كتاب شعائر  3

كتاب شعائر 3

29/07/2011

إلى ضيــــافة اللــــه مع رسول اللـه

كتاب شعائر  3



إلى ضيــــافة اللــــه
مع رسول اللـه



الشيخ حسين كوراني
 





بسم الله الرحمن الرحيم
 

تقديم

كما يُمضي المؤمن عمرَه، وهو يطلب المزيد من رفع مستوى تعامله مع الصلاة، لِيَبلُغ صلاة الخاشعين، ويمضي قُدُماً في  طلب المزيد ورفع الدّرجة.
وكما يحمل مَن يتكرَّر توفيقه لأداء مناسك الحج، همّاً  لا يبرح يُلِحُّ بالتَّضرع للتوفيق لحجٍّ محمّديٍّ إبراهيمي.
كذلك هو حال المؤمن مع  العمل بخطبة رسول الله صلى الله عليه وآله، في استقبال شهر رمضان.
لقد تربّت على دروس هذه الخطبة النّبويَة المباركة أجيال الأمَّة. كلُّ شهر رمضان موسمٌ خاصٌّ لاستلهام هذا الوحي النبويّ المزيد من الدروس والعِبَر في فقه القلب والحياة.
 لا يمكن إحصاء عدد الواقفين بباب سيِّد النبيّين على أعتاب دعوته الإلهيّة إلى ضيافة الله تعالى، ومع ذلك فما تزال آفاق هذا الإستلهام منجماً «لا تفنى عجائبه»، والسّبب: ﴿وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحيٌ يوحى﴾ النجم:3-4.
يتماهى قرآن رسول الله مع قرآن الله تعالى، والقرآن بحرٌ لا ينزف. «باطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تُكشف الظُّلماتُ إلّا به».
موقع مفاهيم هذه الخطبة المباركة، من ثقافة شهر رمضان وليلة القدر، موقعُ ثقافة شهر الله تعالى من منظومة الثقافة الإسلاميّة كما قدّمها القرآن الكريم، والحديث الشَّريف، فهي -إذاً- خلاصة الخلاصة، وسرُّ السِّرّ.
وكما أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله، أن لا يسألَ الأمّة أجراً إلّا التزام الإسلام بالتزام واجبِ المودّة قي القربى، فقد أمر سبحانه أن يكون أجرُ الإلتزام بخطبة استقبال شهر رمضان، ودليلُ الصِّدق في العمل بها، «ولاية أمير المؤمنين» عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام. لذلك كان ختام الخطبة النبويّة المباركة قول رسول الله صلّى الله عليه وآله:

«يا عَلِيُّ، مَن قَتَلَكَ فَقَد قَتَلَني، ومَن أبغَضَكَ فَقَد أبغَضَني، ومَن سَبَّكَ فَقَد سَبَّني؛ لِأَنَّكَ مِنّي كَنَفْسي، وَرُوحُكَ مِن روحي، وَطِينَتُكَ مِن طِينَتي. إنَّ اللّه -تَبارَكَ وَتَعالى- خَلَقَني وإيّاكَ، وَاصطَفاني وَإيّاكَ، وَاختارَني لِلنُّبُوَّةِ وَاختارَكَ لِلإِمامَةِ، فَمَن أنكَرَ إمامَتَكَ فَقَد أنكَرَني نُبُوَّتي. يا عَلِيُّ، أنتَ وَصِيِّي، وأبو وُلدِي، وزَوجُ ابنَتي، وخَليفَتي عَلى أُمَّتي في حَياتي وبَعدَ مَوتي، أمرُكَ أمري ونَهيُكَ نَهيي. أُقسِمُ بِالَّذي بَعَثَني بِالنُّبُوَّةِ وجَعَلَني خَيرَ البَرِيَّةِ، إنَّكَ لَحُجَّةُ اللّهِ عَلى خَلقِهِ، وأمينُهُ عَلى سِرِّهِ، وَخَليفَتُهُ عَلى عِبادِهِ».

 بين يدَي القارىء الكريم، محاولة تعلّم بعض الدّروس من هذه الخطبة النبويّة الخالدة، كنت أوردتُها في كتاب (مناهل الرجاء - أعمال شهر شعبان)، وقد أعدتُ النّظر فيها فأضفتُ ما رأيتُ أنّه مفيد.
أتقدّم بالشّكر للأخ الفاضل الشيخ علي المسترشد سلَّمه الله تعالى الذي استخرجَ المادة من الكتاب، ونَسَّقها، وبعث بها إليّ، فحَثَّتني مبادرتُه على إعادة النّظر فيها وإنجاز هذه الرّسالة على أبواب الشهر الكريم. جزاه الله تعالى خيراً، وتقبّل منّا إنّه وليُّ الإحسان والنِّعم.

حسين محمد كَوْراني
2 شعبان 1432


 

أكرمُ دعوة، وأعظمُ ضيافة


عندما نستقبلُ هذا الشّهر المبارك، فنحن أمام ثلاثين يوماً هي سرُّ الزَّمن، ومُلتقى الأسرار: سرُّ الخَْلق، والنُّبوات، وسرُّ كرامة الإنسان «الهدى الإلهي»، وسرُّ استنزال القرآن الكريم، وسرُّ التّقدير، والقضاء، والإبرام.
في «شهر رمضان» يلتقي ما قبل الزّمان وما بعده، وفيه يؤسَّسُ لِحُسنِ العاقبة، لِيَتّصلَ المعادُ بالمبدأ في دروب القلب، مستضيئاً بنور العقل الكامل دليلاً إلى أعتاب العقل الأكمل؛ الشِّرعة والمنهاج.
إنّها فرصة إلهيّة فريدة ينتظرُها أهلُها العارفون بأهميّتها، المُدرِكون لِعَظَمَتِها طيلةَ أحدَ عشر شهراً، ويحزنون لفِراقها، فكيف سنتعامل معها؟
هل يصحُّ أن نبحثَ عن الوسيلة المُسلّية التي نستعينُ بها على تمضية ساعات هذه الفرصة التي لا تُفوَّت، فننشغل في شهر الله تعالى في مجالس السَّمَرِ أو الألعاب العبثيّة؟
أَوَلَيست هذه الأمور شراكاً يصطادُنا بها عدوُّنا المبين، لِيَحُولَ بيننا وبين خيرِ الزَّادِ في خير الشّهور؟
إنّ أمامَنا بعد شهر الله تعالى مُتّسعاً كبيراً لهذه الأمور إذا كانت حلالاً ولم يشُبْها الحرام، فلماذا نُصرُّ على ترك ما لا يُعوَّض واستبدالِه بما هو أدنى، وبالإمكان تعويضُه؟

العاقلُ المُصدِّق بما أخبرَ به الحبيبُ المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مَن يضعُ أمامَه خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لِيُحدِّد برامجَه على أساسِها، ويُفَرِّغَ أيامَ شهرِ الله تعالى ولياليه لِما يُدني من ثواب الله تعالى عزَّ وجلَّ، ويؤجِّل كلَّ عملٍ يُمكن تأجيلُه إلى ما بعد هذا الشهر المبارك، لأنّ له من الإنشغال بما يقي من عقاب الله تعالى ما يصرفُه عن كلِّ شاغلٍ سواه.

علامةُ تلبية الدعوة، الإستعدادُ، وعلامةُ الفرحةِ بها، توهُّجُ العَزْم، والنشاطُ، وسرعةُ المبادرة، وحُسنُ الإستعداد.
مَن يجد نفسه في قلب الضّيافة، دون أدنى إعداد، أو حتّى رغبة، فسيبقى غريباً، وإنْ كان بين الضيوف، وقد تكون غربتُه أحياناً كما اللِّصُّ في القافلة.
يقرأ المدعوُّ بطاقةَ الدّعوة، ويتأمَّلُ تفاصيلَها، لِيَعْرفَ كيف يستعدّ للضيافة، ويطيلُ التفكيرَ في آداب الضّيافة، وأنْ يكون أكرمَ الوافدين، أو لا يكون على الأقل من الخائبين، أو أخيَبَ الوافدين.
فكيف تستعدُّ يا قلبُ لشهر الله تعالى؟

بطاقةُ الدّعوة الإلهيّة
خطبةُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله في استقبالِ شهرِ رمضان


ممّا يدلُّ على أهميّة الإستعداد لشهر رمضان في شهر شعبان أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنشأَ هذه الخطبةَ في آخر شهر شعبان، لِيَكونَ للنّاس متَّسَعٌ من الوقت فيستعدّون في ما بقي من شعبان، لاستقبال شهر رمضان، ليكونوا أهلاً لضيافة الرّحمن.

**

عن الإمام عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه السيّد الشهيد الحسين بن عليّ، عن أبيه سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال:
إنَّ رَسولَ اللّه صلّى الله عليه و آله خَطَبَنا ذاتَ يَومٍ فَقالَ:

 «أيُّهَا النّاسُ، إنَّهُ قَد أقبَلَ إلَيكُم شَهرُ اللّهِ بِالبَرَكَةِ وَالرَّحمَةِ وَالمَغفِرَةِ، شَهرٌ هُوَ عِندَ اللّه أفضَلُ الشُّهورِ، وَأَيّامُهُ أفضَلُ الأَيّامِ، ولَياليهِ أفضَلُ اللَّيالي، وساعاتُهُ أفضَلُ السّاعاتِ. هُوَ  شَهرٌ دُعيتُم فيهِ إلى ضِيافَةِ اللّه، وجُعِلتُم فيهِ مِن أهلِ كَرامَةِ اللّه، أنفاسُكُم فيهِ تَسبيحٌ، ونَومُكُم فيهِ عِبادَةٌ، وعَمَلُكُم فيهِ مَقبولٌ، ودُعاؤُكُم فيهِ مُستَجابٌ. فَاسأَلُوا اللّهَ رَبَّكُم بِنِيّاتٍ صادِقَةٍ وقُلوبٍ طاهِرَةٍ أن يُوَفِّقَكُم لِصِيامِهِ وتِلاوَةِ كِتابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ غُفرانَ اللّهِ في هذا الشَّهرِ العَظيمِ. وَاذكُروا بِجوعِكُم وعَطَشِكُم فيهِ جوعَ يَومِ القِيامَةِ وعَطَشَهُ، وتَصَدَّقوا عَلى فُقَرائِكُم ومَساكينِكُم، ووَقِّروا كِبارَكُم، وَارحَموا صِغارَكُم، وصِلُوا أرحامَكُم، وَاحفَظوا ألسِنَتَكُم، وغُضُّوا عَمّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيهِ أبصارَكُم، وعَمّا لا يَحِلُّ الإستِماعُ إلَيهِ أسماعَكُم، وتَحَنَّنوا عَلى أيتامِ النّاسِ يُتَحَنَّن عَلى أيتامِكُم، وتُوبوا إلَى اللّهِ مِن ذُنوبِكُم، وَارفَعوا إلَيهِ أيدِيَكُم بِالدُّعاءِ في أوقاتِ صَلَواتِكُم؛ فَإِنَّها أفضَلُ السّاعاتِ، يَنظُرُ اللّهُ عزَّ وجلَّ فيها بِالرَّحمَةِ إلى عِبادِهِ، يُجيبُهُم إذا ناجَوهُ، ويُلَبّيهِم إذا نادَوهُ ويَستَجيبُ لَهُم إذا دَعَوهُ.

* يا أيُّهَا النّاسُ، إنَّ أنفُسَكُم مَرهونَةٌ بِأَعمالِكُم فَفُكُّوها بِاستِغفارِكُم، وظُهورَكُم ثَقيلَةٌ مِن أوزارِكُم  فَخَفِّفوا عَنها بِطُولِ سُجودِكُم، وَاعلَموا أنَّ اللّهَ -تَعالى ذِكرُهُ - أقسَمَ بِعِزَّتِهِ ألّا يُعَذِّبَ المُصَلِّينَ وَالسّاجِدينَ، ولا يُرَوِّعَهُم بِالنّارِ يَومَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ.

* أيُّهَا النّاسُ، مَن فَطَّرَ مِنكُم صائِماً مُؤمِناً في هذا الشَّهرِ كانَ لَهُ بِذلِكَ عِندَ اللّه ِعِتقُ نَسَمَةٍ  ومَغفِرَةٌ لِما مَضى مِن ذُنوبِهِ».
فَقيلَ: يا رَسولَ اللّه، ولَيسَ كُلُّنا يَقدِرُ  عَلى ذلِكَ! فَقالَ صلى الله عليه و آله : إتَّقُوا النّارَ ولَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، إتَّقُوا النّارَ ولَو بِشَربَةٍ مِن ماءٍ.
 
* أيُّهَا النّاسُ، مَن حَسَّنَ مِنكُم في هذا الشَّهرِ خُلُقََهُ كانَ لَهُ جَوازاً عَلَى الصِّراطِ يَومَ تَزِلُّ فيهِ الأَقدامُ، ومَن خَفَّفَ  في هذا الشَّهرِ عَمّا مَلَكَت يَمينُهُ خَفَّفَ اللّهُ عَنهُ  حِسابَهُ، ومَن كَفَّ فيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللّهُ عنه غَضَبَهُ يَومَ يَلقاهُ، ومَن أكرَمَ فيهِ يَتيماً أكرَمَهُ اللّهُ يَومَ يَلقاهُ، ومَن وَصَلَ فيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللّهُ بِرَحمَتِهِ يَومَ يَلقاهُ، ومَن قَطَعَ  رَحِمَهُ قَطَعَ اللّه ُعَنهُ رَحمَتَهُ يَومَ يَلقاهُ، ومَن تَطَوَّعَ فيهِ بِصَلاةٍ كُتِبَ لَهُ بَراءَةٌ مِنَ النّارِ، ومَن أدّى فيهِ فَرضاً كانَ لَهُ ثَوابُ مَن أدّى سَبعينَ فَريضَةً فيما سِواهُ مِنَ الشُّهورِ، ومَن أكثَرَ فيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللّهُ ميزانَهُ يَومَ تَخَفَّفُ  المَوازينُ، ومَن تَلا فيهِ آيَةً مِنَ القُرآنِ كانَ لَهُ مِثلُ أجرِ مَن خَتَمَ القُرآنَ في غَيرِهِ مِنَ الشُّهورِ.

* أيُّهَا النّاسُ، إنَّ أبوابَ الجِنانِ في هذا الشَّهرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسأَلوا رَبَّكُم ألّا يُغلِقَها عَلَيكُم، وأبوابَ النّيرانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسأَلوا رَبَّكُم ألّا يَفتَحَها عَلَيكُم، وَالشَّياطينَ مَغلولَةٌ، فَاسأَلوا رَبَّكُم ألّا يُسَلِّطَها عَلَيكُم».

* قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : فَقُمتُ  وقُلتُ: يا رَسولَ اللّه، ما أفضَلُ الأَعمالِ في هذا الشَّهرِ؟
فَقالَ: «يا أبَا الحَسَنِ، أفضَلُ الأَعمالِ في هذَا الشَّهرِ الوَرَعُ عَن مَحارِمِ اللّهِ عزّ و جلّ». ثُمَّ بَكى، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّه، ما يُبكيكَ؟ فَقالَ: «يا عَلِيُّ، أبكي  لِما يُستَحَلُّ مِنكَ في هذا الشَّهرِ، كَأَنّي بِكَ وأنتَ تُصَلِّي لِرَبِّكَ، وقَدِ انبَعَثَ أشقَى الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ، شَقيقُ عاقِرِ ناقَةِ ثَمودَ، فَضَرَبَكَ ضَربَةً عَلى فَرقِكَ (قَرنِكَ) فَخَضَّبَ  مِنها لِحيَتَكَ».

* قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، وذلِكَ في سَلامَةٍ مِن ديني؟
فَقالَ : «في سَلامَةٍ مِن دينِكَ». ثُمَّ قالَ صلّى الله عليه و آله: «يا عَلِيُّ، مَن قَتَلَكَ فَقَد قَتَلَني، ومَن أبغَضَكَ فَقَد أبغَضَني، ومَن سَبَّكَ فَقَد سَبَّني؛ لِأَنَّكَ مِنّي كَنَفسي، وَرُوحُكَ مِن رُوحي ، وَطِينَتُكَ مِن طينَتي. إنَّ اللّهَ -تَبارَكَ وَتَعالى - خَلَقَني وإيّاكَ، وَاصطَفاني وَإيّاكَ، وَاختارَني لِلنُّبُوَّةِ وَاختارَكَ لِلإِمامَةِ، فَمَن  أنكَرَ إمامَتَكَ فَقَد أنكَرَ نُبُوَّتي . يا عَلِيُّ، أنتَ وَصِيِّي، وأبو وُلدي، وزَوجُ ابنَتي، وخَليفَتي عَلى أُمَّتي في حَياتي وبَعدَ مَوتي، أمرُكَ أمري ونَهيُكَ نَهيي. أُقسِمُ بِالَّذي بَعَثَني بِالنُّبُوَّةِ وجَعَلَني خَيرَ البَرِيَّةِ، إنَّكَ لَحُجَّةُ  اللّهِ عَلى خَلقِهِ، وأمينُهُ عَلى سِرِّهِ، وَخَليفَتُهُ عَلى عِبادِهِ».


  كيفَ نستعدُّ لضيافةِ الرّحمن؟


يُسهِمُ الإستعداد لكلِّ عمل -ينوي الإنسان القيام به- في التمكّن من أداء هذا العمل بكيفيّة أفضل. بمقدارِ حُسن الإستعداد تكون الكيفيّة أفضل. وكُلّما كان العمل أهمّ، كلّما استدعى الإستعدادَ الأهمّ.
عندما نستقبل شهرَ الله تعالى، كيف ينبغي أن نستعدَّ له؟
إنّه الموسم الإلهي الفريد إلى حدّ أنّ «الشقِيّ مَن حُرِم غفرانَ الله في هذا الشّهر العظيم» أي أنّ رحمةَ الله تعالى الواسعة دائماً وأبداً، هي في هذا الشَّهر من حيثُ تسهيلاتُ شروطِ الشُّمول تجسِّد العطاء الإلهي الأسمى.
 من واجبنا أيّها العزيز أن نحرصَ على تطهير قلوبِنا ونفوسِنا لِنَتَمكَّن من استثمار كلِّ لحظة من لحظاتِ هذا الشّهر.
 
ينبغي أن يطولَ وقوفُنا مع أنفسنا، نتأمّل في زواياها، ونبحث جيّداً في مطاويها، ونتفقّد مساربَها، وتَشَعُّباتِها، لعلّ هناك خطأً كبيراً، واعوجاجاً خطيراً ونحن لا نشعرُ به.

مِن طَبْع الإنسان الرّضا عن نفسه عادة، إلّا أنّ المؤمن «نفسُه ظَنونٌ عنده» فهو يتَّهِمُها، ويُدقِّقُ في ميولِها، والشّيطانُ يحاولُ بشكلٍ أو بآخر أنْ يُبديَ لنا إيجابيّاتنا ويُخفي عنّا سلبيّاتِنا.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «واعْلَموا أنّه ما من طاعةِ الله شيءٌ إلّا يأتي في كُرْه، وما من معصيةِ اللهِ شيءٌ إلّا يأتي في شهوة. فَرَحِمَ اللهُ رجلاً نزعَ عن شَهوتِه وقمعَ هوى نفسِه، فإنّ هذه النّفْسَ أبعدُ شيءٍ مَنزَعاً، وإنّها لا تزال تنزِعُ إلى معصيةٍ في هوى. واعلمُوا عبادَ الله أنّ المؤمن لا يُصبح ولا يُمسي إلّا ونفسُه ظَنونٌ عنده، فلا يزال زارياً عليها ومُستزيداً لها. فكونوا كالسّابقين قبلَكم والماضين أمامَكم، قَوَّضُوا من الدنيا تَقويضَ الرّاحل وطَوَوْها طيَّ المنازل..». 
من هنا وجبَ أن تكون الوقفة مع النفس جادَّة ونوعيَّة، لِيَكون استعدادُنا لشهر الله تعالى متناسباً مع موقع الشّهر في السَّفَر إلى الله تعالى.
مِن نِعَمِ الله سبحانه علينا أنّه وضع بين أيدينا خطبةَ رسولِه الأكرم  صلّى الله عليه وآله وسلّم، لتكونَ منهاجاً نحاولُ من خلاله أن نُطهِّرَ أنفسَنا لِيُقبلَ شهرُ الله تعالى ونحن مُستحقُّون لوسام ضيافة الرّحمن، بفضلِه وكَرَمِه.

***


  التّفكيرُ بالضّيافة


* ماذا تعني ضيافةُ الله عزَّ وجلَّ؟

ضيافةُ الله تعالى لنا تكشفُ عن تكريمنا. كلُّ ضيافةٍ تكشفُ عادةً عن تكريمِ صاحبِ الدعوةِ لِضُيوفه، أي أنّه يحترمُهم ولذلك دَعاهم، فإذا شاهد الضَّيفُ من مظاهرِ الإحترامِ والحبِّ والتقديرِ ما لا يتصوّر، وتلمّس قلبُه سلامة نيَّة الدَّاعي والمُضيف، يكتشف المزيد من آفاق حبِّ الضيوف عندَ من دعاهم.
وها قد دُعينا إلى ضيافةِ الرّحمن، وها نحنُ أيضاً أمامَ مظاهرِ تكريمٍ للصّائم لا تُضاهَى. الشّياطينُ مغلولة، وأبوابُ الجِنان مُفَتَّحَة، وأبوابُ النّيران مُغلَّقَة، أنفاسُنا تسبيح، ونومُنا عبادة، عملُنا مقبول، ودُعاؤنا مستجاب، وفي كلّ ليلةٍ يمُنُّ الله تعالى على أعدادٍ كبيرة جدّاً بالرّحمة والمغفرة.
علينا أن ندركَ أهميّة هذه الضّيافة قبل حلولِها، فنستعدَّ لها كما ينبغي، ونحرصَ على تناسبٍ بينَنا وبينَها، وبعبارةٍ أوضح أنْ نكونَ في أجواء الضّيافة مُلتزمين بالآداب التي تقتضيها هذه الضّيافة.
وبما أنّ الإستعداد لكلِّ أمرٍ يكون بحسب أهميّته، فإنّ الإستعداد لضيافة الله عزَّ وجلَّ ينبغي أن يكون مميّزاً.

* مَن دخلَ ضيافةً بما لا يُناسب

لو أنّ شخصاً مدعوّاً إلى ضيافةٍ مّا، هي على درجة عالية من الأهميّة، من حيث أعدادُ المَدعوِّين، ونوعيَّتُهم، والموضوعُ الذي هو محورُ الدّعوة، وقد غَفَلَ هذا المدعوُّ عن الإستعداد المناسبِ لهذه الضيافة، أو لم يستعدَّ لها أصلاً، فلم يرتدِ الثّياب المناسبة، وعندما ذهب دون الإستعداد اللّازم ظَلَّ سادراً في غفلته، إلى أن دخلت أولى لحظات الفترةِ الرئيسة في موعد هذه الضّيافة، وسُلِّطت الأضواءُ الكاشفة، وبدأ البثُّ الفضائي، وسُلِّطت عشراتُ الكاميرات على المدعوِّين، وما زالت الغفلةُ تسيطرُ عليه بشكلٍ أو بآخر.
وفجأةً وقعَ نظرُه في مرآة فاكتشف أثناء هذا الحفل النوعيّ أنّ على ثيابِه بُقَعَاً من الزّيت، أو أنّه مُلَطَّخٌ بالأدران والأوساخ، أو أنّ ثيابه رديئة، ووضعُه الظاهري سيِّءٌ جدّاً، لا يناسب هذا المكان على الإطلاق. فكيف يتصرّف هذا الغافل، والحفلُ قد بدأ وهو منه في الصميم؟
كما تُقدِّر له أن يتصرّف، هكذا ينبغي أن نتصرّف أنا وأنت وأمثالُنا عندما نجدُ أنفسَنا في ضيافة الرّحمن عزَّ وجلَّ وقد غمرَتْنا الغفلةُ فلم نستعدَّ لهذه الضيافة قبل حلولِها، ومرّت علينا أيامٌ وليالٍ من هذا الشّهر المبارك ولمّا ننتبه بعدُ إلى آداب هذه الضّيافة الإلهيّة.
ينبغي أن ننظر بنور الإيمان، لنرى في مرآة الحقيقة باطنَنا، ونتصرّف بما يحكمُ به الأدبُ والعقلُ، وتقضي به الحكمة على مَن اكتشف ظاهرَه المُشين في هذا الحفل النَّوْعي.
أيُّها الحبيب: إنّ الضّيافة الإلهيّة على علاقة بالباطن، والأدرانُ الناتجة عن الذّنوب هي عبارة عن تشويهات للنّفْس تظهر في الضيافة الإلهيّة كما تظهر التّشويهات في الثياب في الضّيافة العاديّة.
هذا الإنسان الذي اكتشف أنّه يرتدي ثياباً لا تُناسب هذا الحفل، ملطّخة بِبُقَع الزّيت أو ما شابه، أمام ثلاث حالات:
1. أن يشعر بالخجلِ والفضيحة، فينسلَّ لُواذاً إلى أقرب مكان لِيُغيِّر ثيابَه ويرتدي غيرها.
2. أن يشعر بالخجل والفضيحة، ولكنّه عاجزٌ عن تغيير ظاهره، لعذرٍ ما، فهو غريب، لا يُمكنه أن يأخذ من أحدٍ ما يسترُ به سوأتَه، أو لا يقوى على الحركة.
3. أن لا يشعر بشيءٍ من الخَجَل.. ولا يرمشَ له جفن، ويبقى مصرّاً على تصدُّر الضيافة وكأنّ شيئاً لم يكن!!
حذارِ يا قلبُ أن تكونَ حالتُك هي الثالثة!
لو فرضنا أنّ لهذا الإنسان الذي يكتشف أنّ ثيابه لا تُناسب هذا المكان، عذراً من الأعذار كما تقدَّم، فهو لا يحتقرُ الموجودين بإصراره على تلطيخِهم بفَجاجتِه، وازدرائه العمليِّ لِمَناقِبِيَّتِهِم، ولا يهينُ صاحبَ البيت والضيافة بتصدُّر دعوتِه، بل يلجأُ إلى زاوية ينزوي فيها، مستشعِراً الخجلَ منسجِماً مَعَ هذه الفضيحة، فلعلَّ يداً من الغِيب تمتدُّ إليه تُبلسِم جراحَ قلبِه وثيابِه.

* بالتَّوبة يتحقُّق الإستعدادُ والتَّناسب

* يا نَفْس
إذا كان لهذا عذرٌ من الأعذار، فما هو عذرُ من يكتشفُ في ضيافة الله تعالى -التي يشتركُ بها النبيّون والأوصياء، وخِيْرةُ عباد الله الصالحين، وسائرُ مَن دعاهم الله عزَّ وجلَّ- أنّ غفلتَه قد حملتُه إليها مشوَّه النفْس والفِطرة، صِفْرَ اليدين من لباس التَّقوى، خاليَ الوِفاض من مكارم الأخلاق؟!!

ها هي صورةُ باطنِه تظهرُ في مرآة الحقيقة، على ما هو عليه! يحمل أطناناً من الحقد، وأطناناً من الغِيبة، وسوء الظّنّ، وأطناناً من الجَشَع وحبِّ المال وحبِّ الجاه!! كيف يُمكنُه أن يرضى بهذه الحقيقة الشّوهاء، حقيقتِه، في هذا المحضرِ العظيم ولا يذوبَ خجلاً، ويودَّ لو تُسوّى به الأرض؟!

وهل يُعقل أن يبقى في هذه الضّيافة على ما هو عليه؟!
وكيف لا يبذلُ المستحيل لِتغيير هذا الحال؟!
صحيحٌ أنّ ظاهرَه ظاهرُ الإيمان، ولكنّ في هذا المحفل الإلهي لا قيمة للظّاهر، فالمِحور هو الباطن، ولا يستطيعُ أن يقول: لا أريدُ أن أشاركَ في هذه الدّعوة، لأنّي أعرفُ نفسي، عاصياً متمرِّداً، فلستُ أهلاً للمُشاركة في هذه الضِّيافة الإلهيّة، لا نستطيعُ نحن العصاة أن نقول ذلك لأنها تَحِلُّ علينا حيثُ نحن، وندخلُها شِئنا أم أبينا، وها نحن فيها!!
إنّ الله عزَّ وجلَّ يعلم حقيقةَ أمرِنا، ومع ذلك دعانا، لقد أبى كرمُه أنْ لا تشملَ ضيافتُه كلَّ الخَلْق!
لم يترك مجالاً للعُصاة لِيَحملَهم سوءُ السَّريرة، وطولُ التوثُّبِ في تعدِّي حدودِه، على عدم المشاركة، فصاغَ الدّعوةَ ونصَبَ الموائدَ ووزَّعَ الضّيافة بحيث تدخلُ كلَّ بيتٍ ويدخلُها كلُّ قَلْب، فإذا هو في عِداد المَدعُوِّين.
بَلْ إنّه سبحانَه إنّما دعانا، لأنّه يعلمُ تقصيرَنا، وفرْطَ العصيان. يعلمُ ضعفَنا، وغلبةَ الشِّقْوة والشَّهوات، ويريدُ لنا أن نصل.
من أجل ذلك دعانا، لأنّه يريدُنا، ولأنّه يُحبُّنا، يريدنا أن نسمو وأن نغادرَ الإسفافَ ونُقلعَ عن الرَّكضِ الأرعنِ إلى مَهاوي الرَّدى.
يريدُنا أن نبتعدَ عن الحيوانيّة ونحلِّقَ في مدارجِ الكمال الإنساني!!
كلٌّ منّا إذاً، مَدعوٌّ إلى هذه الضّيافة، إنسجمَ معها أم لم ينسجم، إلّا أنّ مَن لم يحرص على الإنسجام معها، ولم يحاول أن يتكيّف معها وانقضى شهرُ رمضان المبارك ولم يغفرِ اللهُ تعالى له، فقد فاتتْه فرصةُ العمر، وأصرَّ على أن يبقى كما كان شقيّاً، ينتظرُ -إذا تَيَقَّظ- شهرَ الضّيافةِ القادمِ، أو يشترك في موقف الحجيجِ بِعَرَفة.

* يا قَلْب

مطلوبٌ أن يُدرِك الغافلُ حقيقةَ أمرِه ويتحرَّك نحو الإنسجام مع هذه الضّيافة حتى لا يبقى نشازاً، غريباً عنها، كالضَّيف الذي يرتدي ثياباً باليةً عجيبة في جوٍّ «رسميٍّ» شديدِ الخصوصيّة، ألا يبقى وجوداً نشازاً؟

كي لا أبقى أنا العاصي، صاحبَ منظرِ هذا الباطنِ المرعبِ نَشازاً في هذه الضِّيافة الإلهيّة، ينبغي أن أتحرّك، وأُبادر، أنْ أعملَ شيئاً؟

ماذا بِوسعِ الغافلِ أنْ يفعل؟ وكيف يُمكنُه أن يخرجَ ممّا هو فيه؟
والجواب
: عندما يلتفتُ إلى أنّه في ضيافة الرّحمن وأنّه ليس مُنسجماً مع جوّ الضّيافة الإلهيّة، فينبغي أن يشعرَ بالخَجل، وينبغي أن يحملَه هذا الخجل على دراسة تقصيره، تماماً كما يحدث للإنسان الذي يلتفت إلى أنّه في حفلٍ يرتدي ثياباً مُشينة، إنّه أولاً، يلتفتُ إلى وضعِه بشكلٍ إجمالي، ثمّ يدقّق ليرى ما هي الأخطاءُ في وضعِه، كذلك بالنسبة إلى الغافل في هذه الضّيافة الإلهيّة، فعندما يلتفت إجمالاً إلى وضعه وأنّه ليس كما ينبغي، يجبُ عليه أن يدرس أخطاءه. يتناول نفْسَه فيضعها على طاولةِ البحث والتشريح والدّراسة بدقّة لِيَعرفَ من أين أُتِي، ويعرفَ نقصَه، والخَللَ في قناعاتِه وأعمالِه، ويعرف أخلاقَه السيّئة.
ثمّ يجدّد التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ.
 ولكن، أيّ توبة؟ هل المُراد كلمات «أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه» والبقاءُ على ما هو عليه؟ وهل هذا إلّا إصرارٌ على الذَّنْب بل عينُ الإستهزاء بالله عزَّ وجلَّ؟

المطلوبُ منَّا أيُّها الحبيبُ أن تكون التّوبة حارّةً، فاعلةً، من الأعماق.

 أَرَأَيتَ إلى الأمِّ المفجوعةِ بِوَلَدِها، هل تحتاجُ إلى مَن يُعَلِّمُها كيف تندب، وتلطم، وتتفجّع على إبنِها، أم أنّها من شدّة اضْطِرام نارِ الحزنِ في أعماقها تُصبح مُعَلِّمَةً لغيرِها في باب التّفَجُّع والنّدب واللّطم.
مَن يغضبْ تظهرْ عليه آثارُ الغضب. بمقدار غضبِه يكون التعبير عنه، ويصلُ به أحياناً إلى حدِّ أنّه يلطمُ على رأسِه. مَن يتأثّر بشيءٍ يظهرْ عليه ما يدلُّ على ذلك، وقد يبلغُ تأثُّرُه حدّاً يدعوه إلى العمل بما يُعبِّر عنه بكلّ وضوح.
التوبة التي أنا بصدد الكلام عنها، ويا ليت أنّي أكون بصددها، هي من هذا النوع. ليست عبارة عن كلمات «أستغفر الله ربّي وأتوب إليه» فقط، بل أنْ يطولَ النَّدمُ على ما فرَّطْنا في جنبِ الله، فنقول من أعماق الأعماق، بل تقول شغافُ القلب:

«وَيْلي كلّما طالَ عمري زادتْ معاصِيّ، وَيْلي كلّما كَبُر سِنّي كَثُرَت ذُنوبي، فَكَم أتوبُ وكم أعود، أمَا آنَ لي أن أستحيَ من ربّي».

التوبة التي أنا بصدد بيانِها هي التعبيرُ عن النَّدَمِ بفعلٍ نفعلُه، ببُكاء، بِتَنَهُّد، بحُرقةٍ من الأعماق، بالكآبة التي تعلو الوجه، بالهَمِّ الذي يحملُه التّائب.
بمقدارِ ما تكون نارُ الحزنِ مُضطرمةً في القلب وبين الأَضْلُع والحَنايا، بمقدارِ ما تكون هذه التّوبة صادقة، وبمقدارِ ما تستطيل ألسنةُ هذا اللّهب المُتصاعدة والمُتطايرة شَرَراً، بمقدار ما تكون قدرتُها على تطهير القلب من أدران المعاصي، وإحراقِ آثارها وإزالة الرَّين، وإزالةِ الطَّبع، وإعادةِ صَقْل هذه النّفْس وصياغتِها من جديد، لِتَرْجِعَ نقيّةً بيضاءَ كما أرادها اللهُ عزَّ وجلَّ وكما خَلَقَها.

ببساطة، لِيَسأَلْ أحدُنا نفسَه، هل أريدُ أن أتوب؟

إنَّ الحريص على التَّوبة لا بدَّ وأن تظهرَ عليه آثارُها، فالمَهموم يظهرُ عليه الهمّ، والمَدين يفكّر بالدَّين، والمريضُ يتذكّر مرضَه دائماً، فإذا كنتُ مطمئناً، مرتاحاً، فَرِحَاً، وكأنّه ليس هناك شيء بتاتاً، أَعْصِي اللهَ عزَّ وجلَّ جَهاراً نَهاراً، لا يرمشُ لي جَفنٌ على الإطلاق، لا أجدُ حاجةً حتّى للدّعاء، في حين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان دائماً يدعو اللهَ عزَّ وجلَّ، فمَعنى ذلك أنّ هناك خللاً بُنيَويّاً مُرعباً.
ذاتَ مرّة سمعتْ أمُّ سَلَمَة رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقولُ في دعائه: «وَلا تَكِلْني إلى نفسي طرْفَة عينٍ أبداً» فَبَكَت أمُّ سَلَمَة، قال صلّى الله عليه وآله: ما يُبكيكِ؟ قالت: يا رسولَ الله، أنت تقول ذلك؟ قال صلّى الله عليه وآله: وَلِم لا؟ وهذا ابنُ متّى -النبيّ يونس- وَكَلَه اللهُ إلى نفسِه طرْفَةَ عينٍ فكانَ من أمرِه ما كان.
أيُّ معادلةٍ هذه التي نحنُ عليها: رسول الله صلّى الله عليه وآله مُشْفِقٌ وَجِل، ونحن مُطْمَئِنّون ونشعرُ أنّنا قُمنا بما علينا، في غَفلةٍ عمّا يجب!

لِنَفسي ولِجميع الأعزّاء أقول: نحن مَدعوُّون إلى التَّوبة الصّادقة النّصوح في شهر رمضان المبارك. وَلِنَثِقَ أنّ ربَّنا نِعْمَ الرّب، يبلغُ قبولُه التوبة إلى حيث يبدِّل السيئاتِ حسنات، وَلَدَيْهِ المزيد، ورضوانٌ من الله أكبر.

***


 


دروسٌ من الخُطبة النبويّة، في استقبالِ شهرِ رمضان

  أيّها الناس إنّه قد أقبلَ إليكم شهرُ الله بالبَرَكة والرّحمةِ والمغفرة.

شهرُ مغفرةٍ مميّزة، تقصرُ العقول عن إدراكِها، ومُفتَتحُ موسم هذه الأشهر الثلاثة، بمستوى «أَعْطِني بمسألتي إيّاكَ جميعَ خيرِ الدُّنيا والآخرة».  
فكيف سيكونُ منسوبُ الرّحمةِ ومستواها في شهر رمضان؟!
حقّاً عندما نجدُ في بعض الرّوايات أنّ الله عزَّ وجلَّ يعتقُ الملايين في أوّلَ ليلةٍ من شهر رمضان، وفي اللّيلة الثانية منه يُضاعف ذلك، وفي اللّيلة الثالثة يُضاعِفُ المُضاعَف، وهكذا.. فإذا كانت آخر ليلةٍ من شهر رمضان أعتقَ أضعافَ ما أعتقَ في كلِّ هذا الشّهر. فأيُّ رحمةٍ واسعةٍ إذاً هذه الرّحمة؟
سبحانَك ما أكرمَك. سبحانَك ما أوسعَ رحمتَك وأعظمَ مغفرتَك.
إنّه عزَّ وجلَّ أرحمُ الرّاحمين في كلِّ آن، وَسِعَت رحمتُه كلَّ شيءٍ في كلّ حين. يُعطي مَن سألَه ومَن لم يسألْه، ولم يعرفْهُ تحنُّناً منه ورَحمة. يغمُرُ العاصينَ بالنِّعَمِ لأنّه أرحمُ الرّاحمين.
بالرّغم من هذه الرّحمة الواسعة، فإنّ شهر رمضان شهرُ رحمةٍ من نوعٍ آخر، فأيُّ رحمةٍ هي هذه؟ وأيُّ مغفرة؟

مُقتضى ذلك أن يكونَ الثوابُ الذي نقرأ عنه في روايات الأعمال، فوقَ مستوى إدراكِنا، وأنّ العجيبَ أن لا يكونَ كذلك.


 

***


  شهرٌ هو عندَ الله أفضلُ الشُّهور.

هذه العبارة، عبارة «أفضل الشهور» تكفي في بيانِ أنّ شهر رمضان هو الشهر الأهمّ والأفضل، فلماذا أكّد رسول الله صلّى الله عليه وآله، على هذا المعنى بعبارات أُخرى فقال:
 «وأيّامُه أفضلُ الأيّام، ولياليه أفضلُ اللّيالي، وساعاتُه أفضلُ السّاعات». كأنّي به صلّى الله عليه وآله، يريد أن يقول: يا مَن لم ينتبِه، إنتبِه جيّداً، إنّ شهر الله تعالى أفضلُ الشهور.

هذه حقيقة ينبغي أن تُدركَها بكلّ وجودك وكيانك. إنّ المقصود بوصفِه بأفضل الشّهور أنّ أيّامَه أفضلُ الأيّام، ولياليه أفضلُ اللّيالي، والأكثر من ذلك، يجب أن تُستَثمر ساعاتُه لأنّها أفضلُ السّاعات.

نحن إذاً أمام بيانٍ يحملُ مزيداً من الأهميّة، إستدعى مِن أفصح مَن نطقَ بالضّاد، التَّفصيلَ بعد الإجمال، لِتَصِلَ هذه الرّسالة وتعيَها أُذُنٌ واعية.
يلتقي مع هذا التوكيد النبويّ على عظيم فضلِ شهر الضّيافة الإلهيّة الخاصّة، ما وردَ في دعاء الإمام السجّاد عليه السّلام، في وَداع شهر رمضان، والذي ينبغي أن نحرصَ على قراءته قبل الشّهر وفيه، لِيُحسنَ القلبُ صحبةَ شهرِ رمضان.
قال عليه السلام:
«..أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأَكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَـا أكْرَمَ مَصْحُـوبٍ مِنَ الأوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الآمالُ وَنُشِرَتْ فِيهِ الأعْمَالُ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَصَاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الاِحْسَانِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا أكْثَرَ عُتَقَاءَ اللهِ فِيكَ وَمَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بكَ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لاَِنْوَاعِ الْعُيُوبِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الأيَّامُ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ وَلاَ ذَمِيمِ الْمُلاَبَسَةِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً وَلاَ مَتْرُوكٍ صِيَامُهُ سَأَماً. أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍِ قَبْلَ وَقْتِهِ وَمَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ..».

***

  هو شهرٌ دُعِيتُم فيه إلى ضيافةِ الله.

من معاني هذه الدّعوة، أنّي أنا العاصي الغريقُ في بحار الذّنوب، أنا الذي يأمرني ربّي فَأَعصي، وينهاني فلا أَرعوي، أنا صاحبُ الدّواهي العُظمى، يتعامل معي ربُّ العالمين عزَّ وجلَّ وكأنّي لستُ مُذنباً، ويدعوني إلى ضيافته لعلّي أُصبِحُ مُتّقياً، ويُهيّئ لي أفضلَ مُناخ، وأفضل جوٍّ لَعَلِيّ أعود وأُصلحُ اعوجاجي وأستقيم ﴿لعلّكم تتّقون﴾.


يذوبُ القلبُ خَجَلاً عندما يواجُه شخصٌ من النّاس إساءَتَه بنُبْل، فكيف هي حال المُجرم المُقيمِ على الإصرار، وهو يستمعُ مَن أساءَ إليه واجترأَ عليه، يُخاطبُه بِلُغَةِ الأبِ الرّؤوف، والأُمِّ الرَّؤوم، تلك اللّغة التي لا يشي حرفٌ منها بأدنى عِتاب.

هل يُمكنُه إلّا أن يقول «.. ومنكَ ما يَليقُ بِكرمِك»!
سبحانَه ما أكرمَه، يُحسنُ إلينا وتترادفُ النِّعَم، لعلّنا بِقَبَسِ أو سناً من فيوض هذه النِّعم نهتدي إلى الطريق.

شهرٌ دُعِيتُم فيه إلى ضِيافة الله!!!

من المدعوّ؟ أنا..  صاحبُ السِّجِلّ الذي أعرف، والصّحائفِ السُّود!
هل ستكون هذه الدّعوة –مجرّد توجيهها- فرصةً لي لِأُعيدَ النَّظرَ في كلّ مجالاتِ علاقتي بربّي؟
هل أقارنُ بين توجيهِ هذه الدّعوةِ الأعظمِ لي، وبين دعوةٍ تصِلُني من وجيه منطقةٍ طالتْ إساءاتي له، ثمّ فاجَأَني بإرسال ابنِه يدعوني مُكَرَّمَاً إلى حفلٍ مَهيب.

هذه الدّعوة إلى ضيافة الشّهر والقدْر والعيد، من ربّ العالمين، يحملُها إلى النّاس، كلِّ النّاس، سيّدُ النبيّين!

 يا لِسعادتي إنِ استطعتُ أن أكونَ مؤدّباً في ساحة ضيافتِه، ويا لِشقائي إذا واصلتُ قلّةَ الأدبِ والجرأةِ على المعصية، بل والوقاحة في المحضرِ الرّبوبي، في حرمِ ضيافةِ الله عزَّ وجلَّ!

***


  وَجُعِلتُم فيه من أهل كرامةِ الله.

 إذا دخل ضيفٌ إلى بيت أحدِنا، فإنّه يعامُله معاملةً خاصّة، وإذا أساء الضيفُ إليه يقول إنّه في بيتي، ويواجِهُه باللُّطف والحَنان.
فأيُّ لطفٍ، وأيُّ غامرِ حنانٍ إلهيّ، ينبغي أن نتوقَّع في شهرِ ضيافةِ الله تعالى؟
أوَلا تُغتَنَمُ مثلُ هذه الفرصة من النّاس العاديّين لإصلاحِ ما فسدَ من العلاقة بهم؟
فهل نَغتنم؟
وأيّ جرأةٍ وجريمةٍ وتمرّدٍ وتلاعبٍ بالمصير يُمثِّلُه عدمُ اغتنام هذه الفرصة السانحة، واللّجوء إلى التمادي في الضّلال البعيد، والإساءة إلى «ربّ البيت» الذي نحن ضيوفُه؟!

نحن إذاً أمام شهرٍ، يُمكننا أن نطمعَ فيه بحنانٍ استثنائي، وكلُّ حنانه عزَّ وجلَّ استثنائي. لكنّها لغةُ البشر تقصرُ عن التعبير ببعض ما يليق بالمقام ممّا تُدركه عقولُنا القاصرة أصلاً عن إدراك أدنى سفحِ لطفِه والحنان. وفي الفقرات التالية مؤشّراتُ دليل.

والتّكريم من كلٍّ بحَسَبِه، قبل أن يكون بحسبِ المُكرَّم، فأيَّ كرامة نتوقَّعُ تكريمنا بها منه سبحانه، وهو ﴿على كلِّ شيءٍ قدير﴾، وقد أمرَنا على لسان أوليائه، أن نردّد بدءاً من أوّل ليلةٍ من شهر رجب كما تقدَّمت الإشارة:

أَعْطِنِي بمسألتي إيّاك جميعَ خيرِ الدّنيا وجميعَ خيرِ الآخرة، واصرِفْ عنّي بمسألتي إيّاك جميعَ شرِّ الدّنيا والآخرة، فإنّه غيرُ منقوصٍ ما أعطيت، وَزِدْني من فضلِك يا كريم.


 

***


  أنفاسُكم فيه تسبيحٌ، ونَومُكم فيه عبادةٌ، وعَملُكم فيه مقبولٌ، ودُعاؤكم فيه مُستَجاب.

 أَرأيتَ يا قلبُ أنّك أمام حنانٍ من نوعٍ آخر، أمام رحمة وكرامة تفوقان كلّ أحاسيسك ونبض العقل؟
عادةُ الضَّيف الدّلال، وعادةُ صاحبِ البيت الإكرام، وقد يصل توقّع الضيف ودلالُه حدَّ التصرف وكأنَّه صاحب البيت، إلّا أنّ ذلك كلّه فرع حُسْن العلاقة وتمايزها، أمّا أن يكون قد «أوحشَ ما بينهما فرْطُ العصيان» فلا مجال لتوقُّع ضيافةٍ من هذا النوع على الإطلاق.
إلّا أنّ ضيوف الله عزّ وجلّ تبلغ كرامتهم إلى حدّ أنّ أنفاسهم تسبيح، وهذا يعني أنّي أنا العاصي الذي أعرف ما هي أنفاسي وأفكاري وسريرتي وباطني وظاهري، يعاملني الله  تعالى بكلّ هذا الحنان والمغفرة واللّطف!!
وما أنا وما خَطري، وما أنا وما عملي، وما نفْسي، فضلاً عن نَفَسي؟! لكنّ أكرم الأكرمين، يريد أن يًعطينا الكثير حتّى نبلغ ونصل.
 كم هو حبّ الله تعالى لعباده؟ وهل نعرف الله تعالى لنعرف حبّه، وحبُّه على قدره، متناسبٌ مع عظمَته ﴿ليس كَمِثلِه شيء﴾ رغم أنه ﴿السّميع البصير﴾.  «تَرَاني وَتَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَتَخْبُرُ حاجَتِي وَتَعْرِفُ ضَمِيرِي، وَلا يَخْفى عَلَيْكَ أَمْرُ مُنْقَلَبِي وَمَثْوايَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أُبْدِيَ بِهِ مِنْ مَنْطِقِي وَأَتَفَوَّهَ بِهِ مِنْ طَلِبَتِي وَأَرْجُوهُ لِعاقِبَتِي..». 
ومع ذلك فهو دائماً يُخاطبنا بغاية الحبّ الشديد التي تعبّر عنه الآية: ﴿..يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً..﴾ الزمر:53، وكأنّه سبحانه يقول: يا أحبّائي، توقّعوا الكثيرَ الكثيرَ لعلّكم تهتدون، لعلّكم تتَّقون.

 كم هي السّعادة التي تغمرُ القلب عندما يتنبّه إلى أنّ له رصيداً هائلاً من فيض حبّ الله تعالى يُمْكنه أن يؤسّس عليه وينطلق منه؟

وكم هو الشّقاء والتعاسة عندما يكون العطاء الإلهي بهذه الأبعاد، وتكون الضيافة الإلهيّة بكل هذا الحنان وهذه المحبّة، ثمّ يُعرض عنها المدعوُّ إلى الضّيافة، إما لأنّه لا يريد أن يصوم، أو لأنّه يريدُ أن يكون صومُه عاديّاً، أيْ عن الطّعام والشراب فقط، فلا يصوم عن المعاصي.
ماذا ينبغي أن نفعل في هذا الجوّ، جوِّ الضِّيافة الإلهيّة؟

***

  فَاسْأَلوا اللهَ ربَّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرةٍ أنْ يُوفِّقَكم لِصيامه وتلاوةِ كِتابِه.

لِنَجْعلْ آخر جمعة من شعبان فرصة للتدرّب على أن نسأل الله تعالى بنيّات صادقة وقلوب طاهرة، وَلْنبدأ من الآن بالإستعداد الجادّ لكي نكون من أهل ضيافة الرّحمن.
عندما يصوم الإنسان في شهر شعبان صياماً مستحبّاً ويراقب نفسه، ويدرِّبُها على اجتناب الغِيبة في صومه وبعد إفطاره، وعلى اجتناب الكلمة الحرام والنّظرة الحرام، فهو يتدرَّب لشهر رمضان ويستعدُّ له، وسيأتي أوّل يومٍ منه وقد رفع من مستوى صومِه بدرجةٍ عالية. أمّا إذا لم يستعدَّ، وبقي مُفطِراً، وفجأة في اليوم التالي لآخر شعبان يبدأ صيام شهرِ رمضان، فسيبقى يُخطئ ويُصيب، ويقوم ويقع، إلى أن يمضي شهر رمضان، أو قسمٌ منه على الأقلّ.


من الآن ينبغي أن نبدأ بتعويد أنفسِنا على قراءة القرآن الكريم، فإنّ من كان لا يقرأ القرآن يوميّاً ودخَلَ شهرُ رمضان وهو على هذه الحال، فسيخسر خسارة كبيرة إذا مرّ عليه يومٌ من شهر رمضان ولم يقرأ فيه القرآن.
 
علينا إذاً على الأقل أن نحرص على التّدرُّب على قراءة خمسين آية كما تؤكِّد أكثر الروايات، لِيدخل شهر الله تعالى وقد اعتدنا على قراءة كتاب الله عزّ وجلّ يوميّاً.

***

  واذكُروا بجوعِكم وعطشِكم فيه، جوعَ يومِ القيامةِ وعطشَه.

لا يصحُّ أن نبقى في غفلةٍ عن شهر رمضان، ثمّ إذا دخل نصومُ ولا نعرف كيف؟
يحتاج الصَّوم الحقيقي في شهر الله تعالى إلى شيء من الإستعداد مسبَقاً، والفرقُ كبيرٌ جدّاً بين شخصٍ صائمٍ غافلٍ عن الآخرة وعن الوقوف بين يدَي الله عزّ وجلّ، وبين صائمٍ يتذكّر الآخرة دائماً أو غالباً أو كثيراً، ويعيش بعض آثارِ الحَياء من العرض على الله تعالى، وعندما يقول ﴿إنّا لله وإنّا إليه راجعون﴾ يُدرك بعض معاني الرّجوع إلى الله عزّ وجلّ، و يرى نفسه يُغِذُّ السير حثيثاً باتّجاه الآخرة.
شِئنا أم أبينا فإنّ كلّ نفَس نتنفسُّه، يُدنينا من الآخرة بقدره، والمطلوب أن يذكّرنا جوعُنا وعطُشنا في شهر رمضان بجوع يوم القيامة وعطشه، ذلك اليوم العَبوس القَمْطَرير، الذي تبلغ مواقفُه خمسين موقفاً، وكلُّ موقفٍ يمتدّ ألف سنة، ﴿يوم ترونها تذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد﴾ الحج:2 . 
هذا اليوم العظيم ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن المسلم يفكّر فيه باستمرار، لأنّ من شأن ذلك أن يصحّح مساره، ويردعه عن معصية الله تعالى.
مَن يتذكّر الآخرة باستمرار، إذا أراد أن يظلم فإنّه يتراجع، وإذا أراد أن يغتاب، أو يقطع رَحِمَه، أو أن يقع في أيّ معصية يُشرُفُ على الوقوع فيها، فإنَّ تذكّر الآخرة يحملُه على الثَّبات في صراط الطّاعة المستقيم.

بمقدار حجم حضور الآخرة في ذهن المسلم، بمقدار ما تكون سلامةُ سلوكِه.

إنَّ المطلوب في ضوء هذا التعليم النبوي «وأذكروا بجوعِكم وعطشكم فيه جوعَ يوم القيامة وعطشَه» أن يهيِّئ المؤمن نفسُه لِيَصل إلى شهر الله تعالى، فيكون صومه حقيقيّاً، أمّا أن يصوم صوم الغافلين –أي أنّه يمتنع فقط عن الطعام والشراب- ولا ينفذ من خلال ذلك إلى تذكِّر الآخرة والوقوف بين يدَي الله عزّ وجلّ، بدليل أنّه يعصي وهو صائم، ينظر النّظرة الحرام، ويتكلّم الكلمة الحرام، ويغضبُ ويتمادى في غضبِه، فيؤذي الآخرين دون أيّ رادع، ويزعم أنّه صائم، رغم أنّه يتجرّأُ على الله تعالى بهذه المعاصي أو تلك، فإنّ هذا الصِّيام يكشف عن قشرِ صومٍ لا لُبَّ له.


***

  وتَصَدَّقوا على فُقرائكم ومساكينِكم

الصَّدقة مطلوبة في كلِّ وقت، إلا أنّها هنا ذات دلالة خاصّة، فالمتصدِّق في محفل العطاء والكرم يحظى بعناية خاصّة، كأنّ المتصدِّق يقول: «إلهي أنا المحدود أُعطي لِمَن هو أفقر منّي، لِمَن أراه محتاجاً، وأنت الغنيُّ المُطلق. أنت إلهي أولى بإعطائي، بل لا عطاءَ إلّا منك، فكيف سيكون عطاؤك في موسم الكرم الإلهي العميم؟».
ومن البديهيِّ أنّ مثلَ هذه النيّة لا تجتمع مع المنّ والأذى، بأنْ يُبطلَ الإنسان صدقتَه بالتَّمنين، أو يؤذي الفقير الذي يُعطيه، لأنّ المنّ والأذى يتناقضان مع النيّة الصحيحة للصّدقة التي تعني أنّ المتصدِّق يقول: «إلهي، أريد أن أنمّي إنسانيّتي بصَدَقَتي، وأريدها أن تكون سرّاً لأنّ صدقة السرّ تُطفئ غضبَك».


يبدو أنّ المراد من الحثّ على الصَّدقة في شهر الله وعلى أبوابه، أن يتصدّق الإنسان لِيُوَفَّقَ لِصِيامِ هذا الشّهر وقيامِه، ويتدرَّبَ على البذل من ماله الذي يحبُّ عادةً، ليتدرّب على العطاء مطلقاً، بما يشمل الشَّهادة.


***

  وقِّروا كِبارَكم

ما أعظمَ أن نتأدّبَ بأدبِ الإسلام في مختلف المجالات، فَلِلكبير حرمتُه، وإذا كان هذا الكبير صاحبَ شَيْبَةٍ، فإنّ لِصاحبِ الشَّيْبَة في الإسلام أهميّة خاصّة، لأنّه شابَ وهو يقول «لا إلهَ إلّا الهي».
وفي عدد من مصادر الحديث «بابُ استحبابِ إجلالِ ذي الشَّيبةِ المؤمن، وتوقيرُه وإكرامُه»  ومن جملة الروايات فيه:
1-  قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن وقَّر ذا شيبةٍ لِشَيْبَتِه، آمَنَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ من فزعِ يومِ القيامة».
2-  قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن عرف فضل كبيرٍ لِشَيبته فَوَقَّره، آمَنَه الله تعالى من فزعِ يوم القيامة».
3-  قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «وإنّ من أعظمِ إجلال الله تعالى إكرامَ ثلاثة: ذي الشَّيبة في الإسلام، والإمامِ العادل، وحاملِ القرآن غير العادل فيه، ولا الجافي عنه».
 ولعلَّ المراد بالعادل فيه أنّه يعدِلُ به غيره ويفضِّل غير القرآن عليه، أو يجعله عِدلاً له ومساوياً.
4- قال صلّى الله عليه وآله: «بجِّلوا المشايخ، فإنّ تبجيلَ المشايخ من إجلال الله عزّ وجلّ، ومَن لم يُبَجِّلهم فليس منّا».
5- وعن الإمام الصّادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام،  قال: «جاء رجلان إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، شيخٌ وشابّ، فتكلّم الشابُّ قبل الشيخ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: الكبير الكبير».
6- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «ما أكرمَ شابٌّ شيخاً، إلا قََّيَّضَ اللهُ له عندَ شَيْبِه مَن يُكْرِمُه».
7- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «ما مشى الحسينُ عليه السلام بين يدَي الحسن عليه السلام قطّ، ولا بَدَرَه بمنطقٍ إذا اجتمعا، تعظيماً له».
والحديثُ عنهما عليهما صلوات الرّحمن في سياقٍ مختلِف، إلّا أنّي أوردته ليُصغي القلبُ إلى المولى أبي عبد الله الحسين يحدِّثُنا فعلُه بعظيم منزلةِ المولى أبي محمّد الإمام الحسن عليهما صلواتُ الرّحمن وسلامُه.
من النُّبل أن نوقِّر كبارنا، ومن الخِفَّة وعدمِ التعقُّل والإسفاف أن لا نحترمَهم ولا نوقِّرَهم.


 يستطيعُ كلٌّ منّا أن يلمسَ الفارقَ بين إنسان يُوقِّرُ الكبيرَ وبين إنسان يُسيءُ إليه ويتجرَّأُ عليه، و يُدرِكُ الإنسانُ بِطَبْعِه أنّ من الواجبات توقيرَ الكبار، والمجتمعُ الذي يوقَّّرُ فيه الكبارُ مجتمَعٌ سليمٌ معافىً ومُهَذَّب.


***

  وارْحمُوا صِغارَكم

والكفّة الأخرى في ميزان أدبِ الإسلام، لِتَوقيرِ الكبار، هي رحمةُ الصّغار، وهما معاً تجلِّي حالةٍ واحدةٍ لِلِيْن القلب، وإنْ كان فتْكُ الذُّنوب بالقلوبِ يُظهِرُهما لأوَّلِ وهلةٍ من وادِيَين.
 كما أنّ من واجب الأصغر سنّاً أن يوقِّر مَن هو أكبر منه، فإنّ من واجب الأكبر أن يرحمَ من هو أصغر منه، ورحمةُ الصِّغار تشملُ أولادَنا الصّغار وكلَّ صغير.
ويُمكن الإستنتاجُ من هذين التوجيهين النَّبوِيِّيْن، أو فَقُل هذا التوجيه بصورَتَيه، أنّ علينا ونحن نريد الإستعداد لشهر الله تعالى، أن ننظرَ في تعامُلِنا مع بعضنا في بيوتنا وخارجَها، هل يُوقِّر الأولادُ أباهم وأُمَّهم، والأكبرَ منهم مِن إخوتهم وقد وردَ أنّ «الأخَ الكبيرَ بِمَنزِلة الأب»،   وهل يرحمُ الأبُ والأمُّ أولادَهما، وهل يرحمُ الأكبرُ في الأُسرة الأصغر؟

هل الجوُّ العامُّ المسيطرُ على البيت جوٌّ أخلاقي، أو يحرِصُ على السَّير في صراطِه، أم أنّه جوُّ سُوءِ الخُلُق والإقامة عليه لا سمحَ الله؟

بديهيٌّ أنّ تحقيرَ الصّغير وإشعارَه بمهانتِه أمام إخوته، ليس من الرّحمة في شيء، ممّا يستدعي أن تُلحظَ في حالات التَّأنيب الشّديد التي يستحقُّها أن تكونَ على انفراد، والتّركيز على إيجابيّاته لحِفظِ توازنه النّفسي الذي هو كلُّ رأسمالِه خصوصاً في هذه المرحلة من حياته.
مطلوبٌ إذاً من الصّغير أن يحترم الكبير، وما قد نشاهدُه في بعض الحالات من نَبْرَةٍ خاصّة من الإبن أو البنت مع الأب أو الأم، أو نظرةٍ تكشفُ عن التَّرَسُّل الذي يزيدُ عن حدِّه فينقلبُ إلى ضدِّه استخفافاً وإهانة، فليس من قوّة الشخصيّة أو الجرأة، وإنّما هو وَقاحة، وإن لم تكن إمعاناً في العُقوق، فهي عقوق.
أيضاً، في الطرف الآخر، ما قد نشاهدُه أو نقوم به من قمعٍ يُمارسُه الأب أو تُمارسُه الأمّ تجاه الأولاد هو أمرٌ خاطئٌ وخطير، ومَن يتصرّف بهذه الطريقة النّشاز، فهو يحملُ ظُلماً، ﴿..وقد خاب من حمل ظلماً﴾ طه:111.


ما أروعَ أن تستقبلَ الأُسرةُ شهرَ الله رمضان بتقبيل الأبناء يدَي والدَيهم، وطلبِ المُسامحة منهما، وبتقبيلِ الأبوَين أبناءَهما، ومسامحتَهما وطلب السّماح حقيقة، لا تظاهراً ومجرَّد مقابلة بالمِثْل. 

مهما كان توقيرُ الكبار مطلوباً، فإنّ رحمة الصِّغار مطلوبةٌ بدرجة أكبر، لأنّ الأوّل طلبٌ من الكبار، والثاني طلبٌ من الصّغار، وكلٌّ بِحَسَبِه.
كيف يُمكن للإنسان الذي لا يستطيع أن يتحمّل إساءةً من ولدٍ صغير فيصرُخ في وجه ولدِه دون حقّ، أو يضربَه ضربة انتقام بحيث إنّ هذا الطفل يرتجفُ قلبُه قبل أن يظهر ذلك في بدنه، ويشعر كأنّ هناك زلزالاً يعصفُ به. كيف يمكن لصاحب هذا القلب أن يطمع بالرّحمة وهو مقيمٌ على عدم الرّحمة لا يفكِّر بمغادرتها، وإنَّما يطمعُ بالرّحمة مَن يرحمُ أو يحبُّ أن يكون رحيماً، فَلْنَرحم صغارنا لنطمعَ برحمة الله عزّ وجلّ، وإذا كنّا لا نستطيع فَلْيُؤلِمنا عجزُنا وسوءُ خُلقنا ليكونَ ذلك مدخلاً إلى الطّمع برحمة أرحم الراحمين.

عندما يكون الأبُ جبّاراً في بيتِه، يعيشُ أولاده الرُّعبَ منه، أو زوجتُه وأولادُه، فما هي حقيقةُ صومِه يا تُرى؟
إنّه صيامُ الظّالم، المتكبِّر، صيام الجبّار، الذي يمارسُ القمعَ باستمرار.


 والله عزّ وجلّ لا يريدُ لِعَبده أن يكون ظالماً، بل يريدُ له أن يكون عادلاً، ولَئِن كان تحقيق العدالة على مستوى النَّفس صعباً جدّاً لطبيعة الحمأ المسنون، فإنّ حبَّ ذلك وتمنِّيه وبذلَ شيء من الجهد، كفيلٌ بحول الله تعالى ورحمتِه وضيافته أن تُبلغنا ما لا نستطيعه عادةً.

تمسُّ الحاجة في هذا المجال، أن تتنبَّه المرأة إلى أنّها قد تكون هي «الظّالم» و«الجبّار» الذي مَرَدَ على القمْع في البيت، فرغم أنّ هذا المرض يُصيبُ الرّجال في الأعمّ الأغلب، إلا أنّ طبيعة النَّفس الأمَّارة لا تُفرِّق بين رجلٍ وامرأة، فإذا وجدت المرأةُ فرصةً للتّجبُّر أمعنتْ فيها وأوغلتْ.

والنتيجة أنّنا عندما نقرأ في خطبة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله: «وَوَقِّروا كبارَكم وارحموا صغارَكم» فينبغي أن ننظرَ في أنفسنا، هل نحن مؤهَّلون لاستحقاق ضيافة الرّحمن؟
إذا كنّا نظلمُ ولا نريدُ التَّوبة فرُبَّما حَرَمْنا أنفسَنا من هذا الوِسام، ولذلك ينبغي أن نعمل من الآن على نزع هذا الظّلم بالقرار المدروس، والتَّوبة النَّصوح، على قاعدة «ألّلهمّ وإنّه لا وفاءَ لي بالتّوبة إلّا بِعصمتِك».

***

  وَصِلُوا أرحامَكم

 نجدُ التّأكيد على صِلة الرَّحِم في هذه الخطبة المباركة، أكثر من مرّة، وهو ما ينبغي أن يلفتنا إلى أهميّة إدراك التّرابط بين هذا الواجب وبين قبول الصّوم.
لا يُمكن للإنسان الذي لا يخفقُ قلبُه بالحنان تجاه رَحِمِه، ولا يرحمُه، أن يطمع برحمة الله تعالى. مثلُُ هذا صاحبُ قلبٍ قاسٍ، والقلوب القاسية بعيدةٌ عن الهل عزّ وجلّ، «فَوَيلٌ للقاسية قلوبُهم» ألا يدلّ على ذلك قولُ نبيّ الرّحمة: «ومَن وصلَ فيه رَحِمَه وَصَلَه الله برحمتِه يومَ يلقاه، ومَن قطعَ فيه رَحِمَه قطعَ اللهُ عنه رحمتَه يومَ يلقاه».
سواءً أكان هذا الرَّحِم الذي أفكّر بِصِلَتِه يبادلني هذا التفكير، ويريد أيضاً أن يصلني أم لا، فإنّ من واجبي أن أقوم بما عليّ في مجال صِلَتِه.
والرّوايات كثيرةٌ في تفسير الآيات حول صِلَةِ الرَّحِم، وعموماً، ومنها:

1- عن الصادق عليه السلام: «إنّ رجلاً من "خَثْعَم" جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، أخبرني ما أفضل الإسلام؟
فقال: الإيمان بالله.
قال: ثمّ ماذا؟
قال: صِلةُ الرَّحِم.
قال: ثمّ ماذا؟
قال: الأمر بالمعروف والنّهْي عن المُنكر.
فقال الرجل: فأيُّ الأعمال أبغضُ إلى الله عزّ وجلّ؟
قال: الشِّركُ بالله.
قال: ثمّ ماذا؟
قال: قطيعةُ الرَّحِم.
قال: ثمّ ماذا؟
قال: الأمر بالمُنكر والنّهْيُ عن المعروف
».  

2- وعن حنان بن سدير رضي الله عنهما قال: كنّا عند أبى عبد الله عليه السلام وفينا "مَيْسر" [إسم شخص] فَذَكَروا صِلةَ القرابة. فقال أبو عبد الله عليه السلام: «يا مَيسر، قد حضرَ أجلُك غيرَ مرَّة ولا مرّتين، كلُّ ذلك يؤخِّر اللهُ أجَلَك لصِلتك قرابتَك، وإنْ كنتَ تريدُ أن يُزاد في عمرك فبُرَّ شيخيك» (يعنى أبوَيه).

3- عن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام، قال: «في كتاب عليٍّ عليه السلام: ثلاثُ خصالٍ لا يموت صاحبُهنّ أبداً حتّى يرى وَبالَهُنّ: البغيُ، وَقَطيعةُ الرَّحِم، واليمينُ الكاذبة يبارزُ اللهَ بها، وإنّ أعجلَ الطّاعة ثواباً لَصِلَةُ الرَّحِم».
 

وفي أحاديث العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام: أنّ صِلة الرَّحِم أعجلُ الطّاعات ثواباً، ومعنى ذلك أنّ مَن وصل رحِمَه ينال ثواب صِلته في الدّنيا قبل الآخرة، كما أنّ قطيعة الرَّحِم من أَعْجَلِ الخطيئات عقوبة. فقد ورد عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام عن كتاب عليٍّ عليه السلام: «إنّ أعجلَ الطّاعة ثواباً لَصِلَةُ الرَّحِم، وإنَ القوم ليكونون فُجّاراً، فيتواصلون فتنمى أموالُهم ويثرَون، وإنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرَّحِم لَيَذَرانِ الدّيار بَلاقعَ من أهلِها». 

لا تنحصر صِلةُ الرَّحِم بالزّيارة والتواصل العاديّين، بل تشملُ مدَّ يدِ العونِ مادّيّاً للرَّحِم، خصوصاً مع التمكُّن من ذلك.

قال الشهيد الأول قدّس سرّه: «ولا ريبَ أنّه مع فقر بعض الأرحام -وهم العمودان– [عمود الأقارب من جهة الأب، وعمود الأقارب من جهة الأم] تجبُ الصِّلةُ بالمال، ويُستحبُّ  لباقي الأقارب، ويتأكَّد في الوارث، وهو قدْر النَّفَقَة، ومع الغِنى فبالهديَّة في بعض الأحيان بنفسِه أو رسولِه. وأعظمُ الصِّلَة ما كان بالنَّفْس -وفيه أخبارٌ كثيرة- ثمّ بِدَفْعِ الضَّرر عنها [أيْ الرَّحِم]، ثمّ بِجَلْبِ النَّفع إليها، ثمّ بِصِلة مَن يحب، وإنْ لم يكن رحِماً للواصل -كزوجة الأب والأخ ومولاه- وأدناها السلامُ بِنَفسه، ثمّ برسولِه، والدُّعاء بظهر الغَيب، والثَّناء في المَحضر».

وقال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «وإنّما يُستَحبُّ عطيَّة الرَّحِم حيث لا يكون محتاجاً إليها، بحيث لا يندفع حاجتُه بدونها، وإلا وجبتْ عيناً، لأنّ صِلة الرَّحِم واجبةٌ عيناً على رَحِمِه، وليس المُراد منها مجرّد الإجتماع البدني، بل ما يصدُقُ معه الصِّلة عُرفاً، وقد يتوقّف ذلك على المَعونة بالمال حيث يكون الرَّحِم محتاجاً والآخرُ غنيّاً لا يضرُّه بذلُ ذلك القدر الموصول به، بل قد يتحقّق الصِّلة بذلك وإنْ لم يسعَ إليه بنفسه، كما أن السَّعيَ إلى زيارته بنفسه غير كافٍ فيها مع الحاجة على الوجه المذكور». 

من الضروريّ هنا تنبُّه الزَّوج والزّوجة المرأة إلى أنّ صِلة كلٍّ منهما لأهل الآخر «بيت العم»، من مصاديق «صِلة الرَّحِم»، وإذا كان الأولاد لا يُحِبُّونهم وقد أسهمَ أحدُ الزَّوجين في ذلك فهو شريكٌ في كبيرة من الكبائر المُوبقة والعياذُ بالله تعالى.

علينا -أيّها العزيز- أنْ لا نفصل بين صومٍ حقيقيّ وبين مراجعةٍ جادّة لسلوكنا تجاهَ الأرحام.

***

  وَاحْفَظوا ألسنتَكم، وغُضُّوا عمّا لا يَحِلُّ النَّظرُ إليه أبصارَكُم، وعمّا لا يَحِلُّ الإستماعُ إليه أسماعَكم

 * ثلاثةُ أبوابٍ لِلْقَلْب

صحيحٌ أنّ من واجبنا الإلتزامَ بهذه التّوجيهات الثلاثة دائماً وفي أيِّ وقت، إلّا أنّ للإلتزام بها في شهر رمضان أثراً خاصّاً، وهو الذي يُحتِّم علينا ونحن على أبوابه، أن نُولِيَ التدرُّب عليها عنايةً خاصّة.
أنْ يعصي الإنسانُ باللّسان فيُسيء إلى شخص، وكيفما كانت هذه الإساءة، فذلك حرام، ولكنْ أن تكون الإساءة في محضرٍ خاصٍّ لله تعالى، وبين يدَيه، وهذا المُسيء في ضيافته وفي بيتِه، فإنّ لهذه الإساءة، بُعداً من نوع آخر.
إنّ الكلمة الحرام حرامٌ في أيّ وقت، إلّا أنّ لها في شهر رمضان خطورةً مختلفة.
وإنّ ذكر الله تعالى يؤثِّر إيجاباً في أيّ وقت، إلّا أنّ له في شهر رمضان تأثيرَه النوعيّ وإيجابيّاتِه المميّزة، وكذلك الأمر بالنسبة لطاعة العين والأُذُن.

ثلاثةُ أبوابٍ للقلب، بل هي الأبواب الرئيسة التي لا تُفتَحُ الأبوابُ الأخرى على مصاريعِها إلّا بها.

وَلِتوضيحِ ذلك يجدُرُ أن نتذكّر خلاصةَ ما نُقل عن بعض الأعلام من أنّ أبوابَ الجنّة الثمانية هي العقلُ إذا سيطرَ على الحواسّ الخمس، والوَهْمُ، والخَيال، وأنّ أبواب النار السّبعة هي هذه الأبواب نفسُها باستثناء العقل الذي لا وجودَ له في من لا يُخضِع السّبعةَ المذكورةَ لسُلطان العَقل.
ومن بين هذه السّبعة يُشَكِّلُ اللِّسانُ والعينُ والأُذُن الأبوابَ الأكثر محوريَّة، لأنّها تُمِدُّ الباقي بالمادَّة الخام التي تجعلها مُشْرَعَةً للمزيد.
ومن المفيد التنبُّه إلى أنّ المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله بعد أن تحدّث في مُفتتَح الخطبة المباركة عن المُناخ الذي يُشكِّله شهر الله تعالى، تحدَّث عن القلب، ثمّ بدأ بالحديث عما يُليِّنُه ويُصلحُه ويصبُّ في سلامته، مُركِّزاً على هذه الأبواب الثلاثة، ثمّ عاد صلّى الله عليه وآله إلى الحديث عن القلب.
لِنَتَأمّلْ معاً قوله صلّى الله عليه وآله: «فَاسْأَلوا اللهَ ربَّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يُوفِّقَكم لصيامه وتلاوةِ كتابه، فإنَّ الشَّقيَّ من حُرِمَ غفرانَ اللهِ في هذا الشَّهر العظيم. واذكًروا بِجُوعِكم وعطشِكم فيه جوعَ يومِ القيامةِ وعطشَه، وتصدَّقُوا على فقرائِكم ومساكينِكم، ووِقِّروا كبارَكم، وارحمُوا صغارَكم، وَصِلُوا أرحامَكم، واحفظوا ألسنتَكم، وغُضُّوا عمَّا لا يَحِلُّ النَّظرُ إليه أبصارَكم، وعمّا لا يَحِلُّ الإستماعُ إليه أسماعَكم، وتَحنَّنوا على أيتامِ النّاسِ يُتَحَنَّنْ على أيتامِكم، وتوبُوا إلى الله من ذنوبِكم، وارفعوا إليه أيديَكم بالدُّعاء في أوقاتِ صلواتِكم».

إنّ تأكيدَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله للمسلمين جميعاً وعبرَ الأجيال، على الإهتمام بهذه الواجبات، في آخر جمعةٍ من شعبان، يحمل معنىً  ينبغي الإلتفات إليه، وهو واجبُ الإستعداد لشهر رمضان المبارك قبلَ دخولِه، لِيُطلَّ علينا ونحن قادرون على أن نوقِّّر كبارَنا ونرحمَ صغارَنا، ونحفظ ألسنتَنا ونَغُضَّ عمّا لا يحِلُّ النَّظرُ إليه أبصارَنا، وعمّا لا يَحِلُّ الإستماعُ إليه أسماعَنا، وبمستوىً أكبرَ بكثيرٍ يتناسبُ مع حُرمةِ هذا الشّهر العظيم، وحرمةِ الضِّيافة الإلهيّة فيه.
تزدادُ خطورةُ مخالفةِ هذه الواجبات جدّاً مع بداية شهر رمضان، لأنّ هذه المخالفة آنذاك، تعني أنّ الضَّيفَ يُقابلُ الضِّيافة بمُنتهى سوءِ الأدب، بل بالخيانة لأمانةِ العقلِ والقلب والنَّفْس والرُّوح والعمْر، وعدمِ شُكرِ نعمةِ الله تعالى عليه بالإيجاد بشَرَاً، وتسخيرِ الأملاك والأفلاك لِخِدمته، وإرسالِ أفضلِ الخَلْقِ إليه رسولاً، وإقامةِ أفضلِ الخلْق بعده حُجَجَاً وأدلَّةً وهداة، والصفحِ عن معاصيه المُتتالية، ودعوتِه إلى ضيافة الرّحمن. ها هو رُغمَ ذلك كلِّه، يبارزُ الله تعالى بالمعصية.
بديهيٌّ أنّ الإنسان كلّما اقتربَ من الخطر أكثر، كلّما وجبَ عليه شدُّ الإنتباه بما يتناسب مع ما يُقدِمُ عليه.
وبديهيٌّ أيضاً أنّ الإنسان كلّما واجه إمكانيّة الرّبح بدرجة أكبر، كلّما استدعى ذلك منه تحفُّزاً ومواصلةَ اليَقظة، وحضورَ القلب، والإستنفارَ الدائم بنسبةٍ تصاعُديَّة.
ونحن في شهر رمضان أمام ربحٍ لا نظيرَ له، أو خسرانٍ لا نظيرَ له، إمّا العِتقُ من النّار والدرجاتُ العلى، وإمّا الشَّقاء وأسفلَ سافلين.

لسنا وحدَنا في قاعة الإمتحان. ربُّنا نِعْمَ الربّ. عادتُه الإحسان إلى المُسيئين، ﴿وهو معكم أين ما كنتم﴾، لذلك كانت خطبة المصطفى الحبيب، فهي إنجازٌ تربويٌّ نبويٌّ استراتيجيّ، ومظهرُ رحمةِ الله تعالى لِعباده، لتُنَبِّهنا إلى صراط النّجاح في اغتنام هذه الفرصة الإلهيّة الأعظم.

يعلمُ الله تعالى كم هم الذين نعموا بعظيم بركاتِها وينعَمون، كم هم الذين استحقُّوا الجنّة ببركاتها ويستحقّون، وَلْنَتَصَوَّر حجمَ الخسارة لو أنّها لم تكُن.
إذا لم ينتبه مَن سيصومُ شهرَ الله تعالى، إلى طريقتِه في الكلام، وما يتعرَّضُ له ويقعُ فيه من أذىً وغِيبة. إذا كان لا يحاسِبُ نفسه على أبواب الشّهر ولا فيه، لِيَرى هل يحفظُ لسانَه أم لا، ثمّ دخل شهرُ رمضان المبارك، فكم هي الخسارة كبيرة؟
صحيحٌ أنّ الإستعدادَ لِشَهر رمضان يبدأُ من أوّلِ شهرِ رجب، بل ينبغي أن يستعدَّ الإنسان على مدار السَّنة، تماماً كالذي يريد أن يشترك في امتحان. إنَّ كلَّ درسٍ يدرسُه خلال السَّنة يؤثِّرُ في كيفيّة الإمتحان، وبمقدار إصغائه وانتباهه تكونُ الحصيلةُ الأساس، ثمّ إنّه قبل الإمتحانِ بفترة يُراجع فروضَه باهتمام، ثمّ يدخلُ قاعةَ الإمتحان.
وعندما ينجح فليست مراجعتُه وحدَها هي التي حقّقت له النّجاح، وإنّما أسهمتْ في ذلك بدرجةٍ مركزيّة، كيفيةُ تلقِّيه لِدُروسِه على مدار السَّنة.
 صحيحٌ أنّه ينبغي للإنسان أن يكون كذلك، ملتزماً بالأحكام الشرعيّة دائماً، يُصغي إلى نبض قلبِه باستمرار، مُلتفتاً إلى أنّه بين يدَي الله عزّ وجلّ، وفي محضرِ الرُّبوبيّة المقدّس.
هذا صحيحٌ لا ريبَ فيه، ولكنّنا البشرُ الخطّاؤون!

تغلبُ علينا الغَفلة، وتستهوينا ألعابُنا الخاصّة بنا، كما تستهوي كلَّ تلميذٍ كسولٍ أو غيرَ كسولٍ ألعابُه وأهواؤه وهواياتُه، فلا نؤدّي فروضَنا اليوميَّة كما ينبغي.

في هذا السّياق تقع نعمةُ شهرَي رجب وشعبان، كما هي فرصة التَّحضير لاستحقاق الإمتحان والفوز بالشّهادة، وإذا غلبتْ علينا الغفلةُ أو الشِّقوة في شهر رجب بل وشعبان أيضاً، فلا أقلَّ من اغتنام فرصةِ الأيّام الأخيرة من شعبان.
في هذا السِّياق بالذّات، تقع خطبة رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، الرَّؤوفِ بالمؤمنين والرَّحيمِ بما آتاه اللهُ تعالى، يُدرِكُ المؤمن معها، أنّ عليه أن ينتبهَ جيّداً. المُسابقة قريبة. ضيافةُ الرّحمن عزّ وجلّ أمامي، ها قد وَصَلَتْ. لا يفصلُنا عنها سوى أيَّام، فيعود إلى نفسه، ويجعل الهموم المتعدّدة همَّاً واحداً، وبدلَ أن يفكِّر بالثوب والشَّكل، والمال والسّيارة والبيت والمَوقع الإجتماعي، يفكِّر بنفسه التي ينساها، وهو يظنُّ أنّه يبحثُ عنها.
هل صادفتَ شخصاً حصلَ ذلك له؟ إنْ لم تُصادِفْهُ فَلَعَمْرُك إنّي وإيّاك لَكَذلك، واللهُ المُستعان. نِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير. عادتُه الإحسانُ إلى المُسيئين، وسبيلُه الإبقاءُ على المُعتدِين، كما علَّمنا الأدِلَّاءُ عليه، أن ندعو في شهرِ رجب.
فَلْنُقبِلْ على خطبة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، نقرأها مراراً، ونتدبَّر آياتها المحمّديّة: ﴿إنْ هوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
وعندما يقرأُ أحدُنا فقرةً منها، فَلْيَنْظُر إلى تطبيقِها في نفسِه: وقِّّـروا كباركم.. هل أُوَقِّرُ الكبار؟ أينَ يَكمنُ الخَللُ في تعاملي مع الكبار؟ إرحمُوا صغارَكم.. هل أرحمُ الصّغار أم لا؟ صِلُوا أرحامَكم.. ما هو موقفي من صِلَةِ الرَّحِم ؟ مِن فلان وفلانة؟ أَلَمْ أُخْطِىء في ما حصلَ بيننا؟ أَوَليسَ من واجبي أن أُعيدَ التفكير بما تصوَّرتُه حقّاً، فَلَعَلَّه باطل؟

***


  وَاحْفَظُوا أَلسِنَتَكُم

وهذا بيتُ القصيد، بل بيتُ الدّاء الذي تتفرّع منه أدواءٌ شَتَّى، وأمراضٌ عديدة، إنْ لم يكن الجميع.
عن الإمام السجّاد عليه السلام: «إنّ لسانَ ابنِ آدم لَيُشرفُ كلَّ يومٍ على جوارحه فيقول: كيف أصبحتُم؟ فيقولون: بخيرٍ إنْ تركتَنا. ويقولون: أللهَ اللهَ فينا، ويناشدونه ويقولون: إنّما نُثاب بك ونُعاقبُ بك». 
ومن الرّوايات المشهورة جدّاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «وهل يُكِبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنّم إلاّ حصائدُ ألسنتهم». إلّا أنّ من المفيد أن نعرف الرواية بتمامها، فهي كما يلي:
جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله أوصِني. فقال: «إحفظْ لسانَك». قال: يا رسول الله أوصِني. قال: «إحفظْ لسانَك». قال: يا رسول الله أوصِني. قال: «إحفظْ لسانَك، ويحَك وهل يُكِبُّ النّاس على مناخرِهم في النّار إلّا حصائدُ ألسنتهم؟».
تُوضحُ لنا الرّوايات أنّه بالإضافة إلى العقل الذي ينبغي أن يتحكَّم بحركة اللّسان، وبالإضافة إلى القلب الخازن للِّسان، الذي يُمكِنه أن يخفق بالخوف من نتائج هذا الكلام، فيُسهم في حركة اللّسان الذي يُصِرُّ على التفلِّت من حكم العقل –بالإضافة إلى ذلك- جعل الله تعالى أمام اللّسان بابَين: الشّفتَين والأسنان، وأمَرَنا عزّ وجلّ أن نُفكِّر ثمّ نتكلّم، وليس الكلام مجَّانياً كما نتصوّر، فقد يُحدّد كلامُ الإنسان مصيرَه، ورُبّ تُهمةٍ يوجُّهها إلى شخص فيبقى ممنوعاً من دخول الجنّة بالرغم من أنّه يستحقّ دخول الجنّة، حتّى يرضى عنه الذي وجّه إليه التّهمة الباطلة، ورُبّ كلمةٍ يقولها أحدُنا فتهوي به في النار سبعين خريفاً [والخريف، سبعون سَنة]، أو تكون سببَ شقائه الأبدي.
ينبغي أن نُدرك أنّ اللسان عندما يتحرّك قد يُودي بصاحبه، وأنّ جراح اللّسان أخطرُ من جراح السِّنان.

 لا يكاد خطرٌ يُضاهي خطرَ أن يترك الإنسان لسانَه يتحرّك في كلّ ما يحلو له دون تفكيرٍ ودونَ تدبّر.

 تشتدّ الحاجة إلى ضبط حركة اللّسان عندما يمتلئ الإنسان حبَّاً لأمرٍ ما، وجُموحاً نحوه، أو يمتلئ غيظاً وحَنقاً، لأنّ حركة اللّسان في مثل هذه الحالات -عادةً- حركة شيطانيّة، وكتلة من ﴿..لَظَى * نزّاعةً للشَّوى﴾. 
 
ينبغي أن نُدرّب أنفسنا على التحكُّم بألسنتنا، فنضعَ أمامنا باستمرار أنّنا عندما نتكلّم فإنّنا نُملي على مَلَكَيْنا من الكرام الكاتبين، وما نُمليه عليهما هو الذي سنجدُه في صحائف أعمالنا يوم القيامة.
 
كم سيكون ندمُ أحدِنا عندما يرى أنّ لسانه أوصلَه إلى النّار، عندئذٍ يُدرك مرارة إطلاق العنان لِلسانه ليتحرّك كما يحلو له.
هذه بعض مضامين هذا التوجيه النبويِّ الغالي: «إحفظُوا ألسنتَكم».
فلنُعوّد أنفسنا في هذه الأيّام التي تفصلُنا عن شهر رمضان المبارك أن نحفظَ ألسنتنا.
ما الدّاعي لكثرة الكلام؟ ليُعوّدْ أحدُنا نفسَه على قلّة الكلام، فهي أمرٌ ممدوح جدّاً في الرّوايات، وهي من جملة المضامين التي ورد أنّها مكتوبة على باب الجنّة «لِيَقُلْ خيراً أو يسكت». إمّا أن يتكلّم بخير أو يسكت، إذا كان هناك داعٍ للكلام، ولا يترتّب عليه ضرر المعصية، فليتكلّم، وإلّا فَلْيصمُت.
أيّها العزيز: ليس الوصول إلى حفظ اللّسان أمراً سهلاً، ولا نحن بطبائعنا -التي هي نتاج الجاهليّة، من الأولى وإلى أَلْفِيَّتِنا هذه الثالثة- قادرون على سلوك هذا الطّريق أو غيره وحدَنا، لذلك تَمسُّ حاجتُنا في هذا المجال وغيره من مجالات بناء النفس إلى الإستغاثة والتوسّل بأولياء الله تعالى، والتضرّع إليه عزّ وجلّ أن يُعيننا على أنفسنا، ويجعلَ عواقب أمرنا خيراً.
ولا يذهبنَّ بحِلمك شيطانُ الوهَّابيَّة المُقنَّعة التي تحاول التشكيك ثمّ النّهي عن التَّوسّل، واعتصم بحبل الله المتين، وتدبَّر في معنى قوله تعالى:
﴿.. ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرّسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً﴾ النساء:64.

***


 
وغُضُّوا عمّا لا يَحِلُّ النظرُ إليه أبصارَكم

وردَ في الرّوايات أنّ العين تزني وزِناها النَّظر، وأنّ العين أقلُّ الجوارح شُكراً، فينبغي أن نعرف كيف نُجيل أبصارَنا.
عن النبي صلّى الله عليه وآله، قال: «إنّ العين لَتَزْنِي، وإنّ اللّسان لَيَزْنِي، وإنّ القلب لَيَزني، وإنّ اليد لَتَزني، وإنّ الرِّجل لَتَزني، ويُصدِّقُ ذلك كلَّه ويُكذِّبُه الفَرْج».
لماذا لا نُشجّع عيوننا على الإقبال على ما لا ضررَ فيه ولا خيانةَ أو دناءة؟
العين.. هذه النّعمة الإلهيّة الكبيرة والخطيرة، لماذا نسمح لأنفسنا أن نستعملَها في الحرام فتجرّنا إلى النار.
لماذا لا نُربِّي فينا مَلَكة استعمال عيوننا في الحلال والإبتعاد بها عن الحرام.

الجمال الحقيقيّ جمالُ الباطن، فلماذا نُصِرُّ على أن تكون عيوننا طامحة مُهَرْوِلَةً رَعناء، لا تُصغي إلى صوت العقل، بل تُصرُّ على أن تكون البديل عنه، كما هو دأْبُ الأُذًن بدرجة تالية؟

إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكون كذلك على مدار السّنة، فَلْيُحاولْ في شهر الله تعالى أن يُعوِّد نفسه على اجتناب الحرام الذي يُرتكَب بالنّظر، وليبدأ بالإعداد لهذه المحاولة من آخر شعبان، ليستطيع أن يبدأها جادَّةً وواعدةً، بمجرّد حلول أُولى لحظات شهر رمضان.
وَلْيَكُن في مرمى البصيرة أنّ الحثَّ على الإهتمام بهذه القِيم الأخلاقيّة والسلوكيّة في موسمٍ إلهيّ خاصّ، يُبشِّر بإمكانية الحصول عليها -خلال هذا الموسم-  بأقصر الطُّرُق وأيسَرها، فَلْيَكُن الإهتمام مُقترِناً بالثِّقة بمواعيد الله سبحانه، واليقين بها.
إذا حاولَ الإنسان ذلك صادقاً في شهرٍ هو أفضلُ الشّهور، شهرِ الرَّحمة الإلهيّة والمغفرةِ والبركة، فإنّ بإمكانه بحَول الله تعالى وقوَّته أن يُصبح كذلك في شهر رمضان، ويحافظ عليه بعدَه كَخُلُقٍ وسجيَّة وطبعٍ يغلبُ كلَّ تطبُّع، وإذا به بعد انقضاء هذا الشهر المبارك، لا يُمكنه أن يُجيل بصره إلّا في حلال.
تبلغ أهميّة «حفظِ اللّسان، وغضِّ البصر» الغاية، حيثُ قد جُعلا معاً أبرز عناوين الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان وشهر رمضان. يدلُّ على ذلك بوضوح ما تقدّم من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان إذا رأى هلال رجب قال: «أللّهمّ بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا شهر رمضان، وأَعِنَّا على الصِّيام والقِيام، وحفظِ اللّسانِ، وغضِّ البصرِ، ولا تجعل حظَّنا منه الجوعَ والعطَش».
ويأتي في الروايات حول السَّمْع ما هو مشتركٌ بينه وبين البصر.

***
  وعمّا لا يَحِلُّ الإستماعُ إليه أسماعَكم

كما هو البصرُ البابَ الرئيس -بعد اللّسان- لِتَغذية القلب، كذلك هو السَّمْع.
وحيث إنّ المدَنيّة المادّية تقوم على تغليب الحواسّ على العقل، فإنّ الطابع العامّ لِما يُسمَّى بالتقدُّم والتطوُّر والحضارة طابعٌ مادِّيٌّ صِرف، يعتمد تغليبَ السَّمْع والبصر «منهجاً» لصياغة الإنسان.
ولَئِن كانت مرحلة ما قبل التِّلفاز تُخاطبُ الأُذُن، فإنّ مرحلته وما بعدَه من الأنترنت والآتي بعدها، مرحلة مخاطبة البصر أوّلاً، إلّا أنّ إقناعَه وكسبَ وُدِّه يتوقَّف على شدِّ انتباه الأُذُن، لِيَتَضامَنا، ويبادرُ اللّسان إلى حملِ رايتِهما مدافعاً عن «منهجِهما» و«منهجِه» في خِداع العقل، ومَسْخِ مشاعر القلب، فإذا به مُستنقَعُ الأنانيّة البغيض.
وبِمقدار ما تنفتحُ الآفاقُ البرَّاقة الخادعة أمام البصر، وتتراقصُ موجات الأثير أمام الأُذُن، وتُدافُ بهما حلاوةُ اللّسان، يستحكِمُ طوقُ تحويل الإنسان إلى حيوان ﴿..إنْ هم إلّا كالأنعام بل هم أضلّ..﴾ الفرقان:44، وصولاً إلى تحويل الإنسان إلى شيء ﴿..فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة..﴾ البقرة:74.
وَلَئِن كانَ اللّسان الأخطر، فإنّ العينَ والأُذُن البداية والمَدخل.
وكما يتمُّ خداع البصرِ بالبَهارج، فإنَّ للأُذُن بهارجَها، وفي طليعتِها الموسيقى الحرام والغِناء.

ليس أصلُ الموسيقى حراماً، ولا أصلُ ترجيعِ الصوت، كما أنّه ليس أصلُ الجمال الذي يُسمِّر العين ويسلبُ لبَّ صاحبها، ولا أصل الكلام الذي يبطشُ به اللِّسانُ حراماً، إلّا أنّ التمييز بين الحلال من ذلك والحرام، النَّافعِ والمُضِرّ، لا يُمكِن أن يكون المرجعُ فيه هو هذه الحواسُّ الأدوات. إنّ ذلك يعني تنصيبَ المتَّهَم حَكَماً واللِّصَ قاضياً
.
إنَّ تحكيم الحواسِّ بمصير العقل والرُّوح إلغاءٌ لهما، وهو أساس كلِّ مشاكل البشريّة، ولا منشأ له إلّا الإنسياق لبَهارج العين والأُذُن.
وتكفي نظرةٌ على السّائد في مفتَتح «الألفيّة الثالثة» لإدراك ما تبلغُه خطورة شطبِ العقلِ والرُّوح.
إنّ صورة الإنسان في عصر العولمة المُدَّعاة، هي صورةُ الخَلاعة والمُجون والإباحيّة، والفسقِ والفجور، وتعاطي المخدّراتِ ومعاقرةِ الخمور، وإدمان الغرائزيّة والإنحلال، والموسيقى العَبَثيَّة والصّاخبة بشكل خاصّ، ومع ذلك، فهذا العصر هو عصر الإدّعاءات العريضة في احترام العقل والقانون والآداب الإجتماعيّة، وما يُفسد هذا هو ذاك، ولا مجالَ لِلْجمع بينهما.
يبدأ الفساد باعتماد «منهج» تحكيم العين والأُذُن في العقل والرّوح، وهو أغلى أهداف عصر«العولمة».
إذا أردنا تكوين فكرةٍ عن أيِّ شخصٍ مهما علا كعبُه في مجال الفكر والسياسة والفنِّ والقانون وغير ذلك، فَلْنَنْظُر إليه في الحالات العاديَّة خارجَ كلِّ هذه الإدّعاءات، وكيف يُمضي وقتَه عندما يُريدُ أن يُرفِّه عن نفسه، فإنّ اهتماماته التي تظهرُ هنا هي التي تكشفُ شخصيَّته. كذلك هو الأمر في عصر العولمة الكاذبة.
ماذا يجري في مجالس الفِسق والفجور، وما هو مدى احترام الأُسرة، والأخلاق، والقانون، والعقل؟!!
وماذا يحمل جنونُ الموسيقى من معانٍ ودلالات؟ وما هي الرّسالة التي يؤدّيها الغناء؟
ما هي الثَّقافة التي تجعل صاحبَها يُفْرِطُ في متابعة كرةِ القَدم بلهفةٍ أين منها لهفةُ الفلسطينيّ لِما يجري في رُبى فلسطين؟
وما هو المدلول «الحضاري» في «مصارعة الثِّيران»، بما يشملُ ما يجري على الحلبات؟!
أصلُ مشاكل البشريّة في تغييب العقل. وأصلُ تغييب العقلِ في الإنسياق للحواسّ، وأصلُ ذلك الإنسياقِ اعتبارُ الأُذُنِ والعينِ الحَكَمَ والقاضي والعقلَ والضّمير.
فهل نتعلّم أن نفكِّر قبل أن نتكلّم عمّا رأتْه العينُ وسَمِعَتْهُ الأُذُن؟

«واحفظُوا ألسنتَكم، وغُضُّوا عمّا لا يحلُّ النّظرُ إليه أبصارَكم، وعمّا لا يحلُّ الإستماعُ إليه أسماعَكم».


• ما هي النّتيجة التي يحصلُ عليها الإنسانُ من الإستماعِ إلى الغِناء؟
هل يترك له الغناء شخصيّته التي اختارَها، ويرفِّه عنه بعضَ الشيء لِيُواصِلَ القيام بمهامِه وقد استعادَ نشاطَه وحيويّتَه؟ أم أنّ هذا الغناء بشكله ومضمونه يبدأ يسلُبه شخصيّته شيئاً فشيئاً حتى لا يُبقي منها ولا يَذَر؟!

ينقل الإمام الخميني قدّس سرّه عن أستاذه «الشّاه آبادي» أنّه كان يقول: «إنّ الغِناء يَسلُبُ الإنسان العَزم».  والعَزمُ هو لُبُّ الإرادة وسرُّها، وهذا يعني أنّ الإحتلال عبر نشر ثقافة الفساد أشدُّ خطراً من الإحتلال العسكري!

الغناءُ حَرام، وهو سمٌّ يُنفَث في نفس الإنسان ويُفسدُ هذه النَّفْس.
ينبغي أن يكونَ الإنسانُ إنساناً بكلّ معنى الكلمة، يحملُ الهمّ، ويفكّر بالمظلومين في العالم، ويُفكّر بمخطَّطات الأعداء الذين يعملون ليلَ نهار، ويبذلون كلَّ جهدِهم لإذلال الشعوب المُستضعفة.
كيف يَقِرُّ للإنسان قرارٌ وهو يرى ديارَ الفلسطينيّين مستباحةً من الصهاينة؟ كيف يستطيع هذا الإنسان أن ينصرف إلى الطَّرَب والمُجون؟
ليسَ المُرادُ أنْ لا يُرَوِّح الإنسانُ عن نفسه، ولكنْ من الخطأ أن يُروِّح عنها بأمورٍ تُفسِدُ شخصيّتَه، وبَدَلَ أنْ يكونَ عنصراً فعّالاً في مجتمعٍ مقاوم، يُصبح عنصراً مُنحلّاً ماجناً لا يَلوي على شيء، وَلْنَفْترضْ أنّ الكثيرين ممّن يستمعون الغِناء ليسوا كذلك الآن، إلّا أنّهم مُرَشَّحون للوصول إليه حتماً، فإنّ شخصيّة الإنسان تتحلَّلُ وتَفسُد تدريجياً.
ومن أخطر الأمور التي ينبغي الإلتفات إليها في مجال السَّمْع «الغِِيبة».
قد يكون الإنسان لا يستمعُ الغناء، وإنّما يستمعُ ما هو أخطر منه وهو الغِيبة، التي تكمُن خطورتُها في كونِها اجتياحاً همجيّاً لحدود كرامةِ الإنسانِ المؤمن، وتدميراً لحصونِها، ونسْفاً لمعاقِلها. إنَّ لكلِّ مؤمنٍ حرمتَه الرفيعةَ عندَ الله تعالى، ويُشكِّل التعدِّي عليها تعدِّياً على حدود الله سبحانه. وردَ في الحديث القدسيّ: «مَن أهانَ لي ولِيّاً فقد أَرْصَدَ لِمُحاربتي»!
كما ورد في الحديث الشريف: «المؤمنُ أعظمُ حُرمةً من الكعبة». وفي ما تقدّم حول اللِّسان كفاية.
إذا لم نُعَوِّد أنفسنا قبل شهر رمضان على تجنُّب الغِيبة، فإنّنا سنقع فيها أو في استماعها بشكل خاصّ في ضيافة الرّحمن، ويا لها من تعاسة أن يكون الإنسانُ ضيفَ الله عزّ وجلّ، ويرتكبْ هذه المعصية المُوبِقة المُهلكة التي هي في طليعة الكبائر.
خاتمةُ المطاف، أنَّنا مدعوُّون إلى توجيه اللّسان لِيَنْشغل بذِكر الله تعالى، وتوجيه العينِ إلى قراءة القرآن الكريم، والمطالعة، ورصدِ حركةِ أعداء الإنسانيَّة، وكلِّ واجبٍ وحلال، ومنْع الأُذُن من الإستماع إلى ما يضرُّ ولا ينفع، لِتَكون هذه الحواسُّ في الإتِّجاه السّليم، وتُسْهِمَ في صلاح القلب بدلاً من إفسادِه.

***

  وتحنَّنوا على أيتام النّاس يُتَحَنَّّْنْ على أيتامِكم

 هناك مبدأٌ  في تهذيب النّفْس يؤكِّده النصُّ المعصوم، ويُمكن أن نُعبِّر عنه بمبدأ ﴿إن أحسنتُم أحسنتُم لِأَنْفُسِكم، وإنْ أسأتم فلها..﴾ الإسراء:7، أو «كما تَدين تُدان»، والمضامين المُشابهة كثيرة جدّاً، وخلاصةُ هذا المبدأ: أنّ أيّ عملٍ يعملُه الإنسان فنتيجتُه تُحيط به.
عن الأصبغ بن نُباتة، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأصحابه: «إعلَموا يقيناً أنّ الله تعالى، لم يجعل للعبد -وإنْ عَظُمَتْ حِيلتُه، واشتدَّ طلبُه، وقَوِيَتْ مكائدُه- أكثر ممّا سُمِّيَ له في الذِّكر الحكيم، فالعارفُ بهذا العاقلُ له، أعظمُ النّاس راحةً في منفعتِه، والتَّاركُ له أعظمُ النّاس شُغْلاً في مَضَرَّته، والحمدُ لله ربِّ العالمين. ورُبَّ مُنْعَمٍ عليه مُستدرَج، ورُبَّ مبتلىً عندَ النّاس مصنوعٌ له، فأَبْقِِ أيُّها المستمِعُ من سَعْيِك، وقصِّر من عَجَلَتك، واذكُر قبرَك ومعادَك، فإنَّ إلى الله مصيرَك، وكما تَدين تُدان».

يُمكن أن يكون المُرادُ بـ «ما سُمِّي له في الذِّكر الحكيم» هو هذا المبدأ ﴿إنْ أحسنتُم أحسنتُم لأنفسِكم﴾ وكلّ ما يدلُّ عليه
من قبيل: ﴿وأنْ ليس للإنسان إلّا ما سعى * وأنَّ سعيه سوف يرى * ثم يُجزاه الجزاء الأوفى﴾ النجم:39-41. 
عندما أظلِمُ شخصاً فأنا في الحقيقة أظلمُ نفسي، وعندما أوذي شخصاً، فالواقع أنّي أوذي نفسي، وعندما أغتابُ فإنّ الضرر يرتدُّ عليّ.
إنّ الله عزّ وجلّ الحَكَمُ العَدل، والدنيا ليست متروكةً كما نتصوّر، بل تحكمُها قوانين الله سبحانَه وتعالى، وهو يُمهِلُ ولا يُهمل. يواجه كلٌّ منّا في هذه الدُّنيا جزاءَ عملِه، بل عملَه جزاءً، وغداً في يوم القيامة، سنَجِدُ هذا المبدأَ يتجلّى بأوضحِ صُوَرِه، على أساس القاعدة القرآنيّة ﴿..هل تُجزون إلّا ما كنتم تعملون﴾ النمل:90. من العبارات التي ورد في الرّوايات أنّها مكتوبة على باب الجنّة:
«.. مَن أرادَ أنْ لا يُظلَم فلا يَظْلِِم، ومَن أرادَ أن لا يُشتَم فلا يَشتِم، ومَن أرادَ أن لا يُذَلَّ فلا يُذِلّ..».  بديهيٌّ أن يحصدَ الإنسان ما زرع. قال الشاعر:
كما يَدين الفتى يوماً يُدان به  * من يزرعِ الثُّومَ لا يَقلعْهُ ريحانا
عندما يَمِيزُ اللهُ الخبيثَ من الطيّب، فمن الطبيعيّ أن يرجعَ كلُّ شيءٍ إلى أصلِه، وينجذبَ كلُّ نظيرٍ إلى نظيرِه.
في هذا السِّياق وعلى القاعدةِ نفسها، ينبغي التّعامل مع قوله صلّى الله عليه وآله: «وَتَحنَّنُوا على أيتام النّاس يُتَحَنَّنْ على أيتامِكم». فمن يتعامل مع الأيتام بحنان، لن يترك اللهُ عزّ وجلّ أيتامَه، وسيُقيِّض لهم مَن يَتحنّن عليهم، فهو الذي حفظَ الغُلامين بِصلاحِ أبيهما.
وينبغي التنبُّه إلى أمرين:
1- ليس المُراد أنّ مَن لا يتحنَّن على أيتام النّاس فسوف يُترك أيتامُه دون أن تشملَهم رحمةُ الله تعالى، وإنّما المُراد أنّه ليس له أن يتوقَّع من النَّاس أن يُكرِموهم، لأنّه لم يُورِّث أولاده ما يُتوَقَُّع لهم ذلك بسببه، وليس له أن يطلب من الله تعالى ما يطلبُه المُتَحَنِّن على أيتام النّاس، وقد يُعاني أولادُه في حدود ما لا ينافي ﴿..ولا تزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخرى..﴾ الأنعام:164 فتكون معاناتُهم من قبيل معاناة الأبناء الذين كان أبوهم كسولاً فلم يرِثوا منه مالاً ولا عقاراً. والله العالم.
2- ليس المُراد طبعاً أن يتعامل الإنسان في مسألة إكرام اليتيم تعاملاً تجاريّاً، فهو يريد أن يَتحَنَّن على اليتيم فقط لكي يُتحنَّن على أيتامه -الذين قد يكونون أولادَه أو من أولادهم، فهم يرجعون إليه-  فإنّ كلمة «تحنَّنوا» لا تنطبق إلّا إذا أكرمَ الإنسانُ اليتيمَ بِحَنان، قُربةً إلى الله تعالى، فهو يُكرِم هذا اليتيم، بدافع الحُنوِّ والعَطف.
والرّوايات حولَ إكرامِ اليتيمِ كثيرةٌ جدّاً، تَقدَّم جانبٌ منها، ويأتي بعضُها في وقفةٍ أخرى عند اليتيم في هذه الخطبة المباركة نفسها، وقد تكرّر الحديثُ فيها عن الأيتام، كما تكرّر الحديثُ عن صِلة الرَّحِم، ممّا يدلُّ على أنّ لِهذين الأمرين شأناً خاصّاً.


إنّ من أسباب رقَِّّة القلبِ مَسحُ رأس اليتيم، فإذا رأى الإنسانُ قلبَه قاسياً وأرادَ أن يحصل على رقّة القلب فَلْيَحرِص على ذلك، وكأنَّ اليتيمَ مصدرُ طاقة الحَنان واللِّينِ والرّحمة، يتزوَّد منه الإنسانُ بمُجرَّد المسحِ على رأسه بحَنان.


 ينبغي أن نستعدَّ من الآن لإكرام اليتيم في شهر رمضان المبارك، وقد يتحقُّق ذلك بدعوة بعضهم إلى الإفطار في هذا الشّهر الكريم، أو بالتوجُّه إلى أحد دُورالأيتام وأخذ هديَّة لبعضهم، ومن لم يتمكَّن من شراء هديّة فلتكُن هديَّتُه زيارتَهم بلا شائبةِ مَنّ، والسلامَ عليهم والجلوسَ معهم، فهي أفضلُ من الهديّة الماليّة أو الصَّدقة وأغلى.
 

***

  وَارْفَعُوا إليه أيديَكم بالدُّعاء في أوقاتِ صَلواتكم، فإنّها أفضلُ السّاعات، ينظرُ الله عزّ وجلّ فيها بالرّحمة إلى عبادِه، ويُجيبُهم إذا ناجَوْه ويُلَبِّيهم إذا نادَوْه، ويستجيبُ لهم إذا دَعوْه.

كيف يُمكن للإنسان الذي لا يلتزمُ بالصّلاة أوّلَ وقتِها في غير شهر رمضان، أن يلتزم بالصلاة في أوّل وقتِها في شهر رمضان؟
مَن كان حتّى الآن -أي إلى الأيّام الأخيرة من شهر شعبان- لا يلتزمُ بالصّلاة في أوّل وقتِها، فكيف سيلتزمُ بالصّلاةِ في أوّل وقتِها في شهر رمضان المبارك؟
كلُّ وقتٍ من شهر رمضان مهمٌّ، إلّا أنّ هناك خصوصيّةً لِوقتِ الصّلاة، وهو أوّلُ الوقت، عندما يؤذِّنُ المؤذِّنُ ويقومُ الإنسان للصّلاة، ووقت الصّلاة وتعقيباتِها.
صحيحٌ أنّ أيَّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضلُ السّاعات، ولكنّ أفضل ساعات هذا الشّهر هي أوقاتُ صلواتِنا، فمَن فاتَتْه في كلِّ شهرِ رمضان صلاةٌ واحدةٌ في أوّل الوقت، فإنّ خسارتَه كبيرة، لأنّ مِن المُمكن أنّه كان سيُستجابُ له دعاءٌ مهمٌّ في حاجةٍ من حوائجِه الكبيرة، وبِقَطْعِ النَّظر عن قضاءِ الحوائج، يخسرُ الثّوابَ العظيمَ الذي كان سيُضاف إلى رصيدِه بمُجرَّدِ أنّه صلَّى أوّلَ الوقت.
ومَن كان لا يُواظبُ دائماً على الصَّلاة أوَّلَ وقتِها لِيَسْتَفيد من بركات كلِّ أوقات الصّلوات، فكيفَ يُصبحُ مُستعدّاً للصّلاة في أوّلِ الوقت طيلةَ شهرٍ بكاملِه؟
لا سبيل إلى ذلك عادةً إلّا بالإستعداد له قبلَ دخولِ شهر رمضان. وعندما نجِد أنَّه لم يبقَ بيننا وبين شهر الله تعالى إلّا عدّة أيّام، فَلْنَتَذَكَّر أنّنا نستطيعُ خلال هذه الأيّام أن نُدرِّب أنفسَنا على الإلتزام بالصّلاة أوّلَ الوقت.
من يحاولْ منَّا الإلتزام بذلك، سَيَجِدْ أنّ الشَّيطان يدخلُ على الخطّ مباشرةً: هناك أشغالٌ وأعمالٌ إلخ .. وهذه مهمّة وتلك ضروريّة، وليس له من هدف إلّا فتحُ ثغرةٍ في قراره، لِيَنْفُذَ منها ويُعيدَه إلى ما كان عليه.
نقلَ بعضُ العلماء عن الشهيد بهشتي  أنّهم كانوا يَرونه إثْرَ انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران، عندما يَحين وقتُ الصّلاة، حتّى إذا كان في جلسةِ عملٍ شديدةِ الأهمّية، فإنّه بمجرّد أن يرتفعَ صوت المُؤذِّن يقف ويبدأ يستعدّ للصلاة في أوّل الوقت، يقول هذا العالِم: ذاتَ مرة قيل له: إنّ هذا الأمر مهمٌّ يستحقُّ تأخيرَ الصّلاة. تأخيرُ الصلاة ليس حراماً. وهذا الأمرُ الذي نحن بصدده مهمٌّ جدّاً. فقال لهم: «إنّ أعمالَ الدُّنيا لا تنتهي».
وقد تعلَّم الشهيد بهشتي وأمثالُه ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام، فقد رآه ابنُ عبّاس في ساحة المعركة في صفِّين، ينظر إلى الشمس فقال له: يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ قال: أَنظرُ إلى الزَّوال لِنُصَلِّي، فقال له ابنُ عباس: وهل هذا وقتُ صلاة؟ إنّا لَفِي شُغُلٍ بالقتال عن الصلاة. فقال له عليه السلام: «على مَا نُقاتِلُهم؟ إنّما نقاتلُهم على الصّلاة».


أيّها العزيز: إنّ كلّ أعمالِنا التي نقومُ بها، كلّ ما نعتبرُه جهاداً في سبيل الله عزّ وجلّ، ونسألُه تعالى أن يتقبَّلَه منَّا، فإنّما هو من أجلِ إقامةِ الصّلاة، من أجلِ عبادةِ الله عزّ وجلّ، فكيفَ نَرضى لِأَنْفُسِنا أنْ لا نُصلِّي في أوّلِ الوَقت، ولا نهتمَّ بتصحيحِ هذا الخَلل الكبير؟!
 
هل سنظلُّ  كذلك نؤخِّرُ صلاتَنا حتى في شهر رمضان المبارك؟ ألَا ينبغي أن نُعَوِّد أنفسنا حتّى نكون من المُتَأدِّبين بهذا الأدب الذي يُريده لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله: «وارفعُوا إليه أيديَكم بالدُّعاء في أوقاتِ صلواتِكم، فإنّها أفضلُ السّاعات، ينظرُ الله عزّ وجلّ فيها بالرّحمة إلى عبادِه، ويُجيبُهم إذا ناجَوه ويُلبِّيهم إذا نادَوه، ويَستجيبُ لهم إذا دعَوه».

***



  أيّها النّاس، إنّ أنفسَكم مرهونةٌ بأعمالِكم فَفُكُّوها باستغفارِكم

 للنَّفْس الإنسانيّة موقِعٌ مهمٌّ جدّاً من وُجهةِ نظرِ الإسلام. ولقد أمرَ اللهُ تعالى ملائكتَه بالسُّجود له عزّ وجلّ تكريماً للإنسان، ونفخَ سبحانَه وتعالى في الإنسان من روحِه، وجعلَ الإنسانَ خليفتَه في الأرض، وأحلَّه مكانةً مميّزةً تصلُ إلى حدِّ أنّ المؤمنَ وليُّ الله تعالى يُدخلُه في درعِه الحَصينة، ومَن أعلنَ الحربَ على هذا الإنسان المؤمن فقد أعلنَ الحربَ على الله تعالى.
 صحيحٌ أنّ سجودَ الملائكة في مجال التّكريم للإنسان كانَ من أجلِ المُصطفى صلّى الله عليه وآله، وأهلِ البيت عليهم السلام، إلاّ أنّ الصحيح أنّ كلَّ إنسانٍ يستطيع بتوفيق الله تعالى، وبركةِ رسولِه الأعظم وآلِه المعصومين صلّى الله عليه وعليهم، أن يكون بطاعة الله سبحانه، ذلك الموجودَ العزيزَ على الله تعالى الذي تتشرّفُ الملائكة بخدمتِه.
أمّا إذا انسلخَ الإنسانُ من إنسانيّته وأصرَّ على تشويهِها ومَسْخِها إلى الحيوانيّة، فإنّه يبدأُ يَرهنُ هذه النّفس الإنسانيَّةَ العزيزة المفطورة على التّوحيد، التي هي من حيث المبدأ شديدة الأهميّة والفَرادة، ويبدأ يُفقِدُها قيمتَها بالمعاصي التي يرتكبُها. تتراكمُ الذُّنوب ولا يُتبِعها بالإستغفار، إلى أن تصلَ الذُّنوب إلى حدٍّ تُصبِحُ معه هذه النّفس مرهونةً بها.
«أيُّها النّاس إنّ أنفسكَم مرهونةٌ بأعمالِكم»
لو أنّ شخصاً يمتلكُ قصراً غالياً ثمّ يبدأ يقترض مالاً ويُبدِّدُه، ويكرّر ذلك مرَّة بعد مرَّة، وهو يعتمدُ على ملكيَّتِه للقصر، وتتراكم المبالغ التي اقترضَها وتزدادُ هذه الأموال، إلى حيث تستوعبُ ثمنَ هذا القصر.
كذلك هو حالُ كلٍّ منّا عندما نرتكبُ المعاصي، لأنّ هذه المعاصي تَتَجَمَّعُ وتزداد، إلى حيث تُصبحُ نفْسُ هذا الإنسان مُرتَهنةً بسبب مَعاصيِه. لقد أخطأَ وتراكمتْ أخطاؤه إلى حدِّ أنّه أصبحَ مُرتَهناً بعملِه، وكما أنّ صاحبَ ذلك القصر عندما يأخذُ  في كلِّ مرَّة مبلغاً صغيراً، لا يتصوّرُ أنّ هذه المبالغ سوف تصِلُ إلى حدِّ أنّها تُخرِجُه من قصره وتُسَلِّمُه إلى غيره، فإنّنا عند ارتكابنا المعاصي، نرى أنّ هذه المعاصي المختلِفة هي بالحجم الفلاني الذي نزعم، ولا نُقيمُ وزناً لِكَوْنِها قد تسلبنا إنسانيّتنا.
نرى الغِيبة مثلاً أمراً صغيراً لا نُقيم لها وزناً، فنرتكبُ الغِيبة مرّةً بعد أُخرى، وننظر النّظرةَ الحرام، ونُؤذي هذا، ونستخِفُّ بذاك، ونتهاونُ في هذه الصّلاة أو تلك، وربّما يفوتُنا وقتُ الصّلاة، ونظلُّ لا ننتبه إلى أنّ هذه الأعمال التي نرتكبُها خطيرة، تَصِلُ خطورتُها إلى حدِّ أنَّ كُلّاً منها قَيْدٌ يُفقِدُنا حرِّيةَ الحركة بِحَسَبِه، وعندما تزدحم القيود على جسد شخصٍ يُصبِحُ مصداقَ:

«قَصُرَتْ بي أعمالي، وَقَعَدَتْ بي أغلالِي، وَحَبَسَني عن نفعي بُعْدُ آمالي، وَخَدَعَتْنيَ الدُّنيا بغُرورِها، ونفسي بجِنايتها ومِطالي» .

إنّ تراكُمَ هذه القيود لا يُفقدُنا حرِّيتَنا وحسب، بل يُفقدُنا أنفسَنا، فيجعلها مُرتَهنة، والرَّهنُ يجعلُ المِلْكَ مُعَلَّقاً، لا هو مِلكٌ مُطْلَقٌ لصاحبِه، ولا هو خارجُ مِلكِه كليّاً، وإنّما هو مِلكُه بشرطِ أن يقومَ  بفكِّ المُرتَهَن لِيُمْكِنَه بذلك استعادةُ حرِّيّةِ التّصرُّف.
يريدُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، أنْ ينبِّهنا إلى أنّ ذنوبنا تجعلُ نفوسَنا مرتَهنة، وأنّنا أمامَ فرصةٍ تُمَكِّنُنا من استردادِها.
يُولَدُ الإنسانُ حرّاً، وينمو وهو يحافظُ على هذه الحرِّية، ولا يفْقد من حرّيته شيئاً إلى سنّ البلوغ، لأنّه لم يسجَّل عليه شيء، فما تزال الصحائفُ بِيضاً، ولكنْ في سنّ البلوغ يبدأُ المَلكان يُدوِّنان أعماله، وقد لا تمرُّ إلاّ فترة وجيزة، ويُصبح مرتَهناً بعملِه.
ماذا يفعل المُرتَهن بعمله؟ هل يبقى لا يُفكّر بذلك؟ أم أنّ عليه أن يحملَ الهمَّ الكبير؟

 لو أنّ إنساناً التفتَ فجأةً إلى أنّ كلَّ ممتلكاتِه أصبحتْ مرتَهنة، وأنَّه مهدَّدٌ بالإفلاسِ الكامل، بلْ هو مُفْلِس، وعليه أن يتداركَ إعلانَ هذا الإفلاس، فكيف يُمضي وقتَه؟

هل يقرُّ له قرار؟ ألا يظلُّ يفكِّرُ بذلك باستمرار، وليلَ نهار؟
أيُّها أصعب؟ أن يكتشف الإنسانُ أنّ بيتَه وعقاراتِه مرتَهنة، أو أنْ يكتشفَ أنّ نفسَه مرتَهنة؟
تُرى، هل أعرفُ أيّ مُرتقىً صعبٍ أرتقي عندما أتجرّأُ على ربّي؟ أنا هذه الذرّة التّائهة في الوجود أرادَ ليَ اللهُ أن أكونَ إنساناً سويّاً في الصِّراطِ المستقيم، فَلِماذا أُصرُّ على سلوكِ السُّبُلِ المُعْوَجَّة إلى أسفلِ السّافلين؟
أما آنَ لِهذه الغفلةِ أن تنتهي؟ أما آنَ لي أن أستحيَ من ربّي؟

«وَيْلِي كلّما طالَ عمْري زادتْ معاصيّ، وَيْلِي كُلّما كَبُرَ سِنّي كَثُرَت ذُنوبي، فَكَم أتوبُ وَكَم أعود، أما آنَ لي أنْ أستحيَ من ربّي». 

هذه نفسي مرهونةٌ بأعمالي، آهٍ من أعمالي!
ومِن كَرَمِ ربّي عزّ وجلّ أنّه يُرشدُني إلى طريقِ فَكَاكِ نفسي من الرَّهن. يقول المصطفى صلى الله عليه وآله: «فَفُكُّوها باستغفارِكم».
ما أسهلَ الثَّمَن!!
عندما يكون للإنسان بيتٌ أو قِطعةُ أرضٍ وتُرتَهن، فَكَم يتعبُ من أجلِ فَكَاكِها؟ وهل يستطيعُ أن يفكَّها بكلامٍ يقوله في بيتِه حتّى إذا أمضى فيه وقتاً طويلاً، أو العمرَ كلَّه؟
أمّا هذه النّفْس المرتَهنة بالمعاصي، فقد أتاحَ لنا الله تعالى بِمَنِّه وكَرَمِه، أن نتمكّن من فكاكِها بالإستغفار، بأنْ نستغفرَ الله تعالى من «كلّ قلبِنا»، نعودَ إلى ربّنا ونتوبَ إليه توبةً نصوحاً صادقة.
أمّا أنْ يستغفرَ مَن يرى أنّ نفسَه مُرتَهنة، وهو مُصمِّمٌ على الإستمرار في المعصية والتجرُّؤ على ربّه والتمرُّدِ على طاعته عزّ وجلّ، فإنّ هذا استخفافٌ بالله تعالى، يُضافُ إلى ذنوبه. عن الإمام الرضا عليه السلام: «مَن استغفرَ من ذنبٍ وهو يعملُه فكأنّما يستهزئ بِرَبِّه». 
لا بدَّ لكي يكونَ الإستغفارُ حقيقيّاً، من التّفكير والمحاسبة، واتّخاذ القرار بتركِ المعاصي، وتغييرِ نمطِ السلوك، ولكنْ يُمكِنُ أن يحصلَ ذلك تدريجيّاً، فمن صَعُب عليه إحداثُ هذه النَّقلة في سلوكِه فَلْيَضَعْها هدفاً أمام عينَي قلبِه، ويسعى جادّاً لتحقيقِه دونَ تسويف.
ويتوقَّفُ الإهتمام بالإستغفار على إدراك مدى فاعليّتِه في تطهير القلب والتدرُّج بصاحبِه في مدارجِ القُرب من الله تعالى، وهو ما يُحتِّمُ الحرصَ على قراءة الرّوايات حولَه بين الحين والآخر، وهذا بعضها:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لكلِّ داءٍ دواء، ودواءُ الذُّنوب الإستغفار، فإنَّها المَمْحاة».
2- وعنه عليه السلام: «العَجَبُ ممَّن يَقْنُط [يَيْأس] ومعه المَمْحاة. قيل: وما المَمْحاة؟ قال: الإستغفار». 
3- رُوي أنّ رجلاً أتى الحسنَ عليه السلام، فشكا إليه الجُدوبَة [عدَمِ المطر] فقال له الإمام الحسن: «إستغفرِ الله»، وأتاه آخر فشكا إليه الفَقر فقال له: «إستغفر الله»، وأتاه آخرُ فقال له: ادْعُ اللهَ أن يرزقَني إبناً، فقال له: «إستغفرِ الله»، فقُلنا له: أتاكَ رجالٌ يشكون أبواباً، ويسألون أنواعاً، فَأَمَرْتَهم كلَّهم بالإستغفار؟! فقال عليه السلام: «ما قلتُ ذلك من ذاتِ نفسي، إنّما اعتبرتُ فيه قولَ الله: ﴿..استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا  * يُرْسِلِِ السَّماء عليكم مِدْراراً * ويُمْدِدْكُم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهارا﴾ نوح: 10-12».

4- عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: خيرُ الدُّعاءِ الإستغفار».
5- وقال عليه السلام: «إنّ للقلوبِ صَدَأً كَصَدَأ النُّحاس، فاجْلُوها بالإستغفار».
6-  وعنه عليه السلام: «إذا أكثرَ العبدُ من الإستغفار، رُفِعَتْ صحيفتُه وهى تتلَأْلَأ».
أفضلُ أوقات الإستغفار وقتُ السَّحَر، قال تعالى:
• ﴿..والمستغفرين بالأسحار﴾ آل عمران:17.
• ﴿وبالأسحار هم يستغفرون﴾ الذاريات:18.
والنتيجة: أنّ للإستغفار قيمتَه العُليا في أيّ وقت، إلاّ أنّ للإستغفار في شهرِ الله تعالى شأناً آخر، وإذا جمعَ المؤمنُ بين فضيلةِ الإستغفارِ في شهرِ الله تعالى، وفضيلةِ وقتِ السَّحَر، فذلك نورٌ على نور. ﴿يَهدِي اللهُ لِنورِه مَن يشاء﴾.

   أللّهمّ اجعلْنا من المُستغفِرين بالأسحار.

***

  وَظُهورَكم ثقيلةٌ من أوزارِكم فَخَفِّفوا عنها بِطُولِ سُجودِكم

نقرأ في دعاء الإمام السجّاد عليه السّلام، المعروف بدعاء أبي حمزة الثُّمالي رضوان الله عليه: 

 «أَبكِي لِخُروجِي من قبرِي، ذليلاً حامِلاً ثِقْلِي على ظهري، أنظرُ مرّةً عن يميني وأُخرى عن شِمالي، إذْ الخلائقُ في شأنٍ غيرِ شأني»

وهو يدلُّ على أنّ ثِقْلَ الذُّنوب يُحمَل على الظَّهر، وكونُ ذلك كنايةً غيرُ معلوم، فأثقال عالَم المَعنى من عالَمٍ آخر.
وفي بعض الرّوايات حول تَجَسُّم العمل، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما يُبيِّن لنا أنّ مَن يرتكب معصية، يحملُها على ظهرِه، فَلَو فَرَضْنا أنّ إنساناً سرقَ، فسيأتي يومَ القيامةِ وهو يحملُ على ظهرِه ما سرق، وَنَجِدُ أنفسَنا في هذا المجال أمامَ عباراتٍ في الدُّعاء والرّوايات تُريدُ أنْ تُوضِحَ لنا أنّ هناك علاقةً بين الظَّهْر وبين الوِزر؛ أيْ المعصية، هي أكثرُ بكثير من علاقةِ تَحَمُّلِ المسؤوليّة.
ومهما يَكن، فإنّ حقيقةَ تَجَسُّمِ العمل الثابتة تدلُّ على ما هو أكثر من أنّ هذه العلاقة محض معنويّة، كما قد يتصوّر البعض.
لا يستطيع الغارقُ في بحار الذُّنوب مثلَنا، أن يُدركَ ثِقَل المعصية الحقيقي، وتجسُّمَه المُرعِب في الآخرة، إلا أنّنا نستطيعُ أن نلاحظَ الفارقَ بين حالتَي المعصية والطّاعة، والإدبار والإقبال.
إنَّ المُذنبَ المُدْبِر عن التوجُّه إلى الله تعالى لا يشعرُ بالرَّاحة وتَوثُّبِ الحركة والفِكر، أمّا عندما يتوب، فإنّه يستطيع أن يشعر بذلك، لأنّه قد تخلّص من ثِقْلٍ كبيرٍ كان يُعيقُ حركتَه، فإذا عاشَ في جوٍّ من الروحانيّة والخشوع  لفترة، فهو يلاحظُ فارقاً كبيراً بين ما كان عليه وبينَ ما أصبح عليه فِعلاً. كان مُكبَّلاً مُثْقَلاً، وأصبحَ يشعرُ أنَّه خفيفٌ نشيطٌ مُتَوثِّب، كأنّه فُكَّ من شَدِّ وَثاقِه. وقد نُقِلَ لي عن بعض أهل العبادة أنّ الإلتزام بصلاة الرّسول صلّى الله عليه وآله يجعلُه يشعرُ بِخِفَّةٍ في الجسد لا عهدَ له بها، وأنّه يستطيعُ أن يتحرّك بنشاطٍ مُمَيَّز، لم يكن يعهدْه في نفسِه في ما سَبق.
عندما نكونُ في أَسْر ذنوبِنا ومعاصينا فهناك ثِقْلٌ لا نشعرُ به، لأنّنا أَلِفْناه واعتَدْنا عليه.

يُمكننا أن نلجأَ إلى طول السُّجودِ ونُجرِّب -في ضوء توجيه المصطفى الحبيب- الفرقَ الكبيرَ بين القيود التي كنّا نُعاني منها، وبين الحريّة التي سنشعرُ بها بعدَ طولِ السجود.
 
مَن اسْتَثْقَلَ طولَ السُّجود أو صَعُب عليه، فَلْيَتَذَكَّر مدى العلاقة بين طولِ السُّجود وشِدّة التّخفيف من الثِّقْل على ظهرِه، لِيكونَ ذلك دافعاً وحافزاً لِحَمْلِه على إطالةِ السُّجود.
في الرِّوايات أنّ أقربَ ما يكون الإنسان إلى الله عزّ وجلّ عندما يكون ساجداً  وفي بعضها «وهو ساجدٌ يبكي» ، والحثُّ على السُّجود لا يكاد يُضاهيه حثٌّ آخر، وهو يكشفُ أنَّ السُّجودَ الطَّويلَ من أقصرِ الطُّرُق المُوصِلةِ إلى رضوان الله تعالى.
وخيرُ الأذكار للسُّجود الذِّكْرُ اليونسي ﴿..لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين﴾ الأنبياء:87.
يُؤكِّدُ بعضُ العلماء على أنّ لِتَرديد هذا الذِّكر 400 مرّة في السجود أهميّةً كبيرة، ومَن استطاع المَزيد فذلك أفضل، وليس هناك سقفٌ، فَيُمْكِنُه أن يبلغَ حيثُ استطاع.
وإذا لم يكُن الإنسان مُستعدّاً لِتَحَمُّل هذا الوقت الطّويل، فَلْيَبْدَأ وَلَوْ بمرّة، ثمّ يتدرّجْ إلى أن يُصبحَ من أهل السُّجود الطّويل، فالتّدرُّجُ في العبادة هو الأصلُ الذي لا يَصِحُّ تركُه. عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّ هذا الدِّين مَتين، فَأَوْغِلْ فيه بِرِفْق، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِك عبادةَ الله، فإنّ المُنْبَتَّ لا أرضاً قَطَع، ولا ظَهْراً أَبْقَى». 

***

  وَاعْلَمُوا أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَقْسَمَ بِعِزّتِه أنْ لا يُعذِّب المُصَلِّين، وأنْ لا يُرَوِّعَهم بالنَّار يومَ يقومُ النّاسُ لربِّ العالمين

بدأتْ هذه الفقرات بالحثِّ على الدُّعاء في أوقات الصّلاة، ثمّ انتقلت بنا إلى الإهتمام بالإستغفار، وطولِ السُّجود، وصولاً إلى التأكيد على الصّلاة، فهي إذاً المِحور، فَلْنَحْرِص في شهر رمضان على الصَّلاة في أوّلِ وقتِها، علّنا نكون من هؤلاء المُصلِّين الذين أقسمَ اللهُ تعالى بِعِزَّتِه أنْ لا يُروِّعَهم بالنّار.
الشَّهرُ شهرُ ضيافةِ الله، الذي يُمْكن للإنسان أن يحصلَ فيه على ثوابٍ لا يحصل عليه في غيرِه، وقد يكون هذا الثّوابُ أن يُكتَب من المُصلِّين، ومَن انطبقَ عليه عنوانُ أنّه من المصلِّين فقد فاز فوزاً عظيماً، لأنّ صلاتَنا قد لا تُقبَل، فَلَسْنا من المُصلِّين، وإنْ كانت هذه التي نأتي بها، تُسقِطُ الواجب، إلّا أنّه لا يترتّب عليها رفعُ الدَّرجة ولا غيرُ ذلك من الثّواب لأنّها صُلِّيت بدون حضورِ القلب، وبالتّالي لِعَدَم التوجُّه بها إلى الله تعالى.

يُصلِّي الشّخصُ منّا وهو يُفكِّر بأمورِه الدُّنيويّة، وقد يُفكِّرْ أنّه إذا انتهى من صلاتِه سَيذهب إلى فلان لِيُخاصمَه!

 أيُّ صلاةٍ هي هذه؟ إنّنا في شهر الله تعالى أمامَ فرصةٍ إلهيّة، فَلْنَبْذل كلَّ جهدٍ مُمكن لنكونَ «من المُصَلِّين» في هذا الشّهر العظيم، واللهُ عزَّ وجلَّ أكرمُ الأكرمين، فقد يَشملنا برحمتِه، ونُقبَل لِنكونَ من المُصلِّين دائماً.
يتوقّفُ ذلك على مدى العَزم وحُسْنِ القَصد والإرادة، وعلى مدى التَّضرُّع والتّوسُّل.

***

  أيُّها النّاس، مَن فَطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشَّهر، كان له بذلك عند الله عِتْقُ رَقَبَة، ومغفرةُ ما مضى من ذُنوبه، فقيلَ يا رسول الله، وليس كُلُّنا يقدِرُ على ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: إتَّقوا النّار وَلَو بِشِقِّ تَمْرَة، إتَّقوا النّار وَلَو بِشُربَةٍ من ماء.

نحنُ في هذه الفَقرة أمام حثٍّ من المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، على الإهتمام بإفطارِ المؤمنِ الصَّائم، وأنّ ثوابَ ذلك يَصِلُ إلى حدِّ عتقِ رقبةٍ، ومغفرة.
ومن الواضح مدى الأهميّة التي يُوليها الإسلامُ لمسألة تحريرِ العبيد، وعتقِ الرِّقاب، أيْ أن ينتقلَ الإنسان من العبوديّة التي فرضَها على نفسِه نتيجةَ ظروفٍ معيّنة، وقناعاتٍ خاطئة، جَعَلَتْه في الصفِّ الذي يُعلنُ الحربَ على الله عزَّ وجلَّ، عبداً للباطل في حربه ضدَّ الحقّ، وعندما انتصرتْ كلمةُ الله تعالى، ظهرَ عبدُ الباطل على حقيقتِه التي يأتي الإسترقاقُ تعبيراً عنها، فيُستَرَقّ.
وعندما ينتقلُ من هذه العبوديّة إلى الحريّة، فإنّه حصلَ على مكسبٍ كبير، لقد وجدَ الحقَّ فَوَجَدَ نفْسَه، فأصبحتْ قضيّةُ تحريرِه عظيمةً عندَ الله عزَّ وجلّ، إلى حدِّ أنّه برحمتِه يجعلُها عنواناً للثّواب الكثير جدّاً الذي يُعطيه لِضَيفِه الّذي يهتمُّ بإفطارِ الصّائمين، أيْ أنّه سبحانه يُدرجُها في صُلب «ضيافةِ الرحمن»، ولهذا الإدراجِ ثلاثُ دلالات:
الأولى: شِدَّة التّأكيد على أهميّة عتقِ العَبيد، وحريّة الإنسان المُلتزِم بالحقّ، والقانونِ الإلهي.
الثانية: أنّ الصَّوم حركةُ انفتاحٍ على الآخرين، وحمْلُ همومِهم، وليس حركةَ انغلاقٍ على الذّات.
الثّالثة: أنّ الصّوم هو عمليّة تحريرٍ للعبيد الذين استَرَقَّتْهم الذُّنوب، أي استرقَّهم تكرارُ الوقوفِ في صفِّ الباطل ضدَّ الحقّ، والإصرارُ على ذلك، وها هو شهرُ الله تعالى؛ لحظةَ انتصارِ كلمةِ الله تعالى، وانكشافِ مُعسكرِ الأعداء من الشّياطين الذين كانوا قد أغْرَوْا هؤلاء المُحاربين، واستنفروهم للمشاركة في الحرب ضدّ الله تعالى ورسولِه وأوليائه صلّى الله عليه وعليهم.
أَلا تَلمَسُ كلُّ القلوب أنّ شهرَ رمضان موسمُ غَلَبَةِ القِيَمِ الفاضلةِ على ما سواها؟
أَلَسْنا نشعرُ بالوجدان أنّ الجوَّ العامّ في شهرِ الله تعالى جوُّ استقامة، ولو نسبيّةً ومؤقّتة؟
ألا يُشبهُ ذلك ما يحصلُ عندَ غَلَبَةِ جيشِ الحقِّ لِجيشِ الباطل من انكشافِ الحقيقةِ، وتبدُّدِ ظلامِ الجَهل والتّزييف؟
ألا يقودُنا ذلك إلى فارقٍ جوهريٍّ بين «الإسترقاق» الذي يعقُبُ غَلبة الجيوش المنتصرة، وبين «التّحرير» الذي يُرافِقُ لحظةَ انتصارِ كلمةِ الله تعالى؟

شاءَ الله عزَّ وجلّ برحمتِه الواسعة أن تكونَ ضيافتُه موسماً للصَّفح الجميل، والتَّصدُّق علينا بالعتقِ بلا مَنّ.

وشاءَ سبحانُه أن يكونَ أدنى عملٍ نقومُ به نبتغي منه تصحيحَ مسارِنا والتّقرُّب إليه وهو الحقّ، سبباً في عتقِنا من النّار التي نرمي أنفسَنا فيها بملءِ اختيارِنا.
وللإلفاتِ إلى هذه المشيئة وتلك، جاءت دعوةُ المصطفى الحبيب والرّؤوف والرّحيم بما آتاه الله تعالى، لِتُشعِرَنا بِلُطفٍ بأنّ ذنوبَنا قد استرَقَّتنا، وأنّنا أمامَ فرصةِ التّحرُّر الكُبرى.
ألا ترى إلى هذا العطفِ المُحبَّب: «كان له عتقُ رَقَبةٍ، ومغفرةُ ما مضى»!
ألا تَرى أنّ تعبير «عتق رَقَبة» يحتملُ مَعنَيَين: «عتقُ رَقَبَة مَن فطّر صائماً» وما يُعادل «عتق أيّ رَقَبة؟».
ولولا الرّوايات التي تحثُّ على عتقِ العبد الآخر، لكان لأيِّ عبد منّا أن يحصرَ دلالتَها به، وأنّه هو الرَّقَبَةُ التي تُعْتَق.

***


  «ومَغفِرة مَا مَضَى».

ما هي المُفردات التي يجبُ أن نقفَ عندها من خلال هذا الحثّ، لِلحصول على هذه المرتبة، مغفرةَ كلِّ ما مَضى؟
إنّها كما يلي:

* أوّلاً: بذْلُ المال:

نجدُ أنفسَنا أمام دعوةٍ إلى بذلِ المال. لا يستطيعُ الإنسان المؤمن إلّا أن يكون مُنفِقاً من مالِه في سبيل الله تعالى، لأنّ من خصائصِ المؤمنِ البذْلُ والعَطاء والإنفاق في كلّ المجالات، ولا بدّ لهذا المؤمن الذي يصلُ إلى حدّ بذْلِ روحِه في سبيل الله عزّ وجلّ أن يتدرّب على البذْلِ والعطاء، بل أنْ تكونَ حياتُه مزروعةً بمواردِ البذْلِ والعطاء.  يتدرَّجُ فيها إلى أن يصلَ إلى المِصداق الأعلى من البذْل: «يَجودُ بنفسِه» و«يُستَشهَد».
وقد يتصوّر البعضُ أنّ بذْلَ المال مطلوبٌ من الغنيِّ فقط، إلّا أنّ الرّوايات تُصرِّح بخلافِ ذلك، ومتى كانت «النُّخبةُ» مَصَبَّ عمليّةِ التّغيير؟ بلْ مَتى كان الغِنى في الإسلامِ امتيازاً يستتبعُ صِفةَ «النُّخبَوِيّة».
إنّ الحثَّ على الإنفاق موَجَّهٌ إلى جميعِ النّاس، وللفقراء منهم -وهم الغالبيّة العُظمى- قبلَ الأغنياء، ويكفي للدّلالة على ذلك قولُه تعالى: ﴿..ويؤثِرُونَ على أنفسهم ولو كانَ بهم خَصاصة..﴾ الحشر:9.
جاء حولَها عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ صاحبَ الكثيرِ يَهُون عليه ذلك، وقد مَدَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ صاحبَ القَليل فقَال: ويُؤثِرونَ على أنفسِهم..». 
ورُوِيَ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أفضلُ الصّدقةِ جُهْدُ المُقِلّ».
وقِيل له صلّى الله عليه وآله: أيُّ الصَّدَقة أفضل؟ قال: «أنْ تَصَدَّقَ وأنتَ صحيحٌ شَحِيح،  [قليلُ المال] تأمُلُ البَقاء، وتخافُ الفَقر..».
وعن الإمام الكاظم عليه السلام أنّ فقيراً من أصحابه يسألُه: إنّي أحصلُ على المال من خلال ما يُقدِّمه لي إخواني من المساعدات فهل أتصدّق من ذلك؟ فيأمرُه الإمام  بالصَّدَقة. يكشف ذلك أهميّة أن يُعوِّد الإنسانُ نفسه على البذْل، وإذا تذرّع الفقيرُ بِفَقْرِه، وامتنعَ عن البذْل فإنّه قد يتأصّلُ فيه المَنعُ والبُخل، وما ذلك إلّا لِعَدَمِ تعويدِ نفسِه على العطاء، كما يكشفُ أنّ البُعدَ الإنساني هو مصبُّ الإهتمام في الصَّدَقة بالدَّرجة الأولى، لا المال، وهذا البُعدُ الإنساني على قِسمين: العنايةُ بإنسانٍ مُحتاج، وتعويدُ المُعطي نفسَه على البذْل والإيثار، ولا عبرةَ بالمبلغ إلّا إذا كانت قِلَّتُه تكشفُ عن بُعدٍ سيّىءٍ في النفْس؛ هو التَّصدُّق بما لا يحبّ.
وحيثُ اتّضحَ أنّ جوهرَ الصّدقة «إنسانيّةُ صاحبِها»، فقد اتّضَحَ أنّ تفطيرَ الصّائم يحملُ من البُعْد الإنساني ما فوقَ الصَّدَقة، أمّا إنْ كانَ تفطيرُ الصّائم بدعوتِه إلى البيت فواضح، وأمّا إنْ كان بإرسالِ الطّعام إليه فهو نوعُ تكريمٍ قد يفوقُ الصّدَقَةَ المُتعارَفَة، وإنْ لم يَصِل إلى مستوى دعوتِه إلى المنزل.

* ثانياً: إتَّقوا النّار:

وكما نجدُ أنفسَنا في هذه الفَقرة أمامَ الحثِّ على بذْل المال، فإنّنا كذلك أمام الحثِّ على التقرُّبِ إلى الله عزّ وجلّ، وطلبِ رضوانِه بهذا العطاء، فإنّ اتَّقاء النّار في قولِه صلّى الله عليه وآله «إتَّقوا النّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرة» يُراد به أن تكون «التَّقوى» الباعثَ على هذا العمل، وهي تعني اتِّقاء كلَّ ما يُبعِدُ عن الحقّ، ويُوقِع في الباطل، وقد يكون هذا الدّافع قوِيّاً، والمبلغُ المُلازمُ له قليلاً، وقد يكون العَكْس، والأهميّة لهذا الدَّافع، وليست لِلْمَبْلغ كما تقدّم.

 * ثالثاً: روح الجماعة:

وفي هذه الفَقرة أيضاً تأكيدُ الإهتمام بشدِّ الأواصر الإجتماعيّة، وتقويةُ هذه العلاقات بين المؤمنين، فالمجتمعُ المؤمن مجتمعٌ متراصٌّ مُتماسِك، وليس الصَّومُ عبادةً فرديّة، لأنّ المطلوبَ في الصَّوم أن يحرصَ الإنسان على نظافة علاقاتِه الإجتماعيّة فلا يُؤذي، ولا يَشتِم، ولا يَغتاب، ومن المهمِّ أن يُتوِّج صيامَ يومِه بالإجتماع مع إخوانه يفطرون معاً، ويشكرون الله عزّ وجلّ على نعمة الهداية والتّوفيق.

يجدرُ التّنبُّه هنا إلى أنّ السرَّ في «دعوةِ الإمام الصَّادق عليه السلام، لأخيه المؤمن» التي يُستحبُّ أن يستجيبَ لها مَن كان صومُه مُستحبّاً، هو سرٌّ إنسانيّ، حيثُ تُوضِحُ الرّوايات، أنّ الإستجابةَ لهذه الدَّعوة مشروعة، إذا كان مَن يدعوك يُحِبُّ حقيقةً أن تأكلَ معَه.

***

الدِّينُ حُسْنُ الخُلُق:

  أيُّها النّاس، مَن حَسَّنَ منكم في هذا الشّهر خُلُقَه، كانَ له جوازٌ على الصِّراط يوم تَزِلُّ فيه الأقدام.

لا أريد هنا أن أتحدّث عن أهميّة الأخلاق النظريّة، بل أتناولُ المسألةَ الأخلاقيّة من الناحية العمليّة.
 نحن عادةً نهتمُّ بالإيمان كما نفهم، فيسأل كلٌّ منّا نفسه
 -إنْ سَأَلَها-: هل أنا مُؤمن؟

نتحاشى الكُفر، ونتحاشى الشِّرْكَ، والكَبائر، ونعتبرُ أنّ ذلك تَمامُ الإيمان، ولا نتنبَّهُ إلى الخطأ الكبيرِ الّذي وقعْنا فيه، فقادَنا إلى هذا الإستنتاج، وهو أنّنا نفصلُ بين الأخلاقِ والإيمان.

يحرِصُ كلٌّ منّا على أن يكون مؤمناً، أيْ يُصحِّحَ كُلِّياتِ العقيدة، ويُصلِّي ويصوم، ويهتمَّ بالطّهارة، ويجتنبَ النَّجاسة، ويتعلَّم جملةً من المسائلِ الشّرعيّة، ويُضيف إلى ذلك بعضَ المعلوماتِ والمصطلحات، ويظنُّ أنّه أحسنَ صُنعاً.
أمّا أثرُ هذه العقيدة وتجلِّيها في السُّلوك، وأثرُ هذه الصلاة وسائر الأفعال والأحكام العباديّة في صياغة الشخصيّة المحمّديّة المُتَحلِّية بمكارمِ الأخلاق في كلٍّ بِحَسَبِه، فهو ما لا يحظى عادةً بالعناية التي يستحقّ، والدّليل أنّه يرى نفسَه يغضبُ كثيراً، بل شديدَ الغضب، وإذا استبدَّ به الغضبُ تحوّل كاسراً من الكواسِر، ويتعايشُ مع ذلك ويبني أمرَه على السّير في خطَّين متوازِيَين: هذا التّدَيُّن، وهذه الأخلاق.
تُرى، لماذا يخفى علينا أنّ سؤالَ: «هل أنا مؤمن؟»، يُساوي «هل أنا صاحبُ أخلاقٍ حَسَنَة؟».
وعلى الأقلّ: هل أُريدُ أن أُحسِّن خُلُقي؟
عندما أسألُ نفسي: «هل أنا مؤمن؟» قد يكون الجوابُ بدون تردُّد: «نَعَم، أنا مؤمن».
والسبب في عَدم التردُّدِ هذا، هو الفصلُ بين الإيمان وحُسْنِ الخُلُق، فإذا سألتُ نفسي: هل أتحلَّى بمكارم الأخلاق، أو هل أنا ذو خُلُقٍ حَسَن؟ يتلعْثَمُ اللّسان، ويتهَدَّجُ الصَّوت، ويعلو الإرتباك!
لماذا عدمُ التردُّد هناك، والتّلعثُم هنا؟
الجواب واضح: لأنّي أفصِلُ بين الأخلاق الحَسَنة والإيمان.
فَلْأُحاولْ بعدَ ذلك أن أُعيدَ طرحَ السّؤالِ الأوَّلِ على نفسي بالصّيغة التّالية: حيثُ إنّ الدِّين حُسْنُ الخُلُق، والصَّبرَ من الإيمان بِمنزلةِ الرّأسِ من الجسد، فهل أنا مؤمن؟!
عندها سَيَعرِفُ كلٌّ منّا أيَّ إيمانٍ هذا الذي حصلَ عليه، وتصوَّرَه موجوداً ومفروغاً منه قَطعاً.
مع الغَفلة عن ضرورةِ عدمِ الفصلِ بين الإيمانِ والأخلاق، ربَّما يصلُ الأمر ببعضنا إلى أن يتصوّر أنّه مؤمنٌ إلّا أنّ أخلاقَه ليست حَسَنَة!
هذا الكلام هو تماماً كما لو إنساناً يقول: فلانٌ مؤمنٌ بالله، إلّا أنّه ليس مُوحِّداً!
إنْ كان هذا عَجَباً، بلْ ومستحيلاً -أيْ أنْ يتصوَّر الشّخصُ نفسَه مؤمناً وغيرَ مُوَحِّد-  فإنّ العَجَبَ والمُستحيلَ مثلَه تماماً، هو أنْ يتصوَّرَ نفْسَه مؤمناً وسيِّىءَ الخُلُق، لا يريدُ جادَّاً أن يبذلَ الجُهْدَ للتَّخلُّص من أمراضِه.
صحيحٌ أنّ انتباهَنا لذلك لن يحلَّ المشكلة، لأنّ الغالبَ فينا هو سوءُ الخُلُق، إلّا أنّه يضعُ حَدّاً لِبِدْعَةِ الفصلِ بين الإيمان وحُسْنِ الخُلُق، ويضعُنا وجهاً لِوجه أمامَ استحقاقٍ يرقى إلى مستوى الهدفِ من بعثة المُصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، بدلَ من أن نظلَّ نَرُوغُ منه ونَحيدُ عنه، بل نُشَرِّعَ فِرْيَةَ أنّ سوءَ الخُلُقِ لا يُضِرُّ بالتّديُّن والإيمان.
ما أريدُ أن أُركّزَ عليه هنا، هو أن نُدركَ أهميّة وجودِ الأخلاق الفاضلة فينا، لِتبدأَ رحلةُ الجهادِ الأكبرِ كما ينبغي، ولا تُبتلى بتحجيمِنا لها وتهميشِها إلى أبعدِ الحدود.

ليست المشكلةُ أن أكتشفَ أنا وأنت أنّ ما ينبغي أن نبذلَه من جهدٍ في باب التّحلّي بمكارمِ الأخلاق، يقتضي أن نبدأَ من الصِّفر، وإنّما المشكلةُ في أنْ نتعايشَ مع سُوءِ الخُلُق، ولا نعتبرَ وجودَه مُضِرّاً بِتَدَيُّنِنا أبداً، فنُفاجأَ عند الموت لا سمحَ اللهُ بأنّ سُوءَ الخُلُق قد أتى على كلِّ أعمالنا الصالحة
.
إذا كانَ الحسدُ وحدَه يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَب، فماذا يُمكن أن يبقى للحسود؟
وإذا كان إيمانُ مَن لا صبرَ له، كَمَن لا رأسَ له، فأيّ حصيلةِ إيمانٍ يُمكن أن تبقى لنا؟
وإذا كان الوثوب على حرامٍ لَاحَ، يجعلُ العملَ الأبيضَ النّاصعَ، هباءً منثوراً، فما هي قيمةُ العملِ القائمِ أصلاً على مثلِ هذا التّوثُّب، معَ غياب الرّادعِ الخُلُقي؟
أيُّها العزيز: والحديثُ عن حُسْنِ الخُلُق سهْل، إلّا أنّ التطبيقَ شأنٌ آخر، يتوقّف على معرفة النّفْس الأمّارة، والتواءاتِها ودناءاتِها، ومَدى تَرْكاضِها في أوديةِ الشّيطان.
من السَّهل أن يَظهرَ أحدُنا أمام النّاس بمظهرِ الأخلاقِ الحَسَنَة، ولكنّ التَّحدِّي الأصعبَ أن تكونَ أخلاقُه حَسَنةً في الواقع.
ولا يُمكنُ لِأَحَدٍ أن يُحقِّقَ ذلك إلّا بالكَبَدِ الدّائم، والمُعاناة المُستمرَّة، والضَّراعة المُتواصلة، والتوسُّل بانكسار. إنّ الهدفَ كبيرٌ كبير، ولا بدَّ لِتحقيقِه من بذْلِ الجُهدِ المُتناسبِ معه.

 يجبُ أن ينطلقَ التَّفكيرُ ببناءِ النّفْس وتَحْلِيَتِها بالخُلُق الحَسن، من التَّفكير بالعَرْض على الله تعالى، ﴿يَوْمَ تُبلى السّرائر﴾ ونُحشَرُ كما نحن.

بأيِّ صورةٍ تجعلُنا المعاصي نظهرُ أمامَ الخلائق؟!
ما هي صورةُ المُرائي الذي يهتمّ بما يقولُه النَّاس فيه، ولا يريدُ أن يُصلِحَ باطنَه، ويُصِرُّ سلوكُه العمليّ على كسبِ رِضاهم وحدَهم لا شريكَ لهم، وأنّ رِضا الله عزّ وجلّ ليس الأهمَّ ولا المهمّ، -مع أنّه لا أهميّة لغيره- بأيّ مَنظرٍ رهيبٍ يأتي هذا «الإنسان» يومَ القيامة؟
قد يأتي بِلسانَين، أو بوجهَين، لأنّه كانَ مع الله عزّ وجلّ بِوَجْه، ومع النّاس بِوَجْه، يتحدَّثُ أمامَ النّاس بِلُغَة، وبينَه وبينَ الله عزّ وجلّ بِلُغَةٍ مغايرةٍ جذريّاً.
ما هي الصّورةُ التي يُحشَرُ فيها مَن يُؤذي كما يتنفَّس، كالعَقربِ والأفعى، وكالحيوانِ العَقور أو المُفترِس، وهل تتركَّبُ الصُّورةُ الهائلةُ من ذلك كلِّه؟
ما هي الصُّورةُ التي يُحشَر بها المُحتال، الذي لا يُغادر الإقامةَ على اللَّفِّ والدَّوران، بدءاً من ألفاظِ المُجاملات الكاذبة، مروراً بالإستخفاف بكلِّ التزاماته ومنها الوَعد، وصولاً إلى محاولاتِه الرّعناء في أن يخدعَ الله عن جنَّتِه؟
على هذه النّماذج يُمكن قياسُ الباقي، إلى أن يصلَ المَطاف بالصّورة التي قد يكون أيٌّ منَّا عليها يوم القيامة -والعياذُ بالله تعالى- مزيجاً أخطبوطيّاً سرطانيّاً يتركّب من ذلك كلّه!!
أيُّها الحبيب: ينبغي أن يُدرك  القلب أنّ قيمة القِيَم، والقيمةَ العُليا هي مكارمُ الأخلاق، التي بُعث رسولُ الله صلّى الله عليه وآله من أجل تتميمِها، فهل يُعقَلُ أن نكونَ من أتباعه ونحن لا نُولِي الأهميّة المطلقة لتهذيب نفوسِنا، وقد لا نُعنى بها إطلاقاً!
هل نُدرِكُ أنّ ميزان الرِّبح والخسارة هو حُسْنُ الخُلُق؟
وهل نُدركُ أنّ جعْلَ ذلك المقياس والميزان، يعني أنّنا إذا رأينا فلاناً من النّاس في غاية الثَّراء، يمتلكُ البنوك والعِقاراتِ والمطاراتِ وغيرها، لكنّه «بلا أخلاق»، فما هي قيمتُه؟
إنّها صِفر، رغم أنّه مَلَأَ الدّنيا ضجيجاً وهديراً.
إنّ ذلك جميعَه بدون مُحتوى، وبدون أدنى قِيمة.
أو مثلاً: فلانٌ موظَّفٌ كبيرٌ يحتلُّ مركزاً مرموقاً، أو مسؤولٌ بارز، أو زعيمٌ سياسيٌّ مُحَنَّك، له من الخَدَمِ والحَشَم والأتباعِ ما شاءَ الله! لكنّه بدون أخلاق، فليس له قيمةٌ أبداً.
وما هي قيمةُ مَن يُقالُ عنه إنّه إمامُ البلد، وعالِم المنطقة، أو مؤلِّف، أو فقيه، أو مُجتَهد، أو رئيس الجمهورية، أو الملِك، أو الحاكم، أو السّلطان، أو المخترع، أو الدكتور، إذا كان سيِّىءَ الخُلُق مع زوجته وأولاده، ومع أُمِّه وأبيه، وأرحامِه وجيرانِه، والنّاس بشكل عامّ، وهو مصلحِيٌّ أنانيّ، يفتقرُ إلى أبسطِ مواصفاتِ الشّهامة والنُّبْل؟!!
يكتسبُ الإنسانُ قيمتَه بمقدارِ حُسْنِ أخلاقِه، أو الحرصِ الحقيقيّ على تحسينِها، وقد يكون الشّخصُ عاديّاً لكنّه خَلُوق، فيكون الرَّقمَ الصّعب، وربّما كان وليَّ اللهِ تعالى، نظرَ سبحانه إليه فَأَحَبَّه وجَعَلَه في درعِه الحصينةِ التي يجعل فيها مَن يُريد.
عن الإمام الصادق عليه السلام: «تَجِدُ الرَّجُلَ لا يُخطِئ بِلامٍ وَلا واو، خطيباً مِصْقَعَاًَ، ولََقَلْبُه أشدُّ ظُلْمَةً من اللَّيل المُظلِم، وَتَجِدُ الرَّجُلَ لا يستطيعُ يُعَبِّرُ عمَّا في قلبِه بلسانِه، وقلبُه يَزْهَرُ كما يَزْهَرُ المِصباح».   
 
المِحْورُ إذاً هو حُسْنُ الخُلُق الفعليّ، أو الّذي يُبذَل الجُهدُ الحَثيثُ للحصول عليه، ولا عبرةَ بأيِّ عنوانٍ آخر في حال عدمِ التّحلِّي بمكارمِ الأخلاق، أو السّعي الجادِّ للتّحلّي بها.


وحُسْنُ الخُلُق بتعبيرِ آخر هو التّقوى، فهي تعني إقامةَ العدلِ في ساحةِ النفْس البشريّة، والحذرَ من أيّ ظُلم، ولا يتحقّقُ ذلك إلّا بالوقوف طويلاً عند كلّ مُفردةٍ من مفردات الأخلاقِ الفاضلة، وملاحظةِ حالِ النّفْسِ في مجالِها، ليَتِمّ بناءُ النّفْس بها وفي هَدْيِها خطوةً خطوةً، فتَتَحقَّقُ التّقوى، ويُقامُ سلطانُ العَدل.
تعني التَّقوى في مجال الغضب مثلاً أن يواجه المُتَّقي ما يستدعي الغضبَ فيتحكَّم بمشاعرِه وردَّةِ فعلِه، ويسيطرَ على نفسِه، ولا يدعَ غضبَه يُخرِجُه عن طَوْره لِيَظلمَ ويُؤذي، والمرتبةُ الأعلى أن يواجهَ الإساءةَ بالإحسان، فيَتسامحَ ويصفحَ الصَّفحَ الجميل.
وبناءً عليه، فلا مجالَ لِلفَصْلِ بين التَّقوى ومكارمِ الأخلاق، الأمرِ الذي يُوضِحُ أنّ هذه الدّعوة النبويَّة: «مَن حَسَّن منكم في هذا الشّهر خُلُقَه..» هي تفسيرٌ لقولِه تعالى في بيانِ الهدفِ من الصَّوم: ﴿لعلَّكم تتّقون﴾.
 
تتوقّفُ الإفادةُ من هذا الهدف الإلهيّ وتفسيرِه النَّبويّ، على الأمور التالية:
1- إدراكُ مِحوريَّة الأخلاقِ في مسارِ التَّديُّن.
2- محاولةُ التَّعرُّف إلى النَّفْس ودراسةِ خَصائصِها.
3- محاسبةُ النَّفْس، ولو مرّةً في الأسبوع محاسبةَ الشَّريك لشريكِه. أين يكمُنُ سوءُ خُلُقي؟ هل أنا مُتكبِّر؟ حسود؟ حَقود؟ إذا غضبتُ فهل أحاولُ السّيطرةَ على غضبي، والتخفيفَ من حِدَّةِ هذا الغضب؟
هكذا يبدأُ الإنسانُ السَّيْرَ في الطّريقِ الصّحيح. أمّا أنْ يبقى اهتمامُه مُنْصبّاً على ما حولَه من الأمور الإعتباريّة التي تُحيط به، ويغفلَ عن نفسه، فإنّه قد لا يستيقظ إلّا وملائكةُ الرّحمنِ جاؤوا لإلقاءِ القبضِ عليه. ﴿ولو ترى إذ يتوفَّى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق﴾ الأنفال:50. 

أيُّها الحبيب: خيرٌ لنا أن نستيقظَ الآن، قبل أن تُوقِظَنا سياطُ العدل!
وها هو الرّؤوف الرَّحيمُ يُخبرُنا -عن الله تعالى- بأنَّنا في شهرِ الله تعالى أمامَ فرصةٍ إلهيّةٍ تُمكِّنُنا من تحسينِ الخُلُق.

شهرُ رمضانَ المبارَك، أفضلُ موسمٍ للحصولِ على مَكارمِ الأخلاق. فَهَل نُحاول وبإصرار؟

إذا قرّرنا ذلك، فَلْيَكُن لسانُ حالِ القلب: إلهي، أنا لا أستحقُّ حتّى أن أكونَ من ضيوفِ الرّحمن، ومَن أنا؟ وما عملي؟
إلهي، لا أطرقُ بابَ الإستحقاقِ، بَلْ بابَ التَّفضُّل والكَرَم. عادتُك الإحسانُ إلى المُسِيئين.
أَتوسّلُ إليك بأقربِ خلقِك إليك وأَحَبِّهم. أَتوسّلُ إليك بِحُرْمَة عبادِك الصّالحين، إلّا ما جعلتَني من عبادِك الصّالحين.
إلهي، وما أنا حتّى أَتَخَلَّصَ بِجُهدي -وحدي- من الغضب والغِيبة والحِقد، والرّياء والمِراء والجِدال، وسائرِ الأخلاق السّيئة؟
ها أنا ذا بين يدَيك مُقِرٌّ مُذْعِنٌ مُعترِفٌ بأنّي لا حولَ لي ولا قوّة، إنّما أنا ذَرّةٌ تائهةٌ في هذا الوجود. إلهي، خُذْ بِيَدِي، لا تَكِلْنِي إلى نفسي طَرْفةَ عينٍ أبداً، إنَّك أرحمُ الرّاحمين، نِعْمَ المَولى ونِعْم النَّصير.

***


  ومَن خفّفَ مِنكم في هذا الشَّهر عمّا ملكَتْ يمينُه خفّفَ اللهُ عليه حسابَه.

 يجدر التأمُّل في التَّدرُّج مِن حُسْن الخُلُق إلى التَّخفيف عمّن حولنا، ثمَّ ما سيأتي من كفِّ الأذى، فهي عناوين وإنْ كانت متداخلةً بِلِحاظ، إلَّا أنَّها مُتدرِّجةٌ بِلِحاظٍ آخر، فإنَّ حُسْن الخُلُق مثلاً يَشمل حالاتِ التَّخفيفِ وكفِّ الأذى، إلَّا أنَّ هذا التدرُّج يُنَبِّهنا إلى أنْ نبدأ رحلة التَّحلّي بالخُلُق الحَسَن بتحسين التَّعامُل بعض الشيء، مروراً بالتَّخفيف الذي يَستدعي مستوىً خاصّاً من تحسين التَّعامُل، وصولاً إلى كفِّ الأذى الذي هو بيتُ القَصيد، وبه تُشرِقُ شمسُ حُسْن الخُلُق –لا تحسينُه- في أرضِ النَّفس وسَمَائها والأرجاء، حتّى المَسارِب.
والمُرادُ بِما مَلَكَت يمينه: الرَّقيق، العَبْد أو الأمَة.
ومن الواضحِ أنَّ الحثَّ على التَّخفيفِ الواردِ بعد الحثِّ على تحسينِ الخُلُق في هذا الشّهر المبارك، لا يُرادُ منه التَّخفيفُ عمّا مَلَكَت اليمين فقط، وإنَّما يمتدُّ ذلك لِيَشمل التَّخفيفَ مُطلقاً، أيْ أنْ يُخفِّف الإنسان عن كلِّ مَن هو تحتَ يدِه، فيُحسِّن خُلُقَه، ويُحَسِّن تعاملَه مع كلِّ مَن هو بِحاجةٍ إليه، ويَرتبِط به بِشكلٍ أو بِآخَر.
نَجِدُ في هذه الفقرة كذلك ربطاً بين تخفيف الإنسان عمّا ملكت يمينه، وبين تخفيف الله تعالى الحسابَ عليه في القيامة، أيْ كما نُحاسِبُ نُحاسَب، فعندما يُصِرُّ أحدُنا على أن يُحاسِب غيرَه حساباً عسيراً، وأنْ يَتعامل معه بصعوبةٍ وعُسْرٍ ونَكَد، يُلِحُّ في تَتَبُّع ثغراتِه  وعَثَراتِه والمُداقَّة في كلامه، كأنْ يقول: لِمَ قلتَ كذا؟.. وما هو قصدُك بِكذا؟ ولو أنَّك قلتَ كذا؟ وما قُلتَه يحتملُ هذه الوجوه. وغير ذلك من سُبُل التَّضييق وشدِّ الوثاق من مفردات المِراء والمجادلة والنَّكَد، والحساب العسير، فإنَّ على مَن يَفعل ذلك أن يَتوقَّع أن يكون حِسابُه يومَ القيامة حِساباً عَسيراً، يُعاملُه اللهُ تعالى كما عامل، وللهِ عزَّ وجلَّ أن يَعفو ويَصفح، إلَّا أنَّه إذا جازاه بعملِه وما رَضِيَه لِنفسِه فإنَّ هذا أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً.

عندما يكون الشَّخص حريصاً على اليُسر مع النَّاس، والحسابِ اليسير، فلا يُعقِّد الأمور بل يُسهِّلها، ولا يُضيِّق على غيره، بل يَعتمِد السُّهولة والتَّوْسِعة، ويَتعامل بشَهامة ونُبْل، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُخفِّف عليه حسابه.

ونحن في شهر رمضان المبارك أمامَ دعوةٍ كريمة من رسول الله صلّى الله عليه وآله لِنُحسِّن تعاملَنا مع بعضنا، فَيُحَسِّن الزَّوجُ تعاملَه مع زوجتِه، وأولادِه، وكذلك الزَّوجة، فَمَنْ كان منهما نكداً يقف مع نفسه على أبواب الشهر، ويقول بسلوكه، أو بلسانه وسلوكه: أُريدُ أن أدَعَ أهلي يصومون هذا الشَّهر براحةٍ وهدوءِ بال، وكذلك الجارُ مع جاره خصوصاً عندما تكون هناك بعض الحساسيّات بينهما. نفخَ الشيطان في شُعلة عُود ثقابها، مُغتنماً أدنى فرصةٍ ليُؤجِّج نارَ الخِلاف، ويُبقيها بين الجيران مُضطَرمة.
من أجل سطلِ النّفايات!! -كرَّمكم الله عن الخِلاف لأجلها، وعنها- أو ما شابه من المُهملات، تَنشأُ عَداوةٌ بين الجيران، وتَمتدُّ إلى غِيبة ونميمة، وشجارٍ قائمٍ دائمٍ، وربَّما تَطوَّرت إلى الأسوأ!
إنَّ أهميَّة الإنسان للإنسان، والمُسلم لِلمُسلم، والمؤمن للمؤمن، أهميَّةٌ لا تُجارَى، وفي هذه العلائق يَكْمُن جَوْهَرُ كلِّ عملٍ سياسي وثقافي، فهي مِحْوَرُ كلِّ القِيَم الإجتماعيّة.
هذا إنسانٌ مُسلم فيَنبغي أن أحبَّه، وإذا كان غيرَ مسلمٍ فهو إنسانٌ يَنبغي أن أَبنيَ معه علاقةَ الإنسانِ مع الإنسان، علاقةَ القلبِ مع القلب، أمَّا أن تكونَ علاقتُنا علاقةً كاسِرة، مُفترسَة، فهو بلاءٌ لا يَنسجِم مع ذَرَّةٍ من النُّبْل، ولا مع أدنى مِسحةٍ من الإنسانيّة.
أن يُخفِّفَ الإنسانُ عن مستَخدَمه، الذي هو خادمٌ عندَه في المكتب، في الشّركة، أو خادمة في البيت، أو عاملٌ يُشرِف هو عليه في المَصنع أو الحقل، أو عدد من الموظَّفين يُدير آليَّة عملهم هذا الموظَّف الأعلى منهم رُتبة، أو الأستاذ مع التلامذة ، وما شابه، ذلك هو الإمتحانُ الدَّائم الذي يُحدِّد مدى سلامةِ العقل والقلب واستقامةِ السّلوك، ونِسبة الإنسانيَّة أو نِسبة الحيوانيَّة.

كلُّنا مدعوّونَ في هذا الشّهر أن نُحَسِّن تعاملَنا، ولا يَصِحُّ أن يكونَ تعاملُنا في شهر رمضان كَتَعامُلِنا قبله، وإذا خَفَّفنا عَمَّن حولَنا ومعنا، خَفَّفَ الهُت تعالى عنَّا. إنَّه جزاءٌ يُغري بِبَذْل الجهد. أروعُ ما فيه أنَّه لا يَعود بالنَّفْع إلَّا علينا، فليسَ فيه شائِبَةُ مَصْلحيَّةٍ لِطَرَفٍ آخر، وهكذا هي دائماً كلُّ تعابير الجَزاء الإلهي.
 
مَنْ مِنَّا لا يَطمعُ برحمةِ الله تعالى؟ مَنْ مِنَّا لا يُريدُ أن يكون حسابُه يسيراً؟
مَنْ أرادَ ذلك فإنَّ عليه أن يُخَفِّف عَمَّن هو تحتَ يده. ينبغي أن يجعلَه يَستَشعِر الرَّاحة، ويتنفَّسَ الصُّعداء، لِيَسترِدَّ شعورَه بكرامته.
إنَّ الله تعالى يَرْضَى عَمَّن يَستطيعُ أن يَجعل مَنْ حوله يَشعرون بكرامتِهم، وهذا يعني أنَّ قيمة الصَّوم في حِفْظ الكرامات!
فَكَمْ هي إساءَة الزَّوج الذي يَجعل زوجتَه تَعيشُ شهرَ رمضان وهي تَتَمنَّى سُرعةَ انقِضائه لِتَنْجو من جَحيم زوجها؟!
أَلِأَنَّك صائمٌ فأنتَ دائماً مُتَمَوْضِعٌ في حالة إطلاق النَّار، أو التَّنكيل والبطش؟ إنَّ الآخرين أيضاً صائمون، فلماذا يَجوز لكَ ما لا يَجوز لهم؟
لماذا يَتَصَرَّفُ الإنسان تَصَرُّف الجبَّارين؟ إذا كان مَن هو تحت يدِنا لا يَستطيع أن يَشكونا إلى أحد، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ حاضِرٌ ناظِر.
قد يكون ثَمَنُ تَجَبُّري أو تجبُّرُك على هذا المُستَضعَف الذي لا حَوْلَ له ولا قوَّة، ما وَرَد حول المُتكبِّرين من أنَّ كلّاً منهم يُمسَخُ يومَ القيامة في صورة الذَّرّ، ويُوضَع تحت أَرجُلِ النَّاس يَتَوَطّؤونَه ويَدوسُونَ عليه بأقدامِهم إلى أنْ يَفرُغَ النَّاسُ من الحساب! ثمَّ «إنَّ في جهنَّم لَوادياً لِلمُتكبِّرين يُقال له سَقَر، شكا إلى الله شدَّة حَرِّه، وسأله أن يتنفَّس فأَذِنَ له، فَتَنَفَّس فأَحرقَ جهنّم».  وليس ذلك انتقاماً، بل هو العلاجُ الوحيد الذي يختارُه أيٌّ منَّا بِملءِ إرادته إذا أصرَّ على التَّكبُّر والتَّجبُّر ولم يَتُبْ فَيُقلِع عن هذا العُتوِّ الفرعوني. بِمِقدار تَسَرُّبِ الماء يكون الهَدْم، وبِمِقدار اعوِجاج الغُصن وتَطاوُلِ المُدَّة يكون البَتْر لإعادة الأمور إلى نِصابِها، وبِمِقدار اعوِجاجِ الحديد تكون حاجتُه إلى النَّار والمِطرَقة.
نحن مدعوُّون إذاً إلى سعَة الصَّدر، وإلى التَّخفيف عَمَّن هم تحتَ أيدينا، وليست هذه مهمَّةً سهلة، ولذلك فقد دلَّنا اللهُ تعالى على موسمِها الأفضلِ وهو شهر رمضان.


يُعلِّمنا الإمامُ السجَّاد عليه صلوات الرحمن درساً عمليّاً مهمَّاً جدّاً في هذا المجال، فقد رُوِي عنه عليه السلام، أنَّه كان في غير شهر رمضان يُعامل الخَدَم بِمُنتهى الرِّفق والحَنان، ومن ذلك أنَّه نادى مَمْلوكَه مرَّتَين فلم يُجِبْه، ثمَّ أجابه في الثالثة، فقال له: يا بُنَي، أمَا سمعتَ صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالُك لم تُجِبني؟ قال: أَمِنْتُك، فقال: ألحمدُ للهِ الذي جَعَل مَمْلوكي آمِناً منِّي. وَكَسَرَتْ جاريةٌ له قصعةً فيها طعام، فاصفرّ وجهُها فقال: إذهبي، فأنتِ حُرَّة لِوَجه الله.
 
إلَّا أنَّ تعامله عليه السلام معهم في شهر الله تعالى، كان يَتَّخِذُ مَنْحىً تصاعديّاً من نوعٍ آخر، حيث إنَّه كان إذا دخلَ شهرُ رمضان هيَّأَ دفتراً يَكتبُ فيه أخطاءَ المُستخدَمين عنده، من العبيد والإماء -الّذين كان يعتقُهم في كلِّ عامٍ بعد أن يكونوا قد أمضَوا سنةً في رعايتِه النَّبويَّة الخاصّة- وعندما يُخطِئُ أحدُهم لا يُطالبه عليه السلام، وإنَّما يُدوِّن خَطَأه في هذا الدَّفتر.
ويُخطئُ مرّة ثانية وثالثة، وهكذا .. ولا يُطالبُه أبداً، وإنَّما يُدَوِّن عليه السلام ما حَصَل في هذا الدفتر، فإذا كانت آخرَ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان المبارك طالب كُلّاً منهم وأَحضَرَهُم عليه السلام، جميعاً، وأَمْسَكَ الدَّفتر بيده وقال: يا فُلان أنتَ أخطأْتَ في اليوم الفلاني، هل طالبْتُك؟ فيقول: كلَّا. وأنتِ يا فلانة أخطأتِ في اليوم الفلاني، هل طالَبْتُكِ؟ وهكذا إلى أن يَسألهم جميعاً ويَعترفوا بأنَّهم أَخطأوا ولكنَّه لم يُطالِبهم.
 ثمَّ يقوم عليه السلام وسطَهم ويقول لهم: «إرفَعوا أصواتَكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنَّ ربَّك قد أَحصَى عليك كلَّ ما عَمِلْتَ، كما أَحصَى علينا كلَّ ما عَمِلْنا، ولديه كتابٌ يَنْطِقُ عليكَ بالحقِّ، ولا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً مِمَّا أَتيتَ إلَّا أَحصاها، وتَجِدُ كلَّ ما عملتَ لديه حاضراً، كما وجدنا كلَّ ما عملْنا لديكَ حاضراً، واصفَحْ كما تَرجو من المَليك العَفْو، وكما تُحِبُّ أن يَعفوَ المَليكُ عنك، فاعفُ عنَّا تجدْه عَفُوّاً، وبكَ رحيماً، ولكَ غفوراً، ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً. كما لديك كتابٌ يَنطق علينا بالحقِّ، لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً مِمَّا أَتيْناها إلَّا أحصاها. فاذكُر يا عليّ بن الحسين ذُلَّ مقامِك بين يدَي ربِّك الحكَمِ العَدلِ الذي لا يَظلم مِثقالَ حبّةٍ من خَرْدَل، ويأتي بها يومَ القيامة، وكَفى باللهِ حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفَحْ يَعْفُ عنكَ المليكُ ويَصْفَح، فإنَّه يقول: ﴿..وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم..﴾ النور:22. ".." وهو ينادي بذلك على نفسِه ويُلَقِّنُهم، وهم ينادون معه، وهو واقفٌ بينهم يَبكي ويَنوح، ويقول: ربِّ إنَّك أمرتَنا أن نَعفو عَمَّن ظلَمَنا فقد ظَلَمْنا أنفسَنا، فنحنُ قد عَفَوْنا عَمَّن ظَلَمَنا، كما أَمَرْتَ، فاعفُ عنَّا فإنَّك أَوْلى بذلك منَّا ومن المأمورين، وأَمَرْتَنا أن لا نَرُدَّ سائلاً عن أبوابِنا، وقد أتيناك سُؤّالاً، ومساكين، وقد أَنَخْنا بفِِنائك وببابِك، نَطلبُ نائلَكَ ومعروفَكَ وعطاءَكَ، فامْنُنْ بذلك علينا، ولا تُخيِّبْنا فإنَّك أَوْلى بذلك منَّا ومِن المأمورين. إلهي كَرَّمتُ فَأَكْرِمْني، إذ كنتُ من سُؤّالك. وَجُدْتَُ بالمعروف فَاخْلطْني بأهلِ نَوالِكَ يا كريم..».
ومن الواضح أنَّه لم يكن هدفُه عليه السلام من إعداد هذا الدَّفتر وتسجيلِ هذه الأخطاء والمُطالبة الشَّكلِيَّة بها، إلَّا في ضَوْء أنَّ علينا أن نَنْتَبِه إلى أنَّ أخطاءنا تُحصى ﴿أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوه﴾، لِنُدْرِكَ من خلال ذلك أيضاً أنَّه ليس المطلوب فقط، مجرَّدَ أن يُخفِّف الإنسانُ عمّا مَلَكَتْ يمينُه، وعَمَّن هو تحتَ يدِه من دون أن يَتَّعِظ ويتأثَّر سلوكُه إيجاباً بهذه الحقيقة، وإنَّما المطلوب أن يستثمر هذا التخفيف ويقول: يا إلهي، أنا العَبْدُ المَحدودُ عفَوْتُ، ففي اليوم الفلاني أَخطأ فلانٌ معي ولم أُعاقِب، وفي اليوم الفلاني أَخطأ آخرُ بِحَقِّي ولم أُعاقِب، وأنتَ يا إلهي، المُطلَق، أكرمُ الأكرمين، وما أحْوَجَني إلى عفوِك، فاعفُ عنّي.

إنَّنا في هذا الشهر المبارك أمامَ هذه الدّعوة المباركة والكريمة، فهل نَستعدّ من الآن لِنتعامل مع مَن هُم تحت أيدينا بأُسلوبٍ جديد، وبطريقةٍ أخلاقيّةٍ نبيلة؟

هل نُقَرِّر أن نَخرجَ من أَسْرِ عاداتنا؟
إذا كان الغضب يستبدُّ بنا فيستفزُّنا الشيطانُ ولا نَعرف ماذا نقول في حالة غضبنا، فهل نُحاول أن نمنع أنفسنا من الإستسلام لِسَوْرَةِ الغضب؟

هل يحاولُ  كلٌّ منَّا أن يقولَ للشّيطان ولو مرَّةً واحدة: لن أدَعَك تَسْتَفِزَّني. قد أَفشَلُ في المرّة الأولى والثانية، قد أَفْشَلُ عشرين مرّة، مائة مرّة، إلَّا أنَّ المُهمّ هو هذا القرارُ بِبَذْلِ الجُهْدِ للإفلات من أَسْرِ الشَّيطان. وعندها سَيُصبح الفَشل -ولو مئاتِ المرّات- حافزاً لمحاولاتٍ جديدة، وقد تكون بِمَخزونٍ من العَزْمِ أَقوى، ولا بُدّ يوماً أن تنجحَ المحاولة، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يتركُنا، وسيأخذُ بأيدينا، إنَّه أكرمُ الأكرَمين.

***

  ومَنْ كفَّ فيه شرَّه كفَّ اللهُ عنهُ غضبَه يومَ يَلقاه

تقدَّمت الإشارةُ إلى أهميّة التدرُّج من تحسين الخُلُق إلى التَّخفيف، وصولاً إلى كفِّ الأذى، الذي يُشكِّل التّخفيفُ عمّن هو تحت الإشرافِ أبسطَ مستوياته، كما يُشكِّل هو بدوره أعلى مستويات تحسينِ الخُلُق، ومستوىً جيّداً من مستويات الخُلق الحَسَن، وإنْ لم يكن الأعلى الذي هو مواجهةُ الإساءة بالإحسان: ﴿..وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم﴾ التغابن:14.

بعبارةٍ أوضح نحنُ أمام القائمة التالية:
1- تحسينُ الخُلُق، لِيُصبِح الخُلُق أحسنَ ممّا كان، ولا يعني ذلك حتماً الوصول إلى التَّحلّي بالخُلُق الحَسَن، أيْ الخُلُق الذي اكتمل حُسْنُه، وإنّما يعني مثلاً أنّ مَن كان خُلُقه سيِّئاً بدرجة 90% مثلاً، فأصبح سيِّئاً بدرجة 80% فقد حسَّن خُلُقَه عشرَ درجات، إلّا أنَّ الطابع العامّ له ما يزال هو سُوء الخُلُق.
2- التَّخفيف عمَّن حولنا، وهو عادةً يَستدعي درجةً متقدِّمةً من «تحسينِ الخُلُق» لِمَن يغلب عليه سُوء الخُلُق كما هو الغالب فينا بشكلٍ عامّ، وهو نوعٌ من أنواع «كفّ الأذى» إلّا أنّه أَبسَطُ مستوياته.
3- كَفُّ الأذى، وهو يَستدعي الوصول إلى مرتبة عالية من تحسين الخُلُق أو التَّصرُّف بِما يتناسب معها، بل هو أعلى مراتب تحسين الخُلُق. 
4- حُسْن الخُلُق، وهو على مراتب تبدأ بالتَّحسين لِتَصِل إلى «الحُسْن»، أيْ يبدأُ سيِّئُ الخُلُق منّا بِتَحسين خُلُقه إلى أن يَصِل إلى مرتبةٍ تُصبحُ نسبةُ الأخلاق الحَسَنة فيه هي الأكثر، فيُقال مثلاً: أخلاقُه حَسَنة بنسبةٍ لا بأسَ بها. وينتهي بالوصول إلى اكتمال الحدّ الأدنى من حُسْن الخُلُق.
5- الأخلاقُ الفاضلة، أو مكارِمُ الأخلاق، ويَبدأُ حدُّها الأدنى بِحُسن الخُلُق بنسبة كبيرة وغالبة، ويبدأ حدُّها الأعلى بِمُواجهة الإساءة بالإحسان، ويجِد المتأمِّلُ في النُّصوص من الآيات والرِّوايات الفرقَ بوضوح بين ما يَجوز الوقوف عنده وهو الحدّ الأَدنى، وما ينبغي الوُصول إليه وهو الحدّ الأعلى، وهو بدوره على مراتب كما لا يَخفى.
ويوضِحُ المستويَين الأخلاقيَّين المذكورَين الجمعُ بين ما ورد في آيتَين، قال تعالى: ﴿..فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم..﴾ البقرة: 194، ﴿..وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾ النور: 22 . 
في ضَوْء ما تقدَّم، يَتَّضح أنّ المطلوب منّا في شهر رمضان أنْ نكُفَّ الأذى عن النَّاس، وأنّ المدخل الذي يُساعد على ذلك هو القرارُ بِتَحسين الخُلُق، والتَّخفيفُ عَمَّن حولنا، وصولاً إلى كفِّ الأذى الذي هو بدوره نتيجةٌ يُوَفَّق لها مَن لا يَتصرّف في شهر رمضان مع الآخرين كما كان يتصرَّف معهم قبله، لِيُراعيَ حُرْمة شهر رمضان، وحُرْمة ضيافة الله تعالى، ويَبذر في نفسه بِذْرة المستويات العالية من حُسن الخُلُق في هذا الشّهر الكريم، موسمِ بذار الأخلاق الفاضلة.


عندما يَتَحدَّث عُلماء الأخلاق عن الأذى يُؤكِّدون أنّه من أخطر العَقَبات في طريق تزكية النَّفس. مَن أراد أن يُزكِّي نفْسَه فليس عليه إلّا أن يَكُفَّ أذاهُ عن الآخرين، ويتحمّل جَفاءَ الخَلْق وأذاهم. المهمّ أن لا يَصدر منه أذًى لِأحد، وتُوضح الرِّوايات أنّ هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن. من ذلك:
1- عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّ الله تعالى يقول في الحديث القدسي: مَن أَهانَ لي وليّاً فقد أَرْصَدَ لِمُحاربتي».
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال الله تعالى: [في الحديث القدسي]: لِِيَأْذَنْ بِحَرْبٍ منّي مَن آذى عبديَ المؤمن».

قال العلّامة المجلسي، بعد ذكر الحديث الأوّل:
«المُراد بالوليِّ المُحِبُّ المبالِغُ بجُهدِه في عبادة مولاه، المُعرضُ عمّا سواه. «فقد أرصد» أي هيّأ نفسه أو أدوات الحرب ".." ومِن فوائد هذا الخبر التَّحذير التامّ من أذى كلٍّ من المؤمنين، لِاحتمال أن يكون مِن أوليائه تعالى كما روى الصَّدوق بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إنّ الله أَخفَى وليَّه في عباده، فلا تَسْتَصْغِرَنَّ شيئاً من عباده فرُبَّما كان وليَّه وأنت لا تَعلم».  وقد تقدّم مزيدُ إيضاح.
ولا شكّ أنّ استحضار هذين الحديثَين القُدسيَّين، يساعدُنا جدّاً على كفِّ الأذى عن النَّاس، فمَن مِنّا لا يَخشى-إذا ظلّ مُسترسِلاً في طريقتِه في الغضب وفي استفزاز الآخرين، أو في الإستجابة لاستفزازهم- أن يكون مَن آذاه ولو مرّةً من هذه المرّات العديدة ولِيّاً من أولياء الله، فيُعلنَ اللهُ تعالى الحَرْبَ عليه، نعوذ بالله تعالى من إعراضِه، فكيف بإعلانِه الحَرْب!!!


ومَن هو الوَلِيّ؟ أَهُوَ مكتوبٌ على جبهتِه «وليُّ الله» بحيث يراها كلُّ شخصٍ فيَجْتَنِب خطورةَ ما يَنتجُ عن إهانته؟ أم أنّه قد يكون أيَّ مؤمنٍ ونحن لا نَعلم، وربّما لا نتوقّع؟
قد تكونُ الزَّوجةُ من أولياء الله، فإنْ آذاها زوجُها أو أهانَها استَحقَّ أن يُعلِنَ اللهُ تعالى الحَرْبَ عليه!!
وقد يكون الزَّوجُ وليَّ الله!

قد يُبتلَى الإنسان بمرضٍ لأنّه أهانَ زوجتَه، أو يخسرَ كلَّ أمواله، أو يُطرَد من عملِه، أو يواجهَ ما هو أَسوَأ، كلُّ ذلك في النَّتيجة لمصلحتِه حتّى لا يُواجَه بعقوبة الآخرة، أو يُواجِهَها مخفَّفةً جدّاً.
وكذلك الزَّوجة عندما تُهين زوجَها وهو في الواقع وليٌّ من أولياء الله عزَّ وجلَّ، حتّى إذا كانت لا تُصدِّق بذلك من قريبٍ أو بعيد، فضلاً عن أنْ يَخطرَ لها بِبَال.
كذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى أيّ شخص نَراه في الطَّريق أو في محلّ العمل ومهما كان عمله مُتواضعاً، قد نُهينُه، ويكون هذا الشخص «العادي» وليّاً من أولياء الله عزَّ وجلَّ، فإذا بهذا الذي أهانَ قد أعلنَ الحَرْب على الله عزَّ وجلَّ، وخاضَها عمليّاً، فيُعلِنُ اللهُ الحَرْبَ عليه!!
إنّ إعلانَ الحَرْبِ من قوَّةٍ بشريّةٍ كأمريكا يَجعل الكثيرين يَخافون، بل إنَّ أكثر الدُّوَل ترتَجفُ من الشَّيطان الأكبر، لِمُجَرَّد احتمالِ المُطالبةِ بمُخالفةِ الإرادة الأميركيّة، مع أنّ باستطاعةِ مؤمنٍ بَدْريّ، محمّديٍّ حسينيّ، بِحَوْل الله وقوَّتِه أن يُرعِبَ أمريكا، كما حدث في تفجير مقرّ المارينز، وكما يُمكن أن يحدث في أيّ وقت، لأنّ الخَيْر في هذه الأمّة كثير، وما يزال وسَيَبقى إلى يوم القيامة كما وعدَنا اللهُ عزَّ وجلَّ.
حقّاً.. أَلَسْنا مدعوِّين إلى التّفكير الدّائم بمعنى «فَلْيَأْذنْ بحربٍ منّي مَن آذى عبديَ المؤمن».

3- عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن آذى مؤمناً فقد آذاني».
من الضروريّ أن يُلقِّن كلٌّ منّا نفسه فيقول لها: عندما أكون جالساً في مجلس وأؤذي مؤمناً فأكون بذلك قد آذيتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، فكيف أَدَّعي أننّي أَهتمُّ بتربية نفسي إذا كنت أُؤذي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله؟ وأيُّ خجلٍ يَغمُرُني إذا واصلتُ أذى هذا المؤمن وذاك، عندما أُردِّد: أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله.
4- عن الإمام زين العابدين عليه السلام: «كفُّ الأذى مِن كمالِ العقل، وفيه راحةُ البَدن عاجلاً وآجلاً».
العاقل هو من لا يُؤذي، ويَكفُّ أذاه عن الناس، بالإضافة إلى أنّ عقله مُكتَمِل فبَدنُه في راحة، لأنّه إنْ آذى الآخرين، فإمّا أنّهم يَسْتَوْفون منه في الدُّنيا ذلك وزيادة، وإمّا أن يَستوفيَه لهم الله تعالى في الدُّنيا أو في الآخرة، خاصّةً إذا كان المظلوم الذي آذاه لا يجِد ناصراً إلّا الله سبحانه، أمّا إذا كَفَّ أذاهُ عن الآخرين، فعقلُه مُكتمِل وبَدَنُه مرتاحٌ في الدُّنيا والآخرة، ولا راحةَ للبدن إلّا براحةِ النَّفْس كما هو واضح، ولكن قد يرتاح البَدَن ولا ترتاح النَّفس، و يبدو أنّ الإمام السجّاد عليه السلام تحدّث عن نتيجة راحةِ النَّفْسِ ليُنَبِّهنا على حصولِها بأفضل وجه، وهي –بعدُ- راحةٌ في الدّارَين، عاجلاً وآجلاً؟

5- عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَن نَظَرَ إلى مؤمنٍ نظرةً يُخيفُه بها، أخافَه اللهُ تعالى يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه».
يا نفس، هذا الرّعبُ الذي عاشَه المؤمنُ منّي، سوفَ أدفعُ ثمنَه يومَ القيامة، فَيُدْخِلُ اللهُ -والعياذ بالله تعالى- الرُّعبَ إلى قلبي. إذاً، فَلِماذا أُؤذي؟


 

***




   ومَن أكرمَ فيه يتيماً أَكْرَمَه اللهُ يومَ يَلْقاه

تقدّم الحثُّ على التحنُّن على الأيتام في نفس الخُطبة المباركة، بقوله صلّى الله عليه وآله: «وتَحَنّنوا على أيتام الناس يُتَحَنّن على أيتامكم»، وقد ذكرتُ هناك أنّ إكرام اليتيم بالتَّحنُّن عليه يُذكَر في هذه الخطبة مرَّتين، وكذلك صِلَةِ الرَّحِم الذي يأتي الحديث عنها مرّةً ثانية بعد هذه الفقرة مباشرة.
مطلوبٌ منَّا أن نهتمَّ بإكرام اليتيم والتَّحنُّن على اليتيم.
النُّقطة المركزيَّة التي تلتقي عندها نصوصٌ كثيرة، هذا منها، أنّ على كلٍّ منّا أن يَحرصَ على وجود الرّحمة في قلبِه، وتنميةِ هذه الرّحمة، ولدى الرُّجوع إلى النُّصوص نرى بوضوح أنَّ الدِّين لا يُمكِنُ أن ينفصلَ عن رِقّةِ القلب، عن الحنان والمحبّة، عن العطفِ والرَّأْفَةِ والرَّحمة. في المقابل، فإنّ الكُفْر بالله عزَّ وجلّ لا يُمكن أنْ يَنفصِل عن قسوةِ القلب ﴿..فويلٌ للقاسية قلوبهم..﴾ الزمر:22.

هكذا نَجِدُ أنفسَنا أمامَ طريقٍ قصيرٍ وسهلٍ لاختبار مَدَى تديُّننا، وهو التأمُّل في حَجْم الحَنان في قلوبنا لِنَعرف من ذلك حَجْم تديُّنِنا.
قد يكون الإنسانُ في فترةٍ من الفترات غيرَ ملتزمٍ بالأحكام الشَّرعيّة، إلّا أنّه إذا رأى في قلبِه حناناً ورحمةً وعطفاً، فباستطاعتِه أن يَعرِفَ من خلال ذلك أنّه إلى خيرٍ إنْ شاء اللهُ تعالى.

يُقابلُ ذلك أنّنا إذا رأينا شخصاً «مُتديِّناً»، بمعنى أنّه يُصلِّي ويَصوم ويَهتمُّ بالطّهارة والنّجاسة الظاهريَّتَين، إلَّا أنَّه قاسي القلب، فينبغي أن نَخافَ عليه، والأَََوْلى منه أن يَخاف أحدُنا على نفسه إذا كان كذلك، لأنّ قسوةَ القلبِ تجعلُ الإنسان يَبتَعِد عن الله عزَّ وجلَّ، ورِقّة القلب تَجعله يَقترب من الله تعالى.
يُمكننا أنْ نفهم من الرِّوايات التي تؤكّد على أنّ الدِّين هو الحُبّ مدى أهمّيةِ رِقّة القلب والرَّحمة والرَّأفة، ومَدى خُطورةِ قَسْوَة القلب، وقد ورد في الرّوايات أنّ مَسْحَ رأس اليتيم علاجٌ لِقَسوةِ القلب.
ما يَحرص عليه المؤمن في شهر الله تعالى هو أنْ يَخرجَ من قَسوة القلب، ويُصبحَ صاحبَ القلبِ الشَّفّافِ الرَّؤوفِ الذي يَنبض بكلِّ معاني الحُبِّ والحنان والعَطْف، أو يُصبحَ على الأقلّ في الصِّراطِ المؤدِّي إلى هذا المُستوى الإنساني الرّاقي.
ينبغي أن نَهتمّ في شهر الله تعالى بشكلٍ خاصٍّ بإكرام الأيتام، وينبغي أن يُدخِل كلٌّ منّا ذلك في حسابِه، ويَتعاملَ معه كَعِلاجٍ لِقسوةِ القلب، والإستزادةِ من رِقَّته، والتَّخلُّصِ من أَدْرانِ الذُّنوب وآثارِها الخطيرةِ التي تَفْتِكُ بالقلب، فتَجعله كالحجارةِ أو أشدَّ قَسوة.
إنَّ مِن حُسْنِ الإتّباع لِلمُصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله حُسْنُ الإقتداء به، وهو يَتوقّف على جَوْدَةِ إصغاءِ القلب إلى توجيهاتِه النَّبويَّة، وبشكلٍ خاصّ ما أكّد الكلام حوله في خطبته صلّى الله عليه وآله.
 

***

  «ومَن وَصل فيه رَحِمَه، وَصَلَه اللهُ برحمتِه يوم يَلقاه، ومَن قَطَعَ فيه رَحِمَه قَطعَ اللهُ عنه رحمتَه يَوْمَ يَلقاه».

تقدّم الحديث بالتَّفصيل حول أهمّية صِلَةِ الرَّحِم في الوَقفة مع فقرة: «وَصِِلُوا فيه أرحامَكم». هنا نَجِدُ أنفسَنا أمام حديثٍ عن صِلَة الرَّحِم وحديثٍ عن قَطْع الرَّحِم.
لو فرضنا أنّ شخصاً لم يَصِلْ رحِمَه في شهر رمضان فإنّه يَخسر، ولكن إذا قطعَ رَحِمَه في شهر رمضان، فستكون الخسارةُ أَكبر بكثير.


إذا كانت هناك مشكلةٌ بين الأرحامِ، وبَقيتِ المشكلة على ما هي عليه في شهر رمضان، فإنَّ هذا أَسهل بكثير من أنْ يُبادرَ أحدُ الطّرفَين إلى قَطْع رَحِمه في شهر رمضان.

كأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعد أن أكّدَ أهمّيةَ صِلَة الرَّحِم، أراد تحصينَ مُناخِ عمليّةِ صِلَةِ الرَّحِم، فلو أنَّ أحداً تأثّر بالحثِّ على صِلَةِ الرَّحِم، وذهب إلى أحد أقاربه لِيَصِلَ رَحِمَه، فإنّه ورَحِمَه معاً يُصبحان أمامَ امتحانِ قَطْع الرَّحِم، لأنّه قد يَسمع كلمةَ عتاب فيُستفَزُّ فيُسمعُه أضعافَها، كما أنّه قد يواجَه مِن رَحِمه بالصَّدِّ أو الطَّرْد، وللحيلولة دون وقوعِ ذلك وحَذَراً من مخاطرِه، كان لا بُدَّ من وقفةٍ خاصّةٍ عند هذه الفقرة «ومَن قَطَعَ فيه رَحِمَهُ، قَطَعَ اللهُ عنه رحْمتَهُ يَوْمَ يَلقاه». مع أنّها ليست خاصّة بالقطْعِ الذي يأتي في سِياق محاولة الوَصْل.
وُتعتبر صِلَةُ الرَّحِم النُّقطة المركزيّة التي تُبنى عليها عمليّة التَّواصُل الإجتماعي بشكلٍ عام، وتبلغ أهمّيةُ صِلَة الرَّحِم إلى حدِّ أنَّ الله عزَّ وجلَّ قَرَنَ الأمر بالتَّقوى بالإهتمام بالرّحِم: ﴿..واتّقوا الله الذي تساءَلون به والأرحام..﴾ النساء:1.
مَن يَعمد إلى قَطْع رَحِمه في ضيافة الله عزَّ وجلَّ فقد أساء إساءةً يَستحقُّ معها أن يَقطعَ اللهُ رحمتَه عنه يوم يَلقاه!
طيلة شهر الله تعالى، ينبغي أن يكون الهمُّ الدّائمُ لِلمؤمن هو تَرمِيمُ علاقتِه بالأرحام. إنّه يُريدُ الوُصولَ إلى التّقوى، وهي مقرونةٌ بِصِلَة الرَّحِم، فلا انفصالَ بينهما. التَّساهُل في صِلَة الرَّحِم، والإقامةُ على القطيعة، علامةُ عدمِ تحصيلِ التّقوى.
 

***

  ومَن تَطَوَّعَ فيه بصلاةٍ كَتبَ اللهُ له براءةً من النَّار

والمعنى: مَن صَلّى صلاةً مستحبّةً، وتَطَوَّع بها دون أن تكونَ واجِبةً عليه، كانت هذه الصلاةُ المُستحبَّةُ براءةً له من النَّار.
شهرُ الله تعالى شهرُ الرَّحمة والمغفرة، ومِن مَظاهر الرَّحمة في هذا الشَّهر المبارَك أنّ مَن صَلَّى صلاةً مُستحبّةً فَلَهُ هذا الثَّوابُ العظيم، يُمكنُنا أن نُطلَّ من خلال هذا النصّ على أهميَّة المُستحبّات في صياغة شخصيّة الإنسان.
 
 قد يَتَصوّر بعضُنا أنّ علينا أن نتحدّث عن فِعْلِ الواجبِ وتَرْكِ الحرام، وأنّ المُستحبّاتِ لا أولويّةَ للحديثِ عنها والحثِّ عليها، خاصّة وأنّنا لا نأتي بِكُلّ الواجبات، ولا نتركُ كلَّ المحرمات.

الصحيح، أنّ المستحبّات تُساعدُنا على الإتيان بالواجبات، ومَنْ عوَّد نفسه على الصلاة المُستحبّة سَيَلْمَسُ أنّ صلاته الواجبة قد تحسّنت كيفيَّتُها، وأصبحت بِمستوىً أفضل، خصوصاً إذا صلّى بعضَ الصلوات المُستحبَّة الطويلة كصلاة جعفر الطيّار، أو صلاة الرّسول صلّى الله عليه وآله، أو صلاة أمير المؤمنين، أو الزهراء عليهما السلام.
عندَ ذلك تُصبحُ صلاتُه العاديّة -التي يُصلِّيها يوميّاً- تُؤدَّى بكيفيّة أُخرى. يتحسّنُ خشوعُه في الصّلاة، أو يبدأ. كذلك قدرتُه على التّركيز والتَّوجُّه.
وبِقَطع النَّظر عن ذلك، وبما أنَّ كلَّ صلاةٍ مُستحبَّةٍ في شهر الله تعالى، تستوجِبُ براءةً من النَّار، فمِن الطبيعيّ جدّاً أن نحرصَ على أكبر عددٍ مُمكنٍ من هذه البراءات، خصوصاً وأنَّنا قد نحرقُ في يومٍ واحد «براءاتٍ» عديدةً من النَّار، بما تَكسِب أيدينا من الذُّنوب، ونَحْتَطِب على ظهورنا من الأوزار.  أللَّهمَّ أعِنّا على أنفسنا.
قد يُتصَوَّر أنّ ثواب الصّلاة الواجبة أقلّ، فهي تَعدِلُ سبعين صلاة
-كما يأتي- بينما المُستحبّة تعادل براءة من النّار، لكنّ الصحيح أنّ المُستحبّة إنّما تُقبَل ويكون لها هذا الثّواب إذا قُبلت الواجبة التي «إنْ قُبِلَتْ قُبِلَ ما سِواها»، والله تعالى العالم.

***

  ومَن أدَّى فيه فرضاً كان له ثوابُ مَن أدَّى سبعين فريضةً فيما سِواه من الشُّهور

إذا كان حالُ الصَّلاة المُستحبَّة في شهر رمضان هو ما تقدَّم، فكيف بالصَّلاة الواجبة؟


والسؤال هنا: أيُّ صلاةٍ واجبةٍ هي التي تُقبَل ويَنبغي أن نُصلِّيها؟


تَقدَّم في الحديث حول فقرة «وارفعُوا إليه أيديَكم بالدُّعاءِ في أوقاتِ صلواتِكم» أنْ نَحرصَ على أن تكون الصَّلاة صلاةً بكلِّ معنى الكلمة، بالمحافظة على أوّل الوقت وعلى حُضور القلب والخُشوع في الصَّلاة، أمّا إذا صلّى الإنسان وهو لا يَعلم ما يقول، فإنّ هذه الصَّلاة بِطبيعة الحال لا تُقبل، وإنّما يكون المُصلّي قد أََسْقَط الواجب، أي أنّه لا يُعطى عليها ثواباً، ولا يُحاسبُ حسابَ مَن لا يصلّي.

يجب أن يَستحضِرَ القلبُ طيلة شهر الضّيافة الإلهيّة أنّ كلّ آداب الضِّيافة تَصُبُّ في تقوية علاقة المؤمن بالله تعالى، أي تَصبُّ في «التوجُّه» و«الإقبال على الله»، وهو جَوْهر الصَّلاة والسِّر.

يُحتِّمُ ذلك أن يكونَ مِحْوَرُ حركةِ القلب وهَمِّه الأكبر طيلةَ الشّهر الكريم: أللَّهمَّ اجعَلْنا من المُصلِّين، الذين هم على صلاتِهم دائمون، وعلى صلواتِهم يُحافظون.


 

***


  ومَن أكثرَ فيه من الصَّلاة عليَّ، ثَقَّل الله ميزانَه يومَ تَخِفُّ الموازين

نحن إذاً أمام دعوةِ المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله إلى أن نُكثِر في شهر الله تعالى من الصّلاة على النَّبيّ وآله.
وقفتُ في ما مضى عند أهميّة الصلاة على النبيّ وآله صلّى الله عليه وآله، وأنَّها تُثقِّل الميزان كما في غير هذه الرواية، وأشرتُ إلى أنّ ذكر «أللَّهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد» في غاية الأهمّية، لأنّه يجمع بين ذكر الله عزَّ وجلَّ، وذكْرِ رسوله المصطفى صلّى الله عليه وآله، وذِكْرِ آل البيت عليهم صلوات الرَّحمن، فلْنُكثِر من هذا الذِّكر الكنز ما استطعنا، ومِن أهمِّ الطُّرُق التي يُمكن أن يؤدَّى بها هذا الذِّكر النَّوْعيّ أن يقول الذَّاكِر مائة مرّة «أللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ» ويُهديها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ مائة ثانية ويُهديها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ مائة ثالثة يُهديها إلى الزهراء عليها السلام، ثمّ يبدأ بالإهداء إلى سائر الأئمّة عليهم السلام، إلى الإمام المُنتَظَر أرواحنا لِتُرابِ مَقدمِهِ الفِداء.
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأتي في يوم واحدٍ بألف وأربعمائة مرّة «أللّهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ»، فَلْيَأْتِ بها بهذا التَّسلسُل ولو في عدّة أيام.
والسَبب في أهمّية هذه الطريقة، أنّ أيّ عمل يَكتسِب أهمّيته من علائقِه، فإنّ القلم العاديّ الذي يُمسِكُه شهيدٌ ويَكتُب به ولو مرَّة واحدة، يُصبح مُميَّزاً بسبب هذه العلاقة بالشَّهيد، فكيف بِذِكْرٍ له هذه المكانة الرفيعة بين الأذكار، يُصبح له بالإهداءِ إلى المعصوم نوعُ علاقةٍ به؟!

بديهيٌّ أنَّ صِدْق النيَّة في الإهداء وعُمْقَها، ودرجةَ معرفةِ المَعصوم، ومَرتبةَ إيمان الذّاكر، هي جميعاً عوامِلُ مُساعِدة في رَفْعِ مستوى الذِّكر، ونوعِ علاقتِه بالمَعصوم.

حولَ الحديثِ الشّريف «لا يزال الدُّعاء مَحْجوباً حتّى يُصلِّي على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ» قال آية الله المَلكي التبريزي عليه الرحمة:

«أمرُ الصلواتِ عظيم، وهي من شؤونِ الولاية، فكما أنَّ الله تعالى لا يَقبل الإيمان إلّا بالإقرار بهم وبولايتِهم صلواتُ الله عليهم، فكذلك أَمْرُ الدُّعاء والصَّلوات. وَلْيُعلَمْ أنّ الصلواتِ مثلَ غيرها من الأعمال، لها صورةٌ ورُوح، وروحُها: 1- أن يُعرَف شأنُهم ومقامُهم من الله تعالى. 2- وأنَّهم الوسائلُ والشُّفعاء. 3- وأنَّ اللهَ لا يقبلُ أحداً إلَّا بالتّوسُّل بهم. 4- وأنّهم عليهم السلام أَوْلى بالمؤمن -حقيقةً- من نفْسِه. ورُكنُ هذه الأمور الأربعة هو المعرفة الجزئيّة الحقيقيّة التي تَظهرُ آثارها في العمل بِوِلايتِهم، فإذا تحقّقت المعرفةُ المؤثّرة، وصلّى العبدُ عن هذه المعرفة مرّةً واحدةً عليهم، صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله عشراً بل وأكثر، إلى ما لا نهاية، وإذا وَقَعَتْ في الدُّعاء استُجيبَ له».

مِن آداب الصَّلاة على النبيّ وآله في المحافل العامّة وحيث يُمكن ذلك، رفعُ الصوت بالصَّلاة على النبيّ وآله، حيث وَرَد عن المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله: «إرَفْعُو أصواتَكم بالصّلاة عليّ، فإنّها تَذهَبُ بالنِّفاق». 

بالإضافة إلى هذه الخصوصيّات الكثيرة لهذا الذِّكر العظيم، فإنّ المجتمعَ الذي تكثُر فيه الصلاة على النبيّ وآله مُجتمَعٌ مُحصَّن، والبيت الذي تَكثُر فيه الصَّلاة على النبيّ وآله بيتٌ مُحَصَّن، كذلك الشَّخص الذي يُكثِر من الصَّلاة على محمّدٍ وآل محمّدٍ كذلك يُحَصِّن نفسه من مَسِّ الشَّيطان.

***

  وَمَن قَرَأَ فيه آيةً من القرآنِ كانَ له مثلُ أجرِ مَن خَتَمَ القرآنَ في غيرِه من الشُّهور

تأتي وقفةٌ حول أهميّة قراءةِ القرآن في شهرِ رمضانَ المبارك. ما أريدُ أن أذكرَه هنا بإيجاز هو التّركيزُ على أن نبدأَ من الآن بترتيبِ وضعِنا والإستعدادِ التامّ، بحيثُ نستطيعُ بدءاً من أوّل ليلةٍ من ليالي هذا الشّهر المبارك أن نقرأَ القرآنَ الكريم كثيراً.

أهمُّ عملٍ في هذا الشَّهر هو الإكثارُ من تلاوةِ كتابِ الله تعالى.
ليس أمراً عاديّاًً أبداً أن يكونَ مَن قرأَ فيه آيةً من القرآن، فإنَّ له مثلَ أَجْرِ مَن ختمَ القرآنَ في غيرِه من الشُّهور.
إنّه ثوابٌ عظيمٌ جدّاً.

لذلك نَجِدُ أنّ أئمّتَنا عليهم السلام كانوا دائماً يحرصون على الإكثار من تلاوةِ كتاب الله تعالى في شهر رمضان، وكذلك هي سيرةُ علمائنا الأبرار.
من هنا تَعَيَّن المزيدُ من الحرصِ على صرفِ أكبر مقدارٍ ممكنٍ من الوقت في تلاوة كتاب الله تعالى، مع مزيد العناية بالتدبُّر ﴿أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها﴾ محمد:24، والجمعُ بينهما ممكنٌ بأنْ يكونَ لكلٍّ منهما وقت، وأن يرافقَ القراءةَ التَّدبُّرُ قدْرَ الإمكان.
وَلْنَتَنَبَّه إلى أنّ مَن قرأ كتاب الله تعالى وهو يريدُ بصِدقٍ وطهارةِ قلب أن يُدركَ معانيَه، ويصلَ إلى باطنِها، فإنّ الله عزَّ وجلَّ لا يحرِمُه، بل يقذفُ في قلبِه من أنوارِ كتابِه المبارَك، فإذا به إنسانٌ من نوعٍ آخر.
إلهي.. ألضّيافة ضيافتُك، والشَّهرُ شهرُك، والعبدُ عبدُك. والقرآنُ عهدُك، ورسالتُك.. والرّحمةُ رحمتُك..

***

  مَن حسَّن منكم في هذا الشَّهر خُلُقَه، كانَ لَهُ جوازٌ على الصِّراط يومَ تَزِلُّ فيه الأقدام

بين الرّحمةِ والخُلُق علاقةٌ وطيدة. ينتجُ سوء الخُلُق عادةً من قسوةِ القلب، التي تجعلُ القلبَ يضيقُ ذَرْعاً -وبالتالي- مؤهّلاً للحقدِ من خلالِ تصاعدِ الإستياءِ بسُرعةٍ قياسيَّة، ثمّ يصلُ الأمرُ إلى التعبيرِ عن الإستياءِ بما يظهرُ على فلتات اللّسان، وقسماتِ الوَجه.

حتّى إنْ لم يُعبِّر الإنسانُ عمّا في داخلِه، وغَلَتْ مراجِلُ الحقدِ في قلبه فهو سيِّىءُ الخُلُق، إلّا أنّه إذا سيطرَ على هذه الحالة فإنّه يتمتّعُ بِكَظْمِ الغَيظ، أي أنّه يمتلك هذه القدرة الهائلة على عدمِ إظهارِ سُوءِ الخُلُق.

هذا يعني أنّ لِحُسْنِ الخُلُق مرتبَتَين:
الأولى: أن لا يُستفزَّ الإنسانُ في باطنِه، بل يكون له من الحِلم وسائرِ الأخلاق الحَسنة ما يحولُ بينَه وبينَ ذلك.
الثانية: أن تعتملَ في باطنِه عواملُ الإستثارةِ والإستفزاز، ولكنّه يسيطرُ عليها فلا يدعها تتفجّر لتنعكسَ على ظاهرِه، فضلاً عن أن يتصرَّف على أساسِها، فيُعاملَ الطّرَف الآخر بما ينسجمُ معها.
بديهيٌّ أنّ حُسْنَ الخُلُق  بالمعنى الأوّل: أن لا يُثارَ في باطنِه، أصعبُ بكثيرٍ من حُسن الخُلُق بالمعنى الثاني: أن لا يعبّر عمّا في داخله، فلا يتصرّف تصرُّفاً سيّئاً مُستجيباً لِما يدورُ في باطنِه، جرّاءَ سُوءِ الخُلُق الكامن.
مَن وصلَ إلى حُسن الخُلق بهذا المعنى الثاني-أي إلى مرحلة أنّه يُستثارُ لكنّه وإنْ أُثِيرَ في داخلِه إلّا أنّه على مستوى الخارج لا يستجيبُ للإثارة، بل يتماسكُ ويتجلّدُ ويكظِمُ غيظَه- فهو في مرتبةٍ متقدّمة جدّاً من «حُسن الخُلُق»، ومع أنّها أقلُّ مرتبةً من الأولى، إلّا أنّها الطريق الحصريُّ عادةً للوصول إلى الأولى.
ولا بدّ من التّنبُّه إلى أنَّ الهدف الذي ينبغي أن يكونَ نُصبَ العين دائماً هو المرتبةُ الأُولى، أيْ حُسْنُ الخُلُقِ بأعلى مراتبِه، ولا يَصِحُّ أن تكون صعوبتُها الشديدةُ مانعاً من الحُلُم بتحقُّقها، لأمرين:
1- أنّ الوصولَ إلى أيّ مرتبةٍ من الخُلُق الحَسَن، فرعُ الإصرارِ للوصول، والإلحاحِ في الطَّلب، ومَن رأى اللهُ تعالى صِدقَه أعطاه، وما دامَ هذا الوصول ليسَ بحولنا وقوِّتنا بل بحولِ الله سبحانَه وقوِّتِه، فلماذا لا نطلبُ ما نظنُّه مستحيلاً؟
2- أنّ مجرَّد بقاءَ آثارِ سُوءِ الخُلُق في الدّاخل، يهدّد أيَّ إنجاز، بمعنى أنّ مَن وصلَ إلى مرتبةِ أنّه يُستثارُ في داخلِه، ولكنّه يكظِمُ غيظَه، قد ينفجرُ هذا الغيظُ بعضَ المرّات. يَقْوى ثمّ يَضْرى، فَيَغْلِبُه ويعجزَ عن كَظْمِه.

لا بدّ من التّنبُّه بعدَ ما سبقَ إلى أنّ الظَّاهر من حديث حُسن الخُلُق عند كثيرٍ ممّن تَصَدَّوا له وبشكلٍ عامّ، هو المعنى الثاني، أيْ السّيطرة على الخارج، وَمَنْعِ الجوارحِ من الإنسياق أمامَ رغبةِ الباطن، إلّا أنَّ من الوضوحِ بمكان، أنّ النُّصوص سواءً الآيات أم الرِّوايات تطرحُ المَعنَيَين المُتقدِّمَين بشكلٍ تراتُبيّ، فالثّاني هدفٌ يُتيحُ الوصولَ إلى الأوّل.
  
يكفي لإثباتِ ذلك التَّأمُّل في النُّصوصِ التي تتحدّث عن حُسنِ السَّريرة، وطهارةِ الباطن، وسلامةِ القلب، وَقَلْعِ الشّرِّ من الصدرِ وغيرِها.
والفائدة العمليّة، هي أن نحرصَ في التضرُّعِ والتّوسُّلِ لِيَمُنَّ اللهُ تعالى علينا بأعلى مراتبِ حُسْنِ الخُلُق، وما ذلك عليه سبحانَه بعزيز، فَلِلرَّحمة خَلَقَنا.

• الرَّحْمَةُ هي المَدخل

تقدَّمَت الإشارة إلى العلاقة بين الرَّحمة وحُسْنِ الخُلُق، وهي بحاجةٍ إلى توضيح، فليس معنى ذلك أنّ كلَّ مَن تصدُر منه الرَّحمة يتحلَّى بحُسن الخُلُق. نُشاهد وجداناً أنّ مِن النّاس مَن يرحمُ ويعطِف، إلّا أنّه سيّىء الخُلُق، يُستثَار ويستجيبُ للإثارة، ويتصرَّفُ بما لا يليق ولا ينبغي.
إلا أنّ الفرق الجوهري بين مَن يمتلك الرّحمةَ وتظهر في تصرُّفاته، وبين مَن لا يمتلكُها، هو أنّه مؤهَّلٌ للتّحلِّي بالخُلُق الحَسن، لأنّ الرَّحمة تكشفُ عن درجةٍ هامّةٍ من درجاتِ حياةِ القلبِ الّتي قد نُعبِّرُ عنه
-لِأَجْلِها- بأنَّه صاحبُ «ضميرٍ حيّ».
وجودُ الرّحمة في القلب بأيِّ مرتبةٍ كانت، يعني وجودَ مرتبةٍ من لِينِ القلبِ والرِّقة، وهي مؤشّرٌ على إمكانيّة الوصول إلى مكارمِ الأخلاق. تماماً، كما هي استجابةُ الجسدِ الّذي يُحتمَل موتُه لِبعض الإسعافات الأوّليّة، مؤشِّرٌ على إمكانيّة الشّفاء.
من المجالات التي يظهرُ فيها تأثيرُ الرّحمةِ ورِقَّّةِ القلب في حُسن الخُلُق، أنّ الإنسان الذي يمتلكُ مرتبةً من مراتبِ الرّحمة، إذا صدرَ منه تَصرُّفٌ غيرُ سليم، يكشِفُ عن سُوءِ خُلُق، فإنّه يشعرُ بِوَخْزِ الضّمير الذي يُلاحقُه إلى أن يعتذر
-وإنْ لم يفعلْ لأنّ رحمتَه لم تصِل بعدُ إلى هذه المرتبة- فإنّ هذه المعاناة تُشكِّلُ على الأقلّ دافعاً يُعينُه في المراحل التّالية من حياته على الإقترابِ من حُسنِ الخُلُق.
من هنا كانت الرّحمةُ المدخلَ إلى التّخلُّص من سُوء الخُلُق، والوصولِ إلى حُسن الخُلُق ومَكارم الأخلاقِ المحمّديّة.

بِمقدارِ التَّنبُّه إلى هذا التَّرابطِ بين ما في القلب من رحمة، واستثمارِه في مجالِ بناءِ النَّفس، تكونُ النَّتيجة أفضلَ وأسرع.

والتّرجمةُ العمليّةُ لذلك هي أن ينطلقَ كلٌّ منّا من مخزونِ الرّحمةِ الذي يكتشفُه في قلبِه، للوصول إلى التّحلّي بمكارمِ الأخلاق، وذلك بالبيان التالي:
1- التّأمُّل في تعقيدات النَّفْس: «إِلهي أَشْكُو إِلَيْكَ نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإِلى الخَطِيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصِيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بِي مَسالِكِ المَهالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِكٍ، كَثِيرَةَ العِلَلِ طَوِيلَةَ الأملِ..».

2-   إدراكُ صُعوبةِ التَّخلُّص من الصِّفاتِ الرّاسخة في هذه النّفْس، والتي هي  الخُلُق، فالخُلُق هو الصّفة الثابتةُ في النّفْسِ والرّاسخةُ فيها، فإذا أرادَ الإنسانُ أن يَتخلّصَ من  صفةٍ سيّئة واحدةٍ كَسُوءِ الظّنّ، أو حُبِّ السُّمْعَةِ والجاه، أو الرّياء، أو العُجُب، أو التّكبُّر، فَكَم يحتاجُ إلى بذلِ الجُهد؟
وإذا كانت خصلةٌ واحدةٌ سيّئةٌ تحتاجُ إلى كلِّ هذا الجهاد الأكبر، فما هو السّبيلُ إلى التَّخَلُّص من سائرِ الصِّفاتِ السّيّئة فيه، لِيُصبِحَ حَسَنَ الخُلُق.
3- هنا يأتي دورُ مخزونِ الرَّحمةِ القليلِ أو الكثيرِ الذي يجِدُه أحدُنا في قلبِه، فاستثمارُ هذه الرّحمة هو الطّريقُ الأقصرُ للوصول إلى حُسن الخُلُق، وذلك على قاعدة: مَن أراد أن يُرحَم فَلْيَرْحَم، مَن أرادَ أن يَتحنَّنَ اللهُ عليه فَلْيَتَحَنَّن.
4- هذا يستدعي ممَّن يريدُ الوصولَ بالرَّحمة إلى حُسن الخُلُق، أن يحملَ همَّ تهذيبِ نفْسِه من مساوئ الأخلاقِ، ويبحثَ عن مواطنِ الرَّحمة لِيَرْحَمَ، فَلَعَلَّهُ يُرحَم، يبحثُ عن يتيمٍ، أو فقيرٍ قد سَحَقَه الفقرُ بِكَلْكَلِه وهو مِمَّن يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التَّعَفُّف، أو مريضٍ لا سبيلَ له إلى العِلاج، فيُسدي إليه يداً ويخدمُه بما يستطيع، وَلَو بالإصغاءِ إليه، والتّخفيفِ عنه بكلماتٍ هي فيضُ خزينِ الرّحمة في قلبِه، ويكون هدفُه أنّه يفعلُ ذلك لأنّه حقّ، ونوعٌ من حُسن الخُلُق وهو يرجو مِن كَرَمِ الله تعالى أن يُخلِّصَه من سُوءِ الخُلُق، ويُحلِّي قلبَه بحُسنِه.
5- التّأمُّل دائماً في مخاطرِ سُوء الخُلُق، لِيُعَزِّزَ في نفسِه شدّةَ الحُبِّ للتَّخَلُّص منها، وَلْيَظْهَرْ ذلك في مدى ما يستعدُّ له من رحمةِ الآخرين، وَلْيَظهرْ أيضاً في حرارةِ التضرُّع إلى الله تعالى، لِيَمُنَّ عليه بهذه النَّقلةِ الكبيرةِ من مهاوي سُوءِ الخُلُقِ إلى قِمَمِ حُسنِ الخُلُق.
6- في الوقتِ الذي يتعاملُ المؤمنُ مع مفرداتِ سُوء الخُلُق التي يريدُ الخلاصَ منها، فيذكرُ كُلّاً منها بخُصوصِه، ينبغي التركيزُ على الكليّات والعناوين العامّة من قبيل حبِّ الدنيا، وغَلَبَة الشِّقْوة والهوى وغير ذلك، ولكلٍّ من الطّريقتَين فوائدُ كبيرةٌ كما لا يَخفى.

هكذا نكونُ أمامَ منهجيَّة استثمارِ الرَّحمة التي نكتشفُ بقاءَها في القلب، رُغمَ كلِّ فَتْك الذُّنوب، لِنَتَدَرَّجَ بها ومعها في مدارجِ الكَمال.

أيُّها العزيز: شهرُ الله تعالى مُناخٌ لتحسينِ الخُلُقِ فلا نجعلْهُ مُناخاً لتجذيرِ سُوء الخُلُق. إنّ الهمَّ الكبيرَ الذي ينبغي أن نحملَه طيلةَ هذا الشّهر العظيم، هو كيف يُمكنُنا أن نتخلَّصَ من الأخلاقِ السيّئة، وإذا لم نلتفتْ لذلك وأَرْخَيْنا لأنفسنا العِنان، فإنّنا تلقائيّاً، وبسبب هذه الغفلةِ والصّومِ والجوعِ، نُصبحُ نُستَثارُ بِسُرعةٍ أكبر، فنَغضب ونُكثرُ من التّصرّفاتِ المُنافية، وستكونُ النتيجة أنّنا بدلَ أنْ نستثمرَ شهرَ الله تعالى، ونستفيدَ من الصّيام لِتَحْسينِ الخُلُق، أن نخرجَ من شهرِ رمضانَ وقد تجذَّر فينا سُوء الخُلُق، والعياذُ بالله تعالى.


ينبغي الإنتباهُ والحَذَر، لِنَلْتَزِمَ عمليّاً في شهرِ الله تعالى بِتَحْسِين أخلاقِنا وَلَو بِحدودٍ مُتَدَنّيَة، فإنّ أصلَ الإصرارِ على ذلك، يفتحُ البابَ أمامَ القلبِ على المراتبِ التّالية.


أُشيرُ هنا إلى أنّ المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله يقول: «مَن حَسَّنَ مِنكم في هذا الشَّهر خُلُقَه..»، وهو يشمَلُ مَن لم يُصبِحْ حَسَن الخُلُق تماماً، أيْ أنّ مَن تَحَسّنَت أخلاقُه نسبيّاً فهو أيضاً «لَه جوازٌ على الصِّراط»، وهذا مُنتَهى الواقعيّة، بمعنى أنّ مَن لا يستطيعُ الوصولِ إلى حُسْنِ الخُلُق التّامّ، فَلْيُحاوِل على الأقلّ أن تُصبحَ أخلاقُه أحسنَ ممّا هي عليه الآن.
 

• نظرةٌ في النّفْس، والبيت

يتوقَّفُ ما تَقدّم على إدراكِ أنّ من الأساسيَّات في هذا الشّهر العملُ على تَحسين الخُلُق.
من المفيد لِحَمْلِ النّفْسِ على ذلك، التَّفكيرُ في مضارِّ سُوءِ الخُلُق، من خلال طرحِ الأسئلة التالية على النَّفْس:
* أيُّ نُبلٍ في سُوء الخُلُق يا تُرى؟
* لقد غضبتُ في كثيرٍ من الموارد فيما مضى، فماذا كانت النَّتيجة؟
* ما أَسوأَ موقفَ مَن يَغضبُ فيُرغي ويُزبد، ثم يتبيّن أنّه لَم يكُنْ على حقّ؟
أيُّها أفضل؟ أن يتكلَّم الإنسانُ بما يريدُه بطريقةٍ هادئةٍ وهو مسيطرٌ على أعصابِه، فَيشعر بالسّعادة لأنّه تصرّف بِعقلٍ وحِكمة، ويُلقِّنَ الآخرينَ درساً في حُسُن الخُلُق، أم أن يسمحَ للشّيطان بأنْ يستفِزَّه فإذا هو خفيفٌ لا قيمةَ له ولا وَزن، ريشةٌ في مَهَبِّ رِيحِ الشّيطان، وكرةٌ يَتقاذَفُها؟ 
لا يُمكن تصويبُ عمليّةِ التفكيرِ هذه و ترشيدِها بمعزلٍ عن الإكثار من التَّواصل مع الرِّوايات، خصوصاً مَا كان منها مُنصبّاً على مضارِّ سُوءِ الخُلُق، من قبيل:
1- «مَن ساءَ خُلُقُه عذَّبَ نفسَه».
2-  «مَن ساءَ خُلُقُه مَلَّهُ أهلُه».
3- «من ساءَ خُلُقُه أَعْوَزَهُ الصَّديقُ والرَّفيق».
4-  «سُوء الخُلُق نَكَدُ العَيْشِ وعذابُ النّفْس».
5-  «إنّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفْسِدُ العملَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العسل».
هل نحمِلُ في شهرِ الله تعالى همَّ أن نصلَ إلى العيدِ وتوزيعِ الجوائز، فإذا بين الجوائز التي حصلنا عليها جائزةُ «مَكارمِ الأخلاق»، أو جائزةُ التَّخلُّصِ من الرّياء، أومن الغَضب، أو العُجْب، أو جائزة أن يكونَ هذا البيتُ محمّديّاً.

إنّ سوءَ الخُلُق يُسمِّمُ جوَّ البيت، ويجعلُه جحيماً لا يُطاق. قد يكون الأبُ وحدَه مصدرَ هذا الجحيم، وقد تكون الأمُّ شريكةً، وربّما كانَ العَكس.

 ما ذنبُ الأولادِ لِيَعيشوا في جحيمٍ بسببِ سُوءِ أخلاقِ الأبوَين؟ هل من حقِّ الولدِ على الوالد أن يُحسِنَ تَسميَتَه، وليس من حقّه عليه أن يُحسن تربيتَه؟!
أيُّ سوءِ تربيةٍ يفوقُ أن يُلقِّن الأبوان -وهما القدوة- سوءَ الخُلُق للولد؟
هل نُفكِّرُ أيُّها الأعزّاءُ في شهر الله تعالى أن نُطلََََّ على أولادِنا بروحٍ جديدة؟
لِيُفَكِّرْ كلٌّ منّا بما يَعمُر قلبَه من الحبِّ العارم، والحنانِ الطافحِ عندما يغيبُ عن أولاده، أو عندما يغيبون عنه. لِيَتَصَوّرْ أنَّه ماتَ وَبَقِيَ أولادُه بعدَه؟
يساعدُنا على تحسينِ الخُلُق، أن نُعَمِّقَ حُبَّ أولادِنا في نفوسِنا، ونُعَمِّقَ فيها كذلك خطورةَ سُوء الخُلُق، خصوصاً في شهر الله تعالى.
يجبُ أن نربأَ ببيوتِنا عن أن تشعرَ المرأةُ في البيت بإهانة، خصوصاً في شهر رمضان، أو أن يشعرَ الأولادُ بأنّ أباهم غاضبٌ لأنّه صائم.
يجبُ على المرأةِ أن تحفظَ حُرمَةَ الأبِ ومكانتَه في نفسِها وأمامَ أولادِها.
ومَن اعتبرَ الصَّومَ عُذراً لِسُوءِ خُلُقِه، فَلْيَتَنَبَّه ببساطة إلى أنّ الآخرين أيضاً صائمون، وهذه التصرُّفات لا تناسبُ المُسلم.


هذا البيتُ المحمّديُّ المبارك، ينبغي أن يُعطَّر بحُسُن الخُلُق  المحمَّدي، لا سيَّما في شهر الله تعالى، ومَن لم يستطِع أن يكونَ حَسَن الخُلُق دائماً، فَلْيُحاوِل في البِدء أنْ ينشرَ شذا هذه الرّوح المحمَّديّة المباركَة: ﴿وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾ وَلَو لِساعات، وهي كفيلةٌ بالأخذِ بِيدِه وبمجامعِ القَلبِ إلى أعتابِ سيّدِ المُرسلين فإنّه صلّى الله عليه وآله ﴿عزيزٌ عليِه ما عَنِتُّم بِالمُؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحيم﴾.


***


 

  إنّ أبوابَ الجِنان في هذا الشّهر مُفَتَّحة

* «أيُّها النَّاس، إنَّ أبوابَ الجِنانِ في هذا الشّهر مُفتَّحة، فَاسْأَلوا ربَّكم أنْ لا يُغلِقَها عَليكم. وأبوابَ النِّيرانِ مُغلَّقة، فَاسْأَلوا ربَّكم أنْ لا يفتحَها عليكُم. والشَّياطينَ مَغلولة، فَاسْأَلوا ربَّكم أن لا يُسلِّطَها عَليكم».

هل معنى أنَّ أبوابَ الجِنان مُفتَّحة أنّ درجةَ التّسديدِ تجعلُ كَثرةَ الثَّواب بالمُستوى الذي يَتلازمُ مع ما يُعبَّر عنه مجازاً بِفَتحِ أبواب الجِنان، أم أنَّ هناك عمليَّةَ فتحٍ حقيقيّةٍ لهذه الأبواب، وغَلْقٍ لِأبوابِ النَّار؟
يظهرُ من الرّوايات وبعضِ كلماتِ العلماءِ الثاني، ومع إمكانِ الحَمْل على الحقيقة، لا يُمكن أن يُصارَ إلى المَجاز. الحقيقةُ أَوْلَى.
وردَ في الرّوايات الحديثُ عن فتحِ أبوابِ السّماء أو أبوابِ الجِنان إذا أَتْبَعَ المؤمنُ الصَّلاةَ على النبيِّ بالصّلاةِ على آلِه صلّى الله عليه وآله. 
كما وردَ أنّ أبوابَ الجِنان تُفتَحُ كلَّ يومٍ في أوقاتِ الصّلاة، وقد وردَ في الرّواية تحديدُ سببِ الفتحِ بِصُعودِ الأعمال.


قال صدْرُ المتألِّهين رحمه الله تعالى: «وإذا غُلِّقَتْ أبوابُ النّيران، فُتِحَت أبوابُ الجِنان، بل هي على شكلِ الباب الذي إذا فُتِحَ على مَوْضعٍ انسَدَّ عن مَوْضعٍ آخر، فَعَيْنُ غَلْقِ أبوابِ إحداهُما، عينُ فتحِ أبوابِ الأخرى».


 

***


  والشّياطينَ مَغْلُولَة

قال السيّد إبن طاوس عليه الرحمة:
«فصلٌ، في ما نذكره من شُكر الله جلّ جلالُه على تَقْييد الشَّياطين ومَنْعِهم من الصَّائمين في شهر رمضان. إعلم أنّ الرِّواية وَرَدَتْ بذلك مُتَظاهِرة، ومعانيها مُتوَاتِرةٌ مُتَناصِرة، ونحن نَذكرُ مِن طُرُقِنا إليه ألفاظَ الشيخ محمّد بن يعقوب (الكُلَيْني)، فإنَّ كُتُبَه كلَّها مُعتَمَدٌ عليها، وقد روى عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله يُقبِلُ بِوجهِهِ إلى النَّاسِ فيقول: يا مَعْشَرَ النَّاس! إذا طَلَعَ هِلالُ شهرِ رمضان غُلَّتْ مَرَدَةُ الشَّياطين، وفُتِحَتْ [أبوابُ السماء و] أبوابُ الجِنانِ وأبوابُ الرَّحمة، وغُلِّقَت أبوابُ النَّارِ، واستُجيبَ الدُّعاء، وكان للهِ فيه عندَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقاءُ يعتقُهُمُ اللهُ مِن النَّار، ومُنادٍ يُنادي كلَّ ليلة: (هل مِن سائلٍ، هل مِن مُستَغفِرٍ، أللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُنفِقٍ خَلَفاً، وأَعْطِ كُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفاً)، حتّى إذا طَلعَ هلالُ شوّال نُودِيَ المؤمنون أنِ اغْدُوا إلى جوائزِكم فَهُوَ يومُ الجائزة، ثمَّ قال أبو جعفر عليه السلام: أمَا وَالّذي نفسِي بِيَدِهِ، ما هي بِجائزةِ الدَّنانيرِ والدَّراهِم».

أضاف السيِّد: «ورأيتُ حديثَ خُطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله، روايةَ أحمدِ بنِ محمّد بن عيّاش في كتاب الأغسال، بِنُسخَةٍ تاريخُ كتابتِها ربيعُ الآخر، سنة سبع وعشرين وأربعمائة، يقول بأسناده إلى مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:
 لمّا كان أوَّل ليلةٍ من شَهْرِ رمضان، قامَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، فَحَمِدَ اللهَ وأَثنَى عليه، ثمَّ قال: أيُّها النَّاس، قد كَفاكُم اللهُ عَدُوَّكُم من الجِنِّ والإنْسِ، وَوَعَدَكُم الإجابة، وقال ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لكُم﴾، ألَا وقد وكَّلَ اللهُ سبحانَه وتعالى بكلِّ شَيْطانٍ مَريدٍ سَبْعةً من المَلائكة، فليسَ بمَحْلُولٍ حتّى يَنْقَضيَ شهرُ رمضان، ألَا وأبوابُ السَّماءِ مُفَتَّحةٌ من أوّلِ ليلةٍ منه إلى آخر ليلةٍ منه، ألَا والدُّعاءُ فيه مَقبول ".." حتّى إذا كان أوّل ليلةٍ من العَشْرِ، قام فَحَمِد اللهَ وأَثنى عليه وقالَ مثلَ ذلك، ثمَّ قامَ وشَمَّرَ وشَدَّ المِئْزَرَ وبَرَزَ من بيتِهِ، واعتَكَفَ وأَحيا اللَّيلَ كلَّه، وكان يَغتسِلُ كلَّ ليلةٍ منه بين العِشاءَين».

* وتسأل: إذا كانت كُلُّ هذه المُفرداتِ قائمةً في شهرِ الله تعالى، خصوصاً أنَّ الشّياطين مغلولة، فلماذا نُذنبُ إذاً؟
ينطلقُ هذا السؤالُ مِن تَصَوُّر أنّ السَّببَ الوحيد للذَّنبِ دائماً هو الشَّيطان، فإذا كانت الشَّياطينُ مغلولةً فلماذا نَقَعُ في المعصية في شهرِ رمضان المُبارَك؟


سأل أحدُهم السّيدَ ابن طاوس عليه الرحمة ما خلاصتُه: أنا لا أَجِدُ اهتِماماً مِن نفسي بالعبادةِ والدُّعاء في شهرِ رمضان، وتبقى حالتي الرُّوحية التي كُنتُ عليها قبلَ شهرِ رمضان هي نَفْسها في شهر رمضان، والحال أنَّ تقييد الشياطين يَنبغي أنْ يَتَسَبَّبَ بِوَضْعٍ جديدٍ وحالةٍ نفسيَّةٍ جديدة؟

وقد أجابَه السيّد عليه الرحمة بإجابات عِدّة مِن جُملتِها قولُه: «إنَّ العَبْدَ لهُ قبلَ شهرِ رمضانَ ذُنوبٌ قد سَوَّدَت قلبَهُ وعقلَهُ وصارت حِجاباً بينه وبين الله جلَّ جلالُه، فلا يُسْتَبْعَد أن تكون ذُنوبُهُ السَّالِفة كافيةً في استِمرارِ غَفْلَتِهِ، فلا يُؤثِّرُ مَنْعُ الشَّياطين عندَ الإنسان لِعَظيمِ مُصيبَتِه».  
خُلاصة الجواب: أنَّ الإنسانَ قبلَ شهرِ رمضان المُبارَك، إرتَكَبَ ذُنوباً كثيرة، هذه الذُّنوبُ قد تكونُ وَصَلَتْ إلى حدِّ أنَّها سَوَّدَت قلبَهُ وعقلَهُ، وأصبَحتْ حِجاباً بينهُ وبين الله عزّ وجلّ، وجَعَلَتْهُ في غَياهِبِ غَفْلةٍ كبيرة عن الله تعالى، ومع أنَّ تَقْييدَ مرَدَةِ الشَّياطين يؤثِّرُ بِشَكلٍ عامّ، إلّا أنَّ مثل هذا الغافِل كليّاً، يَبقى يَرتكِبُ المعاصي بزَخَمِ الذُّنوبِ التي ارتَكَبَها. أللَّهُمَّ أَعِنَّا على أنفسنا.
نُدرِكُ في ضوء ذلك، أهميّة الإستعدادِ لِشَهرِ اللهِ تعالى قبلَ حُلُولِهِ، وكذلك أهميّة أنْ يُبادِرَ الإنسانُ في أيّ لحظةٍ من لحظاتِ الشَّهرِ المُبارَك، وَلَوْ في آخرِها، إلى التَّوبةِ النَّصوحِ والتّضرُّع، فيقول حالُه قبل اللّسان: إلَهي إنْ لَمْ تَرحمْني فَمَنْ يَرْحَمُني، إلهي مَن أنا حتّى تَغْضَبَ عليّ؟ ويُصِرّ في طَلَبِ التَّوبَةِ وأنْ تكون هذه التَّوبةُ صادِقةً نَصوحاً، وإنْ عَجِزَ حالُنا عن ذلك فلا أَقلَّ من التَّوسُّلِ لِلحصولِ عليه.
تناول آية الله التبريزي رضوان الله عليه، هذه النُّقطة -إذا كانت الشَّياطين تُغَلُّ وتُقَيَّدُ فلماذا نَقَع في المعاصي في شهر رمضان- فأكَّدَ على ضرورةِ الإعتقادِ بهذه المُفرداتِ التي وَرَدَتْ في الخُطبة المُباركة -أبواب الجِنان مُفتَّحة، وأبواب النّيرانِ مُغلَّقة، والشَّياطين مَغْلولة- ثمّ قال في معرض هذا التأكيد:
«ولقد حُكِيَ عن بعضهم أنَّه كان لا يَرى مِن غَلِّ الشَّياطينِ في شهرِ رمضان كثيرَ نَفْعٍ، وكأنّه صَعُب عليه تَصْديقُ ذلك أو فهْمُ المُراد منه، مع العِلم أنَّ الأَثَرَ لِتَقييدِ الشَّياطين مَحْسوسٌ في شهر رمضان وهو أمرٌ ظاهِرٌ، لِمَا نَراهُ مِن كَثرةِ العِباداتِ والخَيْراتِ في شهرِ اللهِ تعالى، ولا يَشُكُّ فيه أحد.


.. ومَنْ عَرفَ حَقيقةَ الشَّيطان وَجِهَةَ ارتِباطِهِ مع الإنسان ومَداخِلَه، يَعرِفُ أنَّ نَفْسَ الإمتناعِ عن الطَّعامِ والشَّرابِ لا سيّما إذا اقْتَرَنَ بِكَفِّ الإنسانِ عن كثرةِ الكَلامِ، سَبَبٌ لِمَنْعِ تَصَرُّفِ الشَّياطينِ في قلبِ الصَّائمِ، كما أُشيرَ إلى ذلك في قَوْلِهم عليهم السلام: «ضَيِّقوا مَجارِيه بِالجُوعِ، وإنَّهُ يَجري في بَدَنِ الإنسانِ مَجْرى الدَّم» .


أضافَ آيةُ الله ملكي التبريزي عليه الرحمة: «وعلى أيِّ حالٍ، فهذا الذي نُشاهِدُهُ مِن عامَّةِ النَّاس مِن كَثْرةِ العِباداتِ والخَيْراتِ والقُرُباتِ في شهرِ رمضان شَيءٌ لا يُنكَر، نَعَم ليس هذا بالنِّسبةِ إلى جميع الشَّياطين وبالنِّسبةِ إلى جميع المُكلَّفِين، وهذا أمرٌ ظاهِرٌ لِأهلِهِ، كما صرّح تَقييده في بعض أخبارِ الباب بمَرَدَةِ الشَّياطين».

* والخلاصة: أنّ السيّد إبن طاوس عليه الرحمة أَوْرَدَ الرِّوايات المُختلِفة التي يؤكِّدُ بعضُها أنَّ كلَّ الشَّياطين تُقيَّدُ في شهرِ رمضان، فيما يؤكِّدُ البعضُ الآخر أنَّ الشَّياطين الكِبار هي التي تُقيَّد، وهذا معنى مَرَدَة الشَّياطين، ورُغم ذلك فإنَّ الظَّاهِرَ من كلامِهِ أنَّه يَتَبَنَّى أنَّ كُلَّ الشَّياطين تُقيَّدُ في شهرِ الله تعالى، أمّا آية الله التبريزي عليه الرحمة، فَظاهِرُ كلامِهِ أنَّه يَرى أنَّ المَرَدَةَ تُقيَّد، أيْ الشَّياطين الكِبار، وهذا يَعني أنَّ الّذين يَشعرونَ بِفارِقٍ أساسيٍّ في شهرِ رمضان هُم الّذين يَتَصَدَّى لِلتأثير عليهم والوَسْوَسَةِ لهُم الشَّياطينُ الكِبارُ أيْ المَرَدَة.
يُمكِنُ فَهْمُ هذه الحقيقة في ضَوْءِ عَمَلِ الأجهزةِ الأمنيّةِ في العالَم، فإنَّ كُلَّ شخصٍ تُركِّزُ عليه أجهزةُ المُخابرات الشَّيطانيَّة بِحَسَبِ خَطَرِهِ، وليسَ مِن الطَّبيعي أن يَتَولَّى شيطانٌ كبيرٌ في المُخابراتِ الأمريكيّة أو المُوساد، ملَفّاً لِشَخْصٍ عاديٍّ لا يُشكِّلُ خطراً أساسيّاً ونَوْعِيّاً على أعداءِ الله، أمّا إذا بَلَغَ شَخْصٌ مرحلةً من الخُطورةِ بِحيث أصبحَ يُشكِّلُ تهديداً لِأَمْنِ هذه الجهة الكافرة أو تلك، فإنَّ مِن الطبيعيّ أن يَتَوَلّى ملَفَّهُ شيطانٌ كبيرٌ.
هذا هو المُراد -بِناءً على رأيِ آية الله التّبريزي عليه الرحمة– مِن أنَّ مَرَدَة الشَّياطين تَتَولَّى ملَفَّات المؤمنين الأساسيّين، وعِبادِ اللهِ الصَّالحينَ، وأنَّ الذين يُقيَّدونَ في شهرَ رمضان هم مَرَدَةُ الشَّياطين، ومعنى ذلك: أنّ الّذين يَرتاحون من وَساوِسِ الشَّياطين في شهرِ رمضان، هُم هؤلاء الزُّهّاد العُبّاد، أمّا أنا وأمثالي، فإنَّ مَن يَتَوَلَّى الوَسوسةَ لنا هُم الأبالسةُ الصِّغار، وشياطينٌ عادِيُّون، وهؤلاء لا يُقيَّدون في شهرِ رمضان بناءً على هذا الرَّأي الذي يَتَبَنّاه آية الله ملكي التبريزي عليه الرحمة.

والنَّتيجة: يُمكِنُ ترجيحُ رأي السيّد إبن طاوس عليه الرحمة، فَظاهِرُ الرِّوايات أنَّ الشَّياطينَ كُلّها تُقيَّد، ويكفي لإثبات ذلك هذا النَّص: «والشَّياطين مَغلولَة»، وعندما نَجِد حديثاً عن تَقييد المَرَدَة فهو تفصيلٌ بعد الإجمال، يَرِدُ في مَقامِ بَيانِ خُصوصيَّاتٍ معيَّنة لا تَتَنافى مع كَوْنِ غير المَرَدَة يُقيَّد أيضاً، وما ذَكَرَهُ السيِّد عليه الرّحمة -في الرَّدِّ على تساؤل: لماذا نُذنِب إذاً- وجيهٌ جدّاً، وخلاصتُه: أنّ العاصي يَصِلُ إلى مرحلةٍ يُصبِحُ فيها شيطاناً من شياطينِ الإنْسِ، ورُغمَ أنَّ الشَّياطين مُقيَّدة، فإنّه هو يُوَسْوِسُ لِنفسِه.

مِثالُ ذلك: شخصٌ وَصَلَ في ارتِكابِ المعاصي والحرام إلى حدِّ أنَّه أَصبحَ يَجُرُّ غَيْرَه إلى الحرامِ والمعصية، فَلَيس بِحاجةٍ إلى أنْ يَجُرَّهُ أحد، إنَّه يَمتلِكُ مِن الشَّيطنةِ «الإكتفاءَ الذاتيّ» و«الإستقلالَ» بالشَّيْطنة.
إنّ الإدْمانَ على الذُّنوبِ يَجعلُ صاحبَهُ كالمُدْمِنِ على المُخدِّرات، والذي لا يعني تَقييدُ مَن يُوسوِسُ له، أنّ هذا المُدمِن أَصبحَ غَيْر قادرٍ على تعاطي المُخدِّرات، بل يعني أنَّه قد تهيَّأَ لهُ مُناخٌ مُناسِبٌ للإقلاعِ عمّا أَدْمَنَه.


يَستطيعُ الإنسانُ بِيُسْرٍ أنْ يَكتشفَ بالتَّأمُّل في أجواءِ شهرِ رمضان المُبارَك، أنّ هناك فارقاً أساسيّاً، بين ما كان النَّاسُ عليه أمس قبل دُخولِ الشهرِ، وبين ما هُم عليه اليوم وقد حَلَّ شهرُ رمضان. إنّكَ تَرى النَّاسَ في وَضْعٍ جديدٍ، وحتّى أولئكَ الّذين «لا يعرفون القِبلة» كما يُقال، ولا يَهتمّون بالدِّين والتَّديُّن على مَدارِ السَّنة، فإنَّهم يُقبِلون على الخَيْراتِ والمَبَرّات، ومنهم مَنْ يُصلّي ويَصومُ، ويَقرأُ القرآن.

يَتَعاظَمُ الإهتمامُ بالأعمال الصّالحة بشكلٍ عامّ، وتبدأُ تَسمعُ مِن الجميع: إنّنا في شهرِ الله تعالى، وأنَّ لِلشَّهر حُرمتَهُ، ولا يُمكنُ تفسيرُ ذلك تفسيراً ماديّاً.
وفي المقابل، نَلمسُ بالوجدان أنَّ المعاصي تُرتكَب حتّى في شهرِ الله تعالى، بل إنّ الصّائمين أو المُهتمِّين بشهرِ الله تعالى بأيّ درجة، لا يُحصَّنون منها تَمامَ التّحصين، أيْ بحيثُ لا تصدُر منهم، وهو واضح.
ولا بُدَّ في ضوء هذا وذاك، والتّأكيد النَّبويَّ على أنّ الشّياطين مَغلولة، مِن حمْلِ ذلك على ما تَقَدَّم ذِكرُه من أنّ الذين يقعون منَّا في المعاصي في شهرِ رمضان، فإنّ ذلك نتيجة عُكوفِهم السَّابق على الذُّنوب التي طَبَعَتِ العقلَ والقلبَ والشّخصيّةَ عموماً بِطابَعِها.
هنا يَتّضحُ مدى تأثيرِ عُمقِ التّوبة والصّدقِ في طَلَبِ الإستقامة، في التَّخلُّص من آثار عُدوانِ الذُّنوب السَّابقة، واستئصال خلايا الذُّنوبِ السرطانيّة، كي لا تُعاوِدَ الإنتشار. واللهُ تعالى المُستعان.
يَكشفُ التأمُّلُ في النُّصوص حول شهر الله تعالى أنَّ كلَّ العناصر التي يُوفِّرُها الله تعالى في هذا الشهر الكريم، تَهدِفُ إلى تأمين المُناخ الأفضل للتَّوبة الصّادقة النَّصوح، والإقلاعِ عن إدمان المعاصي وأيِّ لَوْنٍ من ألوانِ تَعاطيها. فَلْيَغْتَنْمِ القلبُ الفُرصة. والتَّوسُّلُ الشَّرطُ والبابُ. ﴿وابْتَغُوا إليه الوَسِيلَة﴾.

• لِنَخْتَبِرْ ما نحنُ عليه

في ضيافةِ الله عزَّ وجلَّ يَنبغي أنْ نَحْرصَ على الوصولِ إلى أفضلِ المُستويات التي يُمكن الوصولُ إليها في شهرِ الله سبحانه وتعالى.
من الطَّبيعيّ أن يُحبَّ الإنسانُ الخَيْرَ لِنفسِهِ ويَحرصَ على أفضل مراتِبِ هذا الخَيْر، وليس طبيعيّاً على الإطلاق أن يَجُرَّ الإنسانُ الضَّرَرَ لِنفسهِ أو يُصِرَّ على عَدَمِ جَلْبِ النَّفْع.

لِنَتَصَوَّرَ أَنفسَنا وكأنَّنا أصبَحنا في آخرِ يَوْمٍ من شهر رمضان المُبارَك، وهذه ليلةُ العيدِ على الأبوابِ، ومُنادي ربّنا عزَّ وجلَّ يُنادي: «هَلُمّوا إلى جَوائِزكم»، وَلْنُفَكِّر من الآن ما هي الجوائز التي نَستحقُّها آنذاك؟

لِيُفكّرْ كلٌّ منَّا فيقول: أنا، وبطريقة تَعاطيَّ مع شهرِ الله عزَّ وجلَّ، أيَّ جائزةٍ أَستحقُّ؟ هل آتي في الرَّعيلِ الأوَّل؟ هل آتي في المُبادِرين؟ أم في الدَّرجة الثَّالثة أو الرَّابعة؟
صلاتي في شهرِ رمضان، أَعرفُها كيف هي، وأَعرفُ حِرصي على طاعةِ ربِّي عزَّ وجلَّ بأيِّ دَرَجة، سواءً أَكانت هذه الدَّرجة ضعيفة أم مَتَوسِّطة أو قويَّة.
أَعرفُ أيضاً حِرْصي على قراءةِ القرآنِ أو عَدَم حِرْصي على ذلك.
وهكذا بحيث تَستوعِبُ الأسئلةُ التي يَطرحُها كلٌّ منّا على نفسِهِ جميعَ المُفردات التي وَرَدَت في خطبة المصطفى صلّى الله عليه وآله حَوْلَ شهر رمضان المُبارَك، ونحنُ مَدعوُّون للإهتمامِ بها والإستزادةِ منها، لِنَعْرِفَ من خلال هذه الأسئلة طريقةَ تعاملِنا معها.
والنَّتيجةُ العَمَليَّة هي: أنْ يَستطيعَ كلٌّ منّا أن يُقدِّر الدرجةَ التي يَسْتحِقُّها في مقابل ما هو عليه، أيْ أنَّه إذا استمرَّ على الحال التي هو فيها إلى آخرِ الشَّهرِ الكريم، فما هي حَصيلَتهُ منه، وما هي الجائزة التي سَيُعطاها صَبِيحَة يومِ الجَوائز، يَوم العيدِ المُبارّك.

***




  قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: «فَقُمتُ وقُلتُ: يا رَسولَ اللّه، ما أفضَلُ الأَعمالِ في هذا الشَّهرِ؟
فَقالَ: يا أبَا الحَسَنِ، أفضَلُ الأَعمالِ في هذَا الشَّهرِ الوَرَعُ عَن مَحارِمِ اللّهِ عزَّ وجلَّ. ثُمَّ بَكى، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّه، ما يُبكيكَ؟ فَقالَ: يا عَلِيُّ، أبكي لِما يُستَحَلُّ مِنكَ في هذا الشَّهرِ، كَأَنّي بِكَ وأنتَ تُصَلّي لِرَبِّكَ، وقَدِ انبَعَثَ أشقَى الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ، شَقيقُ عاقِرِ ناقَةِ ثَمودَ، فَضَرَبَكَ ضَربَةً عَلى فَرقِكَ (قَرنِكَ) فَخَضَّبَ مِنها لِحيَتَكَ».
* قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام: «فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، وذلِكَ في سَلامَةٍ مِن ديني؟
فَقالَ: في سَلامَةٍ مِن دينِكَ. ثُمَّ قالَ صلّى الله عليه وآله: يا عَلِيُّ، مَن قَتَلَكَ فَقَد قَتَلَني، ومَن أبغَضَكَ فَقَد أبغَضَني، ومَن سَبَّكَ فَقَد سَبَّني؛ لِأَنَّكَ مِنّي كَنَفسي، وَرُوحُكَ مِن روحي، وَطِينَتُكَ مِن طينَتي. إنَّ اللّه تَبارَكَ وَتَعالى خَلَقَني وإيّاكَ، وَاصطَفاني وَإيّاكَ، وَاختارَني لِلنُّبُوَّةِ وَاختارَكَ لِلإِمامَةِ، فَمَن أنكَرَ إمامَتَكَ فَقَد أنكَرَ نُبُوَّتي. يا عَلِيُّ، أنتَ وَصِيِّي، وأبو وُلدي، وزَوجُ ابنَتي، وخَليفَتي عَلى أُمَّتي في حَياتي وبَعدَ مَوتي، أمرُكَ أمري ونَهيُكَ نَهيي. أُقْسِمُ بِالَّذي بَعَثَني بِالنُّبُوَّةِ وجَعَلَني خَيرَ البَرِيَّةِ، إنَّكَ لَحُجَّةُ اللّهِ عَلى خَلقِهِ، وأمينُهُ عَلى سِرِّهِ، وَخَليفَتُهُ عَلى عِبادِهِ».


* شهادةُ نَفْسِ المُصطفى: ﴿أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم﴾ 

هذا هو ختامُ آخرِ خطبةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله حولَ شهرِ رمضانَ المبارك، وهو التّفسيرُ النبويّ الأتمّ لآياتِ المودّة في القربى والتّطهير، والولاية، وأحاديث الثّقلين والغدير، وكلّ النّصوص، من حديثِ الدّارِ إلى حديث الخميسِ الرّزيةِ ما بعدَها رزيّة.


في توجُّهنا إلى الله تعالى، لا بدّ أن نبدأ بالحقيقة العلويّة كمُنطلقٍ أساسٍ لمعرفةِ حقيقةِ التّوحيد، فلا سبيلَ لمعرفة الله تعالى كما بَيَّنَها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلّا من باب مدينة العِلم.

وفي توجُّهنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله لا بدّ أن نبدأ بالحقيقة العلويَّة الطّاهرة: «ما عرفَني إلّا الله وأنت»، وفي توجِّهنا إلى الكعبة لا بدّ أن نلتقي بالحقيقة العلويّة.
عليٌّ من الكعبةِ الكعبةُ، لِيَبْلُغَ القلبُ بدلالتِه الرُّشدَ المحمّديّ، وصِدقَ التوحيد.
كانت الكعبةُ مولدَ عليٍّ عليه السلام، إيذاناً من الله تعالى بأنّ على كلِّ مُسلمٍ يتوجّه ظاهرُه إلى الكعبة، أن يتوجَّه باطنُه إلى عليِّ، ومِن عليٍّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومنه إلى الله تعالى. تماماً كما هو عَقْدُ القلبِ على التوحيدِ الخالصِ رهنُ اتّباعِ المُصطفى الحبيب: ﴿قُل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني..﴾ آل عمران:31، كذلك هي المحمّديّة النقيّة البيضاء في كلّ قلب، رهنُ اتّباع عليٍّ عليه السلام.
يتوجّهُ باطنُ المسلم إلى عليٍّ لِيُصحِّحَ بذلك توجُّهَه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإلى الله عزَّ وجلَّ.
كما هو عليٌّ قِبلةُ المُصلِّي وقلبُ الكَعبة، فلا صومَ إلّا إذا كان في سِرِّ نيّته والطّوِيِّة، ولايةُ الله تعالى، ونبوُّة سيّد النبيّين، من باب المودّةِ في القُربى، بابِ عليٍّ وأهلِ البيتِ عليهم السلام.
هذا هو العمود الفقريّ لكلّ برنامجِ صومٍ حقيقيّ، وإلّا فَلا.

علامةُ الإيمانِ حُبُّ عليٍّ، وعلامةُ النِّفاقِ بُغضُ عليّ!
 

 وفي توجُّهنا إلى ليلةِ القدْر نجدُ أنّنا -منذ اللّيلة التاسعة عشرة وإلى اللّيلة الثالثة والعشرين- أمامَ الإلحاحِ على القلبِ لِيُدرِكَ محمديّة عليٍّ وعَلوِيّة محمّدٍ صلّى الله عليهما وآلهما، بلْ إنّ الأُمّةَ كلّها مدعوَّةٌ على لسانِ المُصطفى الحبيبِ صلّى الله عليه وآله بكُلِّ مكوِّنات العقلِ والوحي والقلبِ والعاطفة، لِتَعِيَ شِغافُ القلوبِ حقيقةَ أنّ شهرَ رمضانَ يجبُ أن يكونَ شهرُ الوصولِ إلى الله تعالى من خلال محمَّديّة عليٍّ صلّى الله عليهما وآلهما، فتُشاطِر الأُمّةُ طيلةَ الشّهرِ المُباركِ نبيَّها الأعظمَ صلّى الله عليه وآله حزنَه وبكاءَه لِما عَلِمَ أنّه سيَجري في هذا الشّهر على أمير المؤمنين عليه السلام.

أَبْكَى هذا المصابُ الجَلَل، والفاجعةُ العُظمى، خيرَ خلقِ الله تعالى قبلَ وقوعِه. أرادَ اللهُ تعالى أن نتعاملَ معه بمستوى ما لو أنّ المستَهدفَ به كانَ شخصَ المُصطفى صلّى الله عليه وآله، فكيف ينبغي أن يكونَ تعاطي الأمّة معه؟
كم هو الفارق الهائل بين ما هو قائمٌ فعلاً في هذا المجال وبينَ ما ينبغي؟!
﴿قُلْ كُلٌّ يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً﴾ الإسراء:84.

* فُزْتُ وربِّ الكَـعبة

أيُّها المُوالي، إصغِ جيّداً، ألا تسمعُ بأُذُن القلب -ما لا أَسمع- نداءً يُدويّ في آفاق الزمان مُنبعِثاً من محرابِ مسجد الكوفة:  «فُزتُ وربِّ الكَعبة»؟
هل تهتدي قلوبُنا أيُّها الحبيب إلى القاسم المُشترك بين هذا النِّداء، وبين ما تقدّم من قولِ أبي الحسن عليه السلام: «وذلكَ في سلامةٍ من ديني»؟
إنّه رِضا الله تعالى، وحدَه لا شريكَ له، فهو لا سِواه قرّةُ عينِ أبي الحسن عليه صلوات الرّحمن عبوديّةً لله تعالى، هي مِيزةُ نفْسِ مَن نتحدّث عن عبوديّته لله تعالى كَأَعلى وسامٍ محمّديٍّ فنقول: وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه.
يُحدِّثُه المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله عن شهادتِه فلا يرمشُ له جفن، ولا يسأل متى وكيف وأينَ ولِمَ، ولا يشدُّه الحنينُ إلى الشّهادة لِيُبادِرَ إلى التعبير عن الفَرحة، بل يقول مباشرةً: «وذلكَ في سلامةٍ من ديني؟».
وفي نصٍّ آخر يقولُ المصطفى الحبيب: كيف صبرُك آنذاك؟ فيقول: يا رسولَ الله، (ذلك) من مواطنِ البُشرى والشُّكر.
ويُضرَبُ عليه السلام تلكَ الضَّربةَ التي حدَّثَه بها المصطفى صلّى الله عليه وآله، فيكونُ التّعبيرُ العفويُّ المُباشر: «فُزتُ وربِّ الكعبة»!
إنّها الشّهادة التي طالَ شوقُه إليها والحنين: «واللهِ لَابْنُ أبي طالب آنَسُ بالموتِ مِن الطِّفلِ بِثَدْي أُمِّه».
سلامةُ الدِّين -أيُّها الموالي- والبحثُ عن الشّهادة، هَمّانِ يجبُ أن نحملَهما باستمرار، وفي ليالي القَدْر بشكلٍ خاصّ.
نعم، سلامةُ الدِّين والبحثُ عن الشّهادة، ولا سبيلَ إليهما إلّا من محرابِ عليّ، وبالتوسُّلِ إلى الله تعالى بِعَلِيّ، ففي ذلك وحدَه رِضا اللهِ تعالى ورِضا رسولِه المصطفى صلّى الله عليه وآله.

* ومَن يَقوى على إعانةِ عَلِيّ؟

يربطُنا بالمرتضى الحبيب ما أَجْمَعَ عليه المسلمون من أنّ حُبَّه علامةُ الإيمان، وبُغْضَهُ علامةُ النِّفاق.
لذلك عقدْنا القلبَ على حُبِّه، وتقرّبْنا إلى الله تعالى بتجذيرِ هذا الحبِّ فلا يقفُ عندَ حدّ، ولا يقوى على اعتراضِه سدّ.
ونَرى دائماً أنّنا مُقَصِّرون: «إنّ المُحِبَّ لِمَن أَحَبَّ مُطيعُ».
ومَن يَقوى على عبادةِ عليّ؟ ومَن يَقوى على جهادِ عليّ؟ ومَن يقوى على عدلِ عليّ؟ ومَن يَقوى على زُهدِ عليّ؟!!!


قال عليه السَّلام: «ألَا وإنّكم لا تقدرونَ على ذلك، ولكنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهاد، وعِفَّةٍ وسَدَاد». ولكنْ مَن يَقوى على إعانةِ عَلِيّ؟
لو أنّ أحداً منَّا كان قد طلبَ إليه أن يُعينَه على حملِ بابِ خيبر، فهل كانَ يَقوى على إعانتِه؟ أو طُلِب منه إعانتَه في بدرٍ أو أُحد، أو حُنين والأحزاب؟!

أَنّى للغارقِ في بحارِ الذُّنوب أنْ يُعينَ نفْسَ المُصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله على الطّاعات؟! إلّا بالتّوسُّل بمحمَّدٍ وعليٍّ وفاطمة والحسَنيْن والتّسعةِ المعصومين عليهم السلام؟
طلبُ الإعانة إذاً، قائم، فَهِيَ مُمكنةٌ بشرطِها وشروطِها. أبرزُ الشُّروط أن لا نُخرِجَ أنفسَنا من حدِّ التقصير. فضلاً عن عريضِ الإدّعاء.


سيِّدي أبا الحسن، سائلٌ وقفَ ببابِك، مِسكينٌ بما جَنَتْهُ يَداي، أسيرٌ في أيدي الهَوى والنّفْس الأمّارة، والقلبِ القاسي، وعدوِّك حُبِّ الدّنيا، وعدوِّك الشّيطان.
بِعَزْمَةٍ من عزماتِك فَاسْتَنْقِذني، وَبِدِفْءِ حَنانِك بَلْسِمْ جراحاتِ قلبِي. أُقسِمُ سيّدي أنّي أُحِبُّ أن أكونَ زَيْناً لكُم، إلّا أنّي عاجزٌ ضعيف، فخُذْ بِيدي.

دعوةً منك إلى الله تعالى.
يَا لَسُوءِ حظِّّي والمُنقلَب إنْ أعرضتَ بوجهِك الكريمِ عنّي يا سرَّ ليلةِ القدْر، ويا قلبَ الكعبة، ويا باطنَ كتابِ الله تعالى.
يا نفْسَ المُصطفى الحبيبِ خيرِ البَرِيّة.
أَوَلَيْسَ الشَّقِيُّ مَن حُرِمَ غُفرانَ الله تعالى في هذا الشّهر العظيم؟ فَأَيْنَ أُوَلِّي، وأينَ يُذهَبُ بي؟
أُقْسِمُ عليكَ بالحسنَيْن وزينب وأبي الفضل العبّاس وأنتَ تُطيلُ النّظرَ إليهم في هذه الأيّام واللّيالي، وتُفكِّرُ في ما يجري عليهم من بعدِك، وكأنّي بكَ تقول: «أللّهمَّ أنتَ الصّاحِبُ في السَّفَر، والمُستَخْلَفُ في الأهل، ولا يجمعْهُما غيرُك».




   حول برنامج الصّائم
               في هَدْيِ خُطبةِ الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله


قَدَّم خاتمُ الأنبياء صلى الله عليه وآله، في خُطبةِ استقبالِ شهرِ رمضان، قواعدَ عامّة يَنطلِق منها َضْيُف الله تعالى، فَيَضع لِنفسه في ضَوْئِها البرنامجَ المُتناسِبَ مع ظروفِه وخصوصيَّاته لِيكونَ لائقاً بهذه الضِّيافةِ الربَانيّة.
ما يلي، ملاحظاتٌ مستوحاةٌ من الآيات والرّوايات، تساعد في التَّخطيط والبَرْمجة للإستفادة الأفضل من هذه القواعد النبويّة التي يُمكن تقسيمُها إلى العنوانَيْنِ التالِيَيْنِ:

  القواعد الفرديَّة: وهي الأمور التالية:

1- التّوبة

دعا النبيّ صلى الله عليه وآله أن يبدأَ الإنسانُ في هذا الشهرِ بتطهيرِ قلبِهِ من الذُّنوبِ فقال: «تُوبُوا إلى اللهِ منْ ذُنُوبِكُم».
* يُنصَح بِغُسل التَّوبة، وصلاة ركعتَين، وبعد التسليم تقول في السُّجود 70 مرّة أستغفر الله، وتدعو بِقَبول التَّوبة.
 

2- الصّلاة


عن صلاةِ الفريضةِ قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ أدَّى فيهِ فَرْضاً كان له ثوابُ مَن أدَّى سبعينَ فرضاً في غيرِهِ».
وعن صلاةِ النافِلَةِ قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ تَطوّعَ فيهِ بصلاةٍ كَتَبَ الله لهُ براءةً منَ النَّارِ».

* مَنْ كان عليه قضاءُ صلاة، فليُقدِّم القضاء على التَّطوُّع، دون أن يَحرمَ نفسَه من بركات التَّطوُّع، والمُراد به الصلاة المُستحبَّة.

3-الصِّيامُ

إعتبرَ صلى الله عليه وآله الصَّومَ في هذا الشهرِ توفيقاً إلهيّاً يَنْبغي للمؤمنِ أن يدعوَ لنيلِهِ فقال: «فاسألوا اللهَ ربَّكُم بِنِيَّاتٍ صادقةٍ وقلوبٍ طاهرةٍ أن يوفِّقَكُم لصيامِهِ».
* الصَّوم رُوحٌ جَسَدُه الإمتناع عن المفطِّرات، ولا سبيل إلى رُوحِ الصَّوم إلَّا بمراقبة القلب، والمُرابطة على ثَغْره.

4- تِلاوةُ القرآن

قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ تلا فيهِ آيةًً منَ القرآن، كان لهُ مِثلُ مَنْ خَتَمَ القرآنَ في غيرِهِ من الشُّهورِ».
* يَنبغي لِلمؤمن أن يقرأ في هذا الشَّهرِ كلَّ يومٍ على الأقلّ، جُزءاً من القرآن الكريمِ عسى أن يُوفَّق لِخَتمِ القرآن فيه.
* يُنصَح بالحرص على أكبر عَددٍ من الخَتمات، عِلماً بأنَّ الختمة تحتاج من الوقت -بمعدَّلٍ عام- حوالي العشر ساعات.
* كثيرٌ -عادةً- هو الوقت الضّائع، الذي يُمكن مَلْؤه بتلاوة كتاب الله تعالى، لِيَكون المُسلم من خير ضُيوف الله تعالى.

5- الدُّعاء

دعا النبيّ صلى الله عليه وآله إلى اغتنامِ فرصةِ الشهرِ المُبارَك في الدّعاءِ إلى الله لا سيَّما في أوقاتِ الصَّلاة فقال: «وارْفعُوا أيديَكُم بالدّعاءِ في أوقاتِ صلواتِكُم، فإنَّها أفضلُ الساعاتِ، ينظرُ الله عزَّ وجلَّ فيها بالرَّحمةِ إلى عبادِهِ، يُجيبًهم إذا ناجَوه ويلبّيهم إذا نادَوهُ ويستجيبُ لهم إذا دعَوهُ».


* أدعية الشَّهر الكريم كثيرة، ويَنبغي التَّنبُّه بشكلٍ خاصّ للدُّعاء بعد كلِّ فريضة: يا عليُّ يا عظيم إلخ، وإلى دعاء «البهاء» الذي وَرَد الحَثُّ العظيم عليه، بالإضافة إلى دعاء «الإفتتاح»، ودعاء السَّحَر المعروف بـ «دعاء أبي حمزة الثُّمالي». والأهمُّ من قراءة الدُّعاء، أن تكون حالُ القلبِ حالَ تَضَرُّعٍ وابتِهال.


6-الإستغفار

قال صلّى الله عليه وآله: «إنَّ أنفسَكُم مرهونةٌ بأعمالِكم ففُكُّوها باستغفارِكم».
* من كانت له دارٌ أو بيت مَرْهون، وقيل له: تفكُّها بالإستغفار! فَكَم يَستغفر؟!
* يكفي في الإستغفار «أستغفرُ الله» دون زيادة.
* فلنَرْحَم أنفسنا ونعمل على فَكاكِ رقابِنا ونفوسِنا بكَثرة الإستغفار. يُنصَح بالتَّدرُّج لِيَصلَ العددُ إلى أكثر ما يَتَيَسَّر مع شدِّ الهِمَّة.

7- طُولُ السُّجودِ

قال صلّى الله عليه وآله: «ظهوركُم ثقيلةٌ من أوزارِكُم فخَفِّفوا عنها بطولِ سجودِكُم».
* يُفَضَّل التَّدرُّج في الوصول إلى السُّجود الطّويل. دقيقتان في البداية ثمَّ يفصل، ثمَّ يعود إلى السجود دقيقتين أو ثلاث، وهكذا، وصولاً إلى ما مجموعه ربع ساعة يوميّاً في المرحلة الأولى، وهكذا.

8- كثرةُ الصَّلاةِ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد صلى الله عليه وآله

قال صلى الله عليه وآله: «منْ أكثَرَ فيهِ مِنَ الصَّلاةِ عليَّ ثقَّل اللهُ ميزانَهُ يومَ القيامةِ، يومَ تَخفُّ فيهِ الموازِين».
* يُنصَح بِتَخصيص نصف ساعة يوميّاً للصلوات، ولو على دفعات. بالنِّسبة لِلملتزمين ببرنامج «بنك الصلوات» يُنصَح أن تكون هذه الصَّلوات إضافة على ما يلتزمون به عادة.ً

9- تَذَكُّر الآخرةِ

قال صلى الله عليه وآله: «واذكرُوا بجوعِكُم وعطَشِكُم فيهِ جوعَ يومِ القيامةِ وعطشَهُ».

* يُنصَح بمطالعة كتابٍ حَوْل المَعاد، مثلاً (منازل الآخرة) للمُحدِّث الشيخ عبَّاس القُمِّي قدس سره، بمعدَّل عدّة صفحات في كلِّ يوم لِيَكون تذكُّر الآخرة جزءاً ملازماً من عمليّة الصَّوم.

  القواعد الإجتماعيّة: وهي الأمور التالية

1- التصدُّق على الفقراءِ والمساكين
 

قال صلى الله عليه وآله: «تَصَدَّقوا على فقرائِكُم ومساكِينِكُم».
* الأفضل دفع صَدَقة سنويَّة، أي عن السَّنة كلِّها، والأفضل دفع صَدَقة عن العمْر كلِّه، تُدفَع سرّاً، وتُنوَى نصفين: نصفاً عن اللّيل ونصفاً عن النَّهار، والأقربون أَوْلى. وليس المبلغ هو الأهمّ، بل النيَّة، وحسب الإستطاعة، ولو«بشقِّ تمرة».  فالغاية هي سُلوك طريق البَذْل والعطاء، والتَّدرُّج في خدمة النَّاس، من القليل إلى الكثير، وُصولاً إلى الخدمة الأكبر التي ليس فوقها برّ: «الشَّهادة في سبيل الله» بِمَا تُمثِّل من كَوْنها أعلى خدمة للنَّاس في سبيل الله الذي هو سبيلُ النَّاس كما يؤكِّد المرجع الشهيد السيِّد محمَّد باقر الصَّدر قدس سره.

بين الصَّدقة، والمِصداقيَّة، و﴿صَدَقوا ما عاهدُوا اللهَ عليه﴾  و﴿في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتدِر﴾  كلّ النَّسَب والسَّبَب.

2- صِلَةُ الرَّحِم

قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ وَصَلَ فيهِ رحمَهُ، وصَلَهُ الله برحمتِهِ يومَ يلقاهُ».
* يَنوي المؤمن عازِماً، أن يُرَمِّم ما فَسَد من علاقته  بأرحامه، فلِلنِّيَّة الجادَّة أثرُها الكبير مباشرة، ثمَّ يبدأ بالتَّنفيذ، على أنْ لا يترك رَحِماً بينه وبينه قطيعة إلَّا وَصَله، ولو بإرسال السلام إليه، إنْ لم يكن غير ذلك مُمكناً
.
3-  تَوْقيرُ الكبار

قال صلى الله عليه وآله: «وقِّروا كبارَكُم».
مَنْ لم يوقِّر لم يُوَقَّر، وللكبير حرمتُه خصوصاً ذا الشَّيْبة المسلم. مَنْ لا يُفرِّق بين النِّدِّ وبين الكبير لا يعرف أبسطَ قواعد التَّعامل المهذَّب والكريم.

4- رحمةُ الصِّغار

قال صلى الله عليه وآله: «...وارحموا صغارَكُم».
* بيوتُنا لِصغارنا، ثمَّ لنا، فلا نُضيِّق عليهم فَنَكبتَهم، والأصل في وقتنا -خارج نطاق العمل- أن يكون فيه لصغارنا مُتَّسَعٌ من الوقت نُجالسهم ونُحادثهم ونُؤنسهم، ونُربِِّيهم ونُعلِّمهم. 

5-  إكرامُ اليتيم

قال صلى الله عليه وآله: «من أَكْرَمَ فيه يتيماً أكرمَهُ اللهُ يومَ يلقاهُ».
* لا يُمكن أن يُسرع في دخولِ باب الرَّحمة مَنْ لا يرحم اليتيم، وقد يُحرَم.

6- إفطارُ الصَّائمين

قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ فطَّرَ منكم صائماً مؤمناً في هذا الشَّهرِ كان له بذلك عند الله عِتقُ رقَبَةٍ ومغفرةٌ لِما مضى من ذنوبِهِ».
* مِن أبرز أهداف الصَّوم أن يَجِدَ الغنيُّ مَسَّ الجوع فيهتمَّ بالفقير، فيُعزِّز في نفسه رُوحَ الجماعة، فليُوقِن بأنَّه ليس له من ماله إلَّا ما أنفقه، ولا يأكل وحدَه، ويهتمّ بالضُّيوف، فلْنَحذَر أن يتحوَّل الشَّهر الكريم إلى حصر اهتمام الصَّائم بتُخمته تعويضاً عن الجوع في النّهار، فنَفْقِدَ بركاتِ الصَّوم.

7- تحسينُ الخُلُق

قال صلى الله عليه وآله: «مَنْ حسَّنَ منكُم في هذا الشهرِ خُلُقَهُ كان له جوازٌ على الصراطِ يومَ تَزِلُّ فيه الأقدام».

* لسنا هنا أمام دعوة إلى تغيير أخلاقنا السّيِّئة كلِّيّاً، بل نحن مدعوُّون إلى تَحسينِ أخلاقِنا ولو ببعضِ المراتب، وهذا أمرٌ أسهلُ بكثير، شرطَ المحاولاتِ الجادَّة، وعلى الله قَصْدُ السَّبيل.

8- حِفظُ اللسان

قال صلى الله عليه وآله: «واحفظوا ألسنَتِكُم».
وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله: «الصائمُ في عبادةٍ وإن كان نائماً على فراشِهِ ما لم يغْتَبْ مُسْلِماً».
* هل نُقرِّر أن نُقلِّل من الكلام، ونُدقِّق جيّداً في ما سنقول في هذا الشَّهر، لِنَتجنَّب مجازر اللّسان. أللَّهمَّ أَعِنَّا على أنفسنا.

9-غضُّ البصرِ والسَّمعِ عمّا لا يَحِلّ
 
قال صلى الله عليه وآله: «غُضُّوا عمّا لا يَحِلُّ النظرُ إليه أبصارَكم وعمّا لا يَحِلُّ الإستماعُ إليه أسماعَكم».
* تتغذَّى الرُّوح بشكلٍ رئيس، بما يقولُه اللّسان وما تراه العين وتسمعه الأُذُن، فهل نُدرِكُ خطورةَ عدم ضَبْطِ هذه الجوارح؟
* جديرٌ بالصَّائم أن يكون له برنامجُه الخاصّ في هذا المجال: ﴿إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربُّهم بإيمانهم..﴾ يونس:9.


  
   على أبواب الضِّيافة، وفي أيِّ مرحلة منها

إذا كنَّا على أبواب شهر رمضان، أو في أوَّله، أو بقي  منه الكثير، أو بعضُ الأيّام واللّيالي، فإنَّ علينا العناية التامّةَ بما يلي:
1- أن نَضَع خطبةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله أمامَنا ونُحاولَ أن نُطبِّق ولو بعضَ ما أَمَرَنا بالإهتمام به.
2-  الحرْصُ على أن نصوم  ولو يوماً واحداً صوماً حقيقيّاً، بالتّدقيق في ترك المعاصي.
3-  نلتزم قدر الإستطاعة بالصَّلاة أوَّل وقتها.
4- نُلغي كلَّ ما يُمكن إلغاؤه، ونؤجِّل كلَّ ما يُمكنُ تأجيلُه، لِيتِّسع الوقتُ الذي يُمكن أن نُمضيه بالطَّاعة والعبادة.
5-  نُخصِّص أكثر وقتنا المُتاح لقراءة القرآن الكريم، والإستغفار، والصَّلاة على النبيّ وآله، وطُولِ السُّجود.
 أَلَم يتقدَّم معنا أنَّ آيةً واحدةً تُقرَأ في شهر الله تعالى يُعطى قارِؤها ثواب مَن خَتَمَ القرآن الكريم؟
إذا كنتُ لم أَقرأ من كتاب ربِّي سُبحانه، أو قرأتُ منه قليلاً، فلماذا لا أحرصُ الآن أن أُعوِّض؟
 تُرى كم استغفرتُ الله تعالى؟

ألم يَقُلْ رسولُ الله صلى الله عليه وآله: «أيُّها النَّاس إنّ أنفسَكم مرهونةٌ بأعمالِكم فَفُكُّوها باستغفارِكم».
أمامي إذاً فرصةٌ نادرةٌ فريدة، يُمكنني أثناءَها أن أفُكَّ نفسي من الرَّهن، فلماذا لا أُكثِر من الإستغفار؟

ولماذا لا أُكثِر من الصّلاة على النبي وآله صلى الله عليه وآله؟
أَلَم يقلْ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله -وهو الصَّادق الأمين- إنَّها تُثَقِّل الموازينَ يوم تَخفُّ الموازين؟!
 لِنُجرِّبْ طولَ السُّجود في هَدْي الحنان النّبويّ: «وظهوركم ثقيلةٌ من أوْزاركُم فخفِّفوا عنها بِطُول سجودكم».
وَلْنُجَرِّبْ حُسْنَ الخُلُق، ومَن لا يستطيع منَّا أن يكون حَسَن الخُلُق في الشِّهر كلِّه، أو في الفترة الباقية منه، فليُجرِّب أن يُحسِّن خُلُقَه ولو بعض المرّات -فتساعده على غيرها- ومِن حُسنِ الخُلُق توقير الكبار ورحمة الصِّغار، فلنَحرصْ على أن لا ينقضي عنَّا شهر رمضان دون أن نُكرِم يتيماً، ونَهتمّ بِصِلة الرَّحِم، فلعلَّ إحدى هذه المفردات تُشكِّل مُنعطفاً مصيريّاً، وما ذلك على الله تعالى بعزيز.
علينا أيُّها العزيز أن نشحنَ أوقاتنا في هذه الفترة المُتبقِّية بالعملِ الصّالح.
من دعاء الإمام السّجاد عليه السلام، في استقبال شهر ضيافة الله تعالى:

«أللّهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبَادَتِنَا إيَّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِنَا لَكَ، وَأَعِنَّا فِي نَهَـارِهِ عَلَى صِيَـامِـهِ، وَفِي لَيْلِهِ عَلَى الصَّـلاَةِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْكَ وَالْخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، حَتَّى لا يَشْهَدَ نَهَارُهُ عَلَيْنَا بِغَفْلَةٍ، وَلا لَيْلُهُ بِتَفْرِيطٍ..».

يُساعدُ على تحقيقِ هذا الهدف النبويّ «شَحْنِ شهر الله تعالى بالعبادة»، كثرةُ التأمُّل في دعاءَي الإمام السّجاد عليه السلام في استقبال شهر رمضان، ووداعِه، إضافةً إلى كثرة قراءة الخُطبة النَّبويّة وحُسْنِ التدبُّر فيها.
 
  قبلَ فواتِ الأَوَان

مَنْ لم يُوفَّق لِوَضع برنامجٍ خاصٍّ في هَدْي الخُطبة النَّبويّة المباركة، فهو مدعوٌّ -وفي أيِّ يومٍ تنبَّه لذلك طيلة الشَّهر المُبارَك- أن لا يَحرِمَ نفسه من بركات سيِّد النَّبيِّين الرّؤوف الرّحيم بما آتاه اللهُ تعالى، فيَحرِص على تطبيق كلِّ بندٍ من هذه الخطبة الخالدة ولو مرّةً واحدة، وذلك كما يلي:

1- يُكثِر من قراءة القرآن الكريم ولو مرّة واحدة.
2-  يَكفُّ نفسَه عن المحرَّمات -خصوصاً في الكلام- ولو ليومٍ واحد لِيَصوم صوماً حقيقيّاً.
3-  يُصلِّي أوّلَ الوقت، فإنَّ أوقاتَ الصّلاة أفضلُ أوقاتِ هذا الشّهر المُبارك.
4-  يُكثِر من الإستغفار، كَأَنْ يستغفر مثلاً ثلاثمائة مرّة.
5-  يُطيلُ السُّجود ولو مرّةً واحدة. ومن أفضل ما يُقال في السُّجود، الذِّكر اليونُسيّ: ﴿لا إله إلَّا أنت سُبحانَكَ إنِّي كنت من الظَّالمين﴾.
6- يُكثرُ الصلاة على النبيّ وآله، صلّى الله عليه وآله.
7- يُكرمُ يتيماً.
8- يَصِلُ ولو واحداً من أرحامِه.
9- يُحسِّن خُلُقَه ولو مرّةً واحدة. يُستثَارُ فلا يثور، لِيكونَ بذلك مُستجيباً لرسول الله صلى الله عليه وأله، مُلتمساً منه الدُّعاء والشَّفاعة والتَّوفيق للتَّوبة، وقد أَمَرَنا ربُّنا عزَّ وجلَّ، أن نأتيَه أذا أخطأنا لنَستغفِر الله تعالى، ويَستغفر لنا الرَّسول:
 قال الله تعالى: ﴿..ولو أنّّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً﴾ النساء:64.
10- ما أعظمَ أن يَحرص المُسلم في شهر رمضان على أن يأتي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله من خلال استماعِ مَجْلس عَزاءٍ حُسينيّ أو قراءته، يتذكَّر به فجيعةَ المُصطفى الحبيب بنفسِه أميرِ المؤمنين صلّى الله عليهما وآلهما، إعلاناً للثّبات في خطِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإشهاداً لِلملائكةِ والوجودِ بالبُكاء لِمَا أبكاه، وحبِّ مَنْ أَحبَّهم، وبَلَّغ عن الله تعالى وُجُوبَ حبِّهم.

إذا عَملنا بمفردات خُطبة المُصطفى صلّى الله عليه وآله، حولَ شهر رمضان المُبارَك ولو مرّة واحدة لِكُلِّ مُفرَدةٍ منها، ثمَّ وقفنا ببابِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، الذي أَمَرَنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن نَقِف بِبابِه إذا أَخطأنا، وطَلَبنا منه أن يَدعو الله تعالى لنا ويَشفَعَ لنا، أَمْكَنَنا بعد ذلك أن نقول: إلهنَا ها قد وَقَفنا بِبابك بابِ رسولِك المُصطفى الحبيب كما أمَرْتَنا، واستَغْفَرناك وطَلَبْنا من المُصطفى أن يَستَغْفرَكَ لنا، وهو الكريم الذي أمَرْتَه أن لا يَنْهَر السَّائل فلا بدَّ أنَّه سَيَشفعُ لنا.
أللَّهمَّ بِحَقِّ نبيِّك المُصطفى صلّى الله عليه وآله فاغفِر لنا، واجعَلْنا مِن أَوْفَر عبادِك حظّاً عندك في هذا الشَّهر المُبارَك.

***



 

اخبار مرتبطة

نفحات