الملف

الملف

منذ 0 ساعات

مقاصد الحجّ الإبراهيمي


العودة إلى الفطرة الأولى

مقاصد الحجّ الإبراهيمي

اقرأ في الملف

استهلال

إذا أردتَ الحجَّ فجرِّد قلبَك لله تعالى

أسرار مناسك الحجّ في حديث الإمام زين العابدين عليه السلام

رواية: المحدّث الطبرسي رحمه الله

منزلة الحجّ من سائر العبادات

المرجع الديني الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني قدّس سرّه

الحجّ دورة كاملة تُحاكي سيرة الأنبياء

العلامة الطباطبائي رحمه الله

من آيات الحرَم المكيّ الشريف

الشريف الرضي قدّس سرّه

البلد الآمن وملاذُ العالَمين

المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

موجز في تاريخ بناء الكعبة المعظّمة

العلامة الطباطبائي رحمه الله

آداب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

الفقيه الملَكي التبريزي رحمه الله

 

استهلال

إذا أردتَ الحجَّ فجرِّد قلبَك للهِ تعالى

نُسب إلى الإمام الصادق عليه السلام:

إذا أردتَ الحجَّ فجرِّد قلبَك لله تعالى من كلِّ شاغلٍ وحجابٍ حاجبٍ،

وفوِّض أمورَكَ كلَّها إلى خالقِكَ وتوكَّل عليه

في جميع ما يَظهرُ من حركاتِكَ وسكناتِكَ، وسلِّم لقضائِه وحُكمِه وقَدَرِه،

ودَعِ الدنيا والراحة والخَلق، واخرُج من حقوقٍ تلزمُك من جهة المخلوقين،

ولا تَعتمِد على زادِك وراحلتِك وأصحابِك وقوّتِك وشبابِك ومالِك،

مخافةَ أن يصيرَ ذلكَ عدوّاً ووبالاً، فإنّ مَن ادّعى رضا الله واعتمد على

ما سواه، صيَّره عليه وبالاً وعدوّاً، ليعلمَ أنّه ليسَ له قوّةٌ ولا حِيلةٌ ولا لأحدٍ

إلّا بعصمةِ الله وتوفيقه...

من كتاب مصباح الشريعة المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام

 

ارجِع فإنّكَ لم تَحُجَّ!

أسرار نُسك الحجّ في حديث الإمام زين العابدين عليه السلام

§        برواية: المحدّث الطبرسي

* في (روضة الواعظين) للشهيد النيسابوري عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «بُنِيَ الإسلامُ على خمس دعائم: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، وولاية أمير المؤمنين والأئمّة من وُلده عليهم السلام».

وبهذا الحديث الشريف ونظائره فإن رُكنيّة الحجّ ثابتة عند جميع المسلمين، وقد حظيَ هذا الرّكن في الأدبيات الإسلامية باهتمامٍ بالغ؛ سواء في أحكامه ومناسكه أم في أسراره ومقاصده الأخلاقية والروحية.

تتضمن هذه المقالة متن رواية منسوبة إلى الإمام زين العابدين، عليّ بن الحسين عليهما السلام، وهي عبارة عن محاورة بينه وبين «الشِّبليّ»؛ يبيّن فيها الإمام عليه السلام أسرار المناسك والمشاعر، نوردها نقلاً عن (مستدرك الوسائل) للمحدّث الطبرسي رضوان الله عليه.

«شعائر»

قال العالم الجليل السيّد عبد الله سبط المحدّث الجزائري، في (شرح النخبة): «وجدتُ في عدّة مواضع؛ أوثقُها بخطّ بعض المشايخ الذين عاصرناهم مرسلاً، أنَّهُ لَمّا رَجَعَ مَولانا زَينُ العابِدينَ عليه السلام، مِنَ الحَجِّ استَقبَلَهُ الشِّبلِيُّ، فَقالَ عليه السلام لَهُ: حَجَجتَ يا شِبلِيُّ؟ قالَ: نَعَم يَا ابنَ رَسولِ اللهِ.

فَقالَ عليه السلام: أنَزَلتَ الميقاتَ، وتَجَرَّدتَ عَن مَخيطِ الثِّيابِ، واغتَسَلتَ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَحينَ نَزَلتَ الميقاتَ نَوَيتَ أنَّكَ خَلَعتَ ثَوبَ المَعصِيَةِ، ولَبِستَ ثَوبَ الطّاعَةِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ تَجَرَّدتَ عَن مَخيطِ ثِيابِكَ نَوَيتَ أنَّكَ تَجَرَّدتَ مِنَ الرِّياءِ، والنِّفاقِ، والدُّخولِ فِي الشُّبُهاتِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ اغتَسَلتَ نَوَيتَ أنَّكَ اغتَسَلتَ مِنَ الخَطايا والذُّنوبِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما نَزَلتَ الميقاتَ، ولا تَجَرَّدتَ عَن مَخيطِ الثِّيابِ، ولاَ اغتَسَلتَ!

ثُمَّ قالَ: تَنَظَّفتَ، وأحرَمتَ، وعَقَدتَ بِالحَجِّ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَحينَ تَنَظَّفتَ وأحرَمتَ وعَقَدتَ الحَجَّ، نَوَيتَ أنَّكَ تَنَظَّفتَ بِنورَةِ (بِنُور) التَّوبَةِ الخالِصَةِ للهِ تَعالى؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ أحرَمتَ نَوَيتَ أنَّكَ حَرَّمتَ عَلى نَفسِكَ كُلَّ مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ عَقَدتَ الحَجَّ نَوَيتَ أنَّكَ قَد حَلَلتَ كُلَّ عَقدٍ لِغَيرِ اللهِ؟ قالَ: لا.

قالَ لَهُ عليه السلام: ما تَنَظَّفتَ، ولا أحرَمتَ، ولا عَقَدتَ الحَجَّ!

قالَ لَهُ: أدَخَلتَ الميقاتَ، وصَلَّيتَ رَكعَتَيِ الإِحرامِ، ولَبَّيتَ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَحينَ دَخَلتَ الميقاتَ نَوَيتَ أنَّكَ بِنِيَّةِ الزِّيارَةِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ صَلَّيتَ الرَّكعَتَينِ نَوَيتَ أنَّكَ تَقَرَّبتَ إلَى اللهِ بِخَيرِ الأَعمالِ مِنَ الصَّلاةِ، وأكبَرِ حَسَناتِ العِبادِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ لَبَّيتَ نَوَيتَ أنَّكَ نَطَقتَ للهِ سُبحانَهُ بِكُلِّ طاعَة، وصَمَتَّ عَن كُلِّ مَعصِيَة؟ قالَ: لا.

قالَ لَهُ عليه السلام: ما دَخَلتَ الميقاتَ، ولا صَلَّيتَ، ولا لَبَّيتَ!

ثُمَّ قالَ لَهُ: أدَخَلتَ الحَرَمَ، ورَأَيتَ الكَعبَةَ، وصَلَّيتَ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ عليه السلام: فَحينَ دَخَلتَ الحَرَمَ نَوَيتَ أنَّكَ حَرَّمتَ عَلى نَفسِكَ كُلَّ غِيبَةٍ تَستَغيبُهَا المُسلِمينَ مِن أهلِ مِلَّةِ الإِسلامِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ وَصَلتَ مَكَّةَ نَوَيتَ بِقَلبِكَ أنَّكَ قَصَدتَ اللهَ؟ قالَ: لا.

قالَ عليه السلام: فَما دَخَلتَ الحَرَمَ، ولا رَأَيتَ الكَعبَةَ، ولا صَلَّيتَ!

ثُمَّ قالَ: طُفتَ بِالبَيتِ، ومَسَستَ الأَركانَ، وسَعَيتَ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَحينَ سَعَيتَ نَوَيتَ أنَّكَ هَرَبتَ إلَى اللهِ، وعَرَفَ مِنكَ ذلِكَ عَلاّمُ الغُيوبِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما طُفتَ بِالبَيتِ، ولا مَسَستَ الأَركانَ، ولا سَعَيتَ!

ثُمَّ قالَ لَهُ: صافَحتَ الحَجَرَ، ووَقَفتَ بِمَقامِ إبراهيمَ عليه السلام، وصَلَّيتَ بِهِ رَكعَتَينِ؟ قالَ: نَعَم.

فَصاحَ عليه السلام صَيحَةً كادَ يُفارِقُ الدُّنيا، ثُمَّ قالَ: آه آه.

ثُمَّ قالَ عليه السلام: مَن صافَحَ الحَجَرَ الأَسوَدَ فَقَد صافَحَ اللهَ تَعالى، فَانظُر يا مِسكينُ لا تُضَيِّع أجرَ ما عَظُمَ حُرمَتُهُ، وتَنقُضِ المُصافَحَةَ بِالمُخالَفَةِ وقَبضِ الحَرامِ نَظيرَ أهلِ الآثامِ.

ثُمَّ قالَ عليه السلام: نَوَيتَ حينَ وَقَفتَ عِندَ مَقامِ إبراهيمَ عليه السلام، أنَّكَ وَقَفتَ عَلى كُلِّ طاعَة، وتَخَلَّفتَ عَن كُلِّ مَعصِيَة؟ قالَ: لا.

قالَ: فَحينَ صَلَّيتَ فيهِ رَكعَتَينِ نَوَيتَ أنَّكَ صَلَّيتَ بِصَلاةِ إبراهيمَ عليه السلام، وأرغَمتَ بِصَلاتِكَ أنفَ الشَّيطانِ؟ قالَ: لا.

قالَ لَهُ: فَما صافَحتَ الحَجَرَ الأَسوَدَ، ولا وَقَفتَ عِندَ المَقامِ، ولا صَلَّيتَ فيهِ رَكعَتَينِ!

ثُمَّ قالَ عليه السلام لَهُ: أشرَفتَ عَلى بِئرِ زَمزَم، وشَرِبتَ مِن مائِها؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: نَوَيتَ أنَّكَ أشرَفتَ عَلَى الطّاعَةِ، وغَضَضتَ طَرفَكَ عَنِ المَعصِيَةِ؟ قالَ: لا.

قالَ عليه السلام: فَما أشرَفتَ عَلَيها، ولا شَرِبتَ مِن مائِها!

ثُمَّ قالَ عليه السلام لَهُ: أسَعَيتَ بَينَ الصَّفا والمَروَةِ، وَمَشيتَ وتَرَدَّدتَ بَينَهُما؟ قالَ: نَعَم.

قالَ لَهُ: نَوَيتَ أنَّكَ بَينَ الرَّجاءِ والخَوفِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما سَعَيتَ، ولا مَشَيتَ، ولا تَرَدَّدتَ بَينَ الصَّفا والمَروَةِ!

ثُمَّ قالَ: أخَرَجتَ إلى مِنى؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: نَوَيتَ أنَّكَ آمَنتَ النّاسَ مِن لِسانِكَ وقَلبِكَ ويَدِكَ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما خَرَجتَ إلى مِنى!

(ثُمَّ) قالَ لَهُ: أوَقَفتَ الوَقفَةَ بِعَرَفَةَ، وطَلَعتَ جَبَلَ الرَّحمَةِ، وعَرَفتَ وادِيَ نَمِرَةَ، ودَعَوتَ اللهَ سُبحانَهُ عِندَ المَيلِ والجَمَراتِ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: هَل عَرَفتَ بِمَوقِفِكَ بِعَرَفَةَ مَعرِفَةَ اللهِ سُبحانَهُ أمرَ المَعارِفِ والعُلومِ، وعَرَفتَ قَبضَ اللهِ عَلى صَحيفَتِكَ واطِّلاعِهِ عَلى سَريرَتِكَ وقَلبِكَ؟ قالَ: لا.

قالَ عليه السلام: نَوَيتَ بِطُلوعِكَ جَبَلَ الرَّحمَةِ أنَّ اللهَ يَرحَمُ كُلَّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَة، ويَتَوَلّى كُلَّ مُسلِمٍ ومُسلِمَة؟ قالَ: لا.

قالَ: فَنَوَيتَ عِندَ نَمِرَةَ أنَّكَ لا تَأمُرُ حَتّى تَأتَمِرَ، ولا تَزجُرُ حَتّى تَنزَجِرَ؟ قالَ: لا.

قالَ: عِندَما وَقَفتَ عِندَ العَلَمِ والنَّمِراتِ، نَوَيتَ أنَّها شاهِدَةٌ لَكَ عَلَى الطّاعاتِ، حافِظَةٌ لَكَ مَعَ الحَفَظَةِ بِأَمرِ رَبِّ السَّماواتِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما وَقَفتَ بِعَرَفَةَ، ولا طَلَعتَ جَبَلَ الرَّحمَةِ، ولا عَرَفتَ نَمِرَةَ، ولا دَعَوتَ، ولا وَقَفتَ عِندَ النَّمِراتِ!

ثُمَّ قالَ: مَرَرتَ بَينَ العَلَمَينِ، وصَلَّيتَ قَبلَ مُرورِكَ رَكعَتَينِ، ومَشَيتَ بِمُزدَلِفَةَ، ولَقَطتَ فيهَا الحَصى، ومَرَرتَ بِالمَشعَرِ الحَرامِ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَحينَ صَلَّيتَ رَكعَتَينِ نَوَيتَ أنَّها صَلاةُ شُكرٍ في لَيلَةِ عَشر، تَنفي كُلَّ عُسرٍ وتُيَسِّرُ كُلَّ يُسر؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما مَشَيتَ بَينَ العَلَمَينِ ولَم تَعدِل عَنهُما يَمينًا وشِمالاً، نَوَيتَ أن لا تَعدِلَ عَن دينِ الحَقِّ يَمينًا وشِمالاً، لا بِقَلبِكَ، ولا بِلِسانِكَ، ولا بِجَوارِحِكَ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما مَشَيتَ بِمُزدَلِفَةَ ولَقَطتَ مِنهَا الحَصى، نَوَيتَ أنَّكَ رَفَعتَ عَنكَ كُلَّ مَعصِيَة وجَهل، وثَبَّتَّ كُلَّ عِلمٍ وعَمَل؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما مَرَرتَ بِالمَشعَرِ الحَرامِ، نَوَيتَ أنَّكَ أشعَرتَ قَلبَكَ إشعارَ أهلِ التَّقوى والخَوفِ للهِ عَزَّ وجَلَّ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَما مَرَرتَ بِالعَلَمَينِ، ولا صَلَّيتَ رَكعَتَينِ، ولا مَشَيتَ بِالمُزدَلِفَةِ، ولا رَفَعتَ مِنهَا الحَصى، ولا مَرَرتَ بِالمَشعَرِ الحَرامِ!

ثُمَّ قالَ لَهُ: وَصَلتَ مِنى، ورَمَيتَ الجَمرَةَ، وحَلَقتَ رَأسَكَ، وذَبَحتَ هَدْيكَ، وصَلَّيتَ في مَسجِدِ الخَيفِ، ورَجَعتَ إلى مَكَّةَ، وطُفتَ طَوافَ الإِفاضَةِ؟ قالَ: نَعَم.

قالَ: فَنَوَيتَ عِندَما وَصَلتَ مِنى ورَمَيتَ الجِمارَ أنَّكَ بَلَغتَ إلى مَطلَبِكَ، وقَد قَضى رَبُّكَ لَكَ كُلَّ حاجَتِكَ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما رَمَيتَ الجِمارَ نَوَيتَ أنَّكَ رَمَيتَ عَدُوَّكَ إبليسَ، وغَضِبتَهُ بِتَمامِ حَجِّكَ النَّفيسِ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما حَلَقتَ رَأسَكَ، نَوَيتَ أنَّكَ تَطَهَّرتَ مِنَ الأَدناسِ ومِن تَبِعَةِ بَني آدَمَ وخَرَجتَ مِنَ الذُّنوبِ كَما وَلَدَتكَ أُمُّكَ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما صَلَّيتَ في مَسجِدِ الخَيفِ نَوَيتَ أنَّكَ لا تَخافُ إلاَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وذَنبَكَ، ولا تَرجو إلاّ رَحمَةَ اللهِ تَعالى؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما ذَبَحتَ هَدْيَكَ نَوَيتَ أنَّكَ ذَبَحتَ حَنجَرَةَ الطَّمَعِ بِما تَمَسَّكتَ بِهِ مِن حَقيقَةِ الوَرَعِ، وأنَّكَ اتَّبَعتَ سُنَّةَ إبراهيمَ عليه السلام، بِذَبحِ وَلَدِهِ وثَمَرَةِ فُؤادِهِ ورَيحانِ قَلبِهِ، وأحيَيتَ سُنَّتَهُ لِمَن بَعدَهُ، وقَرَّبَهُ إلَى اللهِ تَعالى لِمَن خَلفَهُ؟ قالَ: لا.

قالَ: فَعِندَما رَجَعتَ إلى مَكَّةَ وطُفتَ طَوافَ الإِفاضَةِ، نَوَيتَ أنَّكَ أفَضتَ مِن رَحمَةِ اللهِ تَعالى ورَجَعتَ إلى طاعَتِهِ، وتَمَسَّكتَ بِوُدِّهِ، وأدَّيتَ فَرائِضَهُ، وتَقَرَّبتَ إلَى اللهِ تَعالى؟ قالَ: لا.

قالَ لَهُ زَينُ العابِدينَ عليه السلام: فَما وَصَلتَ مِنى، ولا رَمَيتَ الجِمارَ، ولا حَلَقتَ رَأسَكَ، ولا أدَّيتَ نُسُكَكَ، ولا صَلَّيتَ في مَسجِدِ الخَيفِ، ولا طُفتَ طَوافَ الإِفاضَةِ، ولا تَقَرَّبتَ، اِرجِع فَإِنَّكَ لَم تَحُجَّ!

فَطَفِقَ الشِّبلِيُّ يَبكي عَلى ما فَرَّطَهُ في حَجِّهِ، وما زالَ يَتَعَلَّمُ حَتّى حَجَّ مِن قابِلٍ بِمَعرِفَةٍ ويَقين».

 

تعريف الحجّ

أُولى غاياته تحقيق الوحدة بين المسلمين

§        المرجع الديني الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني قدّس سرّه

الحجّ من العبادات المفروضة في عداد سائر العبادات من الصلاة والزكاة والصوم. وقد وصفه (صاحب الجواهر) قدّس سرّه، بأنّه أعظمُ شعائر الإسلام، وأفضل ما يتقرَّب به الأنام إلى الملك العلّام، لِما فيه من إذلال النفس، وإتعاب البدن، وهجران الأهل، والتغرّب عن الوطن، ورفض العادات، وترك اللّذات، والشهوات، والمنافرات، والمكروهات، وإنفاق المال، وشدّ الرحال، وتحمّل مشاقّ الحِلّ والارتحال، ومقاساة الأهوال، والابتلاء بمعاشرة السفلة والأنذال، فهو حينئذٍ رياضة نفسانية، وطاعة مالية، وعبادة بدنية، قولية وفِعلية، وجودية وعدَمية. وهذا الجمع من خواصّ الحجّ من العبادات التي ليس فيها أجمعُ من الصلاة، وهي لم تجتمع فيها ما اجتمع في الحجّ من فنون الطاعات.

وفي الحديث إنّه أفضلُ من الصيام والجهاد والرباط، بل من كلّ شيءٍ إلَّا الصلاة، بل في الحديث إنّه أفضل من الصلاة والصيام، لأنّ المصلّي يشتغل عن أهله ساعة، وإنّ الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم، وإنّ الحاجّ ليُشخِص بدنَه، ويضحّي نفسه، وينفق ماله، ويطيل الغَيبة عن أهله، لا في مالٍ يرجوه ولا في تجارة، وقد تطابق العقل والنقل على أنّ «أفضل الأعمال أَحمزُها»، وأنّ «الأجْر على قدرِ المَشقّة».

ويدلّ على أهمية الحجّ وأفضليّته على الصلاة - مضافاً إلى اشتمال الحجّ عليها، وعدم اشتمالها عليه - أنّ الصلاة عبارةٌ عن إحرامٍ صغير يتحقّق الشروع فيه بتكبيرة الإحرام المسمّاة بها لأجله، والفراغ عنه بالتسليم، ولا ينافي ذلك ما ورد في الصلاة من أنّها «عَمودُ الدّين، إنْ قُبِلَت قُبِلَ ما سِواها، وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سِواها» لعدم دلالته على الحصر، فتدبّر.

البُعد السياسي في الحجّ

وعمدةُ ما يختصّ الحجّ به ممّا لا يوجد في غيره أصلاً، هو الجهة الاجتماعية السياسية المتحقّقة فيه، فإنّه يتضمّن اجتماع المسلمين من جميع أقطار العالم، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وعاداتهم ورسومهم، واختلاف مذاهبهم. وهذا الاجتماع العظيم الذي ليس في الإسلام مثله، ممهِّدٌ لحصول الوحدة والاتحاد بين المسلمين، وتحقُّق القدرة الكاملة التي لا تعادلها أيّ قدرة في العالم، وهذا يتوقّف على الارتباط وتواصل المسلمين بعضهم مع بعض، والبحث عما هم عليه من النقائص والمشكلات، وعن طريق رفعها وحلّها. وعمدة المشاكل التي يعانون منها، هي مشكلة الحكومات التي تتظاهر بالإسلام، ولكن في الباطن ليس فيها من الإسلام عينٌ ولا أثَر، وقد استظهروا بالحكومات القوية المستعمرة المسيطرة على العالم، ويطيعونها بكلّ طاعة، بل يعبدونها كعبدٍ ذليل، ولا يتخلّفون عن أوامرهم ونواهيهم بوجهٍ أبداً. وقد صار هذا الاستعمار الوسيع سبباً للحؤول دون اجتماع المسلمين وإظهار اتّحادهم.

وفيما أكتب هذه السطور، لم تمضِ سنتان بعدُ على حادثة مكّة المكرّمة التي قُتل فيها قرب المسجد الحرام أزيَد من أربعمائة من الحجّاج من الرجال والنساء، بيد الحاكم الكافر المستولي على الحرمَين.

وكيف كان، فهذه الجهة في الحجّ جهة مهمّة لا توجد في غيره، لاقتضائها حصول القدرة الكاملة للإسلام وتحقّق الوحدة والاتحاد بين المسلمين.

* المصدر: تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحج): ج 1، شرح ص 3 - 5

 

من ذِلّة العبودية إلى جَذْبة الربوبية

الحجّ دورة كاملة تُحاكي سيرة الأنبياء

§        العلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله

إذا رجعنا إلى قصة إبراهيم عليه السلام، وسَيره بولده وزوجته إلى أرض مكّة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما، حتى آلَ الأمر إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله تعالى، وبنائهما البيت، لوجدنا القصة دورةً كاملةً من السَّير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربِّه، ومن أرض البُعد إلى حظيرة القرب، بالإعراض عن زخارف الدنيا، وملاذّها، وأمانيها من جاهٍ، ومالٍ، ونساءٍ، وأولاد، والانقلاع والتخلّص من وساوس الشياطين، وتكديرهم صفوَ الإخلاص، والإقبال والتوجّه إلى مقام الربّ ودار الكبرياء.

فها هي وقائع متفرّقة مترتّبة، تسلسلت وتألّفت قصة تاريخية تحكي عن سَيرٍ عبوديٍّ من العبد إلى الله سبحانه، وتشمل من أدب السَّير، والطلب، والحضور، ورسوم الحبّ والولَه والإخلاص، على ما كلّما زدتَ في تدبّره إمعاناً، زادَك استنارةً ولمعاناً.

ثمّ: إنّ الله سبحانه أمَر خليلَه إبراهيم عليه السلام، أن يشرِّع للناس عمل الحجّ، كما قال: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ الحج:27، إلى آخر الآيات، وما شَرَعه عليه السلام، وإن لم يكن معلوماً لنا بجميع خصوصياته، لكنّه كان شعاراً دينياً عند العرب في الجاهلية إلى أن بَعث الله النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشرَع فيه ما شرَع، ولم يخالف فيه شريعةَ إبراهيم عليه السلام إلّا بالتكميل، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا..﴾ الأنعام:161.

وقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى..﴾ الشورى:13.

وكيف كان، فما شرّعه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من نسُك الحجّ المشتمل على الإحرام، والوقوف بعرفات، ومبيت المشعر، والتضحية، ورمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمَروة، والطواف، والصلاة بالمقام، تحكي قصة إبراهيم عليه السلام، وتمثّل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم. ويا لها من مواقف طاهرة إلهيّة؛ القائدُ إليها جذبة الربوبية، والسائق نحوها ذِلّة العبودية.

والعبادات المشروعة - على مشرّعيها أفضل السلام - صوَر لمواقف الكمّلين من الأنبياء من ربّهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ الأحزاب:21، وهذا أصلٌ.

وفي الأخبار المبيّنة لحكم العبادات، وأسرار جعْلها وتشريعها، شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبّع البصير.

 

* المصدر: الميزان: ج 1، ص 298 – 299

 

مقامُ إبراهيم، والأمن، وذهاب الحصى بعد رميه

من آيات الحرَم المكيّ الشريف

§        الشريف الرضي قدّس سرّه

* قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد مخبراً عن الحرم المكّي: ﴿ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا..﴾. (آل عمران:97)

والآيات البيّنات هي العلائمُ والدلائل الواضحات. وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية علامتين اثنتين هما «المقام» و«الأمن»، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ من آيات البيت أيضاً «الحجر الأسود» و«حِجر إسماعيل»، وهذه كلّها من المصاديق، حيث إنّ آيات الحرم – كما يُفهم من كلام العلماء - خارجةٌ عن حدود الاستقصاء لمن حجّ بقلبه مستبصراً بالهدى.

هذه المقالة منتخبة من كتاب (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) للشريف الرضي قدّس سرّه المتوفى سنة 406 هجرية، يعدّد فيها بعضاً من آيات الحرم ممّا سمعه أو عاينه بنفسه.

«شعائر»

 

* من آيات الحرم التي لا توجد في غيره، أنّ الوحش والسباع إذا دخلَته، وصارت في حدوده، لا يقتل بعضها بعضاً، ولا يؤذي بعضها بعضاً، ولا تصطاد فيه الكلاب والسباع سوانح الوحش التي جرت عادتها بالاصطياد لها، ولا تعدو عليها في أرض الحرم، كما تعدو عليها إذا صادفتها خارج الحرم، فهذه دلالة عظيمة وحجّة بيّنة على أنّ الله تعالى هو الذي أبان هذا البيت وما حوله، بهذه الآية، من سائر بقاع الأرض، لأنّه لا يقدر أن يجعل هذه البقعة التي ذكرناها، على ما وصفناه منها، وأن يحُول بين السباع فيها وبين مجاري عاداتها، وحوافز [جمع حافزة من حفزه: إذا دفعه من خلفه] طبائعها وعمل النفوس السليطة [الشديدة] التي رُكّبت فيها، حتى تمتنع من مواقعة الفرائس، وقد أكثبت لها [دنتْ منها] وصارت أخْذ أيديها، بل تأنسُ بأضدادها، وتأنس الأضداد بها - إلّا الله سبحانه، لأنّ هذا خارج عن مقدار قوى المخلوقين وتدابير المربوبين.

 

 

* ومن الآيات التي خصّ الله تعالى هذا الموضع بها مقام إبراهيم عليه السلام في الصخرة، من حيث ألانَ اللهُ سبحانه له أصلادها [جمع صلد وهو: الصلب] بعد الصلابة، وخَلخلَ أجزاءها بعد الكثافة، حتى أثّرت قدمُه فيها راسخةً، وتَغلغلت سائخة، كما يتغلغل في الأشياء الرخوة والأرض الخوّارة [السهلة الليّنة].

* ومنها ذهابُ حصى الجمار وعدَمه وخلوّ مواضعه منه، على كثرة الرامين به واجتماعه في مواضعه، ولولا أنّه سبحانه جعل تقليل كثيره وإعدام موجوده من بعض آيات تلك البقعة، لساوى الجبال أظلالاً، وجعل البطحاء جبالاً، لا سيّما وليس موضع الجمرتين الأُولتين، خاصّة، موضعَ مسيل ماءٍ ولا طريق سيل، فيظنّ الظانّ أنّ السيول تذهب بحصاهما، وتفرّق ما يجتمع فيهما.

* ومنها امتناع الطير من العلوّ على البيت الحرام، حتى لا يطير طائرٌ إلّا حوله من غير أن يعلو فوقه، ثمّ استشفاء المريض (منها) به على ما تناصر الخبر بذكره.

فأمّا الذي شاهدته أنا عند مقامي بمكّة في السنة التي حججتُ فيها، فامتناع الطير من التحليق فوق البيت، حتى لقد كنت أرى الطائر يدنو من المطرح السحيق والمنزع البعيد، في أَحَدِّ طيرانه وأسرع خفقان جناحه، حتى أقول: قد قطع البيتَ عالياً عليه وجائزاً به، فما هو إلّا أن يقرب منه حتى ينكسر منحرفاً ويرجع متيامناً أو متياسراً، فيمرّ عن شمال البيت أو يمينه، كأنّ لافتاً يلفته أو عاكساً يعكسه، وهذا من أطرف ما شاهدته وجرّبته.

فأمّا اختلاطُ الطير بالناس هناك، حتى لا تنفر من ظلالهم، ولا تتباعد عن همْس أقدامهم، فهو شيءٌ بيّنٌ واضح، ولعهدي بجماعات من المصلّين في المسجد الحرام، وهم يُكفكفون الطير بأيديهم عن مواضع سجودهم، لشدّة قربها منهم واختلاطها بهم. ولقد رأيت ظبياً وحشياً يتخرّق الأسواق، ويقفُ على جماعةٍ من بائعي الأقوات، فربما انتشط [اختلس بفمه] نشطةً، أو اجتذب الشيء بعد الشيء خلسةً، وعليه سيماء الساكن ودَعَة المطمئنّ الآمن، حتى ربما طُرد فلم يَرعه الطرد، ولم يُفزعه الإيماء باليد. وقيل لي - ولم أرَه: إنّه إذا جاوز أنصاب الحرم [أي حدوده] خرج كالسّهم المارق، أو البرق الخاطف، كأنّ الروعة إنّما أدركَته بعد خروجه من حدود الحرم ودخوله في أراضي الحِلّ، فتبارك الله رب العالمين!

 

 

* ومنها تعجيل العقوبة لمَن انتهك حرمتَه.. ومثل ذلك ما فعله الله تعالى في الجاهلية بمَن قصد البيت الحرام لإحرابه، والحرم لانتهاكه، عامَ الفيل، من تعجيل النقمات وإنزال المثلات [جمع مَثُلة بفتح وضمّ وهي العقوبة]، وبروك الفيل بالمغمّس [موضع بطريق الطائف إلى مكّة]، حتّى لم يقدم به الزجرُ الشديد والسَّوق العنيف. وحديثُ ذلك يطول.

 

البلدُ الأمين وملاذُ العالَمين

دعاء إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت الحرام

§        المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

 

* هذه المقالة المختصرة عن الجزء الأول من (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) للمرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، عبارة عن شرح وتفسير الآيات 125 إلى 129 من سورة البقرة التي تتضمّن أمرَ الله تعالى للنبيّ إبراهيم بتطهير البيت لمن يحجّ إليه، ودعاءَه عليه السلام لذريّته وللقاطنين في جوار المسجد الحرام؛ مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر، وكذلك طلبه التوبة وأن يعلّمه الله تعالى سبيلَ عبادته.

«شعائر»


 

 

قال الله تعالى في الآية 125 من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ البقرة:125.

تناولت هذه الآية موضوع عظَمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه السلام، فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وإذ»، أي اذكروا: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا..﴾.

و«المَثابة» من الثوب، أي عودة الشيء إلى حالته الأولى. ولمّا كانت الكعبة مركزاً يتّجه إليه الموحّدون كلّ عام، فهي محلٌّ لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الأولى، ومن هنا كانت مثابةً. وكلمة «مثابة» تتضمّن معنى الراحة والاستقرار، لأنّ بيت الإنسان - وهو محلّ عودته الدائم - مكانٌ للراحة والاستقرار، وهذا المعنى تؤكّده كلمة «أمناً» التي تلي كلمة «مثابة» في الآية.

وكلمة «للناس» توضح أنّه ملجأ عام لكلّ العالمين، ولكلّ الشعوب المحرومة. وهذه الصفة للبيت هي في الحقيقة استجابة لأحد مطالب إبراهيم عليه السلام من ربّه سبحانه، كما سيأتي.

* ثمّ تضيف الآية: ﴿..وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى..﴾.

اختلف المفسرون في معنى «مقام إبراهيم». قيل: إنّ كلّ الحجّ هو مقام إبراهيم. وقيل: إنّه «عرفة»، و«المشعر الحرام»، و«الجمار الثلاث»، وقيل: «كلّ حرَم مكّة مقام».

ولكن يبدو من ظاهر الآية أنّ المقام هو «مقام إبراهيم» المعروف الكائن قرب الكعبة، وذهبت إلى ذلك الروايات وكثير من المفسّرين. وعلى الحجّاج أن يصلّوا خلفه بعد الطواف، ومن هنا كان هذا المقام «مُصلّى».

* ثمّ تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلّين: ﴿..وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.

وفي «التطهير» قيل: إنّه التطهير من لَوثة وجود الأصنام. وقيل: إنّه التطهير من الدنَس الظاهر، كالدم وأحشاء الذبائح التي كان يُلقي بها الجهلة في البيت. وقيل: إنّه يعني إخلاص النيّة عند بناء البيت.

ولا دليلَ على تحديد مفهوم الطهارة، فهي تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كلّ تلويث. لذلك نجد أنّ بعض الروايات فسّرت «التطهير» في الآية بأنّه تطهير الكعبة من المشركين، وبعضها بأنّه تطهير البدن وإزالة الأدران.

الآثار الاجتماعية والتربوية للبيت الآمن

الكعبة - طبقاً للآية أعلاه - ملاذٌ وبيتٌ آمن، والإسلام وضع الأحكام المشدّدة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدّسة عن كلّ نزاعٍ، واشتباكٍ، وحربٍ، وإراقة دماء. وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحقّ لأحدٍ أن يمسّها بسوء.

وفي عالمٍ يعجّ دوماً بالنزاع والصراع، يستطيع مثل هذا المركز الآمن أن يكون له الأثر العميق في حلّ المشاكل وفضّ النزاعات، إذ يستطيع الفرقاء المتنازعون أن يجلسوا حول طاولة واحدة عند هذا البيت الآمن، ويفتحوا بينهم حواراً قد يكون مقدّمةً لإزالة الخصومات والنزاعات.

وقد يتّفق أن ترغب الأطراف المتنازعة في إجراء مباحثات، لكنهم لا يتفقون على مكان مقبول ومحترم وآمن لدى جميع الأطراف، والإسلام أقرّ مكّة لتكون مركزاً كهذا.

واليوم، إذ المسلمون - مع الأسف الشديد - يعانون من ألوان النزاعات والاختلافات، حريٌّ بهم أن يستفيدوا من قداسة هذا البيت وأمنه لفتح باب المحادثات بينهم، ولرفع ما بينهم من اختلافات بفضل معنوية هذا المكان المقدّس.

 

بيتُ الله تعالى

وُصفت الكعبة بأنّها بيت الله، وعبّرت الآية عن الكعبة ب‍«بيتي». وواضحٌ أنّ الله تعالى ليس بجسم، ولا يحدّه بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبيّن قدسية الشيء الذي يُنسب إلى الله عزّ وجلّ، ولذلك كان شهر رمضان «شهر الله»، وكانت الكعبة «بيت الله».

* * *

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة:126.

في هذه الآية توجّه النبيّ إبراهيم عليه السلام إلى ربّه سبحانه بطلبَين هامَّين لسَكَنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا..﴾.

وكما ذكرنا في الآية السابقة، استجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض المقدّسة مركزاً آمناً بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.

والطلب الآخر هو: ﴿..وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ..﴾.

وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أولاً، ثمّ «المواهب الاقتصادية»، إشارةً إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقّق إلّا بعد الأمن الكامل.

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الثمرات»، ويبدو أنّ معناها واسع يشمل النِّعم المادية، والنِّعم المعنوية. وعن الإمام الصادق عليه السلام: «هي ثمراتُ القلوب»، إشارةً إلى جعل قلوب الناس تهوي إلى هذه الأرض.

اقتصر النبيّ إبراهيم عليه السلام، في دعائه على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعلّ ذلك كان بعد أن قال له الله سبحانه: ﴿..لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:124، ففَهم أنّ مجموعة من ذريّته سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم من دعائه.

والله سبحانه استجاب لإبراهيم عليه السلام طلبه الثاني أيضاً، ولكنّه قال: ﴿..وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ في الحياة الآخرة.

هذه في الواقع صفة «الرحمانية»، وهي الرحمة العامّة للباري تعالى التي تشمل كلّ المخلوقات، صالحِهم وطالحهم في الدنيا. أمّا الآخرة فهي عالم رحمته الخاصّة التي لا ينالها إلا مَن آمن وعمل صالحاً.

* * *

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة:127-129.

نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام، وكان قائماً منذ زمن آدم عليه السلام. يقول الله تعالى مخبراً عن النبيّ إبراهيم: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ..﴾ إبراهيم:37.

وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوعٌ من الوجود، حين جاء إبراهيم عليه السلام مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.

وفي الآية 96 من سورة (آل عمران): ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا..﴾. ومن المؤكّد أنّ عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم عليه السلام، بل كانتا منذ أن خُلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

وتعبير الآية الأولى من الآيات محلّ البحث يؤكّد هذا المعنى، إذ تقول: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في (نهج البلاغة)، وهي المسمّاة بـ«القاصعة»، يقول: «ألَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُه اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنِ آدَمَ إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ... فَجَعَلَهَا بَيْتَه الْحَرَامَ... ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ووُلْدَه أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَه (أي أن يطوفوا حوله)..».

والقرائن القرآنية والروائية تؤيّد أنّ الكعبة بُنيت أولاً بيد آدم، ثمّ انهدمت في طوفان نوح، ثمّ أُعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام.

في الآيتين التاليتين يتضرّع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة. وهذه الطلبات المقدّسة حين الاشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة، بحيث تشمل كلّ احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، وتُفصح عن عظمة هذين النبيَّين الكبيرَين.

- قالا أولاً: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ..﴾.

- ثمّ أضافا: ﴿..وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ..﴾.

- وطلبا تفهّم طريق العبادة: ﴿..وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا..﴾، ليعبدا الله حقّ عبادته.

- ثمّ طلبا التوبة: ﴿..وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.

- أما الآية الأخيرة فقد تضمّنت الطلب الخامس، وهو هداية الذريّة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

 

موجز في تاريخ بناء الكعبة المعظّمة

§        العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي

من المتواتر المقطوع به أنّ الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان القاطنون حولها يومئذٍ ابنه إسماعيل، و«جُرهم» من قبائل اليمن، وهي بناءٌ مربّعٌ تقريباً، وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جدّدها العمالقة، ثمّ بَنو جُرهم... ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصيّ؛ أحدِ أجداد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (القرن الثاني قبل الهجرة)، هدمها وبناها فأحكم بناءها. وسقّفها بخشب الروم وجذوع النخل. وبنى إلى جانبها «دار الندوة». وكانت في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه. ثمّ قسّم جهات الكعبة، بين طوائف قريش، فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبوابهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة، فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها. وكان الذي يبنيها ياقوم الرومي ويساعده نجّار مصريّ. ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود، تنازعوا بينهم في أن أيّها يختصّ بشرف وضعه، فرأوا أن يحكّموا محمّداً صلّى الله عليه وآله، وسنُّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة، لِما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه، فطلب رداءً ووضع عليه الحَجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه، حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ، أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليها الآن. وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحِجر؛ حجرِ إسماعيل، لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتى تسلَّط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية، عليهما اللعنة والعذاب، فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة. وأصاب الكعبة بالمنجنيق. فانهدمت وأُحرقت كسوتها وبعض أخشابها. ثمّ انكشف عنها لموت يزيد.

فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويُعيد بناءها؛ فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به. وأدخل الحِجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر، ليدخل الناس من بابٍ ويخرجوا من آخر. وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً. ولمّا فرغ من بنائها ضمّخها بالمسك والعنبر داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج. وكان فراغه من بنائها في 17 رجب 64 هجرية.

ثمّ لمّا تولّى عبد الملك بن مروان الخلافة، بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله ودخل البيت. فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة. فأمَره بإرجاعها إلى شكلها الأول. فهدم الحجّاج من جانبها الشمالي ستّة أذرع وشبراً. وبنى ذلك الجدار على أساس قريش. ورفع الباب الشرقي وسدّ الغربيّ. ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.

ولمّا تولى السلطان سليمان العثماني المُلك سنة ستين وتسعمائة غيّر سقفها. ولمّا تولّى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً. ولمّا حدث السَّيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف، هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية والغربية. فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها. ولم يزل ذلك حتى اليوم، وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجرية قمرية...

 

* المصدر: الميزان: ج 3، ص 358 – 359

استمطارُ سحائب الجود

في آداب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

§        الفقيه الملَكي التبريزي

إنّ الّذي عليه عقيدة أهل الإسلام كافّة أنّ نبيّنا صلوات الله وسلامه عليه وآله أشرفُ خلق الله، وأنّه سيّد خلق الله، وأنّه حبيب الله. وورد في المعتبرة عنه صلّى الله عليه وآله أنّه أوّل خلق الله، وأنّه دنا في معراجه من ربّه مقاماً لم يقدر جبرئيل أن يصاحبه، وأنّه ﴿..دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى، وأنّه اسمُ الله الأعظم، وأنّه صاحب الوسيلة والحوض، والشفاعة الكبرى، وأنّه المَثلُ الأعلى، وأنّه واسطةٌ بين الله تعالى وجميع الممكنات، وأنّه الحجابُ الأقرب، وطرفُ الممكن.

 

 

وبالجملة، يُعرف أنّه من الله تعالى بمكانة يغبطه بها الأوّلون والآخرون، من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقرّبين، وأنّه لا يمكننا أن نصل إلى كُنه معرفته.

وأمّا معرفة حقّه فيكفي في ذلك حديث «لولاك»، وأنّه علَّة غائيّة لجميع الخليقة، وأنّه رحمةٌ للعالمين.

وإذا عرفتَ جلالته وحقّه، وعلمتَ أنّه حيّ عند ربّه ينظر إلى زوّاره ويسمع سلامهم، ويعرف ضميرهم، ويستغفر لذنوبهم، ويشفع في حوائجهم، فعند ذلك تزوره كأنّه حيّ يراك ويشافهك، ولا يشغلك شيء عن التوجّه إليه.

واعلم علماً يقيناً أنّه صلّى الله عليه وآله، أكرم جميع الخلائق، وأجود من كلّ جواد كريم. جوادٌ عطوف، شفيقٌ رفيق، ودودٌ رؤوف، وقد وصفه الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4.

وتفكَّر فيما ناله منك من الجفاء والإيذاء، حيث تُعرض عليه أعمالك، ويرى معاصيك وذنوبك، ويتأذّى بذلك، وكم من أذيّةٍ ومكروهٍ قد أوصلتَ إلى قلبه الشريف بسوء عملك، فأوجعتَ صدره العزيز بقبيح أعمالك. وليكن عليك سمةُ الحياء عند زيارتك، واعتذر إلى كريم فنائه وجنابه، لا محالة عن ذلك.

طلب الإذن بالدخول

والمشتاق لا يحتاج إلى تعليم مراسم الوداد، فلا بدّ للزائر المشتاق أن يعامل الجميع في طريق زيارته معاملة المحبّ، فيرفق بالزوّار والأكرة والخدّام والدوابّ، ويتحمّل أذاهم ويخدمهم، بل ولا يرى إيذاءهم أذيّة، وينفق عليهم ويكرمهم حتّى يقرب من بلد المزور... وإذا شُرّف برؤية المشهد المقدّس، يخرّ ساجداً لله ويقوم مسلِّماً وباكياً بإظهار الشوق، ويقدّر في نفسه زمن حياته صلّى الله عليه وآله، وأنّه كان يتوطَّن في هذه البلدة، ويمشي في سِكَكها، ويسكن دُورَها، وأنّ هذه المحالّ مواضع أقدامه الشريفة، ومواطن جسده المبارك. ويتبرّك بدخول البلد.

ثمّ يغتسل ويلبس أنظف ثيابه، ويتطيّب بما يقدر عليه، ويقصد حرمه على سكينةٍ ووقار، ويمشي إليه ويقرّب بين خطاه، مسبّحاً، حامداً، مهلِّلاً، مكبّراً، مصلّياً، ويقدّر أنّه بمرأى منه صلوات الله عليه وآله، يراه وينظر إلى حركاته، وخطرات ضميره ويشاهد مراتب أشواقه، وحسرات قلبه وأحزانه. ويتوجّه بكلّه إليه ويهتمّ أن لا يخطر غيره، صلوات الله عليه وآله، بقلبه ولا ينظر في طريق زيارته إلى أحد، بل إلى شيء من الأشياء ليشغله عن حضور قلبه.

وإذا وصلتَ إلى باب الحرم، فاعلم أنّك قصدت ملكاً عظيماً لا يطأ بساطَه إلّا المطهّرون، ولا يؤذَن لزيارته إلّا الصدّيقون، وأنّك أردت حرماً لا يدخله الأنبياء والمرسلون والملائكة المقرّبون بغير إذن، فاستأذِن بقلبك ولسانك اللهَ جلّ جلالُه، ثمّ استأذن حضرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ خلفاءه وأوصياءه، لا سيّما باب مدينة علمه، والبقيّة من خلفائه، ثمّ استأذن ملائكة الله الموكَّلين بحرمه الشريف، وهَبِ القدوم إلى بساط خدمته، وحضور مجلسه، فإنّك على خطرٍ عظيمٍ إن غفلتَ.

وقبّل عتبته الشريفة، وادخل قائلاً: «بسمِ اللهِ وبالله، وفي سبيلِ الله، وعلى مِلَّةِ رسولِ الله، الحمدُ لله الَّذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله».

معنى التسليم على النبيّ صلّى الله عليه وآله

ثمّ امش بسكينةٍ وخشوعٍ وذكرٍ حتّى تقفَ قبالَ الضريح المقدّس، وقبِّله وسلّم عليه بحقيقة السلام، وعلى آله وآبائه وعترته على التفصيل والترتيب.

 

 

واعلم أنّ «السّلام» من أسماء الله تعالى أودعه خلقَه، ليستعملوا معناه في معاملاتهم، فمَن لم يقدر على أن يستعمل معنى «السّلام» مع نبيّه، فهو لا يقدر أن يستعمله مع أحدٍ من الناس، واستعماله مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، أن يعامله معاملةً لا تؤذيه ولا تسوؤه لا محالة. وهل يعقل أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله - مع ما فيه من الشفقة على أمّته - معاصيك الكبيرة ولا يسوؤه ذلك، ولا يتألَّم منها.. فأين منك «السّلام»؟

أبواب الدخول على رسول الله صلّى الله عليه وآله

وبالجملة زيارته، صلوات الله عليه، أمرٌ عظيم، وقد رُوي في ذلك أنّه يزور زائره مرّتين، ويجب على الزائر بحكم العدل أن لا يحضر هذا المحضر العظيم إلّا بعد توبةٍ صادقة مطهِّرة له لا محالة من المخالفة الفعليّة.

فإنْ لم يوفّق لذلك، فله أن يدخل من غيرها من الأبواب الّتي دخل منها غيره من المقيّدين في أَسر الهوى، والمكبّلين المنهمكين في الرّدى، فظفروا بالتجاوز والصفح الجميل، والفضل النبيل، من أبواب الاعتراف، والاعتذار والحياء، والتوسّل والاستغفار، والالتجاء والاضطرار.

فإن لم تسمح نفسه باحتمال لوازم هذه الأبواب، فلا محالة من أن يدخل من باب عدم القنوط من الإجابة. وتدعو الله جلّ جلاله بالرجاء في استعطاف قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وإذا رغب الله جلّ جلاله في عطوفته عليك، يُقبل عليك رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقبول والإجابة، والعطف والرحمة، ويضمّك إلى كنَف رأفته وحنانه، ويكون عليك كالأب العطوف، والأمّ الرؤوف، يلبّيك بالجواب، ويُجيبك عن الخطاب، فتظفر بالمراد وفوق المراد، وتُفلح أبد الآباد.

واعلم يقيناً أنّه صلّى الله عليه وآله رحمةُ الله للعالمين، فإنْ حُرمت من فيضه الأقدس، ومن نوره الأزهر، فذلك لمانعٍ من جهتك، ولا يمنع من ذلك الذنوب - وإن كثُرت - حتّى يوجد خللٌ من جهة الإيمان، فجدّد إيمانك، واستعِذ بالله من الكفر والشرك الجليّ.

ولكنْ قد تكون ظُلمة المعاصي مانعةً من درك فيوضات زيارته الشاملة لك، وتعمى عن مشاهدة أنواره الواصلة إليك، فإنْ كان لك قلبٌ وفطنة، لا بدّ تُدرِكُ ذلك، وتعلم ببعض آثاره لا محالة، فإنّ شفقته صلّى الله عليه وآله لأمّته المؤمنين الموالين لعترته معلومة، وإن كانوا عصاةً، كيف وشفاعته للعصاة.

وللزائر الوافد المسلّم عليه المناجي إيّاه، والمشتكي استكانته لديه، حقوقٌ زائدةٌ لا تضيع لديه، يعرف ذلك كلُّ مَن أخبر عن أخلاقه الكريمة حالَ حياته، ومعاملته مع عموم المسلمين، وخصوص الوافدين، والرافعين إليه حوائجهم، وحال وفاته أَولى بذلك من حال الحياة، لزيادة القرب من منبع الفيض والنور.

وهل يظنّ أحدٌ من أمّته أن يقصده مسلمٌ مؤمنٌ من مسافة نائية، ويأتيه من شُقّة بعيدة، شوقاً إلى زيارته، وراجياً قبوله ونواله، متقرّباً إلى الله جلّ جلاله بولايته وولاية عترته، فيرجعَ خائباً من نواله، ومحروماً من جُوده وكرمه؟ لا يُظنّ ذلك بأعراب البوادي، فكيف بأكرم الخلائق كلّهم، ومظهر رحمة الله، والمتخلّق بأخلاقه سبحانه.

رجوع البدن وإقامةُ القلب

وكيف كان، يجب على زوّاره، صلوات الله عليه وآله، أن يظنّوا بفضله وكرمه وفيضه كلَّ ظنٍّ حسَن، ويستمدّوا من معين زيارته، وأنوار إقباله، ويستضيئوا من إشراق إقبال وجهه، فانّه يُضيء كلّ ظلمة، ويفيض لكلّ الخليقة، ويكفي للعالمين، لأنّه نور الله الأنور، وضياؤه الأزهر، وفيضه الأقدس.

وأطِل الوقوف بحضرته، ولا تملَّ منه لأنّ العاقل لا يملّ من الانتفاع، وزُرْ عند ضريحه المقدّس سيّدة النساء عليها السّلام، واعمل في زيارتها مثل ما مرّ في زيارته، فإنّها بضعةٌ منه وهي كريمته وحبيبته.

واقصد بعد زيارتهما زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام نحو ما قصدت زيارته، وزرهم كما مضى في زيارته، فإنّهم بمنزلة نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم، مَن أطاعهم فقد أطاعه، ومَن أحبّهم فقد أحبّه، ومَن خضع لهم فقد خضع له، لا فرق بينهم وبينه، فإنّهم خلفاؤه وذرّيّته، وكلّهم نورٌ واحد.

واحرص ألّا ترجع من حضرته إلّا بعد ظهور آثار الإذن. وليكن الراجع بدنك وأنت مع قلبك وروحك وفكرك مقيمٌ عند حضرته وغير مفارقٍ خدمته، وكلّما انتهيتَ إلى آخر السِّكك، وأردتَ أن تدخل سكَّةً أخرى فارجع وأشِر إلى حضرته بالسلام، حتّى تدخل منزلك.

واستقصِ أيّامَ وقوفك بالمدينة المنوّرة زيارةَ المواضع الشريفة التي رُوي وقوفه بها ودخوله عليها، وكذلك جميع مشاهدِ أهل بيته عليهم السلام.

 

المصدر: المراقبات: ص 326 – 340، مختصر.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 0 ساعات

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

منذ 0 ساعات

إصدارات أجنبية

نفحات