الملف

الملف

منذ 5 أيام

مكارم الأخلاق المحمديّة



مكارم الأخلاق المحمديّة

 

اقرأ في الملف

استهلال  

اللهمّ حلّني بحِلية الصالحين

علم الأخلاق.. موضوعه وغايته

الشيخ محمّد مهدي النراقي

فضائل الخُلق النبوي وسموّه

السيّد مهدي الصدر

مكارم الأخلاق النبوية

محمود إبراهيم

أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية  

طه عبد الرحمن

أخلاقيات الحوار في الإسلام

العياشي الدراوي

 

استهلال

«".." اللّهُمَّ لاتَدَعْ خصْلَةً تُعابُ مِنِّي إِلاّ أَصْلَحْتَها، وَلا عائِبَةً أُؤَنَّبُ بِها إِلاّ حسّنْتَها، وَلا أُكْرُومَةً فِيَّ ناقِصَةً إِلاّ أَتْمَمْتَها. اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَدِّدْنِي لأنْ أُعارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرنِي بِالبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالبَذْلِ، وَأُكافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخالِفَ مَنْ اغْتابَنِي إِلى حُسْنِ الذِّكْرِ،  وَأَنْ أَشْكُرَ الحَسَنَةَ وَأُغْضِي عَنِ السَّيِّئَةِ.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِي بَسْطِ العَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، وَإِفْشاءِ العارِفَةِ، وَسَتْرِ العائِبَةِ، وَلِينِ العَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الجناحِ، وَحُسْنِ السيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ المُخالَقَةِ، وَالسَّبْقِ إِلى الفَضِيلَةِ، وَإِيْثارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ، وَالإفْضالِ عَلى غَيْرِ المُسْتَحِقِّ، وَالقَوْلِ بِالحَقِّ وَإنْ عَزَّ ،وَاسْتِقْلالِ الخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي..».

 

علم الأخلاق

موضوعه وغايته

____ الفقيه الشيخ محمّد مهدي النراقي ____

تعالج هذه المقالة علم الأخلاق استناداً إلى القرآن الكريم وحديث المعصومين عليهم السلام. فقد تناول عالم الأخلاق الفقيه العارف الشيخ محمّد مهدي النراقي المسألة الأخلاقية من وجهيها النظري والسلوكي والغاية الإلهية من التخلُّق، وأثر ذلك على نفس الإنسان وعلى صلته بالله تعالى، ثمّ على علاقته بالبيئة المحيطة به، سواء لجهة الخُلق الحسن، أو لجهة سوء الخلق. كما تبيِّن المقالة الهندسة المعرفية لعلم الأخلاق الإسلامي والعوامل التي تؤدّي بالمسلم إلى الارتقاء بإنسانيته من حضيض الأهواء الفانية، إلى سموّ التمسّك بالفضائل الموصلة الى أعلى مراتب الإنسان الكامل.

«شعائر»

 

إنّ الحياة الحقيقية للإنسان تتوقف على تهذيب الأخلاق الممكن بالمعالجات المقررة في هذه الصناعة، ومن ثمّ يُعلم أنّه أشرف العلوم وأنفعها، لأنّ شرف كلّ علم إنّما هو بشرف موضوعه أو غايته، فشرف صناعة الطبّ على صناعة الدباغة بقدر شرف بدن الإنسان وإصلاحه على جلود البهائم.

 وموضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبّه، وهو أشرف الأنواع الكونية كما بُرهن عليه في العلوم العقلية، وغايته إكماله وإيصاله من أوّل أفق الإنسان إلى آخره، ولكونه ذا عرض عريض متصلاً أوّله بأفق البهائم وآخره بأفق الملائكة، لا يكاد أن يوجد التفاوت الذي بين أشخاص هذا النوع في أفراد سائر الأنواع، فإنّ فيه أخس الموجودات، ومنه أشرف الكائنات.

وإلى ذلك التفاوت يشير قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّي وُزنتُ بِأمّتي فرجحتُ بهم»، ولا ريب في أنّ هذا التفاوت لأجل الاختلاف في الأخلاق والصفات، لاشتراك الكل في الجسمية ولواحقها.

وهذا العلم هو الباعث للوصول إلى أعلى مراتبهما، وبه تتمّ الإنسانية، ويعرج من حضيض البهيمية إلى ذُرى الرتب الملكية، وأيّ صناعة أشرف ممّا يوصِل أخسّ الموجودات إلى أشرفها، ولذلك كان السلف من الحكماء لا يطلقون العلم حقيقة إلّا عليه، ويسمّونه بالأكسير الأعظم، وكان أوّل تعاليمهم، ويبالغون في تدوينه وتعليمه، والبحث عن إجماله وتفصيله، ويعتقدون أنّ المتعلّم ما لم يهذّب أخلاقه، لا تنفعه سائر العلوم.

وكما أنّ البدن الذي ليس بالنقي كلّما غذيته فقد زدتَه شراً، فكذلك النفس التي ليست نقية عن ذمائم الأخلاق، لا يزيدها تعلّم العلوم إلّا فساداً. ولذا ترى أكثر المتشبّهين بزيّ العلماء أسوأ حالاً من العوامّ، مائلين عن وظائف الإيمان والإسلام، إمّا لشدّة حرصهم على جمع المال، غافلين عن حقيقة المآل، أو لغلبة حبّهم الجاه والمنصب، ظنّاً منهم أنّه ترويج للدين والمذهب، أو لوقوعهم في الضلالة والحيرة لكثرة الشك والشبهة، أو لشوقهم إلى المراء والجدال في أندية الرجال، إظهاراً لتفوّقهم على الأقران والأمثال، أو لإطلاق ألسنتهم على الآباء المعنوية من أكابر وأعاظم الحكماء، ولعدم تعبّدهم برسوم الشرع والملّة، ظنّاً منهم أنّه مقتضى قواعد الحكمة، ولم يعلموا أن الحكمة الحقيقية ما أعطته النواميس الإلهية والشرائع النبوية، فكأنهم لم يعلموا أنّ العلم بدون العمل ضلال، ولم يتفطّنوا قول نبيّهم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قَصَم ظهري رجُلان: عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ». ولم يتذكّروا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «البَلاهَةُ أدْنى إلى الإخلاصِ مِن فَطانةٍ بَتْراء»، وكلّ ذلك ليس إلّا لعدم سعيهم في تهذيب الأخلاق وتحسينها، وعدم الامتثال لقوله سبحانه: ﴿..وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا..﴾ البقرة:189.

فضائل الأخلاق ورذائلها

فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلّي عن الثانية والتحلّي بالأولى من أهم الواجبات، والوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات. فيجب على كلّ عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة، والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قصّر أدركته الهلاكة الأبدية. ".."

والأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتّضح لها جليّة الحال اتضاحاً؛ كيف والقلوب كالأواني، فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبّه وأنسه، وإلى ذلك أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: «لولا أنَّ الشّياطينَ يَحومُون على قلوبِ بَني آدمَ لَنَظَروا إلى مَلَكوتِ السّماواتِ والأرض».

فبقدر ما تتطهّر القلوب عن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحقّ الأول، وتتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ لِرَبِّكُم في أيّامِ دَهرِكُم نَفَحاتٍ، أَلَا فَتَعرّضوا لها»، فإنّ التعرّض لها إنّما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الرديئة، فكل إقبال على طاعة وإعراض عن سيئة يوجب جلاءً ونوراً للقلب يستعدّ به لإفاضة عِلمٍ يقيني، ولذا قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ العنكبوت:69.

فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية؛ مبذولة على الكلّ غير مضنونٍ بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها، لا يمكن أن يتجلّى فيها شيء من الحقائق، فلا تحجَب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنّما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضادّ ذلك.

ثمّ ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره، هو العلم الحقيقي النوراني الذي لا يقبل الشكّ، وله غاية الظهور والانجلاء لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقّة الربانية، وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وآله: «إنَّما هو نُورٌ يَقذفُهُ اللهُ في قلبِ مَن يَشاء»، وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ الله إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ..»، إلى أن قال: «قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى. قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَمِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ..».

 فإذا كان بيت القلب مشحوناً بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة، لم تدخل فيه الملائكة. والحكم بثبوت النجاسة الظاهرة للمشرك، مع كونه مغسول الثوب نظيف البدن، إنّما هو لسراية نجاسته الباطنية؛ فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «بُنِيَ الدِّينُ على النّظافة»، يتناول زوال النجاستين. وما ورد من أنّ الطّهور نصف الإيمان، المراد به طهارة الباطن عن خبائث الأخلاق، وكان النصف الآخر تحليته بشرائف الصفات، وعمارته بوظائف الطاعات.

وبما ذُكر ظهر أنّ العلم الذي يحصل من طريق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحقّ اسم اليقين الحقيقي الذي يحصل للنفوس الصافية، فما يظنّه كثير من أهل التعلّق بقاذورات الدنيا أنّهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه خلاف الواقع، لأنّ اليقين الحقيقي يلزمه «روح» ونور وبهجة وسرور، وعدم الالتفات إلى ما سوى الله، والاستغراق في أبحر عظمة الله، وليس شيء من ذلك حاصلاً لهم، فما ظنّوه يقيناً إمّا تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات.

___________________________

* جامع السعادات: 1/36-51 – مختصر

 

فضائل الخُلق النبويّ وسموّه

أبى اللهُ لصاحب الخُلق السيّئ بالتوبة

____ السيّد مهدي الصدر ____

تتطرّق هذه المقالة للباحث الإسلامي السيد مهدي الصدر الى علم الأخلاق في الإسلام من الناحيتين العقائدية والسلوكية. وتستند المقالة الى جملة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد على منزلة الأخلاق في الوحي الإلهي، في مقدمها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». كما تبين المقالة المرتكزات القرآنية لعلم الأخلاق في المجالين القولي والسلوكي. وفي ما يلي نص المقالة.

«شعائر»

علم الأخلاق هو: العلم الباحث في محاسن الأخلاق ومساوئها، والحث على التحلّي بالأولى، والتخلّي عن الثانية.

ويحتلّ هذا العلم مكانةً مرموقة، ومحلاًّ رفيعاً بين العلوم، لشرف موضوعه، وسموّ غايته. إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم، تزدان بجماله، وتحلو بآدابه، فإن خلَت منه غدت هزيلة شوهاء، تثير السخط والتقزّز. ولا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقّق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش.

وليس أثر الأخلاق مقصوراً على الأفراد فحسب، بل يسري إلى الأمم والشعوب، حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيّها، أو تخلّفها في مضمار الأمم. وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسّخها كان معوَلاً هدّاماً في تقويض صروح الحضارات، وانهيار كثير من الدول والممالك.

وناهيك في عظمة الأخلاق، أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله أولاها عناية كبرى، وجعلها الهدف والغاية من بعثته ورسالته، فقال: «بُعثتُ لِأُتمّمَ مَكارمَ الأخلاق».

وتختلف مناهج الأبحاث الخُلقية وأساليبها باختلاف المعنيَين بدراستها من القدامى والمحدثين: بين متزمّت غالٍ في فلسفته الخلقية، يجعلها جافة مرهقة، عسرة التطبيق والتنفيذ. وبين متحكّم فيها بأهوائه، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصة، ومحيطه المحدود، ونزعاته وطباعه، ممّا يجردها من صفة الأصالة والكمال. وهذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة، لا تصلح أن تكون دستوراً أخلاقياً خالداً للبشرية.

حُسن الخُلق

حُسن الخُلق هو حالة تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.

ولقد كان سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله، المثل الأعلى في حُسن الخُلق، وغيره من كرائم الفضائل والخِلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول، واستحق بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عزّ من قائل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4.

سوء الخُلق هو انحراف نفساني، يسبّب انقباض الإنسان وغلظته وشراسته، ونقيض حُسن الخُلق. من الثابت أنّ لسوء الخُلق آثاراً سيئة، ونتائج خطيرة، في تشويه المتّصف به، وحطّ كرامته، ما يجعله عرضة للمقت والازدراء، وهدفاً للنقد والذم.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: «أبى اللهُ لِصاحبِ الخُلق السيّئ بالتوبة.

قيل: فكيف ذلك يا رسول اللّه؟

قال: لأنّه إذا تابَ مِن ذنبٍ وَقعَ في ذَنبٍ أعظم منه».

الأخلاق بين الاستقامة والانحراف

كما تمرض الأجساد وتعتورها أعراض المرض من شحوب وهزال وضعف، كذلك تمرض الأخلاق، وتبدو عليها سمات الاعتدال ومضاعفاته، في صُوَرٍ من الهزال الخلقي، والانهيار النفسي، على اختلافٍ في أبعاد المرض ودرجات أعراضه الطارئة على الأجسام والأخلاق. وكما تعالَج الأجسام المريضة، وتستردّ صحتها ونشاطها، كذلك تعالَج الأخلاق المريضة وتستأنف اعتدالها واستقامتها. ولولا إمكان معالجة الأخلاق وتقويمها، لحبطت جهود الأنبياء في تهذيب الناس، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوادع الخَلُوق، ويغدو عبوساً شرساً منحرفاً عن مثاليّته الخلقية، لحدوث إحدى الأسباب التالية:

1) الوهن والضعف الناجمان عن مرض الإنسان واعتدال صحته، أو طرو أعراض الهرم والشيخوخة عليه، ممّا يجعله مرهف الأعصاب عاجزاً عن التصبّر، واحتمال مؤونة الناس

ومداراتهم.

2) الهموم: فإنّها تذهل اللبيب الخلوق، وتحرفه عن أخلاقه الكريمة، وطبعه الوادع.

3) الفقر: فإنه قد يسبّب تجهّم الفقير وغلظته، أنَفَةً من هوان الفقر وألم الحرمان، أو حزناً على زوال نعمته السالفة، وفقد غناه.

4) الغنى: فكثيراً ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكبر والطغيان.

5) المنصب: فقد يُحدث تنمّراً في الخُلق، وتطاولاً على الناس، منبعثاً عن ضعة النفس وضعفها، أو لؤم الطبع وخسّته.

6) العزلة والتزمت: فإنه قد يسبّب شعوراً بالخيبة والهوان، ممّا يجعل المعزول عبوساً متجهّماً.

علاج سوء الخلق

وحيث كان سوء الخلق من أسوأ الخصال وأخسّ الصفات، فجدير بمن يرغب في تهذيب نفسه، وتطهير أخلاقه، من هذا الخلق الذميم، أن يتبع النصائح التالية:

1) أن يتذكّر مساوئ سوء الخُلق وأضراره الفادحة، وأنّه باعثٌ على سخط اللّه تعالى، وازدراء الناس ونفرتهم.

2) أن يستعرض ما أسلفناه من فضائل حسن الخلق، ومآثره الجليلة، وما ورد في مدحه، والحثّ عليه، من آثار أهل البيت عليهم السلام.

3) التريّض على ضبط الأعصاب، وقمع نزوات الخلق السيّئ وبوادره، وذلك بالترّيث في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، مستهدياً بقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله: «أفضلُ الجِهادِ مَن جاهَدَ نَفسَهُ التي بَينَ جَنبَيْه».

يتّبع تلك النصائح من اعتلّت أخلاقه، ومرضت بدوافع نفسية، أو خلقية. ____________________________________

* أخلاق أهل البيت عليهم السلام: ص 5–11/ مختصر

 

 

مكارم الأخلاق النبوية

صفاتها وحقيقتها ومقاصدها

____ محمود ابراهيم ____

تمرّ الأمة الإسلامية اليوم في واحدة من أخطر الأحقاب على الصعد كافة. ولعلّ أعظم الابتلاءات ما تتعرّض له مجتمعاتنا من حروب على قيَمها الدينية والإيمانية والحضارية إنطلاقاً من الدائرة الأخلاقية. فقد بدا واضحاً حجم الأثر الكبير الذي تسببه حملات التضليل والتشويه التي تشن عن طريق وسائل التواصل ووسائل الإعلام إلى تدمير البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية.

هذه المقالة تضيء على عقيدة مكارم الأخلاق كأصلٍ جوهري من أصول الإسلام الأصيل، وتذكير بحقيقة عظمى من حقائق ومقاصد البعثة النبوية الشريفة.

«شعائر»

لمكارم الأخلاق صفات تُمنح لها بحسب مقاصدها وتنزّلاتها. ولنا أن ندرج بعضاً منها تحت عناوين مجملة سنمر على تفصيلها لاحقاً..

أولاً: إنّها صفة النبيّ نفسه حيث بلغت به مآلها الأعظم واستحق بها رتبة الآدمي الأكمل.

ثانياً: إنّها صفة الإنسان الذي بُعث من أجله النبيّ الخاتم ليتمّم له إنسانيته. فإذا جرى هذا الإنسان مجراها، بالتصديق والتوحيد والإيمان والتخلّق حصَّل الحكمة. ومن علامات حكمته أنّه أنزل كلّ شيء منزلته، فلا يتعدّى به مرتبته، وأعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، ولا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه، ولا تؤثّر فيه الأعراض الطارئة، ولا يضع من يده الميزان. ولو تدرَّج الإنسان بالسير والسلوك والمجاهدة والتعقُّل اتّسعت آفاق نفسه، وتهيّأت لتلقي المعارف الإلهية والعلوم اللدنية التي بها ترتقي نفسه إلى الملأ الأعلى بعناية الله وتسديده. وهذه الحكمة  - المركّبة من العلم والعمل - هي تلك التي يُعبَّر عنها تارة بالقرآن، وتارة بالنور، وهي من فضل الله يؤتيها من يشاء، ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا البقرة:269.

ثالثاً: إنّ مكارم الأخلاق هي صفة للصراط المستقيم. فمن مشى على الصراط حلَّت عليه الاستقامة، فأدركها بالتقوى والورع والزهد. فمن اتّقى الله علّمه الله وأدخله في درعه الحصين، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات. كما تعبّر الآية الكريمة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ الأنعام:122.

رابعاً: إنّها صفة الأمّة الوسط، التي قال الله فيها مخاطباً نبيه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران: 110. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا البقرة:143.

خامساً: إنّها صفة للأبعاد المعنوية الباطنية التي تختزنها الشريعة المقدسة. وهي الأبعاد المتممة للبعثة النبويّة.

سادساً: إنّها الصفة التي يظهر فيه قول أهل العصمة على تمامه حين أشاروا إلى «الأمر بين الأمرين». فإذا كانت غاية ختم النبوّة حفظ مختزنها الإلهي بالمكارم، فقد تحصَّل لدينا السبيل إلى التوحيد على الوجه الأتم. وكان لنا من هذا السبيل الوقوف على أرض الاعتدال الأكمل لنميّز وجه اللطف والتدقيق بين الإفراط والتفريط، وبين الجبر والتفويض، وبين القضاء والقدر. والأمر بين الأمرين هو نفسه ما قيل في معنى الصراط والميزان والحكمة البالغة. وهو نفسه كذلك، الأمر الوسط الذي تتجلّى فيه مكارم الأخلاق كغاية عليا للشريعة المقدسة.

وأنّى تكن صفات المكارم ونعوتها، فقد كثرت الأحاديث في تحقيقها وبيان حدّها وتعريفها، إلّا أنّها آيلة إلى الغاية من الإيجاد الإلهي للإنسان. وإلى هذا، ما كان للنبيّ الخاتم أن يعيّن مبدأ بعثته المقدّسة ومنتهاها بمكارم الأخلاق، لولا ارتباطها بالغرض الأصلي من إيجاد الإنسان. فلو تقرّر أنّ الغاية الإلهية من إبداع النوع الإنساني استخلافه في الأرض، عرفنا العلّة الأصلية من وراء خلقه، وهي معرفة الخالق.

وباصطفاء محمّد صلّى الله عليه وآله نبيّاً خاتماً، وهادياً، ورحمة للعالمين، يكون قد خَتَمَ سبحانه شريعته  في العالمين وتمَّمها بمكارم الأخلاق. ثم لتستأنف من بعد المصطفى صلّى الله عليه وآله حركتها الهادية عبر ورثة الحقيقة المحمّدية من أئمّة الهدى وصولاً إلى الحجّة البالغة.

في مقدمة (تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم) للعارف بالله الفيلسوف السيد حيدر آملي، إشارات بيِّنات إلى المعنى المتسامي لمكارم الأخلاق ومكانتها الحاسمة في حفظ رسالة الوحي. فقد بيَّن أنّ سعيه إلى تأويل كتاب الله هو من أجل أن يكون مطابقاً لأرباب التوحيد وأهل الحقيقة. قد عنى بهذا أن يكون عمله التأويلي جامعاً للشريعة والطريقة والحقيقة، تأسيساً على حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله: «الشريعة أقوالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة أحوالي».

من كتاب (الفرائد والعوائد) يقتبس المحدِّث الحسن بن محمّد الديلمي عن أبي جعفر  الباقر عليه السلام، ما يفصِّل الأركان التي تنبني عليها مكارم الأخلاق النبوية، قوله: «إنَّ من آداب المؤمن حفظ الأمانة، والمناصحة، والتفكّر، والتقيّة، والبرّ، وحُسن الخلق، وحُسن الظن، والصبر، والحياء، والسخاء، والعفّة، والرحمة، والمغفرة، والرضا، وصلة الرحم، والصمت، والستر، والمواساة، والتكريم، والتسليم، وطلب العلم، والقناعة، والصدق، والوفاء... والعزم، والنصفة، والتواضع، والمشاورة، والاستقامة، والشكر، والحياء، والوقار».

ثم ذكر الخصال التي يجب على المؤمن تجنّبها، وهي: «البغي، والبخل، والدناءة، والخيانة، والغشّ، والحقد، والظلم، والشّرَه، والخرق، والعجب، والكبر، والحسد، والغدر الفاشي، والكذب، والغِيبة، والنميمة، والمكايدة، وسوء الظنّ، ويمين البوار، والنفاق، والمنّة، وجحود الإحسان، والعجز، والحرص، واللعب، والإصرار، والقطيعة، والمزاح، والسَّفَه، والفحش، والغفلة عن الواجب، وإذاعة السرّ».

في سياق المنفسح المعرفي نفسه قدّم الحكيم الإلهي ملّا صدرا شرحاً فلسفياً لحديث النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارمَ الأخلاق» قوامها: «وكما أنّ للإنسان صورة ظاهرة، حسنُها بحسن الجميع واعتداله، وقبحها بقبح البعض فضلاً عن الجميع، وكذلك صورته الباطنة فإنّ لها أركاناً لا بدّ من حسن جميعها حتى يحسن الخلق وتحصل الحكمة والحرية».

ثمّ وضع لها أربعة معانٍ هي: «قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العقل، فإذا استوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق التي تتشعّب منها أخلاق غير محصورة، اعتدلت وتناسقت وحصل حسن الخلق. أمّا قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأعمال، فإذا انصلحت هذه القوة واعتدلت من غير غلوٍّ وتقصير، حصلت منها ثمرةٌ هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وروحها. ومعنى حسن الخلق في جميع أنواعها الأربعة وفروعها هو التوسّط بين الإفراط والتفريط، والغلوّ والتقصير، فخير الأمور أوسطها وكِلا طرفي قصد الأمور ذميم. ومهما انحرف بعض هذه الأمور عن الاستقامة إلى أحد الجانبين لم تتمّ مكارم الأخلاق. وممّا يجب أن يُعلم في هذا المقام أنّ قوة النفس غير شرفها، كما أشير إليه وكل منهما قد  يزيد في الآخر، وقد يتفق لوازمها. أمّا أنّ كلاًّ من شرف النفس وقوتها قد يزيد على الآخر فلأن الشجاعة مثلاً قد تصدر لكبر النفس واحتقار الخصم واستشعار الظفر به، وقد تصدر لشرف النفس والترفع عن المهانة والذلة، حيث النفوس الشريفة تأبى مقارنة الذلّة، وترى حياتها في ذلك موتها، وموتها فيها حياتها».

نرانا لا نجد من فصل بين ختم النبوّة وتتميم مكارم الأخلاق في محضر البحث عن معنى ومقاصد قول النبيّ صلّى الله عليه وآله، في الحديثين الشريفين: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، و«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ». الحديثان متّصلان ومتلازمان ويؤلّفان وحدة قولية لا تباين في وحدتها. فالنبيّ من حيث هو خاتم النبوّة هو فاتح الولاية، لجهة أنّ الختم والفتح مرتبتان إلهيتان تنتظمان حقيقة البعثة المحمدّية، في مستهلّها وختامها.

وعلى قاعدة الاتّصال والتلازم بين ختم التشريع وفتح الولاية، تتحول الولاية إلى «نبوّة عامة» تستأنف حقائق «النبوّة الخاصة»، وتنقلها إلى حقيقة هادية للعالمين. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:107.

_____________

* باحث في الفكر الإسلامي.

 

أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية

رؤية فلسفية

____ طه عبد الرحمن*  _____

تسعى هذه المقالة للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن إلى تأصيل علم الأخلاق الإسلامي من وجهة نظر فلسفية. فقد ذهب عبد الرحمن إلى وضع مجموعة من الأسس النظرية للأخلاق الإلهية، مشيراً إلى أنّ هذه الأسس لا تستوي على نشأة الاستقامة إلّا إذا اقترنت بالعمل بما جاءت به الشريعة المقدّسة في مجال الأوامر والنواهي، وكذلك بما يستنبطه الإنسان المؤمن من القول الإلهيّ والوحي النبويّ من توجيهات تؤيّد وتسدّد سلوكه العملي في مجمل نواحي نشاطه الاجتماعي.

«شعائر»

 

تنتهج ممارسة الأخلاق أحد طريقين: إمّا طريق الإلزام الذي هو عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تُفرض من خارج على إرادة الإنسان، وإمّا طريق الاعتبار الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائياً، ممّا يشهده من أفعال ويتلقاه من أقوال؛ وإذا تأمّلنا في أيّ واحد من الطريقين يكون أنسب للإنسان المنتظر، وجدنا أنه هو طريق الاعتبار، وذلك لسببين اثنين:

- أحدهما، أنه لا شيء أبغض إلى قلب الإنسان المنتظر في سياق ما سوف يتبقى له من حقوق فردية من أن يأمره أو ينهاه أحد، نظراً لحدّة تشبّثه بالحرية وشدة رغبته في صدوره عن إرادته في كل أفعاله؛ وعلى قدر ما يتلقى هذا الإنسان مضمون الحكم الخُلقي بغير صورة الأمر أو النهي، يخف نفوره منه ويستعد لقبوله، كما إذا صدر إليه في صورة قضية يُطلب منه التسليم بها إلى غاية أن تتكشّف له نتائجها، أو أتى على صورة وصف لحدث يُرجى منه الوقوف عنده حتى يتبين معانيه، أو جاء في صورة سلوك يكون مثالاً بارزاً عليه.

- والثاني أنّ الحياة الأخلاقية للإنسان ليست لحظات منفصلة فيما بينها، تحكم كل لحظة منها أوامر أو زواجر معينة، وإنما هي وحدة من الأفعال التي تشكل تاريخاً خاصاً بصاحبها؛ وبهذا، يكون كل فعل خلقي عبارة عن حدث في هذا التاريخ، وتكون هوية الإنسان قائمة، لا في هذه الفترة أو تلك من فترات تاريخه، وإنما قائمة في هذا التاريخ بكامله منذ ولادته إلى موته.

وإذا نحن جمعنا بين مقتضى الحرية للإنسان المنتظر ومقتضى الحدث للحياة الخلقية، لزمنا الأخذ بطريق الاعتبار، أي إيراد الأحكام الخُلقية، لا في صورة أوامر، وإنما في صورة أخبار، ولا في صورة نَسَق، وإنّما في صورة قَصَص، لأن الأخلاق أفعال حية والأفعال الحية هي تاريخ والتاريخ لا يحيا إلّا بالقصة، فتكون أخلاق الإنسان هي قصته التي تحدد هويته.

فحينئذٍ، لا غرو أن يكثر في القرآن الكريم القصص الجميل، وأن ترد أحكامه ومواعظه في سياق هذا القصص. كما لا غرو أن يقع الإلحاح على العناية بسيرة الرسول صلّى الله عليه وآله، وعلى إقامة ركن الاقتداء؛ فهل السيرة إلّا قصة حقّة! وهل الاقتداء إلّا تشخيص هذه القصة!

فنجتهد إذاً في أن نعرض مضامين الأخلاق الإسلامية في صورة أخبار حُبلى بالإشارات وأحداث غنية بالدلالات، أخبار وأحداث تدعو المتلقّي إلى أن ينكفئ عليها يتأملها ويعتبر بها؛ ولنتساءل عن الوقائع الفاصلة التي حصلت بفضلها الجموع الثلاثة: «الجمع بين العقل والشرع» و«الجمع بين العقل والقلب» و«الجمع بين العقل والحس»؛ ولنبدأ بالحدث الحاسم الذي تقرر فيه الجمع بين العقل والشرع؟

الميثاق الأول والأخلاق الكونية

لا يمكن أن يتم الوصل بين العقل والشرع إلّا إذا جرى بين ذي العقل أي العاقل وبين ذي الشرع أي الشارع ما يشبه الاتفاق، ويكون مضمون اتفاقهما هو أنّ ما يدركه الأول هو نفسه ما يقرّه الثاني، والعكس بالعكس، أي أنّ ما يضعه الثاني هو عينه ما يفهمه الأول؛ إلا أن الشارع هنا ليس شارعاً إنسانياً، وإنّما شارعاً إلهياً، والإله يستحيل في حقّه أن ينقض الاتفاق، في حين يجوز أن ينقضه الإنسان؛ لذلك، يكون الاتفاق من جانب الإنسان العاقل عبارة عن تعهّد ملزم، فهو يتعهّد بأن يكون عقله موافقاً للشرع ومخالفاً للهوى.

وقد حدث هذا التعهد المُلزم في يوم ليس كسائر الأيام، لأنه لم يكن من أيامنا في هذا العالم، يوم لم نعد نذكره بأنفسنا ولكن تُذكّرنا به الرسالات، ألا وهو يوم أن خاطب الإله بني آدم كافة وهم في عالم الغيب قائلاً: ﴿..أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..﴾؟ الأعراف:72، فأجابوه أجمعين شاهدين على أنفسهم: ﴿..بلى..! ذلك هو الميثاق الذي أخذه الشارع الأسمى من العقلاء وعقولهم؛ فكيف هي إذاً طبيعة الأخلاق التي يجوز أن يزوّد بها هذا الميثاق الأول الإنسان لمواجهة ما ينتظره من تزلزل في هويته؟

لا بدّ لكل مَن يتأمل في هذا الميثاق أن يجد أن الأخلاق التي ينتجها تتّصف على الأقل بالخصائص التالية:

أ- أنّ أخلاق الميثاق الأول أخلاق مؤسَّسة (بفتح السين المشددة): لمّا كان العقل هو الذي يطلب هذه الأخلاق، حتى يكتمل ويستقيم، استحال أن يكون هو نفسه مؤسِّساً لها، لأن في هذا تأسيساً لما هو مفتقر إليه، وواضح أنّه لا تأسيس للشيء مع الافتقار إليه؛ وعلى هذا، فإنه يلزم أن يرجع هذا التأسيس للطرف الثاني المشترك في هذا الميثاق أي للشرع لعلوّ رتبته على العقل واستغنائه بنفسه؛ ومن هنا، يتبين أن الأخلاق لا يمكن أن تقوم على ميثاق يحصل بين البشر وحدهم، ولا بالأحرى بين البشر وما دونهم، لأنّ مثل هذا الميثاق لا ضمان فيه، لأنّ العقل البشري لا يفتأ يتقلّب ويتلوّن، غير متيقّن من فائدة ما يختاره من مقاصد ولا ما يتّخذه من وسائل، والضمان الصحيح لا يكون إلّا مع الثبات الدائم، وهذا الثبات بالذات هو الذي يميّز الميثاق الذي يكون فيه الشارع الإلهي طرفاً متفضلاً؛ فطالما الإنسان يحفظ عهده له، فلا يخشى أن يضرّه تقلّب عقله، لأن هذا الشارع يضمن دوام فائدة هذا التقلّب.

ب- أنّ أخلاق الميثاق الأول متعدية إلى العالم كله: فهذه الأخلاق لا تخصّ صلاح الفرد الواحد ولا صلاح الأمّة الواحدة، وإنّما تبتغي صلاح البشرية قاطبة، بل تبتغي صلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان؛ ذلك أنها ترفع همّة الإنسان إلى أن يأتي أفعاله على الوجه الذي يجعل نفعها يتعدى نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسره، بحيث تكون كل بقعة من العالم وطناً له، ويكون كل إنسان فيها أخاً له، ويكون كل كائن سوى الإنسان نظيراً له في الخَلق (بالفتح والسكون)؛ انظر كيف أنّ الشارع الإلهي أخذ الميثاق من البشر، وهم في مشهد واحد، بوصفهم من صلب واحد ينزلون إلى أرض واحدة!

ج - أنّ أخلاق الميثاق الأول أخلاق شاملة لكلّ أفعال الإنسان: لمّا كانت كلّ أفعال الإنسان تصدر عن عقله الذي أعطى الميثاق، لزم، بموجب صدورها عن هذا العقل، أن تشملها جميعاً هذه الأخلاق بلا استثناء، فإذاً  كل فعل عقلي يصير فعلاً خلقياً بموجب الميثاق الأول؛ لهذا، يجب أن يحمل علامة هذا الميثاق التي تدل على أنّه يقرّ بواجباته والتزاماته؛ ومن ثم، صحّ الفرق بين «عقل يعقل الأشياء عن نفسه» و«عقل يعقلها عن ربّه»، أو قل بين «عقل منفصل» (أو «مفصول») و«عقل متّصل» (أو «موصول»)؛ فالعقل المنفصل نسي الميثاق أو تناساه، فنسب الأمر له إلى نفسه، بحيث لا يرى في الأشياء إلّا مجالاً لممارسة سيادته؛ أما العقل المتصل، فإنه، على العكس من ذلك، تذكّر هذا الميثاق ودام على حفظه في نفسه، فأوكل الأمر إلى البارئ، بحيث يرى في كلِّ شيءٍ شيئاً، إن في نفسه او أفقه، آية من آيات سيادة بارئه.

ومجمل القول في الميثاق الأوّل أنّه يورث الإنسان أخلاقاً مؤسَّسة (بفتح السين المشددة) ومتعدّية وشاملة، مما يجعلها أنسب أخلاق للعالم المنتظر، وبيان ذلك أنها، بفضل أساسها الإلهي، تجلب الثقة في هذا العالم؛ وبفضل تعدّيها من بعض أفراده إلى الباقي، فإنّها تساوي بين حقوقهم وواجباتهم؛ وبفضل شمولها لجميع الأفعال، فإنها تحفظهم من ظلمهم لأنفسهم أو ظلم بعضهم لبعضهم؛ وبهذا، تكون أخلاق الميثاق هي الأخلاق الكونية بحق وليس سواها.

ومن ثم يكون علينا، نحن المسلمين، أن نجتهد في تعريف غيرنا ممّن لم يبلغهم خبر هذا الميثاق الأول بوجوده وفي اقناعهم بفائدته في تطوير مسار الأخلاق وتجديد هوية الإنسان فيما سيأتي من أيام، ولا سيّما أن هذا الغير قد أعلن ضرورة الاستعداد لهذا الطور الحاسم من أطوار الإنسانية؛ وينبغي أن لا ندخر وسعاً في بيان كيف أن حصول هذا الميثاق في عالم بعيد غير هذا الذي نحن فيه يقوي من فائدته الأخلاقية بما لا يقوّيها ميثاق حاصل في عالمنا هذا؛ فليس تصورنا لهذا الميثاق بأبعد ولا أغرب من تصوّر مواثيق الوجود والتواجد التي وضعها البشر من عندهم؛ فهذا الميثاق الاجتماعي الذي حدّد به بعض الفلاسفة وجود الدولة ميثاق لا يصف أية حالة واقعية، ولا يُحيل على أية لحظة من تاريخ الإنسانية، بل يفترض حالة وهمية، وهي حالة الطبيعة التي كان عليها الإنسان والتي كان مجرداً فيها من كل حضارة إنسانية وحياة اجتماعية؛ فما الفرق في التصوّر الذهني بين هذه العناصر التي يتقوّم بها الميثاق الاجتماعي، وبين العناصر التي تضمنها الميثاق الإلهي؟ ألا يجوز أن تكون عناصر الميثاق الاجتماعي مقتبسة من عناصر الميثاق الإلهي، أو على الأقل متشبهة بها ولو أن الفرق في القيمة الكيانية (أي «الأنطولوجية») بين الميثاقين شاسع، فالميثاق الإلهي جمع إلى كمال الإله ضمانه، بينما الميثاق الاجتماعي لا كمال فيه ولا ضمان؛ فالذي يُسلّم بالميثاق الأخير حريٌّ به أن يسلّم بالميثاق الأول، وإلا جاز القدح في عقله، ناهيك بمن يدعون اليوم إلى أقامة المواثيق مع غير العاقل مثل «الميثاق مع الطبيعة»، أو «الميثاق مع البيئة»، أو «الميثاق مع الأرض»، فهؤلاء أحوج إلى التسليم بالميثاق مع الله متى كانوا عقلاء، أو نسبوا أنفسهم إلى العقل.

أخلاقيات الحوار في الإسلام

مبدأ التراحم الخلّاق في عالم الاختلاف

_____ العياشي الدراوي* _____

برهنت الثقافة العربية الإسلامية على قدرة لافتة على الإنصات إلى الآخر، والانتهال من منجزات الحضارات الأخرى. وهذا يعود إلى الحضور العميق والراسخ للخطاب الإلهي وللحديث الشريف والتوجيه النبويّ في ثقافة الأمّة. حيث إنّ الدعوة الإلهية عبر النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله إلى التراحم والدفع الأحسن هي أساس وجوهر البعثة النبوية الشريفة، كما في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ».

هذه المقالة للباحث الإسلامي المغربي د. العياشي الدراوي تتناول البعد الأخلاقي والعقائدي لثقافة الحوار في الإسلام.

«شعائر»

لو عدنا إلى تاريخ صدر الإسلام وإلى ثقافته يتّضح أنّ تفعيل هذه القيم والمبادئ كان سائداً في التعايش الحضاري بين المسلمين وبين غيرهم، وأنّ تواصل الحوار بينهم في المعتقد والفكر ظلّ يوجّه العلاقات بينهم وبين الشعوب والأمم التي جاوروها، أو بسطوا سلطانهم عليها؛ ذلك أنّ المسلمين استطاعوا أن يؤسّسوا حضارة استظلّ بفيئها النصارى واليهود والمجوس وسواهم، واندمجوا في مؤسساتها، وتعاونوا مع المسلمين في تسيير عجلاتها، واستطاعوا أن يجعلوا من التعاون وقبول الاختلاف في العقيدة والثقافة ركائز للاستقرار العام.

ومن مظاهر ذلك، بقاء أهل الديانات المختلفة في المجتمعات المفتوحة؛ كالنصارى واليهود والمجوس على عقائدهم، باستمرار معابدهم. ولو كان المسلمون خلال حكمهم قد استأصلوا هؤلاء وقضوا على عقائدهم، من باب التعصب والإقصاء، لما كان قد بقي لهم اليوم أي أثر في بلدانهم.

وبهذا جسّد المسلمون في عصورهم الذهبية أفضل تجسيدٍ سماحة الإسلام، ووسطيته، وقيامه على العقل المستنير، الذي لم يجد حرجاً في قبول المخالف والتعايش معه دونما تعالٍ ولا استكبار. وبفضل هذه الروح العقلانية والنقدية البناءة، ظهر على يد علماء المسلمين نوع من التأليف والدراسة يتعلق بالحوار بين الأديان، عن طريق المناظرات والجدل العقلي، هدفه الإقناع والاقتناع، والعمل بدعوة القرآن إلى سبيل الحق والحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

وإذا كان القرآن الكريم كما هو معلوم قد بنى دعوته للحوار على الإقرار بصدق الرسالات السماوية السابقة، وعلى دعوة أهلها إلى كلمة سواء، وعلى طلب الحق وتحصيل العلم به، ونبذ التقليد الأعمى، فقد فتح الباب على مصراعيه أمام المسلمين للتعايش مع الأمم ذوات الحضارات والأديان السماوية، وعلى توخي المقاصد الإنسانية المشتركة، والأخذ بالأفضل في عمار الأرض، وتحقيق العدل بين البشر، وهذا ما فعله المسلمون مع سائر الثقافات والحضارات التي اطلعوا عليها.

التراحم في عالم الاختلاف

وعلى هذا الأساس، فإنّ من أولى مقتضيات تحديد طبيعة العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) وفق الرؤية الإسلامية، إعادة النظر في مفهوم الآخر وتمثلاته في العقل المسلم، من جهة، ومن جهة أخرى إعادة تقويم وعي الذات بذاتها بعيداً عن منطق المركزية الدينية والتفوق الثقافي والحضاري .

لقد جاء الدين الإسلامي رحمة للعالمين: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾؛ لذا فهو خطاب لكلّ الناس على اختلاف اجناسهم وألسنتهم وألوانهم وانتماءاتهم، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، لكن مع وجود هذه الدعوة ترك لهم الحرية في الاختيار، بحيث يؤمن مَن يؤمن به عن إرادة حرة، ويجحد به من يجحد عن تلك الإرادة أيضاً، من دون أن يُكره عليه؛ ما يعني أنّ الاعتقاد بدين من الأديان لا يمكن أن يتم على أساس الإجبار والإكراه، ولا تحت السلطة والعنف، لقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.. البقرة:256، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يونس:99. وبهذا سوف يؤول الأمر إلى صنفين من الناس، صنف يتّخذ من الإسلام ديناً له، وصنف يتّخذ له أدياناً أخرى، أو يختار ألّا يكون له أيّ دين.

ومن الركائز الأساسية التي يتأـسس عليها التعريف بالدين الإسلامي والدعوة إليه، الحوار مع المختلفين؛ ذلك أن الدعوة ليست عرضا جافاً يقتضي القبول أو الرفض في صمت، وإنما هي «دعوة حوارية تفاعلية» تقوم على الاستفسار والاستدلال، والقبول والرد، وما شابه ليكون الأمر تدافعاً في الرأي ومقارعة بالحجة، حتى تستبين الحقيقة لمن يطلبها ويبتغيها، فلا يكون تضلل ولا خداع ولا تلبيس، ولينتهي الأمر إلى قبول عن قناعة أو رفض عن قناعة كذلك. وعندما يأخذ كلٌّ الموقع الذي ارتضاه عن إرادة وحرية، فإنّ الحوار لا ينقطع بين الجانبين، وإنما يستأنف على مستوى آخر هو مستوى التعاون فيما هو مشترك من الأمور المرتبطة بخدمة مصلحة الإنسان وتحقيق منفعته، بصرف النظر عن دينه ومعتقده؛ وهو حوار موّه بقواعد تقوم على الاعتراف بالآخر واحترامه، وعلى صيانة كرامته الإنسانية من أن ينالها التحقير والتبخيس، أو أي ضرب من ضروب الانتهاك؛ إن معنوياً أم مادياً .

وغنيّ عن البيان في هذا السياق أنّ «التعارف»؛ باعتباره مسلكاً كونياً، يتأسس في محدداته المعرفية الأولى على عنوان «وحدة الإنسانية». وهذا المبدأ يشتق ويستمد قيمته من المبدأ الأعلى؛ أي «وحدانية الله سبحانه» باعتباره المبدأ والغاية في الوقت نفسه؛ فأن تكون موحِّداً معناه أنك تعيش وضوح الرؤية في تصوّرك عن الكون والحياة، وما دامت الوحدانية صفة الله  عزّ وجلّ،  وهو سبحانه الخالق، فلا بدّ أن تمتد صفة الوحدة الإلهية إلى كل البشر؛ لأنهم من خلقه. وتأسيساً على هذا، فالإسلام من حيث هو دينٌ كونيٌّ، ومن حيث هو أسبق من غيره من المذاهب والنحل في الدعوة إلى العيش معاً، هو من عنده المقدرة التركيبية وإعادة المعنى والتدبير المعرفي لضوابط تدبير الاختلاف؛ لأن العناصر الوضعية والاصطفاءات الحصرية معوّقات لتشكُّل التعارف في عالم اليوم، ومدعاة للتصادم والتنابذ.

ومعنى هذا أنّ سلوك مسلك التعارف؛ كما رسمه الدين الإسلامي وحدّده، يقتضي ضوابط محددة، وشروطاً مخصوصة، بوجودها يتحقّق المقصد العام منه، وبغيابها يختلّ الفعل بأسره؛ ذلك أنّ التعارف المبني على التواصل والتعاون الذي تنشده الرؤية الإسلامية من العلاقة مع الآخر، يتعين أن يكون منضبطاً بمقتضيات قيم العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية والحرية والوفاء بالعهود والالتزامات، وبالتالي، فإنّ أيّ إخلال بهذه القيم هو حكم ببطلان هذه العلاقة وفقدانها الشرعية الإلهية والمصداقية الإنسانية؛ لأنّ القيم في النظرية الإسلامية لا تتجزّأ، ولا ينفي بعضها بعضاً. وإنما هي بمثابة منظومة تتفاعل عناصرها مجتمعة ويؤثر كل عنصر ضمنها في بقية العناصر، مثلما يتأثر هو بها.

فمثلاً، يتعذر التعارف ويستحيل في ظل النفسية المتوجّسة من الآخر والناظرة إليه بعين الدونية والاحتقار، فليس يقدر على التعارف مَن ظنّ نفسه الأفضل، أو ليس للحياة أنموذج أسلم ولا أكمل من طريقته هو؛ فيمتنع السلوك الإيجابي المتجاوب، وتتحول دواعي الاجتماع الكوني الإنساني إلى أسباب الافتراق والتباعد. وتبعاً لهذا، فإنّ من الضوابط الأساسية التي تعمل على توليد التعارف السليم المتوازن وتوطيده، إزالة الخوف من الآخر، ومحاولة معرفة ذاتيته في سياق الوحدوية العالمية، فضلاً عن تقاسم شرطيات الالتقاء والتذكير بها باستمرار على قاعدة السلم والسلام، والاعتقاد بأنّ مخزون البشرية قيمياً ليس محصوراً في نطاق أرضي واحد، وإنّما هو مبثوث موزّع في جنبات الوجود العرضية جميعها.  الأمر الذي من شأنه أن يخلق التحول الإنساني إلى الكونية، بديلاً عن الموضعية والوضعية، فتتكوّن لدى الإنسان نظرية وجود مرتبطة بالله سبحانه، بوصفه خالقاً ومصدراً للكتاب والحكمة، فتتشكل عقلية الإنسان وأخلاقياته في ضوء هذا الارتباط الإلهي. ومن ثمة يترفّع هذا الإنسان عن نزعته الغريزية البهيمية الدونية العابرة، ويصير مرتبطاً بمنظومة إلهية من القيم، هي نقيض التعالي في الأرض والإفساد فيها، مهما كانت المبررات النفعية، ونزعتها غير الأخلاقية، وتمركزها حول الذات الفردية.

وعلى خلاف هذا، فإن التوجّس والنظر بريبة إلى المخالف، يُبقي روح الضغينة كامنة في الذات متربصة بها، فيعاق التعارف ويُمنع؛ لأنّ كلّ طرف يتبين الفرصة ليجهز على الآخر، موجهاً في ذلك بعقلية اقصائية ومنطق إلغائي، وهنا يتكوّن العنف من حيث طبيعته من ثلاث تجليات: كراهية، وتهميش، وحذف للآخر؛ كفكرة كمونية شيطانية أنا خير منه تتطوّر إلى التصرّف باللسان، بعدم اعتماد الخطاب الإنساني، من الهمز واللمز والاحتقار والسخرية والتنابز بالألقاب، وتنتهي باليد والسلاح لأذيّة الآخر وإلغائه، لتصل في تصعيدها الأعلى وجرعتها القصوى، إلى التصفية الجسدية، وإلغاء جحوده المادي والمعنوي معاً.

 

* باحث ومفكر من المغرب

 

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ 5 أيام

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات