أحسن الحديث

أحسن الحديث

15/12/2017

الكفر والارتداد يبطلان أثرَ الأعمال في تحقّق السعادة

 

﴿..حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ..

الكفر والارتداد يبطلان أثرَ الأعمال في تحقّق السعادة

ــــــــــــــــــــــــــــــــ العلّامة السيّد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــــ

بحثٌ قرآني مبسوط عن حَبْط عمل الكافرين خطّه العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله في تفسيره النوعي «الميزان»، المجلّد الثاني منه عقيب تفسيره الآية 217 من سورة (البقرة)، وهي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

 

الحَبْطُ هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم يُنسب في القرآن إلّا إلى العمل، كقوله تعالى: ﴿..لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الزمر:65.

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ محمد: 32-33.

وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط [هو] بمعنى بطلان العمل، كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿..وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هود:16، ويقرب منه قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ الفرقان:23. "..".

بطلانُ الأعمال في الدنيا والآخرة

والذي ذكَره تعالى من أثر الحبط بطلانُ الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّقٌ بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النحل:97.

وخسرانُ سعي الكافر -وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان وحَبْطُ عمله في الدنيا- ظاهرٌ لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت وهو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة.

قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..﴾ الأنعام:122، تبيّن الآية أنّ للمؤمن في الدنيا حياةً ونوراً في أفعاله، وليس للكافر. ومثله قوله تعالى، ﴿..فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ طه 123- 124، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة: معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة. وقد جَمع الجميعَ ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمد:11.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلقُ الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية والأفعال القُربيّة التي كان المرتدّ عمِلها وأتى بها حالَ الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط واردٌ في مورد الذين لا عملَ عباديّ ولا فِعلَ قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ محمد:7-9، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ آل عمران:21-22، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياةً في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإنْ آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة، وان مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

حبط الأعمال حين الارتداد أو عند الموت؟

ذهب بعضُهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى: ﴿..وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ..﴾ البقرة:217، وربّما أيّده قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ الفرقان:23، فإنّ الآية تُبيّن حالَ الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعمالَه الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تُحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمِله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد «الموت» لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله التي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف أنْ لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

هل تُبطل الأعمال بعضها؟

وهنا مسألة أخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تُبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل، بل للحسنة حكمُها وللسيئة حكمها، نعم الحسنات ربّما كفّرت السيئات بنصّ القرآن؟

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال، وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمِن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيئة تُبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمُه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط. ومِن قائل بالموازنة، وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المُنافي، ولازمُ القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شيء منهما.

ويردُّهما أوّلاً: قوله تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:102، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تَلحقها توبة من الله سبحانه، وهو يُنافي التحابط بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنساني من طريق المُجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حِدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها، فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة. نعم الحسنة ربّما كفّرت السيئة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..﴾ الأنفال:29 ".." بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..﴾ الفرقان:70.

وهنا مسألة أخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، ".." والذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال ".." كان لازم ذلك كون النفس الإنسانية ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغيّر إلّا بالمغفرة أو الشفاعة..

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 5 أيام

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ 5 أيام

إصدارات عربية

نفحات