص الآنفة الذكر يعلم أنّها تنبئ عن بعثة نبيٍّ تبقى نبوّته إلى الأبد، يخبر هذا النبيّ بمغيَّبات ويشهد لعيسى عليه السلام بالنبوَّة والرّسالة، وقد تحقّق ذلك بالنبيّ محمَّد صلّى الله عليه وآله ولم يأتِ نبيٌّ بعده، وقد مضى على نبوّته أربعة عشر قرناً من الزمن.

الثاني: أنّ النسخة العبرية من الإنجيل المتداولة فعلاً ذكرت اللفظة الثانية (بيريكليتوس) (فْرَقْليطوس) (مع حركة السكون تحت حرف الفاء وحركة الفتحة تحت حرف الراء، ولو كان المترجم يريد اللفظة الأولى لكتب حركة المد بالألف تحت حرف الفاء وحرف الراء)، ممّـا يدل على أنّ وجود لفظة «باراكليتوس» في الأناجيل الإغريقية المتداولة عند النصارى من التحريف المستحدَث.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مختصر من أحد فصول كتابه (السيرة النبوية)

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/03/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات