أحسن الحديث

أحسن الحديث

13/02/2019

دروسٌ من رحلة الكليم

﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾

دروسٌ من رحلة الكليم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشهيد مهدي عبد مهدي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

للعاملين في ميدان التبليغ الديني، كما للمجاهدين في ساحات الجهادَين الأكبر والأصغر فَهْمُهم المتميّز لكتاب الله تعالى؛ إذ يقرأونه قراءة من يعيش آفاقه الروحية، ويتلمّس نفحات الغَيب التي تفيض بها آياته، ويسترشدون به في حركتهم ما بين درس هنا ومهمّة حسّاسة هناك.

وهذا حال الشهيد القائد مهدي عبد مهدي «أبو زينب»، الأمين العامّ لمنظمّة «مجاهدي الثورة الإسلامية في العراق». إذ هو المبلّغ الدؤوب، والمجاهد في ميدان النفس، وفي مقارعة أعتى طواغيت العصر.

من نتاجه الفكري والأدبي كتاب (الثورة المعصومة) مؤرّخاً لنهضة سيّد الشهداء عليه السلام، ودروسٌ في تدبّر القرآن الكريم، منها مادّة هذه المقالة، التي نقدّمها للقرّاء بتصرّف يسير.

                          «شعائر»

 

ورد في سورة الأعراف المباركة (الآيتان:142-143)، قوله تعالى، حكايةً عن مجيء النبيّ موسى لميقات الله تبارك وتعالى، في طور سيناء:

﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

هاتان الآيتان تستدعيان التأمّل، فاللقاء الإلهيّ، بنصّ الآية، كان ثلاثين ليلة، لكنّ الله عزّ وجلّ تفضّل على موسى، وزاده عشراً. ونستطيع أن نستخلص من ذلك عدة دروس، منها:

ليالٍ وليس أيّاماً

* الدرس الأول: أن العطاءات المعنوية تتضاعف متى ألحّ الإنسان بالدعاء لإحراز القابليّة. فاللقاء الإلهيّ في «طور سيناء»، هو لقاء مصيري لنبيّ الله موسى عليه السلام، وقد كان بالإمكان أن يواعده المولى منذ البداية أربعين ليلة، ولكنه تعالى، جعل الموعد على مرحلتين.

يقول العلامة السيد محمّد حسين الطباطبائي في (تفسير الميزان) ما ملخّصه: «ذكرَ الله تبارك وتعالى، الليالي دون الأيام -والمتعارف في ذكر الأزمنة الأيام دون الليالي- لأن الميقات كان للتقرّب إلى الله سبحانه ومناجاته وذِكره، وذلك أخصّ بالليل وأنسب، لما فيه من اجتماع الحواسّ عن التفرّق، وزيادة تهيّؤ النفس للأنس، وقد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة». (8/235)

فإذاً، اختار الله تعالى الليل، ليدلّ على أن اللقاء الإلهيّ يتجلّى في الليل. وعليه، فإن هذا درس للجميع، ليغتنموا الليل لخصوصيته واختلافه عن النهار.

فكْر موسى عليه السلام مع أمّته

* الدرس الثاني: ﴿.. اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ..﴾:

هذا اللقاء لقاء تخصّصيّ مع الله عزّ وجلّ، فقد كلّم نبيّه تكليماً، وأعطاه ما لم يُعطه للأنبياء السلف: من الحديث المباشر، وخلْق الكلام. ومع ذلك فإن قلب النبيّ موسى مع الأمّة! خرج عليه السلام للقاء الله، وفكرُه وقلبه في أمّته! ومن هنا نتعلّم الجامعية في التكليف، فالإنسان الذي يصلّي صلاة الليل، وهو في قمّة انشغالاته المعنوية، عليه أن لا يُهمل أمر من حوله: سواء الزوجة، والذريّة، والأرحام، والمجتمع، والجيران.. لا أن يتذرّع بأنه مشغول بالمناجاة، فيعيش الفناء الإلهيّ، والذوبان في المعاني القُدسية، وينسى تكليفه الاجتماعيّ. فهذا موسى عليه السلام لا يخرج قبل أن يُعيّن الوصيّ في قومه.

* الدرس الثالث: موسى عليه السلام يعلم بأن الميقات ثلاثين أو أربعين ليلة، ومع ذلك لم يترك الأمّة من دون وصيّ، فقال: ﴿..اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾:

معنى ذلك أن هناك مفسِدين في الأمة، ووجود النبيّ في الأمة يمنع المفسِد من إظهار إفساده؛ لأن وجود النبيّ رحمة. ومن هنا وقعت الواقعة في أمة نبيّنا الخاتَم صلّى الله عليه وآله وسلّم. والرواية المعروفة: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»؛ أراد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُفهم الأمة من خلالها: أن غيابه من دون وصيّ، سيكون سبباً لغلَبة المستولين، وانحراف الخطّ عمّا رسمه الله تعالى.

أيّ رؤية طلبها موسى عليه السلام؟

* الدرس الرابع: يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ..﴾:

إن موسى عليه السلام هو ثالث الأنبياء أولي العزم، وهو كليم الله، وهو أعرف الناس بالله، وصفات كماله وجماله. فهل قصد عليه السلام بقوله: ﴿أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، الرؤية المادية الحسيّة؟ حاشاه صلوات الله عليه. فإنّ من أولويات اعتقاد المؤمن العاديّ، أن الله عزّ وجلّ: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾.

وعليه، فإن ما طلبه موسى عليه السلام هو -قطعاً- الرؤية الممكنة التي تتناسب مع حقيقة الربوبية، وهي الرؤية التي لا تقتصر على الحسّ، كما في المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ما رأتْه العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق العرفان». إنها رؤية قلبية ومن أنواع التجلي.

إن الله عزّ وجلّ، قد تجلّى للبصر من خلال عالَم التكوين؛ من الذرّة إلى المجرّة. ويتجلّى لقلوب عباده المخلصين بنوع آخر. وهذا هو التجلّي، والرؤية التي أرادها موسى عليه السلام من الله عزّ وجلّ.

 

تراني بمشاهدة القلوب

* الدرس الخامس: ﴿قَالَ لَن تَرَانِي﴾:

والسؤال هنا: إذا كان موسى عليه السلام قد طلب الرؤية المعنوية، فلماذا أجابه الله تعالى: ﴿لَنْ تَرانِي﴾؟

وإذا كان قوله سبحانه: ﴿لَنْ تَرانِي﴾، يشير إلى الرؤية الحسّية، فلماذا طلبها موسى عليه السلام، مع ملاحظة ما تقدّم من التعارض بين طلب الرؤية المادّية وبديهيات الاعتقاد بالله تعالى؟

هنا قد يبدو شيء من التعارض بين جزأي الآية، ما يستدعي بحثاً دقيقاً، وحاصل أفضل وجوه الجمع بينهما، أن قوله عزّ وجلّ: ﴿لَن تَرَانِي﴾، بمعنى: يا موسى! إن هذه الدنيا، وطبيعة الحياة فيها، لا تسمح لذلك التجلّي الخاصّ الذي أردته منّي. نعم، تراني بمشاهدة القلوب.

أو كما قال تعالى في سورة أخرى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾: أي أن مقداراً من التجلّيات الإلهية مدخّرة لعالم الآخرة. فموسى عليه السلام روح وجسد، وهو محكومٌ ببعض علائق الأرض، وطبيعة الحياة الأرضية لا تسمح ببعض التجلّيات.. فـ﴿لَن تَرَانِي﴾: بمعنى أنه لن يراه بتلك التجليات والرؤية الخاصّة التي يُرى ربنا بها يومَ القيامة.

وبعبارة: يا موسى! لي تجلّيات في الدنيا، وأخرى في الآخرة.. فهناك قسم من التجلّيات يمكن أن تشاهدها في الدنيا، من خلال عبادتك، ومناجاتك، وحديثك معي.. وقسم مدّخر للآخرة.. كما أن الرحمة الإلهية كذلك، فرحمة الله بعثت النبيّ الخاتَم، ولكنّ رحمة الله في هذه الدنيا، هي جزء من أجزاء الرحمة الواسعة، ولعلّه قد ورد في بعض التعابير: «أنها جزء من مائة».. فإذاً، إن الرحمة الإلهية تتجلى في القيامة بأوسع صورها، مع أنه في الدنيا هناك أيضاً رحمة إلهيه متجلّية.

اطلبْ واقنَعْ

* الدرس السادس: ﴿وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾:

أي: يا موسى! إذا أردت التجلّي الخاصّ، فإني أعطيك أثراً وعيّنة.. فأنا أتجلّى لهذا الجبل تجلّياً لا تحتمله الدنيا.. والجبل عنصر من عناصر المادة، وهو يشترك مع موسى عليه السلام في أن كليهما محكوم بقوانين المادة.. فتجلّى ربّنا عزّ وجلّ، ذلك التجّلي الخاصّ للجبل، فـ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾؛ أي أصبح متلاشياً في الفضاء.. ﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾: أي مغشياً عليه من هَول ما رأى.. فكلاهما اندكّ؛ كلٌّ بحسبه.

﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي رجعتُ إليك ممّا اقترحته عليك، وأنا أول المؤمنين بأنك لا تُرى، ولن أطلب تلك الرؤية قبل أوانها.

والعِبرة: أنّ المؤمن يحبّ أن يبلغ في الدنيا مدارجَ معنويّةً عُليا جدّاً، والله يحجبُها عنه.. لا لبخلٍ في فيضه، وإنما لعدم تحمّل المؤمن بعضَ صور العنايات الخاصّة.. ولذا، فإن على المؤمن أن يطلب ويقنع.. عليه أن يطلب الدرجات العليا، ويقنعَ بما يُعطى.. لأنه تبارك وتعالى، هو الخبيرُ والعليمُ بقابليات العِباد، وبما يستحقّونه من قوتٍ، سواء في عالم المادّة أو في عالم المعنى.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  شعر

شعر

  تاريخ و بلدان

تاريخ و بلدان

نفحات