الملف

الملف

15/11/2017

النظرية المعرفية عند الإمام جعفر الصادق عليه السلام


﴿..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾

النظرية المعرفية عند الإمام جعفر الصادق عليه السلام

§        د. وليد سعيد البياتي

 

* «الوصولُ بالإنسان إلى المعرفة الكلّية يخضع لعملية تراكمية تتفاعل مع تطوّر الحاجات الفردية والاجتماعية، ما يؤسّس لوعيٍ معرفيٍّ ينقل الأفراد من حالة السكون إلى الانفعال لتحقيق غائيّة الوجود... ويمكن اعتبار مدرسة الإمام الصادق العلمية مدرسة تأصيلية وضعت أصول المعرفة التي جاء بها الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وأسّست لمناهج تطبيقية عبر نشرها من خلال آلاف التلاميذ والأتباع الذين حملوا عبء هذا العمل المعرفيّ».

يتناول هذا البحث للدكتور وليد سعيد البياتي الموقف التأسيسيّ والمبادئ العرفانية في منهج الإمام الصادق عليه السلام.

«شعائر»

 

تتوقف المعرفة عند حدود العقل، فكلما ازدادت مدارك العقل كلما تفتّحت له أبواب المعارف، فإذا كانت مهمة الرسول الخاتم أن يكون بشيراً ونذيراً، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ المائدة:19.

 

 

فإنّ مهمّة الإمامة تكمن في أن تمثّل استمراراً واعياً للرسالة السماوية، لأنّها من طبيعتها ومن سنخها التكويني، ومن هنا كان الإمام عليّ عليه السلام نفس رسول الله صلوات الله عليهما وآلهما.

من هنا أيضاً نفهم المنهج التأصيلي للإمام الصادق الذي يمثل جانباً من سلسلة الإمامة؛ لقد أوضح الإمام منذ البداية طبيعة المعارف التي تحمل أصولها حقيقة مَنشئها السماوي وأنّها ليست خاضعة للأهواء أو قابلة للانحراف، فهو يقول في الأصول العلمية:

«يا جابر، لو كنّا نُفتي الناسَ برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصولِ علمٍ عندنا، نتوارثُها كابراً عن كابرٍ، نَكنِزها كما يكنِزُ هؤلاء ذهبَهم وفضّتَهم». (البحار: 2/172)

 

 

يعني قوله عليه السلام أنّ الأصول التأسيسية للمعرفة بكل أبعادها وأصنافها، ذات منشأ إلهي، وما النبوّات والرسالات إلّا وسيلة لإيصالها إلى الخلق، وأمّا الانبياء والرسل ما هم إلّا أوعية لحفظ المعرفة ونشرها وصولاً إلى معرفة الخالق وتحقيق غائية الوجود.

فكما أنّ علم الرسول لا يخضع لحالات النفس واضطرابها وشهواتها، وهو الوحي الرساليّ، فكذلك العلم الإلهاميّ للإمام هو أيضاً أصل خالص من الله عزّ وجلّ إلى رسوله وأئمّة أهل البيت عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فالوحي قسمان:

1) وحي رسالي: وهو خاصّ بالأنبياء والرسُل عليهم السلام، ليثبت به نبوّاتهم وليؤكّد رسالاتهم، وهو بوابة العلم من لدن العليم الحكيم تعالى شأنه.

2) وحي إلهامي: وهو ما يحصل للأئمّة المعصومين عليهم السلام، أو كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ عِلمَنا غابرٌ ومزبورٌ، ونَكتٌ في القلوبِ، ونَقْرٌ في الأسماعِ.... أمّا الغابرُ فما تقدّم من عِلمنا، وأمّا المزبورُ فما يأتينا، وأمّا النَّكْتُ في القلوبِ فإلهامٌ، وأمّا النَّقْرُ في الأسماعِ فأَمْرُ الملَك». (الكليني، الكافي: 1/264)

بمعنى أنّهم عليهم السلام يحصل لهم العلم فيجدونه في قلوبهم، وهو بمعنى الإحساس الإدراكي العالي في معرفة الحقيقة في كلّ أمر. وهل الإلهام إلّا ذلك الإحساس العالي بالحقيقة؟

وقد حاول سابقاً الشيخ أبو زهرة في كتابه (الصادق) تفنيد قضية الوحي الإلهامي عند الأئمّة الاثني عشر، متجاهلاً أنّ الله يذكر في كتابه العزيز أنّه أوحى إلى النحل، وإلى النمل، وإلى أمّ موسى عليه السلام، وحواريّي عيسى عليه السلام، وعددٍ كبيرٍ من الخلق، وحياً إلهامياً بمعنى المعرفة الحسية بالعلم؛ فالإمام يحصل لديه اليقين بحقيقة كلّ موقف علمي أو تشريعي ليتكامل تفسير الشريعة الإلهية وليتمّ إيقاع الأحكام الشرعية وتفسير الحالات الإنسانية، خاصةً وأنّها الرسالة الخاتَمة؛ بمعنى انقطاع الوحي الرساليّ، لكنّ ذلك لا يعني انقطاع الوحي الإلهامي، إذ لا نبيّ بعد محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، والأمّة تحتاج إلى هداةٍ مهديّين يقودون مسيرتها في حركة التاريخ، وهذا جزء من صيرورة الأمة واستمرارها. ومن هنا قال الله عزّ وجلّ: ﴿..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾ النساء:83.

كان الإمام الصادق قد جمع في مدرسته الفكرية مئاتٍ من كبار العلماء الذين تتلمذوا عليه، فرَووا عنه عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف حديث، فأذِن لهم بالإفتاء ونقل المعارف العلمية عنه، بل إنّه كان يعدّهم ليكونوا مستقلين فكرياً في تفريعاتهم العلمية، بعد أن أوصل إلى عقولهم القواعد والأصول الأصلية في المعارف، وهو الذي يقول لأصحابه وخاصّته من تلاميذه: « إنّما علينا أن نُلقي إليكم الأصولَ وعليكم أن تفرّعوا». (ابن إدريس الحلّي، المستطرفات، ص 109)

نلاحظ هنا أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام، يؤسّس من خلال منهجه العلمي في تحضير وتدريب عددٍ من تلامذته الذين ينقل إليهم الأصول العلمية ويترك لهم عملية استنباط الفروع في الأحكام الشرعية، وهو ذات المنهج العلمي الذي سارت عليه المدارس والحوزات العلمية منذ القرن الهجري الأول على يد الإمام عليّ عليه السلام. وهو يتفوّق كثيراً على المناهج الأكاديمية المعاصرة في عملية توثيق المعرفة وتطوّر بنائها.

فالإمام الصادق عليه السلام يؤكّد دور العقل في التأسيس المعرفيّ، كما أنّه يبيّن القواعد الأصلية في تطوّر المعارف من خلال الإدراك الواعي للأصول العلمية التي يعرضها لطلاب العلم، لتكون بذلك منهجاً في التطوّر المعرفي.

غير أنّ الأهم هو أن هذه الأصول ليست أصولاً كيفية خاضعة للتغيير الزماني والمكاني، أو أنّها تتضارب والمنهج العقلي، فهي أصول متوراثة من علم الرسالة؛ أي إنّها أصول ذات منشأ إلهي أُرسلت إلى عالم الوجود عن طريق الوحي.

وعليه، فإنّ مجمل الموقف التأسيسي عند الإمام جعفر الصادق إنّما يتبع المنهج التأصيلي في تحديد الأصول العلمية التي تنبثق عنها المعارف والعلوم، وتكريس تطبيقها في مختلف الاتجاهات الفكرية، ويمكن اعتبار مدرسته العلمية مدرسة تأصيلية وضعت أصول المعرفة التي جاء بها الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وأسّست لمناهج تطبيقية عبر نشرها من خلال آلاف التلاميذ والأتباع الذين حملوا عبء هذا العمل المعرفي.

وقد رُوي عن الحسن بن عليّ الوشّاء أنّه قال: «أدركت مسجد الكوفة وفيه تسعمائة شيخ، كلٌّ يقول: حدّثني الإمام الصادق عليه السلام كذا وكذا».

فكلّ عالمٍ من هؤلاء أخذ الحديث عن الصادق مباشرة، لأنّه يسند مصدر الحديث إليه عليه السلام. ولو أنّنا افترضنا أنّ لكلّ شيخٍ من هؤلاء عشرة تلاميذ يدرسون عليه على أقلّ تقدير، فسيحصل عندنا تسعة آلاف إنسان تخرّجوا من مدرسة الصادق صلوات الله عليه، لكن الأخبار المتواترة أنّ العدد أكبر من هذا بكثير.

 

 

المبادئ العرفانية في منهج الإمام الصادق عليه السلام

العرفان مشتقّ من المعرفة، وكمال المعرفة هي معرفة الله عزّ وجلّ. وهل الدّين إلا معرفةُ الله؟ على ذلك يُجمل أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام عقيدته في معرفة الله، وهي ذات العقيدة التي نادى بها الرسول الخاتم وتمثّلها الأئمة الأطهار عليهم السلام، فنراه يقول:

«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه، ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه». (نهج البلاغة، خ 1)

واذا كان حديث كلٍّ إمامٍ هو حديثُ أبيه، وحديثُ أبيه هو حديث جدّه، فإنّ هذا المنهج العرفانيّ الذي وضعه والد الأئمّة عليّ عليه السلام قد مثّل الأصول العرفانية التي اتّبعها كلّ الأئمّة عليهم السلام، فهي مبادئ مدرستهم في معرفة الله. لأجل ذلك قلنا إنّ المدرسة العرفانية للإمام جعفر الصادق عليه السلام لا تنفصل عن تلك التي تأسست منذ عصر جدّه الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله.

غير أنّ كل واحدٍ من الأئمّة عليهم السلام يفتح لنا أبواباً في مبادئ المعرفة من منظورات متعدّدة، ما يؤشّر إلى التكامل المعرفي في منهج الإمامة. وهنا يوجز الإمام الصادق عليه السلام مبادئه العرفانية في معرفة الله عزّ وجلّ في قوله: «.. والمعرفةُ أصلٌ فرعُهُ الإيمان». (مصباح الشريعة، ص 191)

فالإمام الصادق يجعل المعرفة أصلاً من الأصول العلمية، التي من دونها لا تكتمل المعرفة ولا يتحقّق الإيمان، ويقصر العقلُ عن إدراك غائية الوجود ومعنى الحياة والموت وطبيعة التكوين. بل هي أولُ الأصول. حتى إنّه جعل الإيمان فرعاً من فروع المعرفة، فلا يكون إيمانٌ دون معرفة الله، ولهذا قال عليه السلام: «العارفُ شخصُه مع الخَلْق، وقلبُه مع الله، لو سهى قلبُه عن الله طرفةَ عينٍ لماتَ شوقاً إليه، والعارفُ أمينُ ودائعِ الله، وكنزُ أسرارِه، ومعدنُ أنوارِه، ودليلُ رحمتِه على خلقِه، ومطيّةُ علومِه وميزانُ فضلِه وعدلِه، قد غنيَ عن الخلق والمراد والدنيا، ولا مُؤنسَ له سوى الله، ولا نُطْقَ ولا إشارةَ ولا نَفَسَ إلا باللهِ للهِ من اللهِ مع اللهِ؛ فهو في رياضِ قُدسِه متردّد، ومن لطائفِ فضلِه إليه متزوّد..». (المصدر السابق)

فالعارف لا يكون عارفاً حتى يكون على يقينٍ من أمر الله، مدركاً لحقيقة وجوده تعالى شأنه؛ بأنّه واجب الوجود، وكلّ ما دونه محتمل الوجود، فكلّما كان العارف مدركاً لشأن اليقين، كلّما سمت مرتبته. وهنا يقول الصادق عليه السلام: «اليقينُ يُوصِلُ العبدَ إلى كلّ حالٍ سَنِيٍّ». (مصباح الشريعة، ص 177)

وقد كان الرسول الخاتم قد ذكر في شأن عيسى عليه السلام حين ذُكر في حضرته بأنّه كان يمشي على الماء، فقال: «لو زادَ يقينُه لمَشى في الهواء».

ومن هنا أيضاً نفهم قول الصادق عليه السلام: «إنَّ روحَ المؤمنِ لأَشَدُّ اتّصالاً بروحِ اللهِ من اتّصال شعاعِ الشّمسِ بها». (الكافي: 2/166)

فالعلاقة بين المؤمن والله عزّ وجلّ لا تتحقّق إلا بالمعرفة الإدراكية المؤدّية إلى اليقين؛ فكلما زاد الإدراك كلما ارتقى العارف في مراتب العرفان، وتحقّق عنده تكامل اليقين من علم اليقين إلى عين اليقين، وصولا ًلحقّ اليقين، وتلك مرتبة الأنبياء والرسُل والأئمّة عليهم السلام في أقصى مدارك العرفان.

من هنا، فإنّ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام تُعتبر امتداداً لمدرسة جدّه الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، المؤسِّس لكلّ المعارف الإلهية والعرفانية، التي تجلّت جوانبها في كلّ عصرٍ من عصور الأئمّة عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول باختصار عن الموقع الإلكتروني لوكالة أنباء براثا

 

اخبار مرتبطة

  تقرير

تقرير

منذ 6 أيام

تقرير

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ 6 أيام

إصدارات عربية

نفحات