أحسن الحديث

أحسن الحديث

16/09/2017

الاعتبار بالشهور القمريّة لا الشمسيّة



﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾

الاعتبار بالشهور القمريّة لا الشمسيّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــ أمين الإسلام الطبرسي رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــــ


من الكتب المعتبرة في تفسير القرآن الكريم (مجمع البيان في تفسير القرآن) لمؤلّفه الفضل بن الحسن الطبَرسي، من أعلام القرن السادس الهجري، وهو والد الحسن بن الفضل صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) المشهور.

قال السيّد محسن الأمين مشيراً إلى المؤلّف والكتاب: «..فضلُ الرجل وجلالته، وتبحّره في العلوم، ووثاقته، أمرٌ غنيٌّ عن البيان، وأعدل شاهد على ذلك كتابه (مجمع البيان) .. بما جمعه من أنواع العلوم، وأحاط به من الأقوال المشتّتة في التفسير، مع الإشارة في كلّ مقام إلى ما رُوي عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآيات بالوجوه البيّنة المقبولة..».

في ما يلي تفسيره للآيتين 36 و37 من سورة التوبة مع حذف ما يتّصل باللغة، والإعراب، ووجوه القراءة للآيات، كنموذج لأسلوب هذا العَلَم الفذّ.

«شعائر»

 

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.

* المعنى: لمّا ذكر الله سبحانه وعيدَ الظالم لنفسه بكنز المال، من غير إخراج الزكاة وغيرها من حقوق الله تعالى منه [في الآية 35 من سورة التوبة]، اقتضى ذلك أن يذكر النهيَ عن مثل حاله، وهو الظّلم في الأشهُر الحرم، الذي يؤدّي إلى مثل حاله أو شرٍّ منه في المنقلب، فقال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا..﴾، أي: عدد شهور السنة في حُكم الله وتقديره اثنا عشر شهراً. وإنّما تعبّد اللهُ المسلمين أن يجعلوا سِنيّهم على اثني عشر شهراً، ليوافق ذلك عدد الأهلّة ومنازل القمر، دون ما دان به أهلُ الكتاب.

* والشّهر: مأخوذٌ من شُهرة الأمر، لحاجة الناس إليه في معاملاتهم، ومحلّ ديونهم، وحجّهم، وصومهم، وغير ذلك من مصالحهم المتعلّقة بالشهور، وقوله: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ معناه: فيما كتب الله في اللّوح المحفوظ، وفي الكُتب المنزلة على أنبيائه. وقيل: في القرآن. وقيل: في حُكمه وقضائه.

* وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ متّصل بقوله ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾، والعامل فيهما الاستقرار. وإنّما قال ذلك لأنّه يومَ خلق السماوات والأرض أجرى فيها الشمسَ والقمر، وبمسيرهما تكون الشهور والأيّام، وبهما تُعرف الشهور.

* ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾، أي من هذه الاثني عشر شهراً، أربعةُ أشهرٍ حُرُم، ثلاثة منها سرد: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، وواحدٌ فرد: وهو رجب. ومعنى ﴿حُرُمٌ﴾: أنّه يعظُم انتهاك المحارم فيها أكثر ممّا يعظم في غيرها، وكانت العرب تُعظّمها حتّى لو أنّ رجلاً لقيَ قاتل أبيه فيها لم يُهِجْه لحرمتها. وإنّما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم َحرمةً من بعض لما علم من المصلحة في الكفّ عن الظلم فيها لعِظم منزلتها، ولأنّه ربّما أدّى ذلك إلى ترك الظلم أصلاً، لانطفاء النائرة، وانكسار الحميّة في تلك المدّة، فإنّ الأشياء تجرّ إلى أشكالها.

* قوله تعالى ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح، لا ما كانت العرب تفعله من النسيء، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله: «الكيّس مَن دان نفسه»، أي حاسبها. وسُمّي الحساب دِيناً لوجوب الدوام عليه، ولزومه كلزوم الدّين والعبادة. وقيل: معناه ذلك القضاء المستقيم الحقّ. وقيل: معناه ذلك الدّين تعبّدْ به، فهو اللازم.

* ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ﴾، أي في هذه الشهور كلّها، عن ابن عباس. وقيل: في هذه الأشهر الحُرُم الأربعة، عن قتادة، واختاره الفرّاء، قال: لأنّه لو أراد الاثني عشر شهراً لقال: «فيها».

* ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه، وإذا عاد الضمير إلى جميع الشهور، فإنّه يكون نهياً عن الظلم في جميع العمر، وإذا عاد إلى الأشهر الحُرُم، ففائدة التخصيص أنّ الطاعة فيها أعظمُ ثواباً، والمعصية أعظم عقاباً، وذلك حكمُ الله في جميع الأوقات الشريفة، والبقاع المقدّسة.

* ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، أي قاتلوهم جميعاً مؤتلفين غير مختلفين ﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ أي جميعاً كذلك، فتكون ﴿كافّة﴾ حالاً عن المسلمين، ويجوز أن تكون حالاً من المشركين، أي قاتلوا المشركين جميعاً ولا تُمسكوا منهم بعهدٍ ولا ذمّة إلّا من كان من أهل الجزية وأعطاها عن صَغار. والظاهر هو الأوّل. وقيل: معناه قاتلوهم خلَفاً بعد سلَف، كما أنّه يخلُف بعضُهم بعضاً في قتالكم، عن الأصمّ.

* ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرة والولاية.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الاعتبار في السنين بالشهور القمرية لا بالشمسية، والأحكام الشرعية معلّقة بها، وذلك لِما علم الله سبحانه فيه من المصلحة، ولسهولة معرفة ذلك على الخاصّ والعامّ.

النسيء زيادةٌ في الكفر

﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.

* المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكرَ السنة والشهر، عقّبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النّسيء، فقال: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..﴾، يعني تأخير الأشهر الحُرم عمّا رتّبها الله سبحانه عليه، وكانت العرب تحرّم الشهور الأربعة، وذلك ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربّما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر، فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم، فيمكثون بذلك زماناً، ثمّ يزول التحريم إلى المحرّم، ولا يفعلون ذلك إلّا في ذي الحجّة.

قال ابن عباس: ومعنى قوله ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ أنّهم كانوا أحلّوا ما حرّم الله، وحرّموا ما أحلّ الله. قال الفرّاء: والذي كان يقوم به [هذا التحليل والتحريم] رجلٌ من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة -وكان رئيس الموسم- فيقول: «أنا الذي لا أُعاب، ولا أخاب، ولا يُردّ لي قضاء»! فيقولون: «نعم صدقتْ، أنسِئنا شهراً، أو أخّر عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر، وأحلّ المحرم»؛ فيفعل ذلك.

والذي كان ينسأها حين جاء الإسلام جنادة بن عوف بن أميّة الكناني، قال ابن عباس: وأوّل مَن سنّ النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال أبو مسلم بن أسلم: بل رجلٌ من بني كنانة يقال له القلمس، كان يقول: «إنّي قد نسأتُ المحرّم العام، وهما العام صفَران، فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما محرّمين»!

وقال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كلّ شهر عامين، فحَجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفَر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجّة التي قبل «حجّة الوداع» في ذي القعدة، ثمّ حجّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في العام القابل «حجّة الوداع»، فوافقت في ذي الحجّة، فذلك حين قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر في خطبته: «ألا وإنّ الزمان قد استدارَ كهيئته يومَ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرض، السنةُ اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثةٌ متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبُ مُضر، الذي بين جُمادى وشعبان». أراد عليه السلام: الأشهرُ الحُرُم رجعتْ إلى مواضعها، وعاد الحجّ إلى ذي الحجّة، وبطل النسيء.

* ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي يَضِلُّ بهذا النّسيء الذين كفروا. ومَن قرأ بضمّ الياء [معتمد الطبرسي بفتح الياء] فمعناه: يُضِلّون به غيرَهم، وإضلالُهم أنّهم فعلوا ذلك ليحلّلوا للناس الأشهر الحُرُم التي حرّم الله القتال فيها، وأوجب الحجّ في بعضها، فيستحلّون تركَ الحجّ في الوقت الذي هو واجبٌ فيه، ويُوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه، وجوّزوا ذلك عليه [تعالى] حتّى ضلّوا باتّباعهم.

* ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾، أي: يجعلون الشهر الحرام حلالاً إذا احتاجوا إلى القتال فيه، ويجعلون الشهر الحلال حراماً، ويقولون شهرٌ بشهر. وإذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك.

* ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ﴾، معناه أنّهم لم يُحلّوا شهراً من الحُرُم إلّا حرّموا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرّموا شهراً من الحلّال إلّا أحلّوا مكانه شهراً من الحُرُم ليكونَ موافقة في العدد، وذلك المواطأة.

* ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾، أي زيّنتْ لهم أنفسُهم، أو زيّن لهم الشيطان سوءَ أعمالهم، عن الحسن. وقيل: معناه استحسنوا ذلك بهواهم.


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

16/09/2017

أرشيفو

نفحات