﴿..ولا تَنْسَ نصيبَك من الدُّنيا..﴾

﴿..ولا تَنْسَ نصيبَك من الدُّنيا..﴾

28/07/2011

«نصيبُ الدُّنيا» في خِدمة الآخِرة

من دروس «المركز الإسلامي»

السَّائد بيننا أنَّ كُلَّ دلالاتِ هذه الفقرة من الآية المباركة (العنوان)، تَنْحصر في الحثِّ على عَدَم نسيان الدُّنيا، وعليه تُبْنى القناعات غالباً، ثمَّ يَبدأُ نصيبُ الدّنيا بالتَّوسُّعِ على حساب الآخِرة، فَيَتِمُّ تركيز كلّ الإهتمام على الدُّنيا، وفي أحسن الحالات لا نَنْسى نصيبَنا من الآخِرة!
التَّفسير الصَّحيح للآية أنَّها دعوة إلى توظيف «نصيب الدُّنيا» في خدمة الآخِرة.

مِن أبرز القواعِد القرآنيَّة في بناء الشخصيّة المُؤمنة قوله تعالى: ﴿وابْتَغِ في ما آتاك الله الدَّار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين﴾ القصص:77.
والسؤال: ما هي دلالات ﴿..ولا تنسَ نصيبَك من الدُّنيا..﴾؟
السَّائد بيننا أنَّ كلّ دلالات هذه الفقرة من الآية المباركة، تَنحصِر في الحثِّ على عدم نِسيان الدُّنيا، الذي قد يَنتج عن تركيز الهمِّ على الآخرة. أي أنَّ مَن أراد إلتزام قوله تعالى: ﴿وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة..﴾ وركَّزَ اهتمامه على الآخرة، فعليه أن لا يَنسى نصيبَهُ من الدُّنيا، فتكون الآية تَحمل دعوتَين: الأولى هي الأصل والأكبر والأوْسع، دعوة إلى أن يكون جُلَّ الإهتمام وأكثره مُنصبَّاً على الآخرة. والثانية: أن يكون بعض اهتمامه مُنصبّاً على الدُّنيا فلا يَنسى أن يَأخذ منها بِنَصيب.
هذا هو التَّفسير السَّائد للآية، وعليه تُبْنى القناعات غالباً، ثمَّ يَبدأ نصيب الدنيا بالتَّوسُّع على حساب الآخرة لِأسبابٍ عديدة يجمعها الإنخداع بالدُّنيا والرُّكون إليها، وهي بطبيعتها كما وَرَد في الروايات «كَماءِ البحرِ، كُلّما شرب الإنسانُ منه إزدادَ عطشاً»، فتكون النَّتيجة أن يَنسجِم السَّائد في بناء القناعات والثّقافة والمواقف مع عَكْس الآية المباركة، فيَتمُّ تركيز كلّ الإهتمام على الدُّنيا، وفي أَحسنِ الحالاتِ لا نَنْسى نصيبَنا من الآخِرة!

مَنْشَأ الخَلَل


والسَّبب في هذا الخَلَل هو عدم التَنبُّه إلى أنَّ ﴿..ولا تنس نصيبك من الدُّنيا..﴾، ليست دعوة إلى الدُّنيا بِقدر، في مقابل الدَّعوة إلى  الآخِرة من خلال ﴿وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة﴾، بلْ هي تَتِمّة للدَّعوة إلى الآخِرة، وتثبيتٌ لها من عُدوان الإغترار بالدُّنيا، وقد رُوِي هذا التّفسير عن أمير المؤمنين، حيث قال عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿..ولا تنس نصيبك من الدُّنيا..﴾ أيْ: «لا تنسَ صحَّتك وقوَّتك، وفراغك وشبابك، ونشاطك وغِناك، أنْ تطلب به الآخرة».
وعندما نرجع إلى مَصادِر التَّفسير، نَجِد التَّأكيد على هذه الحقيقة، أيْ أنَّنا لسنا أمام دعوة إلى الدُّنيا في مقابل الدَّعوة إلى الآخِرة، بل نحن في الآية الكريمة، أمام دَعوةٍ إلى الآخِرة، والتَنبُّه إلى ضرورة أن  تكون دُنيا الإنسان ونصيبه منها في خِدمة الآخِرة.
يؤكِّد ذلك التَدبُّر في قوله تعالى: ﴿..وأحسن كما أحسن الله إليك..﴾ القصص:77، حيث إنّه أمرٌ بِرِعاية حُدودِ الله في «نصيب الدُّنيا» وعَدم نِسيان الإحسان إلى الآخرين، ويَتلازَم الإحسان مع محدوديَّة ما يُخصِّصه الفرد من هذا النَّصيب لِنفسه، لأنَّه إنْ لم يفعل ذلك فَسَيَقِف في زُمرة المُفسدين، الّذين يَبغون الفَساد في الأرض.
يُوصلنا هذا التَّدبُّر إلى طريقة كلٍّ منّا في مأكله ومَشربه ومَلبسه ومَسكنه ومُقتنياته، هي التي تَطْبَع شخصيّته بِطابعها، وتُحدِّد مَسارَه والمَصير، وهو ما يجب أن يَحملنا على إعادة النظر في إستِرْسالِنا مع المألوف، من إهتمامنا بِشؤون المَعيشة المُعتادة، لِنُدَقِّق في انطباقِها مع واجب الإقتداءِ برسولِ الله صلى الله عليه وآله، وأهلِ البيتِ عليهم السلام.

يُوصلُنا هذا التَّدبُّر إلى طريقة كلٍّ منّا في مَأكله ومَشربه ومَلبسه ومَسكنه ومُقتنياته، هي التي تَطْبَعُ شخصيته بِطابعها، وتُحدِّد مَسارَهُ والمصير.


 
السَّهَر الدّائم، والظَّمَأ في الهواجِر

عندما نَتنبَّه إلى مركزيَّة طريقة كلٍّ مِنّا في المَأكل والمَشرب وسائر مُستلزمات المَعيشة، نُدرِك أيضاً مركزيّة قِلَّة الأكل وكثرة الصِّيام، والقَناعة والزُّهد، فَنَكون أمام حقيقة هي من السَّهل المُمْتَنِع، وقد عبَّر عنها رسولُ الله بقوله صلى الله عليه وآله: «حسْب ابن آدم لُقيْماتٍ يُقِمْنَ صُلْبه، فإنْ كان ولا بُدَّ، فَلْيَكُن الثُّلث للطَّعام، والثُّلث للشَّراب، والثُّلث الآخر للنَّفَس»، وهو تصريحٌ نَبَويٌّ بأنَّ المدخل إلى حُسنِ العاقبة والفَوز يوم القيامة، رهْنُ «عدم البِطْنة»، وما أكثر الروايات في هذا المجال، إلَّا أنَّنا نتعامل معها عادةً على قاعدة «أَخَذْنا علماً بذلك» ثمَّ نَصْدُف عنها ونُعرِض.
وفي رواية جامِعة لِأُسُس الإقتداء، ومجالاته، يُحدِّد الرَّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله معالِم الطَّريق للمؤمنين عبر الأجيال، كما سنرى.
جاء في كتاب (التحصين) للشيخ الجليل «إبن فهد الحلّي»:
«روى الشيخ أبو محمّد، جعفر بن أحمد بن القمّي نزيل الريّ في كتابه (المنبئ عن زهد النبيّ صلى الله عليه وآله)، ".." عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وآله و[قد] أقْبَل على أسامة بن زيد، فقال:
 يا أُسامة، عليك بطريق الحقِّ، وإيّاك أن تَختلجَ دونه ِبزهرةِ رَغَباتِ الدُّنيا، وغَضارةِ نعيمِها، وبائدِ سُرورِها، وزائلِ عَيْشِها.
- فقال أسامة: يا رسول الله، ما أَيْسَر ما يُقطَعُ به ذلك الطّريق؟
- قال صلى الله عليه وآله: السَّهرُ الدائم، والظَّمأُ في الهَواجِر، وكفُّ النفس {عن} الشَّهوات، وتركُ اتِّباع الهَوى، واجتناب أبناء {الدُّنيا}.
يا أسامة عليك بالصَّوم، فإنّه قُرْبةٌ إلى الله، و{ما} شيءٌ أطيب عند الله من رِيح فَمِ صائمٍ ترَك الطَّعام والشَّراب للهِ ربِّ العالمين، وآثَرَ اللهَ على ما سواه، وابتاعَ آخرته بِدُنياه، فإنِ استطعتَ أن يأتيك الموت و{أنت} جائع، وكَبِدُك ظمآن فافعل، فإنَّك تَنالُ بذلك أشرفَ المنازِل، وتَحِلُّ مع الأبرار والشُّهداء والصّالحين.

يا أسامة، عليكَ بالسُّجود


يا أسامة، عليك بالسُّجود، فإنَّه أقربُ ما يكون العبد من ربِّه {إذا} كان ساجداً، وما مِن عبدٍ سَجَد لله سجدةً إلَّا كَتَب له بها حَسَنة، ومَحا عنه سيِّئةً، ورَفَعَ له بها درجةً، وأَقبَلَ اللهُ عليه بوجهه، وباهَى به ملائكته.

عليك بالصَّلاة


يا أسامة، عليك بالصَّلاة، فإنّها أفضلُ أعمالِ العِباد، لأنَّ الصلاة رأسُ الدِّين وعَمودُه وذُروةُ سَنامِه. واحذَرْ يا أسامة دعاءَ عبادِ الله {الذين} أَنهكوا الأبدان وصاحَبوا الأحزان، وأَزالوا اللُّحوم، وأَذابوا الشُّحوم، وأَظمأوا الكبود، وأَحرقوا الجُلود ".." حتّى غَشِيَت منهم الأبصار شوقاً لِلواحِدِ القهَّار، فإنَّ الله إذا نظرَ إليهم باهى بهم الملائكة، وغشَّاهم بالرَّحمة. بِهم يَدفعُ الله الزلازلَ والفِتَن.
ثمَّ بكى رسولُ الله
 ثمَّ بكى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله حتّى علا بكاؤه واشتدَّ نَحيبُه ".." وهابَ القومُ أن يُكلِّموه، فظنُّوا لِأمرٍ قد حَدَثَ من السَّماء، ثمّ إنَّه رَفَع رأسه فتنفَّس الصُّعداء، ثمَّ قال: أوهٍ أوه، بؤساً لهذه الأمَّة، ماذا يَلقى مَن أطاع الله، كيف يُطرَدون ويُضرَبون ويُكذَبون {مِن} أجْلِ أنّهم أطاعوا الله، فأذلُّوهم بطاعة الله. ألَا ولا تقوم السّاعة حتّى يُبغضَ النَّاسُ مَن أطاعَ الله، ويُحبُّون مَن عَصَى.
 فقال عمر: يا رسول الله، والناس يومئذٍ على الإسلام؟
 قال صلّى الله عليه وآله: وأين الإسلام يومئذٍ يا عمر؟ إنَّ المسلم يومئذٍ كالغريب الشَّريد. ذلك زمانٌ يَذهب فيه الإسلام ولا يَبقى إلَّا إسمه، ويَنْدَرِسُ فيه القرآن فلا يبقى إلَّا رَسْمُه.
 قال عمر: يا رسول الله، وفيمَ يُكذِّبون مَن أطاع ويطردونهم ويُعذِّبونهم؟
 فقال صلّى الله عليه وآله: يا عمر، تَرَكَ القومُ الطّريق، ورَكَنُوا إلى الدُّنيا، ورَفضوا الآخرة، وأكلوا الطَّيِّبات، ولَبسوا الثِّياب المُزَيَّنات، وخَدَمتهم أبناء فارس والرّوم، فهم يغتذون في طيِّبِ الطَّعام ولذيذِ الشَّراب، وزَكِيِّ الرِّيح، ومَشِيدِ البُنيان، ومُزَخْرَفِ البيوت، ومَجْد المَجالس، يتبرَّج الرَّجل منهم كما تَتبرَّج الزوجة لزوجها، وتتبرَّج ُالنِّساء بالحُلِيّ والحُلَل المزيَّنة ".." بزيِّ المُلوك الجبابِرة يتباهون بالجاه ".." فإذا تكلَّم ".." مُتَكَلِّمٌ بِحقٍّ، أو تَفَوَّه بِصِدقٍ، قيل له أُسكُت، فأنتَ قَرينُ الشَّيطان، ورأسُ الضَّلال، يَتَأوَّلون {كلام} الله على غير تأويله، ويقولون مَن حرَّم زينةَ الله التي أَخْرَجَ لعباده، والطَّيِّباتِ من الرِّزق.

أكثر النَّاس عند الله منزلةً يوم القيامة، وأجزلَهم ثواباً، وأكرمهم مآباً، مَنْ طالَ في {الدّنيا} حزنُه وكثُر فيها همُّه، ودام فيها غَمُّه، وكثُر جوعُه وعَطَشُه.


أولئك الأبرار الأتقياء الأخيار

واعلَم أسامة، أنَّ أكثرَ النّاس عند الله منزلةً يوم القيامة، وأجزلَهم ثواباً، وأكرمهم مآباً، مَنْ طال في {الدّنيا} حزنُه وكثُر فيها هَمُّه، ودام فيها غَمُّه، وكثُر جوعُه وعَطَشُه. أولئك الأبرار الأتقياء الأخيار إنْ شهدوا {لم} يُعرفوا، وإنْ غابوا لم يُفتَقدوا. يا أسامة، أولئك تَعرفُهم بِقاعُ الأرضِ وتبكي إذا فَقَدَتهم مَحاريبُها، فاتَّخِذْهُم لِنفسك كنْزاً وذُخْراً، لعلَّك تَنجو بهم من زَلازِل الدُّنيا وأهوال القيامة، وإيّاك أنْ تَدَع ما هُم فيه وعليه، فتَزِلَّ قدمُك وتهوي في النّار، فتكونَ من الخاسرين. واحذَرْ يا أسامة أن تكون من الَّذِين قالوا سمِعنا وهُم لا يَسمعون».

***



 

    إليكِ عنِّي يا دنيا

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْش فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ. ".." إِلَيْكَ عَنِّي يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وَأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، وَاجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ. أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بَمَدَاعِبِكَ؟ أَيْنَ الاُْمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ؟ هَاهُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ، وَمَضَامِينُ اللُّحُود.


 

اخبار مرتبطة

  الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

  دوريات

دوريات

28/07/2011

نفحات