وصيَّة الإمام الصَّادق لعنوان البَصْريّ

وصيَّة الإمام الصَّادق لعنوان البَصْريّ

منذ 0 ساعة

أَرَدْتَ العِلم.. فاطلُب حقيقةَ العبوديَّة

أَرَدْتَ العِلم.. فاطلُب حقيقةَ العبوديَّة
وصيَّة الإمام الصَّادق لعنوان البَصْريّ


الفقيه السيِّد محمّد حسين الطهراني قدّس سرّه


«..كان المرحوم الأستاذ الكبير، عارِف القَرْن الذي لا نَظير له، بل هو حسب تعبير أُستاذنا سماحة الحاجّ السيّد هاشم: "لمْ يأتِ منذ صدر الإسلام حتّى الآن في مثل شُمول وجامعيّة المرحوم القاضي" -كان- قد أَصدَر تعليماته لتلامذته ومريديه في السَّير والسُّلوك إلى الله، أن يكتبوا رواية "عُنوان البصريّ"، ويعملوا بها من أجل تَخطّي النَّفس الأمّارة والرَّغبات المادّيّة والطَّبْعيّة والشَّهويّة والغضبيّة التي تَنشأ غالباً من الحِقْد والحِرْص والشَّهوة والغضب والإفراط في المَلذّات. أيْ أنَّ العمل وفق مضمون هذه الرِّواية كان أمراً أساسيّاً ومُهمّاً».
تقدِّم «شعائر» ما كتبه الفقيه العارف الراحل السيّد «الطهراني» في هذا المجال، في كتاب (الرُّوح المجرَّد) بتصرُّف يسير.


 ..كان السيِّد علي القاضي يقول مضافاً إلى ذلك: «ينبغي أن تَحتفظوا بها [وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البَصري] في جيوبكم وتُطالعوها مرّة أو مرّتين كلّ أُسبوع». فهذه الرِّواية تَحظى بالأهمّيّة الكبيرة وتَحوي مطالب شاملة وجامعة في بَيان كيفيّة المُعاشَرة والخَلوة، وكيفيّة ومقدار تناول الغِذاء، وكيفيّة تحصيل العِلْم، وكيفيّة الحِلْم ومقدار الصَّبر والإستقامة وتحمُّل الشدائد أمام أقوال الطَّاعنين؛ وأخيراً مقام العُبوديّة والتَّسليم والرِّضا والوصول إلى أعلى ذُرْوة العرفان وقِمّة التَّوحيد.
لذا، لم يَكُن المرحوم القاضي يَقبَل تلميذاً لا يَلتزِم بِمَضمون هذه الرِّواية. وهذه الرِّواية منقولة عن الإمام جعفر الصَّادق عليه السلام، وقد ذَكَرها العلّامة المجلسيّ في كتاب (بحار الأنوار).

النصّ الكامل لرواية عنوان البَصْرِيّ

ولمّا كانت تُمثِّل برنامجاً عمليّاً شاملاً نُقِلَ عن ذلك الإمام الهمام، لذا نوردها بألفاظها وعِباراتها بلا تصرُّف لِيَستفيد منها مُحِبّو وعُشّاق السُّلوك إلى الله تعالى.
قال العلَّامة المجلسي قدِّس سرّه:
«أَقُوُلُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا البَهَائِيِّ قَدَّسَ اللَهُ رُوحَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ:
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيّ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ أَحْمَدَ الفَرَاهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَهُ، عَنْ عُِنْوَانِ البَصْرِيِّ - وكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ أَتَى عَلَيهِ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً قَالَ:
كُنْتُ أَخْتَلِفُ إلی مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلاَمُ المَدِينَةَ اخْتَلَفْتُ إلَيْهِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ عَنْهُ كَمَا أَخَذْتُ عَنْ مَالِكٍ.
فَقَالَ لِي يَوْماً: إنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لِي أَوْرَادٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلاَ تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي، وَخُذْ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَلِفْ إلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ.
فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ تَفَرَّسَ فِيَّ خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ الإخْتِلاَفِ إلَيْهِ وَالأخْذِ عَنْهُ.
فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيهِ ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الغَدِ إلی الرَّوْضَةِ [ما بين القبر الشَّريف والمنبر] وَصَلَّيْتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ يَا اللَهُ يَا اللَهُ! أَنْ تَعْطِفَ عَلَيَّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَتَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أَهْتَدِي بِهِ إلی صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ!
وَرَجَعْتُ إلی دَارِي مُغْتَمَّاً وَلَمْ أَخْتَلِفْ إلی مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، لِمَا أُشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ. فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إلَّا إلی الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ، حَتَّى عِيلَ صَبْرِي.
فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَتَرَدَّيْتُ وَقَصَدْتُ جَعْفَراً وَكَانَ بَعْدَمَا صَلَّيْتُ العَصْرَ. فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيهِ فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟! فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَى الشَّرِيفِ!
فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلاَّهُ. فَجَلَسْتُ بِحِذاءِ بَابِهِ، فَمَا لَبِثْتُ إلَّا يَسِيراً. إذْ خَرَجَ خَادِمٌ فَقَالَ: أُدْخُلْ عَلَى بَرَكَةِ اللَهِ. فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ عَلَيهِ. فَرَدَّ السَّلاَمَ وَقَالَ: إجْلِسْ غَفَرَ اللَهُ لَكَ!
فَجَلَسْتُ.
فَأَطْرَقَ مَلِيَّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: أَبُو مَنْ؟!
قُلْتُ: أَبُو عَبْدِ اللهِ!
قَالَ: ثَبَّتَ اللَهُ كُنْيَتَكَ؛ وَوَفَّقَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! مَا مَسْأَلَتُكَ؟!
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَالتَّسْلِيمِ، غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ لَكَانَ كَثِيراً.
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا مَسْأَلَتُكَ؟!
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيَّ وَيَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ؛ وَأَرْجُو أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَجَابَنِي فِي الشَّرِيفِ مَا سَأَلْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أَرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ!
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ!
فَقَالَ: قُلْ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ!
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟!
قَالَ: ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ:
1. أَنْ لاَ يَرَى العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، لأنَّ العَبِيدَ لاَ يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ؛ يَرَوْنَ المَالَ مَالَ اللهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ.
2. وَلاَ يُدَبِّرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً.
3. وَجُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِي مَا أَمَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ.
 فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِي مَا خَوَّلَهُ اللهُ تَعَالَى مِلْكاً، هَانَ عَليهِ الإنْفَاقُ فِي مَا أَمَـرَهُ اللهُ تَعَـالَى أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ.
وَإذَا فَـوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيـرَ نَفْسِـهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ، هَانَ عَلَيهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا.
وَإذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ، لاَ يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلی المِرَاءِ وَالمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ.
فَإذَا أَكْرَمَ اللهُ العَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلاَثَةِ هَانَ عَلَيهِ الدُّنْيَا، وَإبْلِيسُ، وَالخَلْقُ.
وَلاَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَتَفَاخُراً، وَلاَ يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَعُلُوَّاً، وَلاَ يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلاً.
فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى؛ قَالَ الهَُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص:83.
 قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! أَوْصِنِي!
 قَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلی اللهِ تَعَالَى؛ وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَكَ لاِسْتِعْمَالِهِ.
ثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي الحِلْمِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي العِلْمِ. فَاحْفَظْهَا؛ وَإيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا!
 قَالَ عُِنْوَانٌ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ، فَقَالَ:

أَمَّا اللَوَاتِي فِي الرِّيَاضَةِ:
1. فَإيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا لاَ تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ.
2. وَلاَ تَأْكُلْ إلَّا عِنْدَ الجُوعِ.
3. وَإذَا أَكَلْتَ فَكُلْ حَلاَلاً وَسَمِّ اللهَ، وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَلاَ بُدَّ، فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنََفََسِهِ. 

 وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الحِلْمِ:

1. فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً.
2. وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقاً فِي مَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي؛ وَإنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ.
3. وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى [الخيانة، وفُحش الكلام] فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالدُّعَاءِ.

 وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي العِلْمِ:
1. فَاسْأَلِ العُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ؛ وَإيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وَتَجْرِبَةً.
2. وَإيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ شَيْئاً؛ وَخُذْ بِالإحْتِيَاطِ فِي جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلاً.
3. وَاهْرَبْ مِنَ الفُتْيَا هَرْبَكَ مِنَ الأسَدِ؛ وَلاَ تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً!
 قُمْ عَنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَلاَ تُفْسِدْ عَلَيَّ وِرْدِي؛ فَإنِّي امْرُءٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي. وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
». (ج 1، ص 224- 226).

إطلالَة على عالمِ المَعنى

 وبالتأمُّل والتَّدقيق في المَطالِب الواردة في هذا الحديث -المبارَك في مُراده، والعظيم في مفاده- تتَّضِح لنا درجة السُّموِّ والرّفعة التي ارتَقَت إليها تعاليم آية الحقّ والعرفان، وسَنَد  التَّحقيق والإيقان، وعمادُ البصيرة والبرهان: الحاجّ السيّد عليّ القاضي قدّس الله تربتَه الزكيّة. فلقد كان يُعطي هذه التَّعاليم التي تَنْصَبُّ بشكلٍ كاملٍ في طريق الإعراض عن مَشاعِر العداء والإنتقام وكَسْر صَوْلة النَّفس الأمّارة، والعُثور على نافذة للإطلال على عالَم المَعنى والتَّجرُّد والمَلَكوت، ومن ثمّ لِعرفان ذات الحقّ تعالى واندِكاك الوجود المُعار المجازيّ في الوجود المطلَق، وفي الوجودِ المَحْض والصّرْف السَّرمديّ الأزليّ الأبديّ الذي لا يُتناهى لِذاته القُدسيّة.
فرواية عنوان البَصْريّ ينبغي أن تُؤَلَّف الكُتُب في شرحها وتفصيلها، وبالرّغم من أنّ ذلك قد حصل فعلاً، إلَّا أنَّ تلك الكُتُب لم تأتِ باسم شَرْح رواية عنوان البَصْريّ. أوَلَيس كتاب (إحياء الأحياء) القيّم الجليل للفيض الكاشانيّ الذي دعاه بـ (المَحَجّة البيضاء)، وكتاب (جامِع السَّعادات) للحاجّ الملاّ مهدي النراقيّ جدّنا الجليل، وكتاب (عدّة الداعي) وغيرها من الكُتُب -بالحمل الشَّايع الصناعيّ [الإتحاد في الخارج، لا في المفهوم]- غَيْرَ شَرْحِ وتفصيلِ هذه المَطالِب القيِّمة؟!
 ولقد استَشْهَد الإمام الصَّادق عليه السلام في هذه الرِّواية بهذه الآية المباركة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الاْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص:83. يعني: أيّها السيّد هاشم! [هذه الفقرة مضمون توجيهات السيد القاضي للسيد هاشم الحداد، كما وردت في كتاب (الروح المجرّد)] إنْ كُنتَ تَطلب عالم النُّور والتَّجرُّد، والمَنزِل الباقي والخالد لِلِقاء الله والوُرود في حَرَمِ أمْنِه وأمانِه، وإنْ كنتَ تُفتِّش عن رِضا المَحبوب، وإنْ جَعلْتَ هَمّك الأكبر في عرفان الذَّات القُدسيّة، وإنْ كُنتَ قد عَشقْتَهُ فعلاً، وتَسْعى لِوِصال المَعشوق ونَيْل المُنى، فليسَ أمامك مِن سبيل إلَّا التَّسامي والتَّعالي والتَّنزُّه عن الفساد في الأرض.
 وإنْ كنتَ جادّاً في السَّعيِ لِنَيْل ذلك المقام المَنيع، فعليك الإغماض عن أَذى أُمّ زوجتك وتجاهلُه، وإلَّا فلو رَدَدْتَ عليها وجازَيْتَها على فعلها أو طَلَّقْتَ زوجتك -مع أنَّ ذلك حقّك الشَّرعيّ- فإنّك لن تَصِل إلى هذا المقام. فهذا هو الشَّرع الأعلى، والجهاد الأكبر، وهذه هي الهِجرة الكُبرى. ويَنبغي تطبيق هذه التَّعاليم بِصُورةٍ صحيحة للوصول إلى ذلك الهدف.

تعاليم الإمام الصَّادق قرآنيَّة

 تعاليم الإمام جعفر الصَّادق عليه السلام في هذه الرِّواية  مُتَّخَذة من آيات القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:
 ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ الأعراف:199.
 أو قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ الفرقان:63.
 حتَّى يَصِل إلى قوله عزَّ وجلَّ:
 ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ الفرقان:72.
 هذا، وَوَردَ في القرآن الكريم: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..﴾ آل عمران:92؛ حيث إنّ الوصول إلى لقاء الأحَديّة ومشاهدة الجمال والجلال الأزليّ هو مِن أفضل أقسام البرّ والخير، ولن يكون مَيْسوراً بالطَّبع، إلَّا إذا صَرَفَ سالِك طريق الله نَظَره عمّا يَملك، وأَنْفَقَهُ في سبيل الوصول لهذا الهدف الأَعلى والمَقْصد الأَسنى.

التّجرُّد عن الهَوَى، تجرُّدٌ عن الرَّغبات

 كما أنّ مُخاصمة وشَتْم المُخاصِم المُعتدي، والرَّدّ عليه بالمِثل هي من الغرائز الطَّبيعيّة للإنسان، ومن الطَّبيعيّ أن يَرغَب كلّ شخص في إحقاق حقِّه والإقتصاص ِمن شاتِمِه، لكنّ هذه الرَّغبات ناشِئة جميعاً من الأهواء والرَّغبات النَّفسيّة. فما لم يَتَخَطَّ الإنسان رغبات نفسه وأهواءها، فلنْ يَصِل إلى ما وراء النَّفس. فالتَّجرُّد عن الهَوَى والهَوَس تَجرُّد عن المُيول والرَّغَبات النَّفسيّة، كما أنّ الإصرار والحرص على المُشتهيات النَّفسيّة والملذّات الطَّبيعيّة والإنغماس في الشَّهوات الحيوانيّة، والأوهام الشَّيطانيّة، وسَورات الغضب السّبُعيّة، كلّ ذلك يجعل وصول الإنسان إلى مقام التَّجرُّد محالاً، لأنَّه يُمثِّل الجَمْع بين النَّقيضَيْن.
التَّجرُّد هو التَّنزُّه من النَّفس وآثارها النَّفسانيّة، بينما الإصرار على مُشتهيات النَّفس يعني الإصرار على إبقاء النَّفس وآثارها النَّفسانيّة، وهما أمران يَقعان على طَرَفَيْ نقيض.
[حول قوله صلّى الله عليه وآله: ما ملأ ابن آدم وعاءً شرَّاً من بطنه.." أورد السيد الطهراني في الهامش ما يلي: كان من ضمن كلام السيّد الحدّاد قوله: أنت تأكل ما يلزمك من الغذاء، أمّا ما زاد عليه فإنّ الغذاء يأكلُك].
ومن ثمّ ينبغي رَفْع اليَد عن الرَّغبات والمُيول النَّفسيّة وتجاهلها، لِيَتَجلّى جمال زينة عالَم ما وراء النَّفس.

الكثير من أعمال الخير، مِن حُظوظ النَّفس

 لقد كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد يعدّ الكثير من أعمال الخَيْر من حُظوظ النَّفس، لأنّ النَّفس تلتذّ بها. وكان يقول: إنّ المجالس التي يُشكِّلها بعض السَّالكين فيقرأون فيها الشِّعر، هي غالباً من حُظوظ النَّفس، ومع أنّهم يَحصلون فيها على لَذّة معنويّة لكنّها تَبقى من حُظوظ النَّفس، كذلك الذين يَأتون بِالكثير من الأذكار والأوْراد لأغراض النَّفس وحُظوظها.
فالقرآن الذي يَتْلونه، إنْ جَذَبَهُم فيه جمال جِلْده ووَرَقه وخَطِّه، ولوْ تَلوه وهو على رَحْل مشبّك بحيث أثَّر ذلك الرَّحل في حال قراءتهم لكان ذلك من «حظّ النّفْس». كما أنّ السجّادة البيضاء بِلا نُقوش أمر مطلوب ومقبول، في حين أنّ السجّاد الجميل المُلوّن الذي تكسوه النُّقوش هو من حظِّ النَّفس. كذلك فإنّ تربة سيّد الشهداء عليه السلام أمر مطلوب لو كانت على هيئة القالب المعيّن المعهود المُستعمَل للسُّجود عليه في الصَّلاة ولو كان سطحها خشناً غير مُسْتَوٍ، أمّا لو اشْتُرِط فيها صفاء سطحها وصَقْلُه لتحوّلت إلى «حُظوظ النَّفس».
ومن ثمّ ينبغي الإنتباه بِدِقّة كمْ أنَّ الشيطان قد وَسَّع دائرة نفوذه، بحيث إنّه يَرغب في إعمال تأثيره في محلِّ سُجود المؤمِن الشِّيعيّ، وذلك على التُّربة الطَّاهرة لتلك الأرض المُقدَّسة.
كما أنَّ المِسبحات الجميلة التي تؤثّر في ذِكْر الإنسان هي جميعاً من حظِّ النَّفس، وهكذا الأمر بالنِّسبة للعمامة والعباءة والرِّداء وغيرها من الأشياء التي تؤثِّر في عبادة وصلاة ودُعاء وزيارة وتِلاوة وذِكر المؤمن وَوِرْدِه.
وكان السيّد الحدّاد يقول: إنّ الرَّغبة فيالأحلام والرُّؤيا المعنويّة والرُّوحيّة هي من حُظوظ النَّفس، كما أنَّ طَلَب المُكاشفات والإتِّصال بِعالَم الغَيْب والإطّلاع على الضَّمائر والعُبور على الماء والهواء والنَّار والتَّصرُّف في موادّ الكائنات وشِفاء المرضى هي بأجمعها من حظوظ النَّفس.

العالَم‌ بأرجائه‌ مُكاشفة‌

كان السيد الحداد يقول: أَعجَبُ لِتلك‌ الجماعة‌ من‌ السَّالكين‌ الذين‌ يُريدون‌ المكاشفة‌! فليَفتَحوا أعيُنَهُم‌، فهذا العالم‌ كلّه‌ مُكاشفات‌.
إن‌َّ المُكاشفة‌ ليست‌ مُشاهدة‌ صُورة‌ في‌ زاوية‌ على هيئة‌ خاصّة‌ وحالة‌ استثنائيّة‌، بل‌ إنّ كلّ كَشْف‌ عن‌ إرادة‌ الحقِّ واختياره‌ وعِلمه‌ وقدرته‌ هو مُكاشفة‌. فافتَحْ‌ عينَيْك‌ وتأمَّل‌ أنّ كلّ ذَرَّة‌ في‌ هذا العالم‌ الخارجي‌ مُكاشفة‌، وأنّها تَحْوي‌ عجائب‌ وغرائب‌ لا سبيل‌ للفِكْر إلى‌ مُنتهاها.


هل نُريد الله تعالى، أم تحقيقَ رغباتنا؟

وإذا ما أَراد السَّالِك‌ -في‌ السَّير والسُّلوك‌ أو في‌ غير هذا الطَّريق‌ عموماً- شيئاً غَيْر الله‌، فإنّه‌ لم‌ يُرِد الله‌َ سبحانه‌، وستكون‌ إرادته‌ ورغبته‌ النَّفسيّة‌ هذه‌ مانِعة‌ من‌ وُصولِه‌ إلى‌ ذات‌ الحقّ القُدسيّة‌. فإنْ‌ طلبتَ الجنّة‌، أو الحوريّة‌ والغِلْمان‌، فلن‌ تكون‌ قد طلبْتَ‌ الله‌ أو أَرَدْتَه‌! وإنْ‌ طلبْتَ‌ المَقامات‌ والدَّرجات‌ فمِنَ‌ المُمكن‌ أن‌ يمنَّ بها الله‌ عليك‌، لكنّك‌ لم‌ تُرِد الله‌. لذا فقد تَسَمَّرْتَ‌ في‌ ذلك‌ المقام‌ والدَّرجة‌ واسـْتَحال‌ عليك‌ الإرتقـاء منها إلى‌ أعلـى‌ منها، وذلـك‌ لأنّك‌ لـم‌ تـُرِد ولم‌ تَطْلب‌.
ولو جاءَكَ جبرئيل مثلاً فقال لك: تَمَنَّ ما شِئتَ من الدَّرجات والمَقامات والسَّيطرة على الجنَّة والجحيم وخِلَّة النبيّ إبراهيم عليه السلام، وَمقام الشَّفاعة الكُبرى لِمُحمّد صلّى الله عليه وآله  والحُبّ له، فقُل: ما أنا إلَّا عَبْد! ولا طَلَب لِلعَبْد في شيء، فما أَرادَه لي ربِّي فهو المطلوب. وإنْ أنا أرَدتُ، لَتَخَطّيتُ بذلك القدر من إرادتي المُتعلّقة بي، ساحةَ عُبُوديّتي، ولَوَضَعْتُ قدمي في ساحة عزّ الرَّبوبيّة، لأنّ الإرادة والإختيار مُختَصّان به وحده سبحانه.
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَـانَ اللَهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ القصص:68.
كما لا تَقُل: أُريد الله! فَمَن تكون أنتَ -تُرى- لِتُريد الله؟! أنت لا تَقدر ولنْ تَقدر أن تريده وتطلبَه! فهو غير محدود، وأنتَ محدود، وطلبك بنفسـك والنَّاشِئ عن نفسـك محـدود، فلـنْ تَقـدر به أبداً أنْ تـُريد الله اللَّامُتناهي أو أن تَطلبه. وذلك لأنّ الإله الذي تَطلبهُ محدود في إطار طلبك ومحدود ومُقيَّد بإرادتك، ووارِدٌ في حُدود مَجال نفسك بِسَبَب طلبك، وذلك الإله ليس هو الله، بل إنّ ذلك الإله المُتَصَوَّر والمُتَوَهَّم بِتَصَوُّرك وتَوَهُّمك، ليس فيالحقيقة إلَّا نفسك التي تَصَوَّرتها إلَهاً.
 بناءً على هذا، عليك أن تَكفّ عن طلبك، فادْفُن أُمنيتك هذه معك في القَبْر: أنْ ترى الله أو أنْ تَصِل إلى لقائه أو أن تَطلبه! فعليك أن تَخرج بِنَفسك من الطَّلَب، وأن تَتْرك طَلَبَك ورغبتك التي كانت لك حتّى الآن، وأن تَكِلَ نفسك إلى الله وتَدَعه يُرِيد لك ويَطلب لك!
وستكون في هذه الحالة غير واصل إلى الله، كما لم تَصلْه قبل ولن تَصله بعد؛ بَيدَ أنّك لمّا خرجْتَ وتنصَّلْتَ من طَلَبِك وإرادتك فأوْلَيْتَه زمامك وسلّمته قيادك، فإنّه سَيَقودك في معارِج ومدارِج الكمال الذي حقيقتُه السَّير إلى الله، مع فَناء المراحِل والمنازِل وآثار النَّفس، واندِكاك وفَناء جميع وُجودك -في النِّهاية- في وُجود ذاته المُقدَّسة. فالله سبحانه هو العارِف بِنفسه، ولستَ أنتَ العارف بالله! إنّ وُصول المُمْكِن إلى الواجِب أمرٌ مُحال. فوجود شيئَيْن هناك مُحال.

****

اخبار مرتبطة

  الصورة الملكوتيّة

الصورة الملكوتيّة

  دوريات

دوريات

27/08/2011

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات