«.. فتأسَّ بنبيِّك الأطْيبِ الأَطْهَر..»

«.. فتأسَّ بنبيِّك الأطْيبِ الأَطْهَر..»

28/07/2011

نقتدي بعليٍّ وأهلِ البيت، لِنَصِل إلى سيِّد النّبيِّين

الشيخ حسين كوراني
 
* «مَنْ عَظُمَتِ الدُّنيا في عَينه، وكَبُر موقعُها في قلبه، آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبداً لها..».
* «أحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بِنَبيِّه والمُقْتَصُّ لِأثَره، قَضَمَ الدُّنيا قَضْماً، ولم يُعِرْها طَرْفاً..».
هكذا تحدَّث نَفْسُ المصطفى، عليٌّ أمير المؤمنين عليه السلام في الدّعوة إلى الإقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله.
وهذا ما نقتدي بعليٍّ عليه السلام، من أجله وللوصول إليه.


أمرَ الله تعالى بالإقتداء بِسيّد الأنبياء صلّى الله عليه وآله، فقال سبحانه:
﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾  الأحزاب:21
 وكان الإمام عليّ عليه السلام، أوّل المقتدين برسول الله صلّى الله عليه وآله، وبلَغ اقتداؤه به إلى حيث كان نفسه صلّى الله عليه وآله ﴿..وأنفسَنا وأنفسكم..﴾ آل عمران:61، وهي مرتبة فوق «المؤاخاة» التي قامت على أساس «الأشباه والنَّظائر»، كما يُذكر في محلِّه.
بدأ هذا التَّأسّي العلويّ والإقتداء بسيِّد النبيِّين صلّى الله عليه وآله  قبل البعثة، وعندما نزل الوحي شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن عليّاً عليه السلام، كان تَجَلِّيَ رسول الله إلى حَدِّ التَّماهي في كلِّ الخصائص، ما عدا النبوَّة.
في بَيان نوع اقتدائه بِخير خلق الله تعالى، وبيان هذه الشَّهادة النبويّة الفريدة، قال عليٌّ عليه السلام:
« وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله، وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلّى الله عليه وآله، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر».

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.. ".." أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ.

كان عليٌّ عليه السلام آنذاك في العاشرة من عمره الشَّريف، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يؤكِّد لِلأُمّة وحدة الحقيقة المحمّديّة، والنُّور المحمَّديّ، والتَّلازم بين مسيرة ﴿إقرأ باسم ربِّك..﴾ العلق:1، ونزول الوحي، وبين ولاية عليّ وأهل البيت عليهم السلام، وأنَّ ضمانة استمرار الرسالة الإسلاميّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فَرع حُسن اقتداءِ الأمّة بأهلِ البيت عليهم السلام، لِتُثبت –الأمَّة-  حُسنَ اقتدائها برسول الله صلّى الله عليه وآله.
من هنا وَجَب توكيد حقيقة أنَّنا نقتدي بعليٍّ عليه السلام، لِنَصل به ومعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله.
يعني ذلك أنَّنا ونحن نَتَتَبَّعُ مفردات سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، لِنُحْسِن التأسِّي والإقتداء، نَجِد السُّبُل متعدِّدة، والتّلقِّي من هذه الرواية أو تلك متفاوِتاً أو مختلفاً، فنَبحث عن الصِّراط المحمَّدي عند أهل البيت عليهم السلام، فإذا بنا وجهاً لِوجهٍ أمامَ حقائقِ سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فنطمئنَّ إلى أنَّ سلامةَ التأسِّي رَهْن ﴿المودّة في القُربى﴾ والتزامِهم عليهم السلام، بمعنى أنْ نأخذ منهم العقيدة، وفِقْهَ القرآن الكريم وتفسيرَه، والصَّحيح من سُنَّة النبيّ، والثابتَ من سيرته صلّى الله عليه وآله.

فقه الحياة: الرُّؤية الكونيَّة

ما هي مجالات الإقتداء؟

عندما نقول إنَّ علينا أن نقتدي برسول الله صلّى الله عليه وآله، فما هي الموارد والمَديات التي يَشملها واجب الإقتداء؟
والجواب: لا بدّ أن تَتَّسع ساحة الإقتداء لِتَشمل الرُّؤية الكونيَّة بجميع أبعادها النَّظريّة والسَّلوكيّة، لتكون العقيدة مُطابِقة لعقيدة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويكون الموقف النَّظريّ من كلِّ حقائق الوجود مُنسجماً مع هذه العقيدة، ويكون السُّلوك التطبيقي العَمَلي مُتَّسقاً مع الفِكر الذي هو تَجلِّي الرُّؤية الكونيّة الشَّاملة: العقيدة والرُّؤى المبنيَّة على أُسُسِها، وأنظمة السُّلوك التي هي ثِمار هذه العقيدة ورُؤاها في مختلف ميادين العلاقة مع الله تعالى، والإنسان، والكَوْن.
تَتَّسِع ساحة الإقتداء لِتَشمل الرُّؤية الكَوْنيّة بجميع أبعادها النَّظريّة والسُّلوكيّة، لِتكون العقيدة والسُّلوك مطابقَيْن لعقيدة رسول الله، وسُنَّته، وسِيرتِه.
ويُشكِّل الموقف من الدُّنيا، نقطة الإرتكاز الأبرز في مجال الإقتداء، وذلك بِلِحاظ العناصر التالية:
1- أنَّ الدُّنيا هي الأرضيّة التي يَقف عليها الإنسان عندما يُحاول بَلْوَرة رؤيته الكَونيَّة.
2-  أنَّها العالم المتوسِّط بين النَّشأة الأولى والنَّشأة الآخرة. بين المبدأ والمَعاد.
3- أنَّها عالَم التّكامُل الإنسانيّ، وعلى صورة السَّعي فيها تكون ولادة الإنسان الثانية عند موت الجسد، وانتقال الروح من الحياة الدُّنيا إلى الحياة العُليا.
بناءً على ما تقدَّم، فإنَّ الموقف من الدُّنيا، يكشف عن حقيقة اعتقاد كلِّ شخص، كما يُحدِّد معالِم فكره ونَمَط سلوكه.
والمقصودُ بالموقف من الدُّنيا، هو طبيعةُ فهمِها والنّظرةِ إليها، والواقعيّةُ في التّعامُل معها ومع النّاس والوجود.
ليست الدُّنيا -على الإطلاق- مذمومة، كما أنَّ الآخِرة ليست مَمدوحةً على الإطلاق. في الآخرة جنَّةٌ ونار، وفي الدُّنيا كذلك جنّة ونار، والفِكر والسُّلوك طريق إلى هذه أو تلك.
كما لا يصحّ أن يطغى حبُّ الآخِرة، فيُصادرَ الأخذَ من الدّنيا بنصيب، كذلك لا يَصحُّ أن يُصادرَ حبُّ الدُّنيا حبَّ الآخِرة. إعطاءُ كلٍّ حقَّه، هو العدل والصِّراط المستقيم.
وعندما يَصل الكلام إلى «الحقّ»، يتعيَّن التّدبُّر في حقيقة كلٍّ من الدُّنيا والآخرة، وحَجْمه.
سَيَتّضح دون عناء أنّ الدُّنيا ممرّ، والآخرة المُستقرّ. «الدّنيا ساعة، فاجْعَلْها طاعة»، كما رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
هذه السّاعة التي يجب أن تُعطى حقَّها، والتي لا يجوز أن يَتعلّق القلبُ بها فَيَطغى حبُّها ويُعمي ويُصِمّ، هي دارُ تحديدِ المَصير، والموقفُ منها، والسَّعي فيها، كلُّ رأسمال الإنسان والإنسانيّة. لذا كان الموقف من الدُّنيا نقطة ارتكاز الإقتداء بسيِّد النبيِّين صلّى الله عليه وآله.

فتأسَّ بنبيِّك الأطْيبِ الأَطْهَر

ميادين الإقتداء بسيّد النبيِّين التي نقف بباب عليٍّ  وأهل البيت عليهم السلام لِنَصِل إليها معرفةً، وعملاً، تَرتكِز إذاً إلى الموقف من الدُّنيا، وتتلخَّص في الإجابة على هذا السؤال: ماذا على كلِّ موحِّدٍ أن يفعل ليكون «عَبْدَ الله» لا  «عَبْدَ الدنيا»؟
أجاب عليٌّ عليه السلام على هذا السؤال المركزيّ، فتَحدَّث عن أصل المشكلة في الإشتباك بالدُّنيا، وكيف كانت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله في هذا المِضمار، فقال:

« وَكَذلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا في عَيْنِهِ، وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ، آثَرَهَا عَلَى اللهِ، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا، وَصَارَ عَبْداً لَهَا.وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا».

ثمَّ يتحدَّث أمير المؤمنين عن سيرة أربعة من النَبيِّين في الموقف من الدُّنيا، ثمَّ يعود إلى سيرة سيّد النّبيِّين، ليتّضح أنَّ المِشكاة واحدة، والنّهج واحد، والقُدوة  فيه للنّبيِّين وغيرهم، هو خيرُ خَلْقِ الله تعالى وسيِّدُ رُسُلِه صلّى الله عليه وآله.
يقول عليٌّ عليه السلام:
«وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسى كَلِيمِ اللهِ إذْ يَقُولُ: ﴿..رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ﴾ القصص:24، وَاللهِ، مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لاِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الاَْرْضِ، وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ.وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوودَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ، وقَارِىءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا! وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبسُ الْخَشِنَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بَاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ في الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الاَْرْضِ وَمَغَارِبهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ!فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الاَْطْيَبِ الاَْطْهَرِ صلّى الله عليه وآله، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى -وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لاَِثَرِهِ- قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للهِِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ. وَلَقَدْ كَانَ صلّى الله عليه وآله يَأْكُلُ عَلَى الاَْرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلاَنَةُ -لاِِحْدَى أَزْوَاجِهِ- غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلاَ يَرْجُو فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ».


فَلْيَنظُر ناظرٌ بعقلِه

«وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ. فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ وأتى بالإفك الْعَظِيمِ. وَإِنْ قَالَ: «أَكْرَمَهُ»، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ عزّوجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عَلَماً لِلسَّاعَةِ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، وَوَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَر، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ. وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يُحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى».

أبرزُ مظاهر حبِّ الدُّنيا

إذا لم يُوفَّق المسلم للتَأسِّي والإقتداء، وصار «عَبْد الدّنيا»، يَقِفُ من الدُّنيا موقف الحبِّ والإستلاب، فإنّ أبرز الأمراض التي تَفْتِك بقلبه وكيانه، والتي هي أبرز مظاهر هذا الإستلاب، كما يلي:
1- عبادة الهوى، والشَّهَوات، وفي هذا السِّياق يقع حبُّ المال، وعبادة الدِّرهم والدِّينار.
2-  التّكبُّر، وما يَنتج عنه من مساوىء الأخلاق.
3-  ظُلْمُ الناس والإعتداء على حقوقهم بما يُمثِّل من مجانبة العدل والإعتدال.

ولدى تحليل هذه المظاهر الأبرز والأخطر من مظاهر حُبِّ الدُّنيا، نَجِد أنفسنا أمام حقيقيتَين بالغتَي الأهميّة:

* الأولى: أنَّ هذه الأمراض الثّلاثة (عبادة الهَوَى، والتّكبُّر، وظُلم النَّاس والإعتداء على حقوقهم) هي جميعاً من فروع الظُّلم بِمعناه العام. عبادة غير الله تعالى شِرك، ﴿..إنّ الشِّرك لظلمٌ عظيم﴾ لقمان:13. والتكبُّر ظُلمٌ لِمَا يُمثِّله من تَجاوز حدِّ النّفس والغَيْر وحَقّهما، والعدوان على حقوق الآخرين ظُلم واضحٌ جَلِيّ.
* الثانية: أنَّ حُسن التَّديُّن والإستقامة، يعني إقامة العدل في النَّفس والحياة.
عبادة غير الله تعالى شِرك، ﴿إنّ الشِّرك لظلمٌ عظيم﴾. والتكبُّر ظُلم لِمَا يُمثِّله من تَجاوز حدِّ النّفس والغَيْر وحَقّهما،  والعدوان على حقوق الآخرين ظُلم واضحٌ جَلِيّ.

الظُّلم، وحبُّ المال، والإستئثار

مِن دلالات هذه الحقيقة الثانية: أنَّ مَن يُقيم على الظُّلم، ولا يفكِّر بتركه والخلاص من شروره، لا يمكن أن يَطمئنَّ إلى حُسن العاقبة، مهما كانت عباداته وأذكاره وأوراده.
ومِن دلالاتها أيضاً أنَّ العدل في التَّعامل مع المال، هو في صميم تحقيق العدالة الإجتماعيّة، إنْ على مستوى النَّفس أوالمجتمع، لأنَّ أكثر أنواع الظُّلم هي نتيجةٌ طبيعيّة لانعدام النَّظرة العادِلة في مجال التَّعامل مع المال.
ويَجتمع الظُّلم - بِمظهرَيْه: العُدوان على الخالق «الشِّرك»، والعدوانِ على المخلوق- مع سوء اشتباك النَّفْس بالمال، لِتَنتج منهما ظاهِرة الفقر المادّيّ التي عَصَفَت بالبشريّة وما تزال، ولِتَتَّحِد مواجهة هذه الظاهرة مع مواجهة الظُّلم، وسوء توزيع الثروات: «ما جاع فقيرٌ إلَّا بما مُتِّع به غنيّ».
هنا تبرز  خطورة «الإستئثار» بما هو حُبُّ التّملُّك للأمور المادّيّة والمعنويَّة، والتّفرُّد بها، وِفْقَ الذِّهنيّة الأنانيّة البغيضة: «على الدُّنيا من بعديَ الطُّوفان».
معنى أنَّ التّديُّن رهنُ إقامة العدل في النفس، والحياة، أن يُحدِّد المُتديِّن موقفه من  ظاهرة الفقر، محاولاً تحليل بَعيدَ مَرامي النصّ الشرعي الذي يُولِي خدمة عيال الله تعالى موقع «أفضل العبادات». فيُربِّي المؤمن نفسه على «الإيثار» بدلاً من الإستئثار. ولا يمكن تحقيق ذلك -عادةً- إلَّا باعتماد بساطة العيش.
هذه التَّربية للنفس، هي «التّزكية» وهي ساحة الإقتداء والتّأسِّي.

في آفاق هذه السّاحة التي تمتدّ على مدى العمر كلِّه والدنيا كلِّها، تتجلّى رغبات النّفس «العالَم الأكبر» لِتَكون في أحد خطَّيْن ونَجْدَيْن ونهجَيْن: عبادة الله، أو عبادة الهوى.


في خطِّ عبادة الله تعالى يَتجلّى العدلُ والحقُّ وثقافةُ القانونِ الإلهي، وحَمْل همّ الفقير والإيثار، والإستعداد لكلِّ تحدّيات مواجهة الظُّلم، وُصولاً إلى ما ليس فوقه بِرٌّ، وهو الشَّهادة في سبيل الله -سبيلِ النَّاس- إبتغاءَ الآجِلة الباقية، وتَحَرُّراً من الإغترار بالعاجلة الزّائلة الفانية، وخَوْضاً لِلغَمَرات من أجل تحرير النّاس «عِباد الله وعياله» من براثن الفقر والجوع والمرض والجهل، والفراعنة والطَّواغيت والقَوارين، والملإ والمُترفين الذين يَجري الشَّيطان منهم مجرى الدّم.
والعِبرة في ذلك كلّه ليست في الفهم النّظري فحسب، بل السّرّ في ذلك والثّمرة، عندما تتحوَّل النّظريّة إلى سلوك، والفهم إلى عملٍ، حتّى لا يكون الإدراك النّظريّ زيادةً في إقامة الحُجّة على صاحبه، وزيادة في الخسران وسُوء العاقِبة.
والمدخل إلى حُسن الإقتداء، ونقل الوَعي والفهم والإدراك من أُفُقِ العقل إلى المسار العمليّ للقلب، يَتركَّز في تحديد النِّصيب الذي يأخذه الشّخص من الدُّنيا، وكيف يَتعامل مع «زَهرة رغبات الدُّنيا» كما عبَّر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويَتوقَّف ذلك على بساطة العَيش، وإلَّا فلا يَأمن أيٌّ منَّا أن يَجرّه الإسترسال في المطعم وسائر مُستلزمات العَيش، رغماً عنه أو بِتَسْويل النَّفس وتزيين الشيطان، وخِداع دار الغُرور، إلى المَوْقع الذي يَحسب أنَّه نَذَرَ نفسه لمواجهته، والتَّحذير من إغراءاته، وسوء عاقبة المُغترِّين به.



 
.. يُحمَدُ القوم السُّرى
«والله لقد رَقعتُ مِدرعتِي هذه حتّى استَحْيَيْتُ من راقعِها. ولقد قالَ لي قائلٌ: أَلَا تَنبذُها عنك؟ فقلتُ: أُغْرُبْ عنِّي، فعندَ الصَّباح يُحمَدُ القومُ السُّرى».


 

اخبار مرتبطة

نفحات